الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكريات قاصية .. ومرويّات لطفولة مبكرة

حسن كعيد الدراجي

2019 / 5 / 17
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لم تعد ذاكرته تحتفظ بالكثير من مواقف الماضي واحداثه لتلك المرحلة الزمنية من حياته المتخمة بالتفاصيل والحيثيات ، مع ان الطفولة تترك اثرا عميقآ وبصمة غائرة لا تمحوها من حياته الايام ، خصوصا اذا عاش وترعرع في بيئة كبيئته القروية الجميلة ، تفيض كل لحضاتها روعة ودفئآ وجمالآ .
كانت قرية وادعة تغفو على ضفاف ذلك النهر ، تعانق غابات القصب والبردي ، فلقد كان نهر دجلة خلال رحلته الجغرافية المتموجة المسارات في سهول جنوب العراق إبّان الاربعينيات من القرن الماضي وما اعقبها ، فحافاته تكون عاجزة في اكثر من مكان عن إيقاف ثورة المياه التي طالما تدفقت دون سابق إنذار ، تاركة مجراها نحو المستنقعات والاهوار والمناطق المنخفضة الرطبة ، خصوصآ في فصل الربيع .
رغم ان ذكريات الطفولة تظل عالقة في البال حتى خاتمة العمر ، ولكن وعلى مايبدو ، فأن حافظة ذكرياته تكاد تكون خاوية المحتوى والمضمون ، فقد غادرتها الذكريات ، وتسربت منها الاحداث مع تراكم الاعوام والسنون ، ولم يتبقى منها سوى نزر طفيف ، لكنه مع قلّته فهو محفور في ذاكرته ، مع انه لم يفهم في حينه حيثيات الحوادث ، ولم يدرك كنهها ، ولم يهتدي الى تفسيرها وفك شفرتها الا بعد سنين ..
يروي في محطة ذكرياته الاولى ان جميع اهل القرية ، كبارهم وصغارهم ، يتجمعون في يوم محدد من ايام السنة ، قبالة بيوتهم المشيدة في اغلبها من مادة القصب والبردي ، حالها حال معظم قرى جنوب العراق المحاذية لمناطق الاهوار والمستنقعات ، في ذلك اليوم يتطوع البعض لجلب باقات من الحشائش والنبات الطبيعي الاخضر ، وربما بعضه من اوراق البردي الخضراء ، حيث يقومون بنشر تلك الحشائش فوق المنازل وعلى اعتاب ابوابها ، ثم يجولون بين البيوت ويطوفون حولها طارقين على ابوابها بالعصي ، مرددين : ( إطلع يا صفر ، إطلع ياصفر ) ، كما ينادي بعضهم بلغة متفائلة جازمة على حصول الحدث : ( طلع صفر ، طلع صفر ، طلع صفر ) ، وكأن الجميع يحاولون إخراج شخصآ ما مختبئآ داخل البيوت وقتها لم يدرك من هو هذا ( الصفر ) الذي يحرص الجميع على ابعاده من بيوت القرية ، لكن معرفته تحققت متأخرة ، حين انتهى الى مسامعه أن ( صفر ) هو الشهر الثاني من شهور السنة القمرية ، وان بعض المسلمين يكنّّون له كرها خاصآ ،أستنادا الى احاديث نبوية وروايات تاريخية يعتقدون بصحتها ، فيصفون هذا الشهر بشهر النحس والشؤم ، ولهذا فهم يحتفلون في أواخر ايامه ليعجلوا بطرده ومغادرة ايامه ،لكن فريق آخر من المسلمين يقف بالضد من رأي الفريق الاول ، واصفين حججهم بالواهية ، واحاديثم بالضعيفة او الموضوعة ، والتي ما انزل الله بها من سلطان ، كما يقولون ، لذا فأن هذا الفريق يعتبر شهر صفر كبقية الشهور ، لا يجلب نحسآ ولا يحقق خيرآ ...
في المحطة الاخرى التي لا زالت ذكراها تبهر بصره ، بل وتسترعي جميع حواسه ، ففي اربعينيات القرن الماضي ، كان كبقية صبيان القرية ، يترقبون زائرآ خفيف الظل ، شخصآ كوميديآ يمثل لهم مشاهد هزلية ساخرة ، يزورهم ليوم واحد في السنة ، ويبعث في نفوسهم السعادة ، بمسرحية كوميدية ، بطلها ممثل واحد يمثل شخصية ( عمير ) ، وجمهورها جميع اهل القرية وخصوصآ الاطفال والصبيان .. يقول : فعلآ لقد وصل هذا اليوم الى قريتنا من احد القرى المجاورة ، وربما من نفس القرية ، اذا انه كان متنكرآ ويصعب التعرف على شخصيته ، شخصآ يرتدي زيآ نسائيآ ساخرآ يلفت النظر ، بألوانه المزركشة ، يضع اصباغا على وجهه ،وبلحية مصطنعة ، يسير بحركات بهلوانية مضحكة ، يميل الى الهرولة في مشيته ، وهو يردد : ( عمير , عمير ، عمير ) ، وخلفه يهرول الصبية والنساء ، وهم يرددون ايضآ : ( عمير ، عمير ، عمير ) ويقذفونه بالقشور وبكل ما تقع عليه ايديهم ، فتراه يولي هاربآ تارة ، ويعود تارة اخرى ليؤدي بعض حركاته الساخرة وسط ضحكات الكبار وقهقهات الصبيان ، وبعضهم تمتد يده الى مؤخرة بطل المسرحية يلامسها من اجل ان تكتمل عندهم فصول هذه السخرية والهزل .. نساء يرددن اهازيج ساخرة بلهجتهن الجنوبية القروية : ( شكينا بطنك يا عمر بالمنجل ...بيوم تاسع من ربيع الاول ) ..شكينا = في لهجة الجنوب : فتحنا او مزقنا وبقرنا ، والمعنى العام : مزقنا بطنك يا عمر في اليوم التاسع من شهر ربيع الاول ، وآخرون يصفقون خلفه مرددين : ((( هذا عمير يلتردنه حطنه بجيحه و ( .....) ))) ، المفردات : حطنه = حط اي وضع في مكان . جيحه = مستنقع آسن او بركة مياه راكده . ( ..... ) = الفعل الجنسي . المعنى العام : من تحب عمر وتريده عليها ان تضعه في مستنقع آسن وتعمل معه الفعل الجنسي، اي هي من تكون ( الفاعل ) في هذه العملية ..وهناك اهازيج كثيرة تقال في هذه المناسبة ..
لم يفهم آنذاك ماذا تعني هذه الاهزوجات ،وهذه الالغاز ، وما سر ذلك الزائر والممثل الساخر ، الا بعد مضي سنوات ليست بالقليلة ، حينها علم ان هذه المناسبة تسمى بلهجة الريف ( فرحة الزهره ) والزهرة هي السيدة فاطمة الزهراء ، وان الشخصية الكوميدية هي الخليفة الراشدي الثاني ( عمر بن الخطاب ) .
واليوم وبعد مرور اكثر من سبعين سنة ، يتسائل ، هل لا زال لتلك الممارسات الكوميدية من وجود على ارض الواقع ؟ ام انها باقية ، ولكن تغير شكل الاداء فقط ؟ ام انها انقرضت واصبحت في ذمة التاريخ ، وهذا ما يأمله ويتمناه ....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحذير من الحرس الثوري الإيراني في حال هاجمت اسرائيل مراكزها


.. الاعتراف بفلسطين كدولة... ما المزايا، وهل سيرى النور؟




.. إيران:ما الذي ستغيره العقوبات الأمريكية والأوروبية الجديدة؟


.. إيران:ما الذي ستغيره العقوبات الأمريكية والأوروبية الجديدة؟




.. طهران تواصل حملتها الدعائية والتحريضية ضد عمّان..هل بات الأر