الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غبار الاحتلال العربي (5)

محمد مبروك أبو زيد
كاتب وباحث

(Mohamed Mabrouk Abozaid)

2019 / 5 / 20
المجتمع المدني


تعرفنا في المقالات السابقة على بعض ملامح القومية العربية، وعرفنا مدى خطورة هذه القومية على العقل البشري والمجتمع المدني، وعرفنا أنها انتشرت مثل الوباء خلال حقبة الغزو الاستعماري العربي أو ما سمي بحقبة الفتوحات التي حملت اسم الدين برغم أنها كانت أكبر إساءة وتشويه وطمس لهذا الدين، فقد حولته من قيم التسامي والسمو والرقي الإنساني إلى قيم ومبادئ أعرابية بدوية متخلفة تنعدم فيها الرحمة والإنسانية، ولهذا قلنا أن درجة خطورة القومية العربية على الدين الإسلامي هي ذاتها درجة خطورة القومية العربية على الشعوب المدنية مثل الشاميين والعراقيين واليونانيين والجزائريين والصينيين والمصريين..إلخ.. وكان ذلك في نطاق التفرقة بين العقلية العربية الحجازية البدوية البرية والعقلية المصرية المدنية على وجه الخصوص... وهناك سمات أخرى نفسية ذهنية مختلفة بين العرقين على أساسات وراثية جينية، فالمصريين في الغالب يميلون إلى الصدق وحسن النية وسريعي ‏الألفة والتآلف وينعمون بالوازع الديني، ميالون إلى التدين بالفطرة، إذ أن المصريين الفراعنة على مدار تاريخهم وقبل نزول الأديان السماوية كانوا يبحثون عن عبادة الله، فهم ‏بطبيعتهم ميالون إلى الإيمان وعقيدة التوحيد.. حتى أنهم طول الوقت كانوا يتأملون في ملكوت الله ويبحثون عنه كما سيدنا إبراهيم عليه السلام، قال ‏تعالى عنه: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ‎ (76) ‎فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ ‏لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ‏‎ (77) ‎فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰ---ذَا أَكْبَرُ ۖ--- فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا ‏تُشْرِكُونَ‎ (78) ‎إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)/الأنعام.. وهذا وصف الله رحلة عبده إبراهيم في ‏البحث عن يقين الله وعبادته، إذ أنه تأمل في الكون فلما رأى كوكباً انصرفت عقيدته إلى أن يكون هذا الكوكب هو خالق الكون والأحق بالعبادة، ثم ‏عندما اختفى الكوكب من فلك السماء تراجع إبراهيم عن عبادته، ثم عندما ظهر القمر في السماء توجه إليه بالعبادة، وعندما اختفى القمر تراجع ‏إبراهيم عن عبادته، ثم إذا سطعت الشمس وملأت الكون نوراً عبدها، ثم إذا اختفت في المساء تراجع عن عبادتها وقال لقومه إني وجهت وجهي للذي ‏فطر السماوات والأرض، هو خالق الكون والأحق بالعبادة حتى ولو لم نره.. ‏

وبما أن الإنسان هو صنيعة الله على أرضه، فقد بدأ الإنسان المصري بالفطرة يبحث عن العبادة، ولذلك انتشرت عبادة الشمس عند الفراعنة ‏باعتبارها أم الكون أو هي أكبر المخلوقات الكونية في نظرهم. وما نود أن ننتهي إليه هو توضيح أن غريزة العبادة بالفطرة موجودة داخل الإنسان ‏المصري وهي سمة وراثية متوارثة جينياً، ولذلك عندما انتقل رجل فلسطيني حاملاً نسخة من الإنجيل إلى مصر، انتشرت الديانة المسيحية في مصر ‏بالكامل، لأن الشعب المصري بطبيعته شعب ميّال إلى التدين وعقيدة التوحيد، شعب غير متمرد على فكرة العبادة وفلسفتها، لدرجة أنه إذا لم يجد من ‏يرشده للعبادة فيبحث عنها بنفسه ذاتياً أو يخترع له معبوداً، بخلاف العرب الذين كانوا يعرفون الله ويشركون معه أصنامهم بحجة أنها تقربهم إلى الله زلفا !، فالفصيلة العربية من ‏تكوينها النفسي والذهني نزعة التمرد والإلحاد والنفاق والتلوّن والخيانة والغدر، ليس فقط التلوّن في المبادئ بل حتى في الكلام، ولهذا نبغوا في الشعر ‏والزجل. بينما المصري ترك رسائل حتى في الاعتراف بالذنوب والرجاء من الله محوها قبل أن تُقبض روحه. ‏

فالضمائر كانت حية بالفطرة، فقد وردت مجموعة من أروع النصوص والصلوات والابتهالات للإله، وفى هذه النقوش نجد انصياع وتذلل المتعبد ‏للإله، وابتهالات من أجل الرحمة و إقرار بضعفه وسيئاته، ونجد أن تلك المشاعر لم تكن جديدة، ولكن الجديد هو الاعترافات الواضحة بها، وكان ‏المصلون يدعون الإله حتى يأمنوا قوته التي تهلك العصاة، ومثالاً على ذلك وردت إلينا رسائل مدونة في كتب الموتى وعلى جدران المعابد والأهرامات ‏من الداخل، فيعترف رجل في لوحته قائلا (أنا الذي رددت قسما كاذبا أمامك فأصابني الإله بظُلمة والذي جعلني أدرك عظمته أمام جميع أهل الأرض، ‏ويخاطب الإله " يا ربي أنر بصيرتي" ورجل آخر يدعى (قن ) يقر فى رسالته أنه قدم تعهداً كاذباً لامرأة، ويتضرع ويلجأ إلى الإله ويقول (كن رحيما ‏معي). وغير ذلك الرسام الذي يرقد على فراش الموت بسبب ذنب ارتكبه و يتضرع أبوه الملهوف ويقدم الصلوات ويقول (لسوف أنذر باسمك هذه ‏اللوحة واكتب هذا الدعاء باسمك إن أنت أنقذت ابني الرسام (نخت آمون ) من أجل خاطري.. وكان واثقاً في أن الإله خليق بالرحمة حتى ولو أذنب ‏العبد.. ‏

على العكس من الشعب العربي المؤهل جينياً لحياة الصحراء وشظف العيش والجفاف والحرارة والقسوة والخشونة والغلظة والتمرد ورباطة الجأش، ومن ‏السهل على الأب أن يقتل ابنته ويدفنها بيده حية برباطة جأشٍ ودون أن ينهار نفسياً، ولديه من الدهاء والمكر ما تزول منه الجبال وما يفوق دهاء ‏المصريين بمراحل عديدة. فحينما خاطب الله العرب بالقرآن قال تعالى: " ثمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰ لِكَ فَهِيَ‎ ‎كَالْحِجَارَةِ‎ ‎أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً "، وهذا الخطاب ‏جاء بضمير المخاطَب الحاضر وليس موجه لجميع البشر في العالم، وهو لا يشمل جميع العرب بالطبع ولكن عينات منهم، لكن حتى هذه العينات لا ‏نجدها في مصر. وبالطبع كانت ديانة المصريين مختلفة عن الأديان السماوية وعبادة الله الخالق الأوحد، والأمر هنا لا يتعلق بالعبادة كمنهج، ولكن غريزة ‏التدين، أو ما نسميه في عصرنا بالوازع الديني، الذي هو سمة جينية وراثية في الشعب المصري تدفعه إلى الطواعية والاستسلام للخالق. وفي المقام ذاته ‏يجدر بنا التنويه إلى أن موضوعنا ليس قياس حجم الحضارة ودرجة الرقي والارتقاء المعرفي، ولكن البحث في نوعية الأفكار والموضوعات التي تشغل ‏الذهن العربي والذهن المصري.‏

فالشعب العربي سماته مختلفة جذرياً، شعب يدمن الإلحاد والشرك والنفاق والتنابذ بالألفاظ والألقاب والتلاعب بالكلمات والمعاني، وليس لديهم أي ‏رادع أو وازع ديني، ولم يكونوا كالمصريين يبحثون بالفطرة عن الإله، بل كان إدمانهم الإلحاد والسخرية من العبادة، والقرآن كافٍ عن إعادة تكرار وتعداد ‏صفات الكفر والنفاق التي كانت منتشرة في مكة تحديداً، ولهذا أرسل الله نبيه رسولاً منهم ليكون شاهداً عليهم، وأنزل القرآن بلغتهم ليستوعبوا الدرس ‏جيداً وتكون اللغة دليل الإدانة عليهم، وكانت مهمة النبي هي ترويض أهل مكة، ترويض نفوسهم العصية على الإيمان، وكتب السيرة غنية عن الذكر ‏وعن تعداد العجائب والغرائب التي وردت فيها، حتى من اقتنع بأن القرآن منزل من عند الله كان كبرياءه وغروره يمنعه من الاعتراف، وأبسط الأمثلة ؛ ‏الوليد ابن المغيرة الذي قال كلمات وصف بها القرآن، وخلدها التاريخ، فعندما سمع رسول الله يقرأ القرآن ذهب إلى عتاة قريش وهو مرتبك، فسألوه؛ هل ‏صبئت؟ أي آمنتَ بمحمد واستسلمتَ للخداع؟ فقال: والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ‏ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته" ومع ذلك لم يؤمن. وغيره أبو طالب عم النبي عليه السلام الذي حمى النبي وكان على قناعة بأنه نبي مرسل من الله، لكن ‏كبرياءه منعه حتى في لحظات الموت، خشي أن تقول العرب أن أبا طالب يهاب الموت، وعلى هذا مات وهو كافر..وظل النبي يدعو له حتى نزل قول ‏الله: " إِنَّكَ لا‎ ‎تَهْدِي‎ ‎مَنْ‎ ‎أَحْبَبْتَ‎ ‎وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" ونطاق الحديث هنا ليس من باب القدح في شخص أبا طالب لأنه ‏عم النبي ونحن نحترم نبينا، ولكن لتحليل السمات والخصائص النفسية والفكرية، فكل شعب له عيوبه وله مزاياه، وعند التحليل العلمي نجد سمات ‏متأصلة وراثياً في هذا الشعب أو غيره.‏

فالأمر لا يتوقف على النفاق الديني كما تحدث عنه الله في سورة التوبة، وهو أن يكون الرجل مشركاً ورغم ذلك يخفي شركه وإلحاده وينضوي تحت ‏لواء النبي والمؤمنين، أو يظهر الحب للنبي والمؤمنين وهو يضمر الشر والكره لهم، بل إن النوع الآخر المقابل من النفاق كان أيضاً متأصلاً في هذه الفصيلة ‏العربية، لدرجة أننا نجد عِلية القوم من قريش موقنين في داخلهم بأن محمد هو نبي من عند الله ويعترفون في أنفسهم بذلك، لكنهم مع ذلك يضمرون ‏يقينهم ويظهرون شركهم وكفرهم، ليس خوفاً من أحد وإنما كبرياء ومكابرة على الحق، فكثير من عتاة قريش كانوا على يقين بنبوة محمد عليه السلام ومع ‏ذلك رفضوا الاعتراف بذلك حفاظاً على كبريائهم بين العرب، وحتى لا تتفاخر عليهم قبيلة النبي(بني هاشم) بأن ابنهم نبي أو جاء نبي من قبيلتهم فهم ‏أفضل من باقي القبائل. وكان هذا النوع من الكبر والنفاق ظاهرة معروفة في شبه الجزيرة وقت البعثة.. هذا النوع من التفكير البري ليس موجوداً في ‏المجتمع المصري بطبيعة تكوينه النفسي بأي حال.‏

ونتأمل هان نصيحة الحكيم المصر "آمون إم أوبى"‏‎:‎‏ التي يدعو فيها إلى الالتزام بخلق السماحة وتجنب النفاق: «… لا تقرئ أحدًا السلام، عندما ‏يكون في باطنك حقدًا عليه، ولا تتكلمن مع إنسان كذبًا فذلك ما يمقته الله، ولا تفضلن قلبك على لسانك… واعلم أن الممقوت من الرب من يزَور ‏في الكلام؛ لأن أكبر شيء يكرهه الرب هو النفاق‎».‎ ‏.. أما المجتمع العربي فلم نجد فيه للوازع الأخلاقي قبل الإسلام أي أثر، إنما ما كان موجوداً هو ‏فقط سبيل الوصول إلى الشموخ والعظمة والصيت، ولم يكن نابعاً من بئر الفضيلة، ولذلك لم نجد أحدهم ينصح آخر بتجنب الرذيلة، كان من يتجنبها ‏يتجنبها باختياره لنفسه طمعاً في شرف يسبق به غيره، وفيما بعد الإسلام لم ترتوي نفوسهم حتى أعماقها بالفضائل، بل ظلوا يمارسون الكذب والنفاق ‏وسريعاً ما عادوا لطبيعتهم الجاهلية.‏

بل إن الأخلاق الفاضلة ذاتها التي انتشرت في المجتمع العربي، لم تنتشر لفضلها وإنما لكبرياء العرب وغرورهم، ومثال على ذلك؛‎ ‎كفار قريش عندما ‏أخذوا من كل قبيلة رجل وذهبوا ليقتلوا النبي محمد، ظلوا واقفين على باب بيته طول الليل بانتظار أن يخرج النبي لصلاة الفجر. رغم أنهم كانوا قادرين أن ‏يقتحموا البيت من أوّل لحظة ويهدموه على من فيه .. وحاول أحدهم أن يقترح الفكرة مجرد اقتراح‎ .‎لكن ردَّ عليه أبو جهل بكل عنف : ( وتقول ‏العرب أنا تسوّرنا الحيطان وهتكنا ستر بنات محمد !!؟ فقد تحلى كفار قريش بقدر عظيم من النخوة والرجولة، كانوا يعرفون إن البيت فيه نساء، ولا يجوز ‏اقتحامه، ولا يجوز كشف ستره، أو انتهاك خصوصيته.‏‎ .‎وأبو جهل حينما غضب وضرب أسماء بنت أبي بكر على وجهها طيشاً، ظل يترجاها ويقول ‏لها : (خبئيها عني، خبئيها عني)، أي لا تخبري أحداً .. لا تفضحيني، ويقول النّاس أني ضربت امرأة‎ .‎‏ وغير ذلك أبو سفيان لما كان كافراً وخرج مع ‏قافلة من قريش في أرض الرّوم ، فاستدعاهم هرقل ملك الروم ليسألهم عن محمد ، وسألهم: هل تتهمونه بالكذب ؟ هل يغدر ؟ هل يقتل ؟ أبو سفيان ‏يقول ( لا، لولا الحياء أن يأثروا عَلَيَّ الكذب لكذبته) يعني رفض شتم النبي لأنه خاف إذا رجعوا مكّة ، يُقَال إن أبا سفيان كذب؛ خاف على سمعته..‏

وفي جميع هذه الأمثلة نجد بوضوح شديد أن الفضيلة لم تكن لغرض الفضيلة لكن حافظاً على السمعة والشموخ والكبرياء الذي ملأ نفوس ‏العرب، فهم لم يتسوّروا بيت النبي ولم يهتكوا ستره، ليس فضلاً منهم واحتراماً لأهل البيت، ولكن خوفاً من أن يمس ذلك كبرياءهم وشموخهم بين العرب، ‏وأبو جهل حينما ضرب السيدة أسماء بنت أبي بكر لم يمنعه الحياء والخجل والمروءة، ولكنه خاف على سمعته، ولذلك لم يعتذر لها كونه أخطأ في حقها ‏ولكن ترجاها ألا تفضحه، وإذا لم تكن لتفضحه ما اعتذر لها.. وكذلك أبو سفيان حينما صدق في كلامه عن النبي لم يصدق من كثره حبه للصدق ‏والفضيلة، ولكن خشية من الفضيحة، فكان خوفه من الفضيحة أكثر من حبه للصدق.. وهذا في حد ذاته نابع من النفاق الداخلي، فهو مضطر ‏للصدق برغم أنه يكره الصدق، مضطر للصدق حفاظاً على شموخه بين الناس، كما كثير منهم أيقن أن الله حق وأن النبي حق ولكنه التزم كفره حفاظاً ‏على شموخه بين العرب. وكثير غيرهم كره الإيمان ولكنه انضوى تحت لواء المؤمنين نفاقاً منه وحفاظاً على مركز اجتماعي أو سياسي..‏ ‏ بينما المصريين ‏القدماء كانت الفضيلة لذاتها وليست لمآرب أخرى متوارية، ‏

‎ ‎ونذكر هنا كلمات للحكيم المصري القديم «آني» وهو ينصح ابنه بالحياء عند التعامل مع من هو أكبر منه سنًا، فيقول: " لا تبقَ جالسًا حين ‏يكون شخص أكبر منك سنًا أو مركزًا واقفًا، ولا تسب من يكبرك سنًا؛ فإنه قد شاهد نور الرب قبلك ‏‎!‎‏ كما أوصاه بأن يلتزم الوقار عند زيارة بيوت ‏الآخرين؛ فقال: لا تكن سليطًا ولا متطفلًا، ولا تدخل منزلًا أجنبيًا ما لم تكن مدعوًا، وعندما تكون فى منزل أناس آخرين؛ وترى عينك شيئًا فالزم ‏الصمت، ولا تبح به لأي شخص كان في الخارج؛ حتى لا تكون لك جريمة كبرى، عندما يصل أمره إلى الأسماع "‏‎.‎ ‏.. ((لاحظ منبع الفضيلة ليس ‏حفاظاً على الشموخ والسمعة والصيت وإنما خوفاً على أسرار الناس وحفاظاً على سمعتهم، ونلاحظ استخدام الحكيم لوصف "جريمة كبرى" )).. وسياق ‏الحديث هنا ليس للفخر بالذات أو بحضارة الأجداد، وإنما لتحليل النسيج العقلي للحضارات، ونتمنى جميعاً من الله أن يحفظنا من الغرور والعجب ‏بالذات، ولان ذكي أنفسنا ولا نذكي أحداً على الله. ‏

وهناك متلازمات أخرى عقلية تميز بها العقل العربي، فوفقاً لموروثنا الثقافي نقول أن " من تواضع لله رفعه " وأن حملة العلم مثل السنبلة كلما ‏نضجت انحت وزاد تواضعها.. أي أن العلم قرين التواضع، وإذا تبخر العلم في مجتمع تبخر معه التواضع، ولما كانت العقلية العربية سيادية وسادية أدبية ‏الطابع تقدم إبداعها في الشعر وتهجر العلم تماماً، وأغلب شعرها جاء في الفخر والغرور والتفاخر بالأنساب وأيام وحكايات العرب.. هذا الطابع العقلي ‏المتعالي يفسر لنا لماذا لم يهتم العرب بالعلم، واهتموا فقط بالشعر والأدب؛ لأنهم جنس يأبى التواضع ويعتبرونه مذلة، فقد اشتهر عن العرب كثيراً خصال ‏عظيمة مثل الشجاعة والكرم و(كرم الضيافة) وصار حاتم الطائي أشهر بكرمه من النار على العلم، واشتهر عن العرب إقامة الولائم لإطعام الناس، حتى ‏قيل أن المواقد لا تنطفئ (دليل على استمرار الطهي يومياً للضيافة)، فاشتهر عنهم الكرم ولكنهم لم يشتهر عنهم التواضع أبداً، ولهذا لم يهتموا بالعلم ولم ‏يتواضعوا له، بل إننا لو نظرنا بجرأة في عين الكرم العربي سنجده نابعاً من الغرور والفخر وليس من باب الفضيلة الأخلاقية، لأنهم يحبون أن يكونوا ذوي ‏رفعة شأن وعلية وتعالٍ وتفضّل على الناس، وهذا من التكوين النفسي للعرب، يحبون أن يتفضّلوا على الناس، إنما مبادئ الفضيلة (الحق والعدل ‏والحكمة والتواضع = هي مبادئ كلية لا تتجزأ، فكيف تكون هناك فضيلة قائمة على الكرم مع الغرور والكبرياء ؟ إلا إذا كان هذا الكرم نوعاً من ‏النفاق الذي شب وترعرع في شبه الجزيرة، فهو نفاق يخفي تحته تفضّل وليس فضيلة) ولهذا اشتهر بينهم الكرم ولم يشتهر بينهم التواضع ولم يعرف ‏مجتمعهم العلم، والعلم هو الذي يعتبر مؤشراً حقيقاً على التواضع، بينما الكرم قد يحمل نوعاً من الرياء والتعالي والرغبة في التفضّل على الناس، وهذه ‏طبيعة العربي، فهو يقدم للضيف أعز ما يملك ليس من باب الفضيلة ولكن من باب التفضّل.. ‏

وبالطبع ذلك يختلف عن مفهوم الكرم عند المصريين الفراعنة؛ فالكرم عند الفراعنة كان يبدأ من سيدة المنزل إذا طهت طعاماً لأبنائها وزوجها ‏أن تقدم طبقاً لجيرانها، وقد استمرت هذه العادة بين المصريين على مدار تاريخهم لدرجة أن أحد المصريين عندما شرع الخديوي إسماعيل في بناء قصر ‏عابدين، بعدما كان مقر الحكم في القلعة، قرر الخديوي أن يترك القلعة وينزل ليعيش ويحكم في منطقة شعبية بين المصريين، فاختار حي عابدين لبناء ‏قصر الحكم، ولذلك إلى اليوم نجد قصر عابدين محاط بمساكن شعبية وبسيطة، لكن الملفت للنظر أنه خلال عمليات بناء القصر، وتصادف يوم كان ‏الخديوي يتفقد أعمال البناء والمهندسين والعمال إذ جاء أحد البسطاء من الجيران حاملاً صينية بها طعام أعدته زوجته للجيران الجدد والعمال ظناً منه ‏أن صاحب البيت الجديد مشغول بالعمل والعمال ولن يجد الوقت الكافي لتجهيز الطعام، وقدمه الرجل للموجدين وتصادف وجود الخديوي بينهم.. ‏ومنذ البداية كان الفراعنة حريصين جداً على الكرم، لدرجة تنبئ بأنه كان أصلاً عاماً وليس فضيلة حتى، لذلك نلاحظ أن نصائح الحكماء الفراعنة جاء ‏أغلبها بالتحذير من البخل وليس بالنصح بالكرم، وليس بالتفاخر بالكرم مثل العرب، فيقول الحكيم «كاجمني» يحث على الكرم والعطاء ويحذر من ‏البخل والإمساك؛ ولكن في صورة أبعد تتمثل في ذلك العطاء المعنوي الذي يظهر على ملامح صاحبه، فيقول: " إذا كان المرء غير مألوف العشرة، فما ‏من قول يُفيد فيه، طالما قطّب وجهه أمام من يُحسنون إليه.. فهو نكبة على أمه وأصدقائه، وكل الناس تسأم من طلعته"‏‎.‎‏ فليس من الضروري أن ‏يكون العطاء مالاً، وإنما حفظ الماء في الوجوه، وتطييب الخواطر، تعد من أعظم العطاءات وأنبلها خُلقاً وأحبها إلى الله، لذلك نؤكد أن أصول ومنابع ‏الكرم المصري حقيقية ومختلفة عن منابع ودوافع الكرم العربي، فالعرب لم يعرفوا شيئاً عن الكرم الحقيقي إلا بعدما جاءهم النبي محمد وقال "تبسك في وجه ‏أخيك صدقة" كما كان العرب متعالين عن العلم فهم أيضاً متعالين عن الأعمال البسيطة، ولهذا اشتهرت بينهم ظاهرة العبودية والنخاسة بكثافة، ‏والإنسان الكريم ليس من شيمه التعالي على الأعمال البسيطة واستعباد غيره لأدائها.. ‏

ولهذا لا نكون مخطئين أبداً إذا قلنا أن القومية العربية مريضة بعيبٍ عقلي نفسي وقد اختص الله القرآن بلغتهم لعلاج هذه القومية المريضة ‏وليس تشريفاً لها كما يقولون. فالصدق عندهم ليس لذاته، والكرم ليس لذاته، وإنما دائماً ما نجد هناك أبعاد أخرى متخفية لا يدركها الفلاح المصري ‏الساذج، فالعرب بطبيعتهم فكرهم متخفي وراء ألفاظ وكلمات، وسلوكهم متخفي وراء أفعال، وغاياتهم متخفية وراء سلوكيات، وكل ما هو ظاهر ‏عكس ما هو متخفي تماماً، فلا يمكن أن نجد سلوكاً بريئاً ولا فكراً بريئاً ساذجاً ومباشراً، إنما كل شيء في حياتهم متخفي وما عليك إلا الغوص في ‏بطن الشاعر الماكر لتعرف نواياه وأبعاد المعنى والغاية المدفونة الملتوية المتشعبة، فكرهم كله عبارة عن مجاز وتورية لأشياء أخرى متخفية خلفها مثل الحرباء ‏التي تستطيع تلوين جلدها بلون البيئة المحيطة به ليبدوا ظاهرياً عكس حقيقتها، وفي كل موقف يرتدي قناع ظاهره مختلف عن جوهره.. ولهذا انتشرت ‏عندهم ظاهرة النفاق وتشعبت، إذ أنهم بفطرتهم يجيدون التخفي في صورة ظاهرة ساذجة عكس جوهرها تماماً (وهذه خاصية وظاهرة شعرية بالأساس ‏تتجسد عملياً في التورية).. ‏

فالعقلية الأدبية لا قوام لها وليس لها عمود فقري أي مبدأ وموضوع محدد ثابت، إنما هي أكثر مرونة وسيولة، فإذا نظرنا في نموذج من الكائنات ‏الحية سنجد أنه كلما زادت مرونة العمود الفقري، كلما زادت قدرة الكائن على تغيير كيانه وشكله وهيكله وزادت قدرته على المراوغة في الحركة ‏والسلوك، لأن قوامه يصبح أكثر مرونة، مثل هذا القرموط يساعده في المراوغة الحركية مرونة عموده الفقري، والمراوغة في العقلية الأدبية لا تنحصر في ‏مرونة التعامل بذكاء وحرفية توظيف الموقف لصالحها، وإنما تشمل المراوغة الذهنية والتلون والنفاق والتورية والاستعارة وكل أنواع التعبير المجازي.. والتورية ‏هي صورة كربونية مصغرة من النفاق، ولذلك لا يمكن أن نجد تورية في النص القرآني، لأن التورية ذاتها هي خاصية الكائنات البرية، أما الكائنات الأليفة ‏فلا تستطيع أن تواري نفسها خلف أوراق الأشجار وليست التورية من فطرتها السلوكية. وهذا ما مكّن العربي من النفاق بوجهٍ عام لأن النفاق هو تورية ‏فكرية وتعبيرية، و لأن العمود الفقري الفكري في عقله ليس صلباً متماسكاً وإنما مرنٌ مرونة الشعر. فهذا القرموط يستطيع تخريج حركته بأكثر من ‏صورة، كما يستطيع العقل الأدبي تخريج فكرته بأكثر من صورة مجازية وتخريج سلوكه بأكثر من صورة وتخريج عقيدته بأكثر من صورة، دون أن يتمكن ‏أحدٌ من الإمساك به، ولهذا لم يستطع النبي القبض على المنافقين حوله..‏

وهذا لا يمكن مقارنته بسذاجة المصريين الذين يتعاملون بالفطرة وسماحة وسلامة النية وعقليتهم المباشرة دون تخفي وتمويه وتلاعب بالكلام ‏والسلوك مثل الكائنات العربية البرية.. ولذلك علينا أن نأخذ إسلام محمد لا إسلام العرب.. قرآن محمد لا شعر العرب.. أدب محمد لا أدب العرب.. ‏أخلاق محمد لا أخلاق العرب.. لأننا إذا عدنا لأجدادنا الفراعنة سنجد حكمهم ووصاياهم ومأثوراتهم تتفق وتنسجم مع مفاهيم الإسلام ومبادئه أكثر ‏من مبادئ المجتمع العربي البري، فنجد تحذيرات مشددة من النفاق تحديداً، فظاهرة النفاق كانت منذ البداية منبوذة في المجتمع المصري، فنقرأ للحكيم ‏‏«عنخ شاشنقي» حين يوجه نصائح غالية إلى ولده؛ يُحثه فيها على الكرم والعطاء وحب الناس ويحذره فيها من النفاق والأنانية والسادية والتسلط ‏والتشاؤم أو التطيُّر الذي كان شائعاً عند العرب؛ فيقول الحكيم الفرعوني لولده:"... من حزن مع أهل بلده فرح معهم، ولا تجعل لنفسك صوتين، ‏وقل الحقيقة لكل إنسان، واسمح لمن عمل ما كُلف به بأن يرفع صوته، وأعط العامل رغيفًا يعطيك رغيفين من كتفيه، ولا تكره إنسانًا لمجرد رؤيته ‏ما دمت لا تعرف حقيقة خُلقه.. واعلم أن العزلة خير من أخٍ شرير"‏‎.‎‏.. والواقع أن تراث الحكم المصرية القديمة أكثر اتفاقاً من الإسلام من مورثات ‏المجتمع العربي.. ما قد يدفعنا للقول بأن أخلاق الفراعنة المشركين كانت أفضل من أخلاق العرب المؤمنين للأسف.‏

لأن المجتمع العربي مثل شجرة الشوك، وكل أشجار الشوك بالتأكيد تخرج ورود لكن حجم الشوك فيها يكون أعلى كثافة من الورد ولذلك لا ‏تحصل على مسمى شجرة ورد وإنما تستقل بمسمى شجرة شوك برغم أن بها ورود وبرغم أن شجرة الورد ذاتها تخرج بعض الأشواك لحماية ورودها، لكن ‏الغالب في شجرة الورد هو الورد، أما الغالب في شجرة الشوك هو الشوك. والله تعالى لم يختص القومية العربية بالقرآن وبلغتها وبنبي من أبنائها إلا لأنها ‏شجرة عتّق فيها الشوك واستشرى فيها الفساد والشرك والنفاق، فبعث إليها من يجعلها صالحة لحياة البشر الطبيعيين.. إذن القومية العربية من الأساس ‏شجرة شوك، وعلينا إذا أردنا قطف زهرة الإسلام أن ننتقي بحذرٍ شديد جداً كي لا يلسعنا شوكها. علينا أن نتريث في التقاط زهور الإسلام من بين ‏براثن الشوك العربي.. وما يثبت أنها شجرة شوك هو أنها اجتاحت العالم بالسيوف والخناجر بدعوى نشر الإسلام، خلال حقبة الفتوحات بينما لو ‏أعددنا حصراً بعدد الرجال الذي قتلوا وذبحوا وعدد النساء الذين أسروا وانتهكت أعراضهن وعدد الأطفال الذين أسروا وشردوا واستعبدوا وانتهكت ‏طفولتهم وحرموا من آبائهم وأمهاتهم.. بعدد من اعتنقوا الإسلام خلال هذه الحقبة، وبعدد من امتنعوا عن الإسلام بسبب هذه الحقبة.. سنكتشف ‏فعلاً أن القومية العربية ما هي إلا شجرة شوك طرحت بأغصانها وتمايلت إلى اليمين وإلى اليسار بعنف فاكتسحت الشعوب المجاورة.. فلم تقدم ‏للإنسانية خيراً ورحمة وحب وسلام بقدر ما قدمت من إساءات وانتهاكات. فالإنسانية يمكنها التقاط الإسلام من بين براثن الشوك العربي، أما أن ‏القومية العربية لم تدع أحداً يقطف زهوره وزحفت هي بشوكها على الجميع .. وما يثبت أن كرم العب ما كان إلا أحد أنواع النفاق هو أنهم بعد وفاة ‏الرسول انطلقوا زحفاً على الشعوب المجاورة بدعوى نشر الدين، بينما كانت حصيلة هذه الحروب والفتوحات هي نهب وسلب وسبايا ودخل قومي من ‏عوائد أسواق النخاسة التي قام عليها بيت المال وتأسست دولة العرب عليه، فبالنظر إلى المشهد القومي نجد أن القومية العربية لم تكن كريمة من شعوب ‏الجوار وإنما قامت على نهب وسلب أموالهم بدعوى الجهاد.‏

والحديث هنا لا يدور حول مجتمع الصحابة أو المؤمنين أو المسلمين الأوائل، بل يدور حول البيئة العربية والمجتمع العربي والجنس العربي من حيث ‏المنشأ والكاريزما الاجتماعية، فلا مقارنة بين نزعة التمرد والكفر والنفاق والإلحاد والغرور والصلف والكبرياء والاستعلاء التي تمتاز بها سلالة العرب، ‏وبين نزعة المصريين للتدين والطواعية بالفطرة... بينما العرب حينما احتلوا مصر وفرضوا علينا حكمهم استطاعوا أن يجعلونا نكره حضارتنا وتاريخنا ‏وأجدادنا المصريين الفراعنة واختصروا حضارة الفراعنة في هذا الفرعون الموسوي، بينما بقوا هم يفتخرون بأنسابهم وأصولهم القرشية الجاهلية الكافرة ‏المشركة والملحدة المنافقة، ويحفظون أنسابهم وأصولهم بالترتيب حتى آدم، ويخترعون أحاديث تجعل الرئاسة والحكم حصراً في من ينتمي إلى هذه الأصول ‏القرشية، ثم ينكرون علينا انتسابنا لأجدادنا الفراعنة بحجة أنهم لم يكونوا مسلمين، فماذا كان يعبد أجداد قريش؟ .. ‏

غير أن الواقع يشير إلى أن سلالة العرب قريبة جداً ومتماثلة مع سلالة الهكسوس، فكلاهما مجتمعات قبلية حربية، ولذلك نجد الله في القرآن ‏يتحدى عتاة الشرك في قريش ويضرب لهم مثلاً بالفرعون العربي الذي هو من ذات سلالة العرب، ولا يمكن أن يضرب الله مثلاً بالمصريين الفراعنة ‏العباقرة، لأنهم كانوا علماء ومن طبيعة نفسية وعقلية مختلفة جذرياً عن العرب، فالله تعالى يقول" إنما يخش الله من عباده العلماء" ولذلك وجدنا ‏المصريين القدماء خلال حقبة تقدمهم العلمي يقدسون عبادة الخالق بالفطرة، وكانت العبادة ركنٌ أسياسي في الحياة، لأن عقليتهم علمية بفطرتها، عكس ‏الهكسوس الذين ضرب الله بهم مثلاً للعرب. غير أن فرعون في الحقيقة كان عربياً ومن جنس سلالة العرب، وهو منا طائفة العرب التي تمردت على ‏العبادة مثل نمرود وغيره من الأقوام العربية كثير، وفكرة ادعاء الألوهية أصلاً غير موجودة سوى في نسيج العقلية العربية، بينما هم وأبناء عمومتهم ‏الصهاينة يزعمون أن رمسيس الثاني كان هو الفرعون الذي ادعى الألوهية، ذلك ببساطة لأنهم لم يفهموا أن جلالة الملك رمسيس اسمه "رع مسيس " ‏ويعني ابن الإله رع، لأن أجدادنا لم يعبدوا سوى ما اعتقدوا قدرته على خلق الكون، وكانوا يعطون الملوك درجة القدسية فقط لا أن يدعى الملوك ‏الألوهية كما حال العرب. ‏

في الواقع إن عقدة العرب هي الحضارة المصرية الفرعونية، لأنها تكشف فجوة في تاريخهم، فهم ليسو من شعوب الحضارات التي تدمن العلم والعمل ‏والبناء والإنتاج، إنما هم من مجتمعات القبائل مثل الهكسوس، وبرغم أن هذا الفرعون ليس وحده في التاريخ، فليس خليفة العرب المسلمين الأموي ‏الوليد ابن يزيد بأفضل حالٍ منه، وليس الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله بأفضل حالٍ منه، بل إننا إذا عثرنا على فرعون واحد في مصر، فإننا سنجد ‏ملايين الفراعنة في مكة، ليسو فراعنة حضارة، وإنما فراعنة شرك ونفاق من أمثال أبي لهب وأبي جهل الذي قال عنه النبي (ص)" هذا فرعون هذه الأمة". إذن ‏النبي عندما ضرب بأبي لهب مثلاً للتمرد الديني لم يكن يقصد المصريين وإنما العرب والقومية العربية، ولهذا قال له الله تعلى : وأنذر عشيرتك الأقربين" ‏وهذا أيضاً يؤكد أن القومية العربية هي محل الإنذار وليس معنى ذلك انطلاق هذه القومية المريضة لاجتياح العالم بالسيوف ونشر الإسلام بجرائم الحرب ‏ثم يقولون أنها جهاد ! .. فالأعراب أشد كُفراً ونفاقاً، أما العرب برغم أنهم أقل كُفراً ونفاقاً، لكنهم نجحوا في الترويج لتشويه غيرهم من الحضارات ‏اللامعة كي يتمكنوا من تفتيت قومية الشعوب التي احتلوها وكسر شوكتهم وطمس هويتهم ودمجهم في القومية العربية حتى وإن انتهكت القومية العربية ‏مبادئ الدين نفسه، كي يتمكنوا من تحقيق السيادة والسيطرة، ومن هنا ظهرت نظرية الخلافة باعتبارها نظام حكم ديني، بينما في الواقع هي محض نظام ‏الحكم العربي، فالدين ليس نتاج الحضارة والعقلية العربية وإنما هو مطر السماء الصافي، بينما نظام الخلافة فهو نتاج العقلية والبيئة العربية أياً كانت ‏إيجابياتها، فهذا لا يجعلها ديناً للشعوب.‏

بل إننا عندما نتصفح آيات القرآن نجد فيها كثافة غير عادية، وجرعات علاج مكثفة للغاية من ظاهرة النفاق والكفر والشرك والسخرية من ‏العبادة، وبالطبع فإن الأصل هو براءة الإنسان، أي أن الله عندما أنزل الدين الإسلامي لم يكن يسئ الظن بالبشرية جمعاء، لأنه ليس الأصل في البشر ‏هو الجحود والتمرد كما العرب، وظاهرة التمرد بوجهٍ عام في المجتمع العربي لها خصوصية غير عادية وغير موجودة في الشعوب الأخرى، فلم يكن التمرد ‏والتعالي فقط على الأعمال اليدوية والبسيطة كما سبق وأن بينّاها، أو تمرد على المكان وحب الترحال أو التمرد على نظام حكمٍ مركزي أو تعالى على ‏الناس وحب استعبادهم والتسلط عليهم، أو التمرد على الحق وجحوده، أو التمرد على العلم والانصراف إلى الشعر والزجل.. بل إن حياتهم كلها قائمة ‏على التمرد، وليس فقط التمرد على الأديان، ولذلك نجد كثافة غير عادية في الآيات التي تتحدث عن النفاق والمنافقين والكفر والكافرين والشرك ‏والمشركين والظلم والظالمين..إلخ، هذه الآيات في مجملها متعلقة بوقائع محلية معاصرة لنزولها، وهو ما يجعلها تتسم بطابع القومية المحلية. ‏

هذه السمات العربية تتبين لنا في حجم النفاق الذي عم المدينة على عهد رسول الله، واتهامهم للسيدة عائشة في شرفها وترويج الشائعات طعناً ‏فيها وفي نبيهم، وحتى وصل بمجموعة من المنافقين لمحاولة اغتيال النبي في جيش العسرة وهم يسيرون تحت لوائه، فلماذا ساروا معه طالما لا يؤمنون به؟ ‏هل كان يهددهم؟ بالطبع لا ولكنها طبيعة المجتمع العربي، ونزلت سورة التوبة شخصت ملامح المجتمع وعددت فئات كثيرة، وظهر كذلك في حركة الردة ‏الجماعية بعد رحيل النبي برغم أنه لم يكن يجبرهم على إسلام. بينما انطلق الصحابة بخيولهم وسيوفهم يحرقون الأخضر واليابس ويحسبون أنهم ينشرون ‏السلام !! وفي ذات الوقت يقولون " المسلم من سلم الناس من لسانه ويده" ! ‏
وظهر كذلك الشقاق السياسي الرهيب بين الصحابة أنفسهم وسرعة وجاذبية للقتال والفتن والمكر والنفاق.. لدرجة أننا نجد حاكم المدينة المقدسة ‏بعد رسول الله، "خالد العشري " والي مكة أثناء حكم هشام عبد الملك يتحدث في جمعٍ من الناس فيقول: ( أيها الناس؛ أيهما أعظم؟ خليفة الرجل ‏على أهله أم رسوله إليهم !) في إشارة إلى رفعة منزلته مقارنة بالرسول! . وغيره الخليفة الأموي الوليد ابن يزيد عندما قلب صفحات المصحف فوقع نظره ‏على ورقة بها آية " وَخَابَ‎ ‎كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ" 15/إبراهيم، فأمر بالمصحف فعلقوه وأخذ يقذفه بالنبال حتى تمزق ثم قال بعدها أبياتٍ من الشعر يهجو ‏القرآن" أتتوعد كل جبارٍ عنيد.. فها أنا ذاك جبارٌ عنيد.. إذا لقيت ربك يوم حشرٍ.. فقل يا ربي مزقني الوليد..! ويقول ابن الأثير في التاريخ، 5/ ‏‏289: تولى الوليد بن يزيد الأموي الخلافة متأخراً وكان قريباً من عهد النبي.. قال: ملأ بركة من الطيب (عطراً) وكان يشرب الخمر، فإذا سكر قفز في ‏البركة، وقال: أطير إلى أين أطير -قل: إلى جهنم- فيطير على وجهه".‏‎.‎‏ والأمر هنا لا يتوقف عند مسألة الإيمان أو الإلحاد، أو أن هذا هو نموذج خليفة ‏العرب، فمجرد وصفه بالإلحاد لا يمكن أن يفسر سلوكه، لأن الإنسان الملحد يكون لديه فكر وقناعة يعتبر من خلالها أن الطبيعة تسيّر نفسها بقوانينها ‏دون حاجة إلى خالق يُسّير الكون، إنما مشكلة العرب في من يهوى السخرية من فكرة الإيمان، فهذه الدرجة من الفجر لا علاج لها.. هذه خصائص ‏كائنات صحراوية برية وليس كائنات مدنية كما طبائع شعوب الحضارات.. فما بالنا إذا جاء أحدهم ليحكم مصر ؟ فهل هناك أمل أن يبني فيها ‏حضارة مثل تحتمس الثالث؟

غير أن الأمر لا يتعلق بشخص الوليد، كونه كفر بعد إيمانه، فهذه طبيعة المجتمع العربي، قبل وبعد بعثة النبي محمد عليه السلام، فلا غرابة من أن ‏يلحد شخص أو يسخر من كتاب الله ويمزقه بالسهام، لكن الكارثة في هذا المجتمع الذي يقول بأن تاريخه تاريخ إسلامي، وأن خير القرون قرن النبي ‏والذي يليه من الصحابة والتابعين، ولو كان هذا الكلام صحيحاً وأن هذا المجتمع لم ينقلب بعد الرسول وظل متمسكاً بكتاب الله، لكان من الأولى ‏بدلاً من أن يسجل المؤرخون أبيات الشعر الذي قالها هذا الخليفة، أن يقوموا بثورة حارقة، فليس من العادي أن يكون هذا سلوك وفكر خليفة رسول ‏الله ولا تقوم ثورة في شبه الجزيرة تحرق الأخضر واليابس لتخلعه من عرشه وتعدمه في ميدان عام أمام جموع الشعب، إنما هو مجتمع ملئ بالنفاق، ولم تقم ‏ثورة إلا بسبب السياسة والصراع على الحكم والسلطة، حتى أنهم لم يقتربوا من هذا الخليفة الذي يكفر بالله عياناً بياناً ويسخر من كتابه بأبيات الشعر، ‏لكنهم أجمعوا وقتلوا عثمان ابن عفان بسبب انفراده بالسياسة، وأجمعوا وقتلوا محمد ابن أبي بكر وجرجروه من ساقيه في شوارع القاهرة وحشروا جثته في ‏جيفة حمار وأحرقوه بالنار... ألم يكن هذا الخليفة الوليد أولى بالحرق؟ ألم يكن هذا الخليفة أولى أن تشتعل الثورات لخلعه وعقابه على الاستهزاء والسخرية ‏من كتاب الله؟ أليس المجتمع كله مذنب؟ لم يكن هناك أي رد فعل من الشعب العربي! فالأمر لا يتعلق بشخص الخليفة وإنما بمجتمع بأكمله لم يشغله ‏كفر الخليفة وإلحاده، بل إنهم استمروا في تلقيبه بلقب "خليفة" وأمير المؤمنين ! أي مؤمنين هؤلاء الذين يثورون من أجل الحكم والسياسة ولا يأبهون ‏لكفر الخليفة وإلحاده وسخريته من كتاب الله؟ فقط خلّدوا أشعاره الإلحادية، وذكروها هم في كتب تاريخهم، بل إن الغريب أن أبناء عمومته تآمروا ضده ‏وثاروا عليه فيما بعد واتهموه بهذه التهم وقتلوه، لكن ليس للإساءة للدين، ولكن قتلوه من أجل السياسة !‏

والمتأمل في كتاب الله يجد كثافة غير عادية في ورود كلمات من نوعية (قتال – اقتلوا – قاتلوا – قتلوا – تقتيلا –يُقتلون ويقتلون) فقد ذُكرت ‏آيات‎ ‎القتل ‏‎ (96)‎مرة‎ ‎في‎ ‎القرآن،‎ ‎هذا عدا المرادفات اللغوية‎ ‎أو المترادفات مثل اللعن والسب والتب والتهديد والوعيد.. ذلك كله جاء بشأن الجزيرة ‏العربية على وجه الخصوص وليس لسائر شعوب العالم، لأن الله بعث نبيه في كهف الثعابين البشرية المعادية لعبادة الله، فتعامل الله –ولله المثل الأعلى- ‏مع العرب معاملة الحاوي للأفعى المكارة، وهم لم يتوانوا في اضطهاد النبي وإزائه والتنكيل بأتباعه، ثم شنوا كثيراً من الحملات العسكرية للقضاء عليه ‏وأتباعه في المدينة، فالقرآن جاء كتالوجاً كاملاً للرسالة محملاً بالمضادات الحيوية اللازمة لبقائه على قيد الحياة، ومن طبيعة الحال فالإسلام كان في مهده، ‏في مرحلة الحضانة، كما البذرة التي تحتاج عند غرسها إلى الحماية من البيئة المحيطة بها حتى تنبت وتستقر سيقانها، خاصة إذا كانت البيئة مليئة ‏بالعدائيات من نوعية العرب، ولذلك جاء القرآن محملاً بالكثير من الأوامر والنواهي الوقتية، وهي ليست من أصول الدين المستمرة والمستديمة، لكنها ‏أوامر وقتية خاصة بحالة الطوارئ التي وقعت في جزيرة العرب عند بعثة النبي محمد عليه السلام.. ولو كان النبي محمد بُعث في مصر أو في غيرها من بلاد ‏الأمن والسلام الاجتماعي لما كان القرآن قد نزل بهذا الكم من التحصينات أبداً، ولا كان في حاجة إليها، لكنها وُجهت خصيصاً لجزيرة العرب، وهم ‏ليس من طبيعتهم السلام الاجتماعي ولا اليقين ولا الإيمان، ونشاطهم تغلب عليه النزعة الحربية والوحشية، ولهذا جاء القرآن محملاً بالتحصينات اللازمة ‏والملائمة لهذه البيئة حصرياً. ولذلك ليس لأحدٍ أن يحزن لكون القرآن قد احتوى ألفاظ وعبارات كثيرة تعبر عن القتل والعنف والقسوة والتهديد ‏والوعيد؛ لأن ذلك ليس من مكونات الدين الإسلامي كعقيدة وإنما مجرد تحصينات موجهة خصيصاً للعرب.‏

فالإسلام كمنهج أخذه العرب جرعة علاجية خلال حقبة زمنية، وبقي السؤال عن مدى تأثير هذه الجرعة العلاجية، لا أن تكون سلوكيات المريض ‏بعد تلقي الجرعة هي المنهج العلاجي ذاته. بل إننا صرنا كمن يتلقى العلاج من المريض ذاته وليس من الطبيب، لأن الإسلام جاء علاجاً للمجتمع ‏العربي من فساده وفسقه، وهداية وبشرى للمجتمعات غير العربية، وأما الطبيب هو الله، والنبي هو الصيدلي والروشتة العلاجية هي القرآن، والمريض هو ‏المجتمع العربي، إنما نحن تركنا الطبيب والصيدلي وتركنا الوصفة العلاجية وتلقينا تعليمات العلاج التي نقلها لنا المريض وهو يقول أنه لا يكذب! بينما ‏هو ينفس بخره بالعدوى في وجوهنا، مع أن مرضه وسبب العلاج كان كذبه هو وفسقه هو ونفاقه هو وليس نفاقنا نحن وإلا كان النبي قد بُعث في ‏القاهرة! وتلقينا الدين من المريض باعتباره شريك في التطبيب وشريك في النبوة ومستشار للدين وخبير لأنه صاحب اللغة وهو أول من تلقى علاجاً. ‏فكل إنسان يحتاج علاج عليه أن يأخذ علاجاً مُعقماً وليس بقايا مريض آخر كالمريض العربي القرشي الذي تبنينا ثقافته باعتبارها الطريق إلى الجنة.‏

لأن أبسط قواعد الطب أن يحذر أي شخص من تناول أدوات مريض آخر أو تلقي علاجه أو استعمال ذات الأدوات حتى لا تنتقل عدوى ‏المريض في العلاج أو الأدوات لأن المعتاد أن تتلوث أدوات العلاج بعدوى المريض أي عدوى الغبار الثقافي العربي، وقد يصاب الطبيب نفسه بعدوى ‏المريض ويموت قبل المريض، وحاشا لله أن تصيبه عدوى النفاق العربي لكنه حذر الله نبيه محمد عليه السلام من عدوى العرب حينما قال له: وَكَذَلِكَ ‏أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ )37/ الرعد. وقال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ‎ ‎يَخُوضُونَ ‏فِي آيَاتِنَا‎ ‎فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‎ ‎‏﴾ 68 الأنعام. فهذه الآية ‏تحصين مسبق للنبي من العدوى العربية، ولا يمكن فهمها على أنها تحذير له من عدوى العرب دون الصحابة لأن ذلك ضمنياً معناه أن الصحابة المقربين ‏ليسوا بحاجة إلى تحذير وتحصين مثل النبي ! إذ أنهم حتى لو كانوا شركاء في النبوة لسرى عليهم تحذير الله من العدوى، فما بالنا إذا كان الصحابة هم جزء ‏من نسيج هذا المجتمع المعدي؟ بل إن تحذير النبي كان من المجتمع بأكمله وفكره وثقافته، وهذه الآية تبين لنا وتثبت بالدليل أن العرب الذين جعلوا ‏أنفسهم شركاء في النبوة واجتاحوا العالم بالسيوف والخناجر لينشروا الدين في الشعوب الأخرى، كما المريض الذي تلقى جرعة العلاج وهرب من المشفى ‏وصار يتقافز هنا وهناك ليطعن كل الناس بحقنة من علاجه حتى غير المريض منهم اعتبره مريض وحتم عليه تجرع العلاج وإلا دفع الجزية ! بينما تبخرت ‏جرعة العلاج التي تلقوها من النبي بمجرد وفاته.. وابتعدوا عن دينهم وانقلبوا عليه.‏

وبوجهٍ عام، الأديان هي ثقافة سائلة مرنة بيد الشعوب تلوّنها وتشكلها بلون وشكل عقول المجتمع والعصر والظروف الاجتماعية والثقافية والنفسية ‏العامة، وكل أمة من الأمم التي اختصها الله برسالة شكلت هذه الرسالة وحرفت وغيرت فيها بقدر ما تلاءم مع ذهنياتها، لأن الأديان وهي ثقافة سائلة ‏مثل كافة السوائل الشفافة تأخذ لون وشكل وحجم الإناء الذي تُصب فيه، وبما أن العقلية العربية وهي الإناء المستهدف، هذه العقلية لم تكن عادية ولا ‏طبيعية بأي حال، بل كانت مريضة بمجموعة متشابكة من الأمراض المستعصية كما بني إسرائيل سواءً بسواء، فالقومية العربية كانت مصابة بعدوى ‏النفاق والإلحاد والفجر والتمرد الديني والسخرية من العبادة، وإدمان الشرك في العبادة، كما بني إسرائيل بمجرد أن تركهم النبي عيسى عليه السلام أربعين ‏ليلة وصعد الجبل ليكلم ربه، وخلال هذه المدة القصيرة –برغم أنه ترك أخاه هارون معهم حارساً لعقيدتهم ووصياً عليهم- إلا أنهم جمعوا ما معهم من ‏مجوهرات وصنعوا بها عجلاً ليعبدون ! ... هكذا فعلت القومية الإسرائيلية، لكن هناك فارق جوهري بين القومية الإسرائيلية والقومية العربية، وظهر ‏هذا الفارق بجلاء بمجرد رحيل أنبيائهم عنهم، فالعرب انحرفوا بالجملة كما انحرف الإسرائيليين بالجملة انحراف جماعي لأن المرض في الأصل جماعي ‏ومستعصي كما كان قوم لوط.. لكن اختلاف نمطية الانحراف عقب اكتمال كل رسالة ورحيل نبيها ظهر فيما بعد بصورة مختلفة حسب الطبيعية ‏الذهنية للقومية، فبني إسرائيل احتكروا الدين عليهم وأغلقوا حدود الرسالة على أنفسهم ورفضوا قبول يهود جدد من عرقيات أو قوميات أخرى، مع أن ‏كافة الرسالات السماوية هي شرائع متعددة مستقاة من دين واحد هو الإسلام، فهي تشريعات مختلفة نابعة من ذات المنهج الإلهي، وهذا ما يعني أننا ‏حتماً سنجد مبادئ هذا المنهج متجسدة في كافة الشرائع المشتقة منه (اليهودية والمسيحية والرسالة المحمدية) وأما الخلافات الجوهرية فتبقى من أثر ‏الشعوب ذاتها وليست أصلاً في الشريعة. ‏

وبالنظر إلى أن هذه الشرائع هي هدي من الله للجميع وليست حكراً على عرقية معينة ولا حصراً عليها حتى وإن كانت روشتة علاجية مخصصة ‏بشكلٍ مركز لهذه القومية، لكن هذا لا يمنع استفادة القوميات والأعراق الأخرى من هذه الشرائع لأنها في الأصل هدي من الله ورحمة وسلاماً للعالمين، ‏أما بني إسرائيل فقد احتكروا الرسالة وأغلقوا حدودها في ذريتهم ورفضوا قبول يهود جدد من قوميات أخرى.. بينما المسيحية لم تتطرق لفكرة الاحتكار ‏وتركت حدودها مفتوحة للجميع... أما الكارثة فقد وقعت في الرسالة الخاتمة، رسالة محمد عليه السلام بسبب تفاعل الذهنية العربية مع هذه الشريعة ما ‏أدى لتشويهها ومسخها تماماً وصبغها بطابع العقلية والقومية العربية، بالنظر إلى أنهم كانوا ناصية الرسالة وجاءت بلغتهم وهي لغة معقدة ومفرطة في ‏معانيها وألفاظها ومن الصعب على القوميات الأخرى فهم أبعادها ومرامي معانيها وألفاظها، وهذا ما مكن العرب من ناصة الإسلام أكثر فشوهوه ‏ومسخوا مبادئه بسهولة ويسر، فهم لم يفعلوا ما فعله بني إسرائيل بأن أغلقوا حدود الرسالة على قوميتهم ورفضوا دخول مسلمين جدد من قوميات ‏أخرى، ولم يفعلوا مثل المسيحيين ويتركوا حدود الرسالة مفتوحة للجميع ترحب بالجميع في سلام، وإنما استخدموا الرسالة في تحقيق غاياتهم وتوسعاتهم ‏وطمعهم في ثروات الشعوب الأخرى ففرضوها على كافة القوميات، وعلى من يرفض الإسلام أن يدفع الإتاوة ! أي أن العرب انحرفوا بالرسالة المحمدية ‏‏180 درجة مقارنة باليهود، حيث قاموا بتوظيف حرفتهم الأصلية (الإغارة وسلب ونهب القبائل والقوافل العابرة وسبي النساء والأطفال والبنات وبيعهم ‏في أسواق النخاسة) انتقلت هذه المهنة الجماعية في صورة دينية حديثة هي الجهاد، وانتقلت كافة فعاليات وممارسات مهنة الإغارة إلى مهنة الجهاد، ‏وأصبحت حرفة الإغارة القرشية في العصر الجاهلي ديناً للمصريين في العصر العلمي !.‏

غير أن هذا العلاج " المنهج القرآني" وإن كان منهجاً عاماً لكل الشعوب والأمم إلا أنه حمل روشتة علاجية خاصة لشعب شبه الجزيرة الذي ‏فشت فيه العدوى والمرض قبل بعثة النبي، ولذلك نجد الكثير من الآيات في القرآن توضح ذلك، فيقول جل علاه: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا ‏فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ )/ 44 ‏فصلت. أي أن الكفر والنفاق والفجور كان سمة اجتماعية وثقافة متجذرة بعمق فيهم فأنزل الله هذا القرآن علاجاً عربياً لهذه النفوس المريضة. ويقول ‏أيضاً: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) 103/النحل. وعندما يحاول المريض الهروب ‏من طبيبه وينعته بعدم الاختصاص.. هكذا فعل العرب وقالوا أن القرآن ليس عربياً وادعوا أن هناك شخص أعجمي يعلّم النبي هذا القرآن، فقال له الله ‏أنه يعلم ما يقولون لك وأن هذا القرآن بلسان عربي مبين. إذن اقتران القرآن باللغة يؤكد اقترانه بعلاج العرب تحديداً وعلاج عقلياتهم وخلفياتهم الثقافية ‏الاجتماعية والعقائدية.. أما نحن فقد تركنا خلفياتهم العقائدية قبل الإسلام وتبنينا كل ما تبقى من ثقافتهم الجاهلية باعتبارها خلفية ثقافية للغة العربية، ‏ثم بمرور الوقت وجهود الفقهاء تحولت إلى قواعد دينية للشعوب .. ‏

وليس معنى ذلك أن القرآن أو الإسلام انحصر في المحلية المتمركزة في شبه الجزيرة كعلاج روحاني مركز ومكثف لهذه المنطقة الموبوءة بالتمرد والنفاق، ‏لكن القرآن جاء بخطاب مزدوج؛ خطاب رقيق مبشر يتوجه إلى العالم في نطاق " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، وخطاب آخر للمحلية العربية حمل ‏ملامح المجتمع في طياته اللغوية ولهجته الحادة الرادعة، وجاء مُرَكزاً ليضع الإصبع على الجرح، فقد وصف أحوال المجتمع العربي بدقة، وشخّص وحللّ ‏عقلياتهم وسماتهم وأفكارهم وسلوكياتهم، وكل ذلك جاء في نطاق القومية العربية، دون الإشارة للقوميات الأعجمية الأخرى في ذلك الوقت، لأن الله لم ‏يتحدث إلى نبيه عن أحوال الصينيين مثلاً، ولم يذكر ملامح مجتمعاتهم ولو عرضاً في القرآن، ولم يتحدى إشكالياتهم العقائدية كما تحدى الإشكالية ‏العقائدية للعرب، بل جاء القرآن بلسان عربي مبين ليتحدى العقلية العربية اللغوية. لدرجة أنهم العرب اتهموا النبي بأنه يتلقى القرآن عن شخص أعجمي ‏‏(أي أنهم يدفعون بعدم الاختصاص القومي) فأكد لهم أنه بلسان عربي أصيل وليس مستنسخ وليس أصله أعجمي. ولم يكن النبي مأموراً بالسياحة في ‏العالم مثل الرحالة ابن بطوطة أو الشريف الإدريسي، بقدر ما كان موجهاً ومأموراً بأولوية القومية العربية في المقام الأول، وهي بؤرة الفساد العقائدي، ‏حتى أنه لم يهجر مكة إلا بأمر من الله، ثم عاد إليها مأموراً، فلماذا لم يترك النبي المنطقة العربية برمتها ويذهب لقومٍ آخرين يصدقونه ويحترمونه منذ الوهلة ‏الأولى؟ .. ثم يقول تعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ‎ (30) ‎وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰ--------ذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ ‏عَظِيمٍ‎ (31) ‎‏/الزخرف. وهذا ما يعني أنهم تهاتروا على النبي وقالوا لو أن الله أرسل لهم شخصاً عظيماً من (القريتين )يكون نبياً لهم لاتبعوه، فهم يعلمون ‏جيداً أن المخاطب بهذه الرسالة هي قومية معروفة وهي محل الإنذار، وقد رد الله عليهم بذات المنطق القومي الإقليمي فقال تعالى:‏‎ ‎أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ ‏رَبِّكَ ۚنَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗوَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا ‏يَجْمَعُونَ‎ (32)‎‏/الزخرف

ومن هذا الخطاب المتبادل بين الله والقومية العربية حصراً نتأكد من سببية اختصاص هؤلاء القوم بالرسالة على درجة الأولوية والضرورة القصوى. ‏فالقرآن لم يأت كنصوص عامة مجردة مثل نصوص القوانين والمعاهدات الدولية التي يتم تطبيقها على جميع شعوب العالم دون قدرة حتى على تمييز فردٍ أو ‏شخص طبيعي أو اعتباري يكون مختصاً ومخاطباً بنص محدد في هذه الاتفاقية، بل تسير نصوص الاتفاقيات بصياغة عامة مجردة دون الإشارة إلى ‏شخص معروف أو فعل قام به شخص محدد أو حادثة معينة أو غير ذلك كما نصوص الدساتير بوجهٍ عام، فالدستور لا يخاطب شخص محدد وإنما ‏يرسي المبادئ والحقوق والواجبات والالتزامات التي لا يمكن أن تميز شخص عن آخر أو قرية عن أخرى أو مدينة عن أخرى، فنصوص الدستور عامة ‏مجردة، بينما القرآن جاء على هيئة مزدوجة (نصوص عامة مجردة ونصوص قومية مخصصة ونصوص قومية مخصصة زمانياً أيضاً) أي هناك نصوص في ‏القرآن عملت مبادئ عامة في الحكمة والخير وأصول العبادة لكافة البشر. ونصوص أخرى عالجت إشكاليات عقائدية خاصة بالقومية العربية الفاسدة ‏ومتجذرة فيها بأعمق من قواعد فندق فيرمونت بالحرم المكي، لدرجة أن نجد مطربة سعودية فاجرة تنهي حفلة رقصها بقراءة سورة الفاتحة بلحن غنائي! ‏ونصوص أخرى مخصصة من جانبين فهي عالجت أحداث معينة في زمن معين في قومية عربية معينة بالذات (مثل مهاترات قريش في رفض الاعتراف ‏بالنبي والقرآن والدفع بعدم الاختصاص القومي وتعليق القرآن على الأحداث المختلفة مثل حادثة الإفك والمعارك ومعاهدات الصلح والحوارات القرآنية ‏الخاصة بأحداث معاصرة مع النبي). وهذا ما يعني أن الفئة الأولى من النصوص القرآنية العامة المجردة موجهة لجميع شعوب الأرض لأنها جاءت رحمة ‏وهدىً وسلاماً للعالمين (دون نذير؛ أي دون رسول للصينيين ورسول للمصريين ورسول للبلجيك ورسول للصينيين..إلخ، وليس بلغتهم). وأما الفئتين ‏الأخريين من نصوص القرآن فهي تناولت أحداث ووقائع وإشكاليات عقائدية وسلوكية خاصة بالعرب والقومية العربية أحداثاً وزماناً ومكاناً وأجناساً. ‏

بل إن مجرد اختصاص القومية العربية برسول من بينهم يعرفونه معرفة شخصية وبقرآن نزل بلغتهم خصيصاً مع تكرار التأكيد على ذلك، فهذا قد ‏يحمل غبناً بالشعوب الأخرى التي خلقها الله بلغات مختلفة ولم يرسل لهم القرآن بلغتهم والنبي بلغتهم، فهذا يعتبر غبناً مقارنة بالعرب، لكن الرسالة ‏جاءت على البؤرة ذات الأولوية الحرجة، وهذا ما يؤكد حتمية اختلاف العرب عن غيرهم من الشعوب لأن الله لم يختصهم بجائزة على إحسانهم وإنما بدأ ‏بهم في جرعات علاج مكثف، أرسل إليهم أسمى الشرائع كي تكون بشرى وإنذار لهم وتكون بشرى للشعوب الأخرى مثل الفرنسيين والصينيين ‏والإندونيسيين التي ليس من شأنها المهاترة بأن القرآن ليس فرنسياً أو صينياً أو ليس بلغتها الأم وأن النبي ليس فرنسياً أو ليس من قومهم وغير ذلك ‏من مهاترات كما قال العرب، وهذا ما يبرر لنا القول بأن القرآن جاء إنذاراً وبشرى للعرب، بينما جاء بشرى للشعوب الأخرى.. ((وهذا ما ينفي ‏أحقية العرب في إخضاع الشعوب الأخرى للإسلام أو دفع الجزية أو الخضوع لحكم العرب كما حدث في حقبة الفتوحات وحروب خالد الولد وطارق ‏زياد وعقبة نافع، لأن العرب محل إنذار أصلى بينما الشعوب الأخرى محل بشرى)). ‏

غير أنه طالما لم يأمر الله تعالى بسحق جميع لغات العالم واختزال كل الألسنة في اللغة العربية، فهذا معناه أن الشعوب الأخرى تعتنق الدين ‏الإسلامي بلغاتها كما خلقها الله على لسانها، وهذا معناه إسقاط كل ما يخص القومية العربية من القرآن واعتباره محض قصصٍ قرآني للحكمة والعظة ‏فقط، ومفهوم القومية العربية هنا يأتي على (اللغة العربية والثقافة العربية والأدب والتاريخ العربي وأنظمة الحكم العربية). ولذلك من الضروري التفرقة ما ‏بين القومية العربية ومبادئ القرآن الكريم وتعاليم الإسلام، لأن الله طالما لم يأمر بسحق وإعدام لغات الشعوب الأخرى كشرط لاعتناق الإسلام أو ‏إسباغ الإيمان فهذا معناه حتمية إسقاط القومية العربية من الإسلام وعدم إلزاميتها للشعوب الأخرى التي لا تتحدث العربية ولا تنتمي للقومية العربية. ‏فلا يمكن أن يخلق الله عقلية علمية عملية تطبيقية مثل المصريين ثم يحتم عليهم تقمص العقلية العربية الأدبية الشرسة سلوكياً وفكرياً هذه من أجل معرفة ‏الدين، وهذا معناه أن هناك خطورة في انتقال القومية العربية مع الدين إلى باقي الشعوب لأن ذلك معناه مسخ جميع شعوب العالم وعقلياتها واختزالها ‏في نوعية واحدة فقط أدبية حربية؛ إما عرب وإما هكسوس، فتظل هذه العقليات هي السائدة وتُطمس كافة العقليات العلمية من أجلهم!. فالشعوب ‏المجاورة للعرب لم تصبح مسلمة وإنما أصبحت عربية، وعربية يعني أنها تطبعت بالعقلية العربية وتقمصت ملامحها وتشربت سماتها، وهي التي نزل الإسلام ‏لعلاجها في الأصل، فمسألة انتشار الإسلام مندمجاً في القومية العربية جاء وبالاً على الإسلام ذاته وعقبة كؤد أمام اتساعه وانتشاره، لأن العرب جعلوا ‏ضمنياً قوميتهم قرينة بالدين، وهذا ما لم يقل به الله، بل إن الدين نزل في الأصل لعلاج قوميتهم لا دمجها في الدين وتعميمها بما تحمله من خطورة كارثية ‏سنتعرف عليها في الإضاءة الأخيرة.‏

بل إن مجرد تأكيد الله عز وجل وتكراره التأكيد على الاختصاص القومي بالقرآن وأنه نزل عربياً وبلسانٍ عربي لينذر العرب ولعلهم يتقون وليحدث ‏لهم ذكراً، فهذا معناه أن القرآن نزل في المقام الأول علاج لهذه القومية المريضة، وبالتالي عند نشره إلى الشعوب الأخرى لا بد أن يكون مُعقماً وخالياً ‏من آثار القومية العربية. إنما العرب ركبوا الدين كي يركبوا به الشعوب، استغلوا الدين وتسلطوا به على غيرهم، وحصروا الحكم والسلطة والخلافة في سلالة ‏قريش، واجتاحوا العالم بالسيوف بدعوى نشر الدين دون حتى أن يتعلموا لغات هذه الشعوب كي يحدثوهم عن الإسلام ! وفرضوا عليهم الخضوع ‏للحكم العربي ودفع الجزية، بينما نظام الحكم يمثل القومية العربية ولا يمثل الدين، والجزية لا تمثل الدين وإنما تمثل القومية العربية، فالعرب لم يبشروا الناس ‏بالدين ولم يلزموهم به ولكنهم ألزموهم بالقومية العربية المريضة التي جاء القرآن لعلاجها.. برغم أن المقتضى هو إسقاط القومية العربية عن الدين وتنزيهه ‏منها كي يكون ملائماً للشعوب الأخرى.‏

وكما قلنا أن قناة النقل لم تكن متماثلة في كافة المراحل، فكانت القناة النبوية التي انتقل خلالها الإسلام من المولى عز وجل إلى العرب ملائمة ‏ومُجهزة برعاية ربانية فائقة لحمل الرسالة ونقلها إلى المجتمع العربي، ولذلك انتقلت الرسالة بسلام، بينما القناة العربوية التي انتقل من خلالها الإسلام إلى ‏الشعوب الأخرى لم تكن على ذات الكفاءة للقناة الأولى ولم تكن متماثلة معها لأن الصحابة ليسو شركاء في النبوة بل مُخاطبين بها، وبالنظر إلى ‏خصوصية المجتمع العربي والقومية العربية (الطبيعة الحربية – البيئة الصحراوية القاسية - المكر والدهاء- القبلية والعصبية والعنف والتقلّب المزاجي – ‏التمرد بألوانه – النفاق بأنواعه – والعقلية الأدبية) هذه البيئة الاجتماعية كانت أشبه بتربة نزل فيها الإسلام، كان الإسلام صافياً نقياً كما مطر السماء ‏العذب، لكن التربة لم تكن خصبة بأي حال، بل كانت مالحة، بل زائدة الملوحة إلى درجة الطفح الذاتي، وهذا ما يعني أن ما يتسرب من ماء خلال هذه ‏التربة لن يكون صافياً بأي حال وعلى درجة عذوبته التي نزل بها من السماء، بل من المحتم أنه يحمل ملوحتها إلى حيث تتسرب المياه.. وهذا ما يحتم ‏إعادة تكرير وتنقية الإسلام من آثار هذه القومية العربية وخصوصيتها ليعود عذباً نقياً نظيفاً كزهرة اللوتس.‏

وفي الواقع كان على الصحابة إذا قرروا فعلياً نشر الإسلام في شعوب العالم أن يقيموا مشروعاً قومياً لترجمة علوم القرآن والحديث ومبادئ الإسلام ‏قبل تصديرها للشعوب الأجنبية كي يسهل هضمها ويساعد ذلك في توسيع دائرة انتشار الإسلام لأن اختلاف اللغة يعتبر عائقاً مادياً أمام انتشار ‏الإسلام إذا انحصر في اللغة العربية، لأنه ليس من السهل أن تتنازل الشعوب عن ثقافاتها ولغاتها وإرثها الثقافي كي تتعرف مبدئياً على دين لم تعرفه ولم ‏تهضمه بلغاتها، فعلى الأقل كان ينبغي أن يكون مشروع ترجمة العلوم الشرعية وتفسير القرآن إلى لغات العالم هو المشروع القومي بعد رحيل النبي، لا أن ‏تكون الفتوحات والحروب هي المشروع القومي.. أن يكون صوت القلم أعلى من صوت السيف.. لكنهم تركوا ذلك وعادوا إلى نشأتهم وطبيعتهم ‏الحربية التي ورثوها من البيئة العربية.. غير أن استمرار الارتباط والاندماج بين الإسلام والقومية العربية بملامحها سيضع عقبة كؤد أمام عولمة الإسلام لأنه ‏من غير المتصوّر بل من المستحيل طمس هويات جميع الشعوب ولغاتها وقومياتها وجعلها تعيش على قومية العرب وتتغذى من عقلية العرب وترتدي ‏ثوب العرب الثقافي.. أو ما يمكن وصفه بفكرة عولمة اليونيفورم الأعرابي على مستوى جميع شعوب الأرض في نمطية عربية متماثلة، فهذا محض خيال ‏نابع من نظرية الخلافة التي أبدعتها العقلية العربية السادية، لأن التنوّع بين الشعوب هو الأساس الذي خلق الله عليه الكون، فالشعوب أنسجة حيوية ‏متنوعة كأنسجة الجسم وليست متماثلة، ولهذا قررت مواثيق حقوق الإنسان " حق تقرير المصير لكل الشعوب.‏

ويقول جل وعلا: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) 113/ طه.. وهذا ما يوضح أن القرآن في ‏كثير من مواضعه حمل نبرة تهديدية بالوعيد للقومية العربية (لغة وعقلية)، أي أن الله يقول أنه أسرف في لغة الوعيد والتهديد، هذه اللهجة التهديدية لا ‏تخص المصريين والنرويجيين والعالم بل تخص العرب فقط لأنهم قوم شرك ونفاق، على أمل أن يجد ذلك في قلوبهم الصدئة صدى ويحدث لهم ذكرا، وقد ‏حدد الله تعالى المرض والعلاج وشخص المريض باسمه ولغته ومحل إقامته ورقمه القومي وما بقي إلا البصمة الوراثية حتى يصدقوا أنهم مرضى فكرياً وخلقياً ‏وهذا علاج لهم.. ويؤكد ذلك في قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ ‏وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ )/7 الشورى. وهذا تصنيف واضح وتحديد دقيق لنطاق الرسالة وهدفها الأول (أم القرى وهي مكة ومن حولها من الشعب باللسان ‏العربي، وهذا ما يؤكد أن أصحاب اللغة العربية هم المرضى التي وجهت لهم الروشتة العلاجية، وأنها صُرفت بلغتهم لتكون حجة عليهم ودليل الإدانة، ‏بينما هم نسوا أنفسهم وأجبروا الشعوب المجاورة لهم على تجرع العلاج وإلا الدفع.. وهذا لا يعني أن العرب عرب شبه الجزيرة هم المختصين بالرسالة دون ‏غيرهم، لأن الرسالة لم تغلق حدودها، ولكن الخطاب الذي جاء للعرب تحديداً يختلف عن سواهم من الشعوب والقوميات، وله خصوصية وله نبرة حادة ‏وله لهجة خاصة اتسمت بالشدة؛ لأن العبد يُقرع بالعصا.. أما الحر تكفيه المقالة.. فمجتمع شبه الجزيرة اختصه الله بلهجة تحذيرية مشددة بالوعيد، أما ‏سواهم من الشعوب الأخرى فهو بشرى لهم إن آمنوا به لأن القرآن يحتوي منهج حياة كامل ويحوي كنز من الحكم والعبر، وليس فقط كتالوج خاص ‏بحياة العرب. ولذلك نجد الله تعالى يقول: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى ‏لِلْمُحْسِنِينَ)12/الأحقاف ‏

وكذلك يقول تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)/ الزخرف.. ويقول جل شأنه:‏‎ ‎إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)/ يوسف .. ‏ويقول: وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ{192} نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ{193} عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ{194} بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ ‏مُّبِينٍ{195}/الشعراء‎.‎‏.. ويقول: قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )28/الزمر .. ويقول: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏‏)3/فصلت .. وهكذا وردت الإشارة باللغة العربية لتحديد الشعب العربي وتشخيص المرض وصرف العلاج الروحاني، ولذلك نلاحظ أنه في كل مرة ذكر ‏الله " قرآناً عربياً " جاءت في سياقاتٍ توعوية تحذيرية من نوعية (لعلكم تعقلون.. تعقلون.. لقومٍ يَعْلَمُونَ.. لعلهم يتقون.. وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ ‏لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ .. لينذر الَّذِينَ ظَلَمُوا.. لِتُنْذِرَ أم القرى.. وينذر.. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ ... مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ.. إلخ).. وفي كل مرة إما أن ‏يأتي الخطاب موجهاً إلى العرب مباشرة بصيغة المُخاطب، وإما أن يأتي موجهاً للنبي قاصداً العرب تحديداً.. هذا فضلاً عن أن النبي نفسه جاء مُوجهاً ‏للعرب، أي لم يخرج منهم نبي باعتبار أفضليتهم ومحاسن أخلاقهم، بل موجهاً لهم منهم ليكون حجة عليهم لا على غيرهم، ومع ذلك كانوا يتفاخرون ‏ويتعالون على الناس بحجة أنه خرج منهم نبي وكأن هذا النبي نتاج حضارتهم وثقافتهم، مع أنه جاء منهم ليس ليفتخروا به بل ليكون شاهداً ودليل ‏الإدانة عليهم.. لكن هكذا نرجسية العرب، اعتبروا النبي نتاج رقيهم الفكري وارتقائهم المعرفي، وكأن النبوة نتاج معرفي عقلي فيفتخروا به، مع أنه جاء ‏بلسانهم ليكون شاهد عيان عليهم.‏

وبرغم أن الله ذكر اللغة العربية 11 مرة في القرآن وجاءت في سياق تحذيري للعرب كي يثبت الله عليهم بأنفسهم وبلسانهم ويبين لهم قبل أن ‏يحاسبهم على فسادهم.. لكنهم اعتبروا نزول القرآن بلغتهم تعظيماً لها ولأهلها وقالوا لأنها أعظم اللغات عند الله ولأنها لغة أهل الجنة، وأن الشعوب ‏ستتكلم لغتهم في الجنة.. وهذا نابع من نرجسية العرب كعادتهم. بينما الله استخدم اللغة العربية للقرآن ليس لأنها أفضل اللغات عند الله بل لكي تكون ‏حجة ودليل إدانة عليهم، بالإضافة إلى أنها هي موضوع التحدي اللغوي في القرآن.. وهذا التحدي اللغوي القرآني يخص العرب وليس المصريين ولا ‏الكوريين ولا البلجيك، لأنهم مهما أبدعوا وتفقهوا في اللغة العربية لا يمكن أن يصلوا إلى درجة إتقان العرب لها واحترافهم استخدامها، لأنهم ليسوا ‏عرب، وليست صنعتهم التلاعب بالكلام وتخليق الضفائر الكلامية كما العرب، وهذه اللغة وإمكاناتها الأدبية ليست نتاج نسيجهم العقلي ونشاطهم ‏الذهني، فخلق الله للشعوب بلغات مختلفة لم يأت عبثاً وإنما لحكمة جليلة.‏

وبرغم أن الله ذكر اللغة العربية 11 مرة في القرآن وجاءت في سياق تحذيري للعرب مباشرة وتحديداً لينذر أم القرى "مكة" وما حولها، وهي المنطقة ‏من الكرة الأرضية التي شاعت فيها عدوى الفجر والنفاق، كي يثبت الله عليهم بأنفسهم وبلسانهم، وليكون دليل الإدانة نبي منهم وقرآن بلسانهم وفي ‏بلدهم "أم القرى" ومع ذلك نجد أن العرب تركوا بلادهم خالية من أي نشاط ديني، وجاء نشاطهم كله خارجي، ولم تستقر العاصمة في بلادهم إلا ‏عقدين، ثم قفزوا على الشعوب بوحشية وأوقعوا مجازر دموية رهيبة في أنحاء الأرض باسم الدين، بينما كان المطلوب منهم ومناط الرسالة أن يتفقهوا هم ‏في الدين، فقد قال تعالى: ‏‎ ‎وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ‎ ‎لِيَتَفَقَّهُوا‎ ‎فِي‎ ‎الدِّينِ‎ ‎وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ ‏يَحْذَرُونَ " ومع ذلك لم يخرج منهم فقيه واحد أو عالم، وجاء جميع الفقهاء من الأجانب، مع أن مهمة النبي أن ينذر العرب ذاتهم لا أن ينذر العرب ‏غيرهم وهم محل الإنذار، ومن تفقهوا في الدين أن ينذروا قومهم في بلدهم إذا رجعوا.. فالله جل وعلا كان يعلم علم اليقين الطبيعة النفسية والعقلية ‏لمنطقة العرب الموبوءة وأنزل لهم علاجاً روحانياً جميلاً لكنهم فعلوا كما الصبي المتمرد، رفضوا العلاج وهجروا المنزل هددوا غيرهم عنوة ليأخذ العلاج، وفي ‏كل الحالات سيدفع، إما الجزية والخراج لو رفض، وإما الخراج لو قبل. مع أن الله يقول: وَكَذَلِكَ أَنـزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا‎ ‎وَصَرَّفْنَا فِيهِ‎ ‎مِنَ‎ ‎الْوَعِيدِ‎ ‎لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا‎ ‎‏" أي أن الله عقد الأمل على أن يحدث القرآن في قلوبهم صدى، لكن ما حدث كان العكس، فالله تعالى قبل أن يبعث محمداً نبياً فيهم ‏أعده إعداداً جيداً ورباه على مكارم الأخلاق حتى أنه كان عليه السلام يقول: أدبني ربي فأحسن تأديبي" وآتاه جوامع الكلام، أي أنه سلح نبيه ‏بسلاحهم قبل بعثه لهم، وسلح القرآن بسلاحهم ليكون حجة دامغة عليهم. أما العرب فكانوا مجتمع موبوء فكرياً وخلقياً، كانوا مجتمعاً متوحشاً مادياً ‏ومعنوياً فجاء الإسلام تهذيب لهم وعلاج روحاني، أما أنهم بمجرد وفاة النبي اختالوا أنفسهم مؤهلين لنشر دينه ! كيف وأنتم ما زلتم في حاجة إلى تأهيل ‏ولم يكتمل أثر الدين في نفوسكم؟ كيف جاء الإسلام لترويض هذه النفوس المتوحشة، ثم فجأة في يومٍ وليلة يصبحون هم مؤهلين لنشر دين! فقال ‏تعالى: أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ‎ ‎انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ! . وبالنظر إلى الوقائع التي حدثت بالفعل في المدينة عقب رحيل النبي عنهم والحروب الأهلية المكثفة ‏بينهم والفتن والخلافات والنزاعات على السياسة والسلطة، فلنا أن نتساءل، هل كان مثل هذا المجتمع مؤهل لنشر دين؟ هل كانت أخلاقه مثل أخلاق ‏النبي حينما شرع في الدعوة؟

ويقول تعالى: لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا‎ ‎وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ‎ ‎‏". فالقرآن جاء بخطابين مزدوجين، الخطاب الأول ملئ بالتهديد والوعيد، ‏والخطاب الثاني بالبشرى، إذن الإسلام جاء لينذر ويتوعد العرب بلغتهم وبشرى للمصريين، فلا يجوز للمصريين أن يتبنوا ثقافة العرب وإلا جنسوا ‏أنفسهم بجنس العرب الموبوء وأصبحوا من المنذرين، فليس من المنطق أن يخاطب الله الهكسوس بذات اللهجة التي يخاطب بها المصريين لأن العقلية ‏مختلفة فطرياً، هذا شعب قبلي حربي شرس وهذا شعب مدني متسامح.. هذا شعب هجومي وهذا شعب دفاعي. فقد حذر الله نبيه من عدوى العرب، ‏وأنذرهم مراراً حينما قال: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)/الشعراء.. فما بالنا نحن من هذه العدوى! ولو قلنا أنه ليس العرب جميعاً منذرين وأن فيهم ‏عناصر جيدة، فعلى الأقل جاء الإنذار للقومية العربية باللغة العربية ولم يأت للقومية المصرية باللغة الفرعونية، فالنبي بدأ بأولوية الحاجة إلى الدين، وما ‏زلنا نتبنى ثقافتهم وشعرهم ونثرهم وجهلهم ولغتهم بخلفياتها الثقافية القذرة، وننتسب لقوميتهم وما هي إلا قومية المنذرين، ألسنا نحن الأولى بالتحذير ‏من النبي ! غير أن القرآن في حد ذاته جاء بمعجزة لغوية بلاغية ليتحدى العرب في بلاغتهم وفصاحتهم، وهذا ما يعني القرآن لم يتحدى غيرهم من ‏الشعوب الأعجمية التي لا تتحدث اللغة العربية وقت نزول القرآن، فالله أرسل الأنبياء بمعجزات مختلفة دالة على نبوتهم ورسالتهم، وجميعها كانت ‏معجزات مادية محسوسة، بينما أرسل الله نبيه محمد إلى العرب بمعجزة لغوية فكرية، وجاء خطاب التحدي الإعجازي موجهاً للقومية العربية، وتحداهم في ‏صياغة آية من مثله، فهذا التحدي غير سارٍ على غيرهم من القوميات والشعوب كالمصريين الذين يتحدثون اللغة الفرعونية لأن عقليتهم علمية عملية ‏وتطبيقية، وإنما جاء تحدٍ حصريّ للعرب، والأمر ليس محصوراً في اللغة وقواعدها وإنما في العقلية العربية التي تفوقت على شعوب الأرض في تطويع اللغة ‏واشتقاق 12 مليون كلمة من أصل 16 ألف جذر لغوي، وصياغة التراكيب الشعرية والضفائر اللغوية والمعاني المجازية، لأن عقليتهم أدبية نظرية وهذه ‏صنعتهم. ‏

ودائماً ما يسعون لتركيع الشعوب الأخرى مثل المغاربة والجزائريين والمصريين، كلما حاول أبناء هذه الشعوب أن ينتسبوا لأصولهم الأمازيغية ‏والفرعونية أو الشامية، فيأتي العرب بمقولة " النبي عربي "... وفي الواقع حتى وإن كان النبي عربي فلا يشرفنا أن نكون عرب لأن العروبة موجودة قبل ‏النبي وكان فسادها وشركها هو الداعي لنزول الرسالة عندهم، ولأن عروبة النبي ليست شرف وإنما فساد العرب وشركهم وإلحادهم هو ما جعل النبي ‏عربي، إنما هم جعلوا العروبة نبوة وأن النبوة هي نبات من تربة العروبة لخصوبتها الزائدة مثلاً.. ولو لم يكن المجتمع العربي على هذا القدر من الفساد ‏والانحراف الأخلاقي ما كان النبي جاء عربياً، لأن الأنبياء والرُسل إنما يبعثون إلى الأقوام الأكثر فساداً، فبني إسرائيل بعث الله لهم نبي ورسول هو موسى ‏عليه السلام ليس لأن بني إسرائيل هم أشرف الخلق مثل العرب بل لأنهم كانوا أفسد خلق الله، تركهم النبي أربعين ليلة ليكلم الله فوق الجبل ولما عاد ‏إليهم وجدهم يعبدون العجل، ثم إذا أرسل الله لهم نبي آخر قتلوه، وهكذا قتل بني إسرائيل كل أنبياء الله، ثم إذا أرسل لهم عيسى عليه السلام حاولوا قتله ‏أيضاً، فلا يعني أن الله اختصهم بنبيه موسى أنهم خير من غيرهم بل العكس فاختصاص الله لقومٍ بنبي فهذا إنذار من السماء موجه لهم... وهو ذات ‏الوضع عند العرب، فكون النبي محمد جاء عربي فهذا ليس لأن السلالة العربية أشرف من غيرها أو أنها من جمالها أنبتت نبي، بل إن النبوة هي رسالة من ‏الله وليس نبت القومية العربية، ولما جاءت النبوة موجهة للعرب بسبب فسادهم فهذا لا يعني أن ننتمي للعرب أو نتشرف بذلك، لأن عروبة النبي ‏نشأت بسبب فساد العرب وليس طُهرهم. كما أن إسرائيلية موسى وجدت بسبب فساد بني إسرائيل وليس طُهرهم. فأفضل شعوب الأرض هي تلك ‏التي لم يرسل الله لها رُسلاً لأنهم أقل الشعوب فساداً وشركاً ونفاقاً وإضلالاً في الأرض. والأقل منها فضلاً هي تلك التي تركها الله بفطرتها تبحث عنه ولم ‏يرسل لهم رسل ولا أنبياء. وبطبيعة الحال أفضل الخلق هم أولئك الذين اصطفاهم الله رسلاً وأنبياء في مجتمعاتٍ طفحت فسادا.. وكاد الله أن ينتقم من ‏العرب، لكنه عاد وترأف بهم ومنحهم فرصة كما منح إبليس، فقال" وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم" لعلهم يستغفروه ويتوبوا .‏

والأمر أشبه بطبيب دخل مستشفى للأمراض العقلية، ولما كانت هي أكبر مستشفى، وبها أكبر عدد من المرضى والمختلين عقلياً، فكان لزاماً ‏على الوزير أن يكون الطبيب المنتدب لهم هو أمهر الأطباء وأفضلهم على الإطلاق حتى يتمكن من ترويض الحالات المستعصية.. ثم إذا تمكن هذا ‏الطبيب الماهر من شرح برنامج العلاج لهم جميعاً وقد شُفى نصف المرضى.. ثم بعد انتهاء المأمورية ورحيل الطبيب.. انطلق جميع سكان المشفى وكسروا ‏البوابات وحطموا الأسوار (من شُفي منهم ومن لم يستجب للعلاج) تحالفوا جميعاً في القفز خارج الأسوار وتحطيم البوابات، وانطلقوا يعرفون الناس ‏بروشتة علاجهم ويفتخرون بأنه جاءهم خير الأطباء الحاصل على رسالة الدكتوراه من السماء مباشرة، ومنحهم درجة الدكتوراه الفخرية، وأنهم تتلمذوا ‏على يده وصاروا خير الأطباء في كل الدنيا ... بينما نسوا أنهم من الأصل ليسوا طلاب طب وليسو أطباء امتياز ولم يذهبوا للمدرسة طلباً للعلم، بل ‏هم مرضى جاءهم الطبيب لعلاج قوميتهم المريضة في منازلهم... هم حاولوا أن يقنعوا الناس بأن القرآن والإسلام جاءهم بصفته علم لأنهم خير البشر ‏واصطفاهم الوزير بهذا العلم، بينما في الحقيقة المنهج لم يأتهم بصفة علم لطلاب علم بل بصفة علاج لمرضى عقائدياً، والفرق شاسع بالنسبة للطبيب بين ‏المرضى والطلاب، لأن الطلاب يأتون للطبيب الأستاذ في بيته، بينما الطبيب يذهب إلى المرضى في بيوتهم.. ولذلك نقول لا يشرفنا أن نكون عرب ‏ننتظر الطبيب لعلاجنا في منازلنا، ويشرفنا أن نكون فراعنة طلاب نذهب نحن لتلقي العلم في بيت الأستاذ، حتى وإن كان مكتبه في هذه المستشفى ‏العقائدية السلوكية الأخلاقية، لا أن يخرج المرضى من المستشفى بعد تلقي العلاج للتدريس في جامعات الفراعنة.. ‏

ولذلك ليس صدفة أن نجد أسوأ شعوب الأرض هي تلك التي أرسل الله لها رُسل، فنجد قوم سيدنا إبراهيم أحرقوه وطردوه من بلدهم في النهاية، ‏وقوم سيدنا لوط سخروا منه فأطبق الله عليهم الجبل في النهاية، وقوم سيدنا موسى هم بني إسرائيل شر خلق الله، وقوم سيدنا عيسى أيضاً هم بني ‏إسرائيل، وقوم سيدنا نوح الذين اكتسحهم طوفان لأن الله أدرك أنهم حالة مستعصية العلاج فأمر نوحاً بتوفير وقته وصناعة الفلك، وقوم عاد، وقوم ‏طالوت الذين دفعوا بانعدام الصفة وطعنوا في أهلية الرسول كما العرب، فقال تعالى: وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً، قالوا أنّا يكون ‏له الملك ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال.." ..إلخ.. أما الأنبياء فكانت مهمتهم أخف في العلاج كونهم عبارة عن "ممارس عام" وليس ‏طبيب أستاذ يحمل رسالة ممهورة بخاتم السماء.. فقد وجه الله الأنبياء لعامة الناس وللحالات المرضية البسيطة التي لا تحتاج استشاري ويكفيها ممارس ‏عام.. أما العرب فقد كانوا بمثابة القُرحة المريضة في جسد البشرية ! فالله تعالى يدرك منذ البداية أنه لن ينفعهم ممارس عام ولا أي طبيب متخصص ولا ‏استشاري، ولذلك انتقى أمهر رُسله وكلفه بالمأمورية... والغريب أن يتحوّل لفيف المرضى إلى استشاريين فجأة ! ‏

وبالتالي علينا الحذر من القومية العربية جملة، لأنها من القوميات صاحبة الرسالات، وأي قومية صاحبة رسالة لا بد أن نحذر منها بشدة، ولا بد ‏أن ندرك جيداً أنها مريضة بعيبٍ ما، وأن مرضها كان سبب اختصاصها كبؤرة لهبوط الرسالة، والرسالات السماوية بوجهٍ عام تكون محملة بمحتويين ‏ضروريين يمثلان قوامها، المحتوى الأول يبدأ بإنذار لهذه القومية، وتشخيص وتوصيف لحالتها ومعالجة لإشكاليتها العقائدية(وهذا سبب نزول القرآن بلغة ‏العرب وعلى هيئة حوار مع القومية العربية والأحداث المعاصرة لنزوله وتشخيص للإشكاليات العقائدية في حدود القومية، ولم يأت في صياغة الدساتير ‏والمواثيق الدولية، ولم يذكر الشعوب الأخرى مثل البلجيك واليونانيين والصينيين..إلخ من غير الناطقين بالعربية لأن الإنذار موجه لهدف محدد، (وحدد ‏نطاق الإنذار في كافة الآيات التي اختصت بمعالجة إشكالية القومية العربية وأغلقته، وفتحت نطاق المحتوى الثاني فقط. وأما المحتوى الثاني يحتوى منهج ‏هداية عامة، كما كل استشارة طبية، تحمل في طياتها جرعات العلاج ومضادات حيوية وتحصينات خاصة بحالة المريض وبرنامج وقاية دائم يصلح ‏للجميع... إنما نحن (الشعوب التي وقعت تحت الاحتلال العربي) اعتنقنا القومية العربية بكاملها وتقمصنا عقليتها وتبنينا ثقافتها وعاداتها وأعرافها ‏ولبسنا ثوب المريض دون حتى أن نتخذ سبل الوقاية والتعقيم.‏

ثم تستمر نرجسيتهم ويقولون أن الله أخبرهم أنهم أفضل شعوب الأرض، تمسكاً بقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ‎ ‎أُمَّةٍ‎ ‎أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‎ ‎تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ‏وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ‎ ‎‏" مع أن الحقيقة أن الآية تتحدث عن أفضلية الشريعة الإسلامية على باقي الشرائع الربانية، لأن الخير المراد في الآية ‏هو المنهج وليس الجنس والعرق البشري، وكلمة أمة تعني منهج وشريعة ولا تعني جنس بشري، لأن الله أخرج للناس شرائع كثيرة ضمن الدين الإسلامي، ‏وجاءت شريعة محمد خيرها، وجاءت موجهة للعربان، فالله خلق الناس وأخرج لهم شرائع ولم يخرج لهم بشر، حتى أنه قال متحدثاً عن المشركين في آية ‏أخرى: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ ‎أُمَّةٍ‎ ‎وَإِنَّا عَلَىٰ ‎آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ‎ ‎‏".. إنما العرب كان أكثر نشاطهم في الغزو والقتل والسبي ولم يأمروا بالمعروف ولم ‏ينهون عن المنكر، ولا وجود لهم لا في العلم والفقه والفهم، وليس لهم تجربة حضارية سابقة مثل الفراعنة والبابليين والرومان والإغريق فكيف يصفهم الله ‏بأنهم خير الأجناس؟ .‏... (انتهى المقال الخامس بتصرف من كتابنا : غُبار الاحتلال العربي )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شهادة فلسطيني حول تعذيب جنود الاحتلال له وأصدقائه في بيت حان


.. فيتو أمريكي في مجلس الأمن يطيح بآمال فلسطين بالحصول على عضوي




.. جوزيب بوريل يدعو إلى منح الفلسطينيين حقوقهم وفقا لقرارات الأ


.. تونس.. ناشطون يدعون إلى محاكمة المعتقلين السياسيين وهم طلقاء




.. كلمة مندوب دولة الإمارات في الأمم المتحدة |#عاجل