الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المجتمع البدائي وانحلاله

روزا لوكسمبورغ
(Rosa Luxemburg)

2019 / 1 / 16
الارشيف الماركسي


الفصل الأول: المجتمع الشيوعي البدائي
(1)

تعود معرفتنا بالأشكال الاقتصادية الأكثر قدما وبدائية، إلى فترة ما تزال يسيرة من الزمن. فحتى عام 1847 كان ماركس وانجلز يكتبان في «البيان الشيوعي»، أول نص كلاسيكي من نصوص الاشتراكية العلمية، بأن «تاريخ كل مجتمع حتى أيامنا هذه هو تاريخ الصراع الطبقي»، ولكن في نفس الوقت الذي كان فيه خالقا الاشتراكية العلمية يعلنان فيه هذا المبدأ، بدأت الاكتشافات الجديدة تكذبه آتية من كل جانب. إذ أن كل عام كان يحمل، أفكارا، حول الوضع الاقتصادي في أقدم المجتمعات البشرية، كانت ما تزال مجهولة حتى وقت قريب، وهذا ما كان يدفع إلى الاستنتاج بأنه كانت ثمة، في الماضي وبدون أدنى ريب، فترات طويلة من الزمن لم تكن قد عرفت الصراع الطبقي، وذلك لسبب بسيط هو انه لم تكن ثمة بعد أية تمايزات بين الطبقات الاجتماعية، أو بين غني وفقير... كما لم تكن هناك أية ملكية خاصة.
بين عامي 1851 و1853، صدر في ايرلانغن، الكتاب الأول من المؤلفات التي وضعها جورج لودفيغ فون مورر بعنوان «مدخل إلى تاريخ تكوّن السوق والمزرعة والقرية والمدينة والسلطات العامة». ولقد كان ظهور هذه المؤلفات حدثا بحد ذاته، إذ أنها ألقت ضوءا جديدا على الماضي الجرماني وعلى البنية الاجتماعية والاقتصادية للعصر الوسيط. وقبل ذاك ببضع عشرات من السنين كان قد تم العثور في بعض الأماكن، في ألمانيا تارة، وفي البلدان الشمالية تارة أخرى، وأحيانا في أيسلندا، على آثار وبقايا غريبة لمنشآت ريفية، تشير إلى أنه قد وجدت، في قديم الزمان في تلك المناطق، حقبة من الزمان كانت فيها ملكية الأرض مشاعية، كما كانت ثمة شيوعية زراعية. في البداية لم يعرف أحد كيف ينبغي تفسير تلك الآثار. إذ تبعا لرأي منتشر جدا، وخاصة منذ كتابات موسر وكيندلنغر، كان ثمة اعتقاد بأن زراعة الأرض في أوربا، كانت تتم عن طريق مزارع معزولة، كل منها محاطة بأرض كانت تعتبر ملكية خاصة لصاحب المزرعة. وكان هذا الرأي يقول بأن السكان، الذين كانوا حتى ذلك الحين مشتتين، بدأوا يتجمعون عند نهاية العصر الوسيط في قرى، وذلك طلبا للأمن والحماية، وعند ذلك امتجزت أراضي المزارع المعزولة لتشكل أرض القرية. والواقع أن هذا الرأي سرعان ما سيبدو خاطئا إذا ما نظرنا إليه عن قرب، وذلك لأنه، لكي يكون صحيحا، يفترض بأن السكان الذين يكونون أحيانا، بعيدين جدا عن بعضهم البعض، كان يجب أن يقوّضوا تماما لكي يعودوا إلى التشكل في مكان آخر، كما يفترض أن يكونوا، قبل هذا، قد تخلوا طوعا عن امتلاكهم المربح لحقولهم المحيطة بالمزارع، وعن حرية يتمتعون بها في تسيير شؤون أراضيهم، وذلك مقابل العيش في قطع ضيقة من الأرض، في وضع يربطهم بالقرويين الآخرين. غير أن هذه النظرية، بالرغم من خطئها الواضح، كانت تهيمن تماما، حتى أواسط القرن الماضي.
أما فون مورر، فقد جمع –للمرة الأولى- كافة الاكتشافات المعزولة عن بعضها البعض، ليشكل منها جميعا، نظرية شاملة وجريئة تبرهن، بالاستناد إلى كمية كبيرة من الوثائق والأبحاث المعمقة حول معلومات ووثائق قديمة ونصوص قضائية، على أن الملكية المشاعية للأرض لم تولد في نهاية العصر الوسيط، بل كانت تشكل النمط البدائي والتقليدي الذي عرفته المستوطنات الجرمانية الأوربية منذ بداية تاريخها. أي منذ ألفي عام وأكثر، في تلك الأزمان الغابرة من تاريخ الشعوب الجرمانية وهي أزمان لا يعرف التاريخ المكتوب عنها شيئا، كانت تسود لدى الجرمانيين أوضاع عقارية تختلف عن الوضع الراهن: فلم تكن لديهم دولة ذات قوانين مكتوبة وقامعة، كما لم تكن ثمة قطيعة بين الأغنياء والفقراء، وبين السادة والعمال. كان الجرمانيون يشكلون قبائل وعائلات حرة تنقلت لزمن طويل في أرجاء أوربا، قبل أن تستقر، بصورة مؤقتة أولا، ثم بصورة دائمة. لقد بدأت زراعة الأرض –في أوربا- في ألمانيا، كما برهن فون مورر، ليس عن طريق الأفراد، بل عن طريق القبائل والعائلات بكاملها، تماما مثلما انطلقت في أيسلندا، عن طريق تجمعات بشرية كبيرة الحجم، سميت «فرانداليد» FRANDALID و«سكولداليد» SKULDALID.
إن أقدم المعلومات التي نمتلكها عن الجرمانيين، أتتنا عن طريق الرومان، والواقع أن تفحصنا للمؤسسات التي انتقلت عن طريق التقاليد، تؤكد لنا صحة هذا المفهوم. لقد كانت قبائل الرعاة البدو هي أول من سكن ألمانيا. وكانت تربية الماشية –وبالتالي امتلاك مراع واسعة –هي جوهر البقاء، تماما مثلما الأمر بالنسبة إلى البدو الآخرين. ولكن، تماما مثل الشعوب المهاجرة الأخرى التي عرفتها الأزمان القديمة والحديثة، لم تتمكن القبائل الجرمانية من البقاء طويلا دون زراعة الأرض. وهكذا، بالتحديد، في هذا الوضع الاقتصادي البدوي المخلوط بزراعة الأرض (بالرغم من أن الزراعة كانت ثانوية بالنسبة إلى تربية الماشية) كانت القبائل تعيش في زمن يوليوس قيصر منذ نحو ألفي عام، وهي القبائل التي ذكرت تحت اسم «السويف» أو «السواب» SOABES ولقد لوحظ وجود وضع وعادات ومؤسسات مماثلة لدى «القزبح» و«الآلامان» و«الفاندال» وغيرها من القبائل الجرمانية. والواقع أن كافة الشعوب الجرمانية «الأقوام الجرمانية» قد عاشت، لفترة من الوقت في البداية، على شكل قبائل وعائلات، وكانت تزرع الأرض، ثم ما تلبث أن ترحل حين تطردها قبائل أكثر قوة منها.. أو حين لا تعود الأراضي الصالحة لرعي الماشية تكفيها.
وهذه القبائل لم تتمركز لأزمان أكثر طولا، وتصبح مقيمة في المناطق التي تعيش فيها وتعمل في الزراعة، إلا حين بدأت تستقر، وكفت بعضها عن طرد البعض الآخر. أما أن تكون عملية الاستيطان قد حدثت أبكر من هذا، وعلى أرض حرة أو ممتلكات قديمة كانت تخص الرومان أو السلافيين، فالأمر لا يهم، إنما المهم أن الاستيطان كان يتم عن طريق تمركز القبائل والعائلات بأسرها. فكل قبيلة، وكل عائلة داخل كل داخل كل قبيلة، كانت تتملك قطعة من الأرض وتجعلها ملكا مشتركا لكافة المعنيين بالأمر. أي أن الجرمانيين القدامى لم يعرفوا الملكية الفردية للأرض على الإطلاق. أما الفرد فكان، عن طريق القرعة، يتلقى شريحة من أرض الحقل لكي يعمل فيها فترة محدودة من الزمن، وذلك تبعا لنظام مساواة صارم. أما كافة القضايا الاقتصادية والقضائية والعامة، للجماعة التي كانت تشكل غالبا فرقة من الرجال القادرين على حمل السلاح، فكانت تسوي خلال مجالس يجتمع فيها أعضاء الجماعة الذين ينتخبون الزعيم وبقية المسؤولين.
أما في المناطق الجبلية وعند الغابات والناطق الساحلية المنخفضة، حيث كانا الافتقار إلى الحيز الكافي، أو إلى الأرض القابلة للزراعة يجعل من المستحيل إقامة مستوطنة ذات حجم كبير، مثلما هو الحال مثلا في «أودن والد» و«ستفاليا» وفي مناطق جبال الألب، فقلد أقام الجرمانيون مزارع فردية، كانت تشكل فيما بينها على أي حال جماعة تتملك، إن لم يكن الحقول، فعلى الأقل المناطق المحيطة والغابات والمراعي، بشكل جماعي، حيث كانت كافة القضايا العامة، أيضا، تسوى عن طريق الجماعة كلها.
والقبيلة كانت تضم بضع جماعات، يصل عدها إلى مائة عادة، لم تكن تدخل، عمليا، إلا بوصفها هيئة قضائية أو عسكرية عليا، وكانت هذه المنظمة الجماعية تشكل، كما برهن فون مورر في الأجزاء الاثني عشرة التي يتألف منها كتابه، أساس النسيج الاجتماعي، وفي نفس الوقت أصغر خلية في هذا النسيج، وذلك منذ بدايات العصر الوسيط حتى فترة يسيرة إبان العصر الحديث، بحيث أن المزارع، والقرى والمدن الإقطاعية «الفيودالية» قد تشكلت عن طريق تنويعات مختلفة تمت انطلاقا من مثل هذه الجماعات، وهي جماعات ما زلنا حتى أزماننا هذه، نعثر على آثار وبقايا لها في بعض مناطق أوربا الوسطى والشمالية.
عندما ظهرت هذه الاكتشافات الأولى المتعلقة بالملكية المشاعية البدائية للأرض في ألمانيا وفي البلدان الشمالية، بدأت تزهر النظرية التي تقول بأن العلم قد بات الآن مقتفيا لأثر مؤسسة ذات طابع جرماني خاص، لا يمكن أن يفسره سوى خصائص طبع الشعب الجرماني. وبالرغم من أن مورر نفسه، لم يراوده على الإطلاق هذا المفهوم القومي للشيوعية الزراعية لدى الجرمانيين، بل وذهب إلى حد الإشارة إلى وجود نماذج مماثلة لدى الشعوب الأخرى، ظلت تلك النظرية مبدأ تم الإقرار به في ألمانيا ويقول بأن المشاعية الريفية القديمة هي خاصة من خصائص العلاقات العامة والقضائية الجرمانية، ومظهرا من مظاهر «الروح الجرمانية».
ومع هذا، تقريبا في نفس الوقت الذي ظهر فيه أول مؤلف لمورر حول الشيوعية القروية البدائية لدى الجرمانيين، ثم التوصل إلى اكتشافات جديدة تتعلق بجزء آخر من أجزاء القارة الأوربية. فبين عامي 1847 و1852 نشر البارون الوستغالي فون هاكستهاوزن، الذي كان قد زار روسيا في بداية أربعينات القرن التاسع عشر بناء على طلب من القيصر نيقولا الأول، نشر في برلين، مؤلفه حول «دراسات حول الوضع الداخلي والحياة الشعبية، وخاصة المؤسسات الريفية في روسيا». ولقد علم العالم المندهش، انطلاقا من ذلك المؤلف، بأنه ما تزال توجد حتى أيامنا هذه، مؤسسات مماثلة في شرقي أوربا. فالشيوعية القروية البدائية، التي كان ينبغي الكثير من الجهد لاستخلاص آثارها التي أغبرتها القرون والسنوات التالية لها في ألمانيا، كانت ما تزال تعيش، بشكل مفاجئ، بقضها وقضيضها في الإمبراطورية المجاورة إلى الشرق. ولقد برهن فون هاكستهاوزن في كتابه المذكور آنفا، كما في كتاب آخر نشره فيما بعد بعنوان «التكوين الريفي في روسيا» (صدر عام 1866 في لايبسيغ)، برهن على أن الفلاحين الروس لا يعرفون أية ملكية خاصة للحقول أو للبراري أو الغابات، وعلى أن القرية بأسرها تعتبر هي المالك الوحيد لكل هذا، وعلى أن العائلات الفلاحية لا تأخذ سوى شرائح صغيرة من الأراضي تحتفظ بها للاستعمال المؤقت، وأن هذا يتم مثلما لدى الجرمانيين القدامى –عن طريق القرعة. في الزمن الذي زار فيه فون هاكستهاوزن روسيا، ودرس أوضاعها، كانت العبودية في أوجها، ولقد بدأ من المدهش –أول الأمر- أن القرية الروسية كانت تشكل، في ظل أوضاع العبودية الفولاذية، وتحت ربقة دولة استبدادية، عالما صغيرا منغلقا على نفسه، يعيش في وضع من الشيوعية الزراعية، ويسوي كافة قضاياه العامة بشكل جماعي، على طريق مجلس للقرية يدعى «مير» MIR. ويفسر المؤلف الألماني، الذي توصل على هذا الاكتشاف، هذا الأمر على أنه نتاج الجماعة العائلية السلافية البدائية، كما تم العثور عليه أيضا لدى السلافيين الجنوبيين وفي البلدان البلقانية، وكما يتبدى بكل وضوح من خلال الوثائق القضائية العائدة إلى القرن السابع وما بعد.
لقد استقبلت اكتشافات هاكستهاوزن هذه، بالكثير من الحبور من قبل تيار كامل من تيارات المثقفين والسياسيين الروسيين، هو تيار «أنصار السلافية» SLAUPHILES. فلقد وجد هذا التيار، الناحي باتجاه تجميد العالم السلافي وخصائصه «وقوته الصلبة» بالتعارض مع «الغرب الفاسد» ذي الثقافة الجرمانية، وجد في مؤسسات الجماعة الفلاحية الروسية، أصلب دعم لمواقفه خلال العقدين أو العقود الثلاثة التالية. إذ تبعا للحقيقة، الرجعية أو الثورية، التي يستند إليها أنصار الثقافة السلافية، اعتبرت المشاعية الريفية إما واحدة من المؤسسات الأساسية الثلاث الحقيقية السلافية في العالم الروسي: الإيمان الروحي الأورثوذكسي (الإغريقي الأورثوذكسي)، والاستبدادية القيصرية، والشيوعية القروية البطريركية، وأما، على العكس، كنقطة استناد خاصة بالثورة الاشتراكية، الحتمية في روسيا، وهي نقطة تتيح تفادي الرأسمالية والدخول بشكل مباشر، بل وقبل أوربا الغربية، في أرض الاشتراكية الموعودة. ولقد كان القطبان المتعارضان المرتبطان بالثقافة السلافية، كانا على أي حال متفقين تمام الاتفاق في فهمهما للجماعة الزراعية الروسية (المشاعية) بوصفها ظاهرة ذات خصوصية سلافية، ولا يمكن تفسيرها إلا عن طريق الطابع الخاص بالشعب السلافي.
في هذه الأثناء دخل مجال تاريخ الأمم الأوربية عامل آخر: لقد دخلت هذه الأمم في اتصال مع أجزاء أخرى من العالم، وهذا ما جعلها تعي، بشكل واضح لغاية، وجود مؤسسات عامة وأشكال حضارة بدائية لدى شعوب أخرى لم تكن لا جرمانية ولا سلافية. وهذه المرة لم تكن المسألة مسألة دراسات عليمة أو اكتشافات ذكية، بل مسألة مصالح مادية بحت ذات علاقة بالدول الرأسمالية الأوربية وبسياسة، هذه الدول، الاستعمارية.
في القرن التاسع عشر، أيام الرأسمالية المهيمنة، خاضت السياسة الاستعمارية الأوربية طرقا ودروب جديدة. وهذه المرة لم يعد الأمر يقتصر، كما كان في القرن السادس عشر، إبان الهجمة الأولى التي شنت على العالم الجديد، لم يعد يقتصر على عملية نهب سريعة للغاية لكنوز الدول الاستوائية المكتشفة حديثا، ولثرواتها الطبيعية المكونة من المعادن الثمينة والتوابل والجواهر الغالية والعبيد، وهي عملية تميز بها الاسبانيون والبرتغاليون على وجه الخصوص. والأمر، كذلك، لم يعد يقتصر على مجرد عمليات تجارية هائلة تنقل من بلدان ما وراء البحار، إلى المستودعات الأوربية، مختلف المواد الأولية، وتفرض في المقابل، على السكان الأصليين لتلك البلدان، حوائج وأشياء لا قيمة لها، وهو أمر مهد الهولنديون الطريق إليه في القرن السابع عشر، وتبعهم فيه الإنكليز.
فإلى هذه المناهج الاستعمارية القديمة، التي ما تزال مزدهرة –في المناسبات- حتى أيامنا هذه، ولم تتوقف ممارستها، كان ينبغي –هذه المرة- إضافة منهج جديد أكثر إلحاحا وانتظاما، ويؤدي إلى الإمعان في استغلال ونهب الشعوب المستعمرة- بفتح الميم- لما فيه مصلحة وثراء وثراء «المتروبول» -المركز المستعمر(بكسر الميم هذه المرة)- وللوصول إلى هذا ينبغي تضافر عاملين: أولا، السيطرة الفعلية على الأرض، المنبع الملموس والأكثر أهمية لثروة كل بلد، وثانيا، السيطرة الدائمة على السكان. وفي هذا الجهد المزدوج اصطدمت القوى الاستعمارية الأوربية بعقبة كأداء وكبيرة الحجم: فعلاقات الملكية الخاصة بالشعوب –بفتح الميم- كانت تقف عقبة في وجه النهب الذي يمارسه الأوربيون. فلانتزاع الأرض من أصحابها، كان ينبغي، قبل كل شيء آخر، تحديد مالكها. وللتمكن من الحصول على الضرائب –وليس فقط فرضها –كان ينبغي التمكن من القبض على المكلفين المتمردين. وفي هذا المجال بالذات اصطدم الأوربيون، في مستعمراتهم، بعلاقات كانت غربية عليهم تمام الغربة بحيث أنها كانت تغلب كافة مفاهيمهم حول الطابع المقدس للملكية الخاصة. ولقد عانى الإنكليز في جنوب آسيا والفرنسيون في شمال إفريقيا، نفس التجربة في هذا المجال.
إن غزو الإنكليز للهند، الذي بدأ منذ بداية القرن السابع عشر، لم يتم إنجازه إلا في القرن التاسع عشر، بعد الاستيلاء التدريجي على الساحل كله وعلى البنغال، بما صاحبه من إخضاع لمنطقة البنجاب الهامة الواقعة إلى الشمال. غير أن عملية النهب الصعبة للهند لم تبدأ إلا بعد السيطرة السياسية. وفي كل خطوة من الخطوات التي قادتهم إلى هذه السيطرة، كان الإنكليز ينتقلون من مفاجأة إلى أخرى: لقد عثروا على الجماعات الفلاحية الأكثر تنوعا، من كبيرة أو صغيرة، مقيمة هنالك منذ ألوف السنين، منكبة على زراعة الأرز، وتعيش في هدوء وانتظام. ولم يجد الإنكليز –ويا للفظاعة!- في أي قرية من تلك القرى، أية ملكية خاصة للأرض. وحتى إنهم لم يعثروا على أي شخص قادر على التصريح بأن قطعة الأرض التي يزرعها هي ملكه، وكذلك لم يكن بوسعه أن يبيعها، أو يضمنها، أو يرهنها لكي يدفع الضرائب المتأخرة. لقد كان كافة أعضاء تلك الجماعات (التي تضم أحيانا عائلات كبيرة بأسرها، وأحيانا بعض العائلات الصغيرة المتحدرة من عائلة كبيرة) مرتبطين واحدهم إلى الآخر، بكل إخلاص، بروابط الدم التي كان كل شيء بالنسبة إليهم. ومقابل هذا، لم تكن الملكية الفردية لتعني شيئا بالنسبة إليهم. ولقد اكتشف الإنكليز، مشدوهين، على ضفاف الغانج والأندوس أنماطا من الشيوعية الزراعية، لم تكن الأخلاق الشيوعية القروية الجرمانية أو المشاعيات القروية السلافية، بالمقارنة معها، لتبدوا أكثر من سقط من بقايا الملكية الخاصة.
وتقرأ في تقرير صادر عن إدارة الضرائب الإنكليزية في الهند، مؤرخ في العام 1845 ما يلي: «إننا لا نرى وجودا لأية قطعة أرض دائمة. وكل واحد لا يمتلك قطعة الأرض المزروعة، إلا خلال الفترة التي تستغرقها أعمال الحقل. فإذا ما تركت قطعة أرض بدون زراعة، سرعان ما توضع ضمن نطاق الأرض المشتركة، بحيث يصبح من حق أي كان أن يستعيرها... شرط أن يزرعها».
وفي حوالي تلك الفترة نفسها، صدر تقرير حكومي آخر حول إدارة البنجاب لعامي 1849-1851 يقول: «إنه لمن المفيد أن نلاحظ في هذا المجتمع، قوى روابط الدم، ووعي الانتماء المتحدر من جد مشترك. إن الرأي العام هنا متعلق تمام التعلق بالحفاظ على هذا النظام بحيث أنه من غير النادر أن نجد أشخاصا، لم يسبق لجدودهم لجيلين أو ثلاثة أن شاركوا في ملكية الأرض الجماعية، ومع هذا يمكنهم المشاركة والحصول على حصتهم حالما يرغبون...»
وعن هذا الأمر كتب مستشار الدولة الإنكليزي في تقرير له حول المشاعية الهندية يقول:
«إن هذا الشكل من أشكال ملكية الأرض، لا يسمح لأي واحد من أفراد الجماعة بتبرير ملكيته الخاصة لهذا الجزء أو ذاك من الأرض المشتركة، حتى ولو كانت الأرض المعنية تخصه لفترة مؤقتة من الزمن. إن منتجات الاستغلال الجماعي للأرض، تذهب إلى صندوق مشترك يغطي حاجات الجميع».
إننا لسنا هنا، ولا حتى تجاه توزيع للحقل –حتى ولو تعلق الأمر بموسم واحد وحسب، إن مزارعي الجماعة يملكون ويزرعون حقلهم بشكل مشترك دون أي تقسيم، ومن ثم يحملون المحصول إلى شونة القرية المشتركة (التي لا شك تبدو وكأنها «صندوق» بنظر الرأسمالية الإنكليزية) ويغطون بشكل أخوي حاجاتهم المتواضعة، بواسطة نتاج عملهم المشترك. ولقد عثر في شمال-غرب البنجاب، عند حدود أفغانستان، على عادات أخرى هامة للغاية تقف متحدية كافة مفاهيم الملكية الخاصة. فهناك يتم اقتسام الحقول ويتبادلها السكان بشكل دوري، غير أن تبادل النتاج لا يتم بين العائلات المزارعة، واحدة واحدة، بل بين قرى بأسرها تتبادل الحقول فيما بينها كل خمس سنوات... ولهذه الغاية ينتقل أهل القرية بأسرهم من مكان على آخر. وعن هذا الأمر كتب مفوض جمع الضرائب المدعو «جيمس» من الهند، إلى رؤسائه في الإدارة الحكومية في العام 1852، يقول:
«أنا ليس بوسعي إلغاء عادة تقليدية فريدة من نوعها حافظت على بقائها حتى الآن في مناطق معينة: وأعني بهذا عادة التبادل الدوري للأراضي بين القرى وتوابعها. وفي بعض المناطق لا يتبادل السكان سوى الحقول، أما في مناطق أخرى فإنهم يتبادلون المساكن أيضا.»
إذن ها نحن مرة أخرى أمام إحدى خصائص جزء من الشعوب، هي –هذه المرة- خاصة «هندية». والواقع أن المؤسسات الشيوعية في المشاعية القروية الهندية إنما تعبر، عبر وضعها الجغرافي أو عبر قوة روابط الدم وعلاقات القربى، عن طابع تقليدي أصيل وعريق للغاية. والحقيقة أن واقع كون الأشكال الأكثر قدما للشيوعية قد ظلت باقية في المناطق الأكثر قدما بالنسبة إلى عراقة سكانها الهنود في الشمال الغربي، إنما يشير وبكل وضوح إلى أن الملكية المشاعية، تماما مثل قوة روابط القربى، تعود إلى قرون موغلة في الزمن، أي إلى عهد أولى مستعمرات المهاجرين الهنود الذين وصلوا آنذاك إلى وطنهم الجديد: الهند الحالية. ولنذكر هنا أن أستاذ القانون المقارن في أوكسفورد، السير هنري مين، وهو عضو سابق من أعضاء حكومة الهند، اعتبر منذ عام 1871، المشاعيات الزراعية الهندية، موضوعا لمحاضارته، وصنفها بالتوازي مع المشاعات البدائية التي كان فون مورر قد أشار إلى وجودها في ألمانيا وبرهن عليه، تماما مثلما فعل «ناس» بالنسبة إلى إنكلترا، واعتبرها جميعا مؤسسات بدائية تنتمي إلى نفس الطابع الخاص بالمشاعات الزراعية الجرمانية.
والواقع أن العراقة التاريخية، الجديرة بالاعتبار، الخاصة بهذه المؤسسات الشيوعية، تعبر عن مسألة ذات حساسية بالنسبة إلى الإنكليز، الذين أدهشتهم –من جهة أخرى- المقاومة الصلبة التي ووجهت بها أساليبهم الضريبية والإدارية في الهند. ولقد احتاجوا إلى نضال وصراع استمرا عشرات السنين، وإلى عدة وقفات عنيفة وصلبة، وإلى الكثير من الانحطاط الأخلاقي، والتدخل اللامستند إلى ضمير، ضد القوانين والأعراف القديمة المعمول بها من قبل الهنود، قبل أن يتمكنوا من إحداث تشوش وارتباك في كافة علاقات الملكية، وهما تشوش وارتباك أديا إلى فقدان عام للأمن، وإلى دمار أصاب المزارعين. لقد حطمت العلاقات القديمة، ومزقت العزلة الهادئة التي كانت تعيشها الشيوعية بعيدا عن العالم، وحل مكانها معارك واشتباك وفوضى وتفاوت واستغلال. ولقد نتج عن هذا كله بزوغ إقطاعيات كبيرة LATIFUNDA من جهة، وبقاء ملايين المزارعين دون حول أو وسائل إنتاج (بما فيها الأرض) من جهة ثانية. لقد دخلت الملكية الخاصة إلى الهند، وأدخلت معها التيفوس، والجوع وداء فساد الدم، كل هذه الأمراض التي جاءت لتصبح ضيوفا دائمة في وهاد وسهول الغانج.
إذا كان بامكان الشيوعية الزراعية القديمة، بعد الاكتشافات التي أدهشت المستعمرين الإنكليز في الهند، والتي سبق أن عثر عليها في ثلاثة فروع من عائلة الشعوب الهند-جرمانية (الجرمان والسلاف والهنود)، إذا كان بامكانها حتى الآن أن تعتبر خاصة من خصائص هذه الشعوب، بكل ما في هذا المفهوم العريق من غموض وإبهام واهتزاز، فإن الاكتشافات الموازية التي توصل إليها الفرنسيون في شمال إفريقيا، تتجاوز هذه الحلقة. فالواقع أن الأمر يتعلق هنا باكتشافات تلاحظ، لدى عرب وبربر شمال إفريقيا، وجود مؤسسات شبيهة تماما بتلك الموجودة في قلب القارة الأوربية وفي القارة الآسيوية. إذ كانت الأرض، لدى البدو والعرب رعاة الماشية، ملكية عائلية. وكانت هذه الملكية العائلية، كما قال الفرنسي داريست في العالم 1852، تنتقل من جيل إلى جيل بحيث أن ما من عربي كان بامكانه أن يشير إلى شبر من الأرض ويقول: هذه أرضي أنا.
ولدى القبائل التي عربت بكاملها، نلاحظ أن التجمعات العائلية كان قد سبق لها أن تفسخت إلى شطائر متميزة، غير أن قوة العائلة ظلت كبيرة للغاية، فالعائلات كانت مسؤولة بالنسبة إلىجبي الضرائب، وكانت هي التي تشتري، بشكل جماعي، الماشية التي ستوزع على أفخاذ وفروع العائلة للغذاء، أما بالنسبة إلى كافة المشاكل المترتبة عن ملكية الأرض، فكان مجلس العائلة هو الذي يتولى وظيفة «الحكم الأعلى»، وكان المرء، لكي يتمكن من العيش بين القبائل (البربر) بحاجة إلى إذن من العائلات، بل وان مجلس العائلات كان يمتلك أراض غير مزروعة. غير أن النظام العام كان نظام الملكية العائلة غير القابلة للقسمة، ومفهوم العائلة لم يكن يعني الأسرة (كما هو الحال إلى الاستعمال الأوربي للكلمة) بل كان يعني عائلة على النمط البطريركي، مثل تلك التي يصف العهد القديم وجودها لدى اليهود وتضم حلقة كبرى من الأقارب فيهم الأب والأم والأبناء وزوجاتهم والأطفال والأحفاد والعموم والعمات وأبناء الأخ أم الأخت وأولاد العم. ولقد أشار فرنسي آخر يدعى ليتورن في العام 1870، إلى أن الملكية الموحدة في هذه الحلقة كانت تحت امرة أقدم فرد في العائلة، وهو ينتخب لملء وظائفه، من قبل العائلة بحيث يكون عليه أن يستشير مجلس العائلة بالنسبة إلى كل الطوارئ الهامة، وعلى الأخص بالنسبة إلى بيع الأرض أو شرائها. هكذا كان وضع السكان في الجزائر حين استعمرها الفرنسيون. ولقد كان الأمر بالنسبة إلى الفرنسيين في شمال إفريقيا، تماما مثلما سبق له أن كان بالنسبة إلى الإنكليز في الهند. ففي المنطقتين معا اصطدمت القوة الاستعمارية الأوربية بمقاومة عنيفة نتجت عن العلاقات الاجتماعية العريقة وعن المؤسسات الشيوعية (المشاعية) التي كانت تحمي الفرد إزاء عمليات الاستغلال الرأسمالي الأوربي كما إزاء السياسة المالية الأوربية.
لقد ألقت هذه التجارب الجديدة، أضواء كاشفة على الذكريات نصف المنسية المتعلقة بأولى أزمان السياسة الاستعمارية الأوربية، والمجازر التي ارتكبتها في العالم الجديد. ففي الأخبار المصفرة المحفوظة في أرشيفات الدولة وفي الأديرة الأسبانية، ما زالت باقية على عهدها، منذ قرون عديدة، تلك الحكاية الغريبة المتحدثة عن أمريكا الجنوبية الرائعة التي قابل فيها الغزاة الأسبان، إبان عصر الاكتشافات الكبيرة، ومؤسسات مثيرة للدهشة. والواقع أن نبأ وجود تلك الأمريكا الجنوبية الرائعة، كان قد انتشر بشكل مشوه في القرنين السابع والثامن عشر وانتقل إلى الآداب الأوربية، ومن ضمنه نبأ وجود «إمبراطورية الانكا»، التي عثر عليها الأسبان في المنطقة التي تعرف الآن باسم «البيرو»، وحيث كان الشعب يعيش مشاعية شاملة، خاضعا لسلطة تيوقراطية (لاهوتية) وأبوية يتولاها مستبدون خيرون. والواقع أن الأنباء الرائعة المتحدثة عن مملكة شيوعية خرافية في البيرو قد بقيت على حالها، بحيث أن كاتبا ألمانيا كان ما يزال بوسعه أن يكتب في العام 1875، متحدثا عن إمبراطورية الانكا وكأنها مملكة اجتماعية ذات قاعدة تيوقراطية «تكاد تكون فريدة من نوعها في تاريخ البشرية»، إذ تحقق فيها عمليا، الجزء «الأكبر مملا يحلم به الاشتراكيون-الديموقراطيون، بشكل مثالي في زمننا الراهن، إنما دون أن يتمكنوا من التوصل إليه على الإطلاق» [47]. وفي تلك الأثناء كانت المعلومات الأكثر صحة حول ذلك البلد الغريب وعاداته، قد بدأت تصل إلى معلوم الناس.
ففي عام 1840 ظهرت الترجمة الفرنسية لتقرير أصلي هام كان قد وضعه آلونزو زوزيتا، الأمين السابق للمجلس الملكي في المكسيك، متحدثا فيه عن الإدارة والعلاقات الزراعية في المستعمرات الاسبانية السابقة الواقعة في العالم الجديد. وفي نحو أواسط القرن التاسع عشر، أخرجت الحكومة الاسبانية من أرشيفها، معظم الوثائق القديمة المتحدثة عن الغزو وعن إدارة المؤسسات الاسبانية في أمريكا. ولقد ألقى هذا كله أضواء جديدة، وشكل مساهمة هامة في تعزيز الوثائق المتعلقة بالوضع الاجتماعي في الحضارات القديمة ما قبل-الرأسمالية في بلدان ما وراء البحار.
قبل هذا، وعلى ضوء التقارير الواردة من زوريتا، توصل العالم الروسي ماكسيم كوفاليفسكي في سبعينات القرن الماضي إلى استنتاج يقول بأن إمبراطورية الأنكا الخرافية في البيرو، كانت مجرد بلد تهيمن عليه تلك الشيوعية الزراعية البدائية التي كان فون مورر قد اكتشف وجودها، قبل ذلك، لدى الجرمانين القدامى، وأن هذه لشيوعية كانت مهيمنة، ليس فقط في البيرو، بل كذلك في المكسيك وفي طول وعرض القارة التي غزاها الاسبانيون حديثا. ولقد أتاحت كتب وتقارير نشرت فيما بعد، أتاحت دراسة معمقة للعلاقات الزراعية القديمة في البيرو أدت إلى رسم صورة جديدة للشيوعية الريفية البدائية في قارة جديدة، ولدى عرق آخر، وعند مستوى آخر من مستويات الحضارة، وفي عهد يختلف تمام الاختلاف عن العهد الذي درسته الاكتشافات السابقة.
كان أمامنا ها هنا تشكيل قديم جدا للعلاقات الزراعية –يسود لدى القبائل البيروفية منذ أزمان مغرقة في القدم- وما يزال مليئا بالحيوية والقوة حتى القرن السادس عشر، أي الزمن الذي بدا فيه الاسبان بغزو القارة. لقد كان هذا التشكيل عبارة عن تجمع يرتكز على علاقات القربى والعائلة، وهذا التجمع كان المالك الوحيد للأرض في كل قرية أو مجموعة من القرى، أما الحقول فكانت توزع عن طريق القرعة سنويا، عن طريق كل أعضاء القرية، هذا بينما كانت القضايا العامة تسوى عن طريق مجالس للقرية يتولى بنفسه انتخاب زعيم هذه القرية. ولقد تم العثور، حتى في هذا البلد الأمريكي الجنوبي البعيد، لدى الهنود، على آثار حية تشير إلى شيوعية كانت أكثر تقدما من مثيلتها في القارة الأوربية: كانت ثمة منازل جماعية هائلة تعيش فيها عائلات بكاملها عيشة مشتركة، ويدفن الأموات فيها بصورة مشتركة. وثمة من يتحدث عن وجود مساكن جماعية يضم كل منها ما لا يقل عن أربعة آلاف رجل وامرأة. أما المقر الرئيسي لأباطرة الانكا، مدينة «كوزكو»، فكانت تتألف، بشكل خاص، من مساكن جماعية على هذا النحو، يحمل كل منها اسم عائلة من العائلات.
وهكذا لقيت الأضواء الكاشفة في أواسط القرن التاسع عشر على مجموعة هامة من الوثائق التي أدى ظهورها إلى تصفية المفهوم القديم المتحدث عن الطبيعة الخالدة للملكية الخاصة، وعن وجود هذه الملكية منذ بداية العالم.. ولقد أدت تصفية هذا المفهوم إلى القضاء عليه نهائيا بعد ذلك. وبعد أن رؤي، في الشيوعية الزراعية، خاصة من خصائص الشعوب الجرمانية، ثم السلافية فالهندية فالعربية فالبربرية والمكسيكية، ومن ثم خاصة من خصائص دولة الأنكا الرائعة في البيرو، وعدد كبير من الشعوب، «ذات الخصوصية»، توصل المعنيون –بالقوة- إلى استنتاج بقول بأن هذه الشيوعية القروية لم تكن «خصوصية عرقية» يتمتع بها عنصر معين أو قارة معينة، بل كانت شكلا عاما من أشكال المجتمع البشري، خلال مرحلة معينة من مراحل تطور الحضارة. غير أن العلم البرجوازي الرسمي، وخاصة فرع الاقتصاد السياسي منه، لم يؤمن بهذا كله، بل أبدى معارضة ضارية للمبدأ ككل. وهكذا نجد أن مدرسة سميت-ريكاردو الإنكليزية، ذات الهيمنة في كل أنحاء أوربا خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، كانت ترفض وتنكر بتصلب إمكانية وجود ملكية مشاعية للأرض، بل وأن أهم وأفخم عيون العلم الاقتصادي في عهد «العقلانية» البرجوازية، كانوا يتصرفون تماما مثلما كان يفعل أول الغزاة الاسبان والبرتغاليين والفرنسيين والهولنديين، الذين كانوا –بسبب جهلهم المطبق- عاجزين كليا عن فهم العلاقات الزراعية لدى السكان الأصليين، في أمريكا المكتشفة حديثا، بحيث أنهم كانوا يعلنون بكل بساطة، بسبب ما لاحظوه من غياب للملكيات الخاصة، بأن كل البلد «كان يعتبر ملكا للإمبراطور» وأرضا خاضعة للضريبة. ففي القرن السابع عشر، كتب المبشر الفرنسي دوبوا بصدد الهند يقول:
«لا يعرف الهنود أية ملكية خاصة للأرض. والحقول التي يزرعونها تعتبر ملكا للحكومة المنغولية».
وكذلك يبدي استياءه ، دكتور في الطب من كلية مونتبلييه، يدعى فرانسوا برييه، سبق له أن سافر إلى آسيا، وإلى بلدان المنغول الكبرى، ونشر في عام 1969، في مدينة أمستردام، وصفا لتلك البلاد نال شهرة كبيرة، يبدي استياءه بقوله:
«لقد أزالت هذه الدول الثلاث: تركيا وإيران والهند، كل المفاهيم المتعلقة بخاصتك وخاصتي، بصدد ملكية الأرض، هذه المفاهيم التي هي في الواقع في أصل كل الخير والجمال الموجودين في هذا العالم.»!
ومثل هذا الجهل وعدم الاستيعاب المخزيين لكل ما ليس شبيها بالحضارة الرأسمالية، أبداهما في القرن التاسع عشر العالم جيمس ميل، والد الفيلسوف الشهير جون ستيوارت ميل، حين كتب في كتابه التاريخي عن الهند البريطانية يقول:
«نحن لا يمكننا، على أساس كافة الوقائع التي لاحظناها، إلا أن نصل إلى الاستنتاج بأن ملكية الأرض في الهند كانت تعود إلى العامل، وذلك لأننا إذا لم نقر بأنه هو مالك الأرض، سيكون من المستحيل علينا أن نحدد مالك هذه الأرض».
أما أن تكون الأرض، وبكل بساطة، ملكا للجماعات الفلاحية التي كانت تزرعها منذ ألوف السنين، وأما أن يكون ثمة بلد، ومجتمع كبير متمدن، حيث لا تعتبر الأرض وسيلة لاستغلال عمل البشر الآخرين –بل مجرد أساس وجود للبشر الذين يعملون فيها بأنفسهم-، فأمران غير قادرين على التسلل إلى دماغ عالم كبير من أقطاب العلم البرجوازي الإنكليزي. إن هذا التحديد، المدهش، للأفق الثقافي عند حدود العقلية الاقتصادية الرأسمالية وضمن مفاهيمها، يؤكد لنا بما لا يدع مجالا لأي شك، بأن العلم الرسمي السائد خلال عصر الأنوار البرجوازي، إنما كان يحمل رؤية واستيعابا تاريخيين ضيقين للغاية، بحيث أن المفاهيم الرومانية، السائدة منذ ما قبل ألفي سنة، التي نقل إلينا الجنرالات من أمثال قيصر، والمؤرخون من أمثال تاسيتيوس، آراء وأفكار قيمة تنتمي إليها وتتعلق بجيرانهم الجرمانيين وبعلاقات هؤلاء الاقتصادية والاجتماعية، المختلفة تماما عما لدى الرومان أنفسهم.. كانت تبدو أكثر وعيا وإدراكا منهما.
في الماضي، كما هو الحال الآن، كان الاقتصاد السياسي البرجوازي، من بين كافة العلوم، العلم الذي يبدى، بوصفه قاعدة انطلاق نمط السيطرة الاستغلالي، أدنى حد من الفهم بالنسبة إلى أشكال الحضارة والاقتصاد الأخرى. ولقد اسندت إلى فروع أخرى علمية، أكثر ابتعادا منه عن التعارض المباشر للمصالح وعن حقل العراك بين رأس المال والعمل، مهمة التعرف على الشكل العام المهيمن للتطور الاقتصادي، في المؤسسات الشيوعية المنتمية إلى العصور القديمة، وبالتالي على الشكل العام لتطور الحضارة في مرحلة معينة. لقد كان قضائيون من أمثال فون مورر وكوفالفسكي والإنكليزي هنري مين أستاذ القانون ومستشار الدولة في الهند، كانوا أول من أقر بوجود شكل بدائي عالمي وقيم، هو الشيوعية الزراعية المنتشرة بين كافة القارات وكافة الأجناس. أما شرف اكتشاف أن هذه الشيوعية هي القاعدة الضرورية، في البنية الاجتماعية للمجتمع البدائي، لشكل التطور الاقتصادي هذا، فيعود إلى عالم اجتماع أمريكي سبق له أن درس الحقوق، هو الأمريكي مورغان. لقد دهش الباحثون دهشة كبيرة حين اكتشفوا الدور الهام الذي تلعبه علاقات القربى في المشاعات القروية الشيوعية البدائية، سواء أكان هذا في الهند أو في الجزائر أو لدى الشعوب السلافية. فبالنسبة إلى الشعوب الجرمانية كانت أبحاث فون مورر قد ركزت على أن عمليات الاستيطان الأوربية إنما تمت عن طريق المجموعات العائلية والعائلات. والواقع أن تاريخ الأقوام القديمة، كما هو الحال بالنسبة إلى تاريخ اليونانيين والرومان، إنما يؤكد لنا في كل لحظة بأن العائلة قد لعبت، على الدوام، دورا كبيرا وهاما للغاية، بوصفها مجموعة اجتماعية، ووحدة اقتصادية، ومؤسسة قضائية، وكذلك بوصفها حلقة مغلقة من حلقات الممارسة الدينية. وأخيرا نجد بأن كافة المعلومات التي نقلها الرحالة حول البلدان المسماة «بلدانا متوحشة» إنما تؤكد، على اتفاق غريب فيما بينها، بأنه كلما كان شعب ما أكثر بدائية، ازدادت أهمية الدور الذي تنلعبه، لديه، علاقات القربى، وازدادت هيمنة هذه العلاقات على كافة الروابط والمفاهيم الاقتصادية والاجتماعية والدينية.
وعلى هذا النحو طرحت على البحث العلمي مشكلة جديدة فائقة الأهمية. فما هي، في الحقيقة، تلك التجمعات العائلية التي كانت لها كل هذه الأهمية في الأزمان البدائية، وكيف تراها تشكلت، وما هي الرابطة التي كانت توحدها، ومم كانت تتشكل الشيوعية الاقتصادية، والتطور الاقتصادي بشكل عام؟ على سبيل الرد، والإتيان بتوضيح لكل هذه الأسئلة، كانت الإجابات التي قدمها مورغان للمرة الأولى عام 1877 في كتابه «المجتمع البدائي». ولقد توصل مورغان، الذي كان قد أمضى جزءا كبيرا من حياته بين هنود ينتمون إلى إحدى قبائل «ولاية نيويورك»، ودرس بتعمق وضع هذا الشعب البدائي الصياد، توصل عن طريق المقارنة بين أبحاثه، وبين الوقائع المعروفة المتعلقة بشعوب بدائية أخرى، إلى نظرية جديدة وهامة تتحدث عن أشكال تطور المجتمع البشري خلال فترات الزمن المتعاقبة التي سبقت كل معرفة تاريخية. وبامكاننا أن نلخص هذه الأفكار، التي جعلت من مورغان رائدا، ومازالت تحفظ بكل قيمتها وأهميتها حتى الآن، بالرغم من توفر الكثير من المواد الجديدة التي تساعده على تصحيح بعض التفاصيل، على الشكل التالي:
1- لقد كان مورغان أول من حدد نظاما علميا يتعلق بتاريخ الحضارات ما-قبل-التاريخية، من جهة عن طريق التمييز بين مختلف أحقاب التطور، ومن جهة أخرى عبر الكشف عن محركه الرئيسي. فحتى ذلك الحين، كانت الحقبة الواسعة من الحياة الاجتماعية، وهي الحقبة التي استبقت كل تاريخ مدون، تماما مثلما كانت العلاقات الاجتماعية لدى الشعوب البدائية التي ما تزال حية حتى اليوم، بكل ما لديها من أشكال وحقب تطورية، كانت تشكل نوعا من الهوة المظلمة، التي لم تكن لتضاء غلا عبر فقرة أو جزء من بحث علمي من هنا أو هناك. والواقع أن مفاهيم «الحالة المتوحشة» و«البربرية» التي كانت تطبق بشكل إجمالي على أوضاع البشرية تلك، لم تكن لتحمل سوى قيمة سلبية، تطبع غياب كل ما كان يعتبر إشارة إلى وجود «حضارة» بالمعنى الذي تشير إليه مفاهيم ذلك الحين. وانطلاقا من وجهة النظر هذه، لم تبدأ الحياة المتمدنة والإنسانية إلا مع بداية التاريخ المدون. أما كل ما ينتمي إلى «الحالة المتوحشة» و«البربرية» فلم يكن ليشكل أكثر من مرحلة منحطة ومشينة، استبقت الحضارة، وأكثر من وجود حيواني ليس بوسع البشرية المتمدنة اليوم إلا أن تلقي عليه نظرة احتقار واستهانة. وتماما مثلما كان الأمر مع الممثلين الرسميين للكنيسة المسيحية، الذين اعتبروا كافة الأديان البدائية التي أتت قبل المسيحية، مجرد سلسلة من النكسات التي عرفتها الإنسانية خلال بحثها المضني عن الدين الحقيقي، كذلك هو بالنسبة على الاقتصاديين، الذين يرون بأن كافة الأنماط الاقتصادية البدائية لم تكن أكثر من محاولات خرقاء جرت قبل التوصل إلى اكتشاف النمط الاقتصادي الحقيقي الوحيد: نمط الملكية الخاصة والاستغلال اللذين بدأ معها التاريخ المدون للحضارة.
لقد وجه مورغان إلى هذا المفهوم ضربة قاضية حين اعتبر التاريخ البدائي للحضارة، جزءا من أكثر أجزاء تاريخ التطور المستمر للبشرية أهمية، بل وأكثر أهمية سواء عن طريق طوله الزمني –أي الفترة الزمنية التي عاشها- الذي يزيد كثيرا عن تلك الفترة الضيقة التي يعبر عنها التاريخ المدون، أو عن طريق المكتسبات الحضارية الرئيسية التي تم الوصول إليها خلال تلك الفترة الطويلة، عند فجر الوجود الاجتماعي للبشرية. إن مورغان، حين أعطى محتوى إيجابيا لـ«تسميات» الحالة المتوحشة والبربرية للحضارة، إنما حدد المعاني العلمية الدقيقة للكلمات ومن ثم استخدامها كوسائل للبحث العلمي. فالحالة المتوحشة والبربرية والحضارة، بالنسبة إلى مورغان، هي عبارة عن ثلاث مراحل من مراحل التطور البشري، تتميز عن بعضها البعض عن طريق دلائل مادية مميزة، ومحددة، وتنقسم بدورها إلى مستويات أدنى، ومتوسطة ورفيعة، لا يمكن تمييزها إلا عن طريق المكتسبات وأوجه التقدم الملموسة والمحددة للحضارة. إن بوسع بعض المتحذلقين الذين يزعمون معرفة كل شيء، اليوم أن يحاججوا بأن المستوى المتوسط للفترة المتوحشة لم يبدأ مع اختراع الصيد (صيد السمك)، كما كان مورغان يعتقد، أو أن المستوى الأرفع قد ابتدأ مع اختراع القوس والسهم، وذلك لأن النظام-بالنسبة إلى حالات كثيرة- كان مقلوبا، كما أن حالات أخرى افتقدت مراحل بأكملها بسبب عدد من الظروف الطبيعية، غير أن هذه كلها ليست سوى انتقادات، بالامكان توجيهها إلى كل تصنيف تاريخي، إذا ما اعتبرنا هذا التصنيف صورة صارمة ذات قيمة مطلقة، أو سلسلة من عبير المعرفة، وليس مجرد خيط حي ومرن يقودنا على طريق هذه المعرفة. إن أهمية مورغان التاريخية تكمن في أنه قد استنبط، عن طريق تصنيفه العلمي الأول، الشروط الضرورية لدراسة حقبة ما قبل-التاريخ، تماما مثلما تكمن أهمية «ليني» التاريخية في أنه كان أول من استنبط تصنيفا علميا للمزروعات. مع حفظ الفارق الكبير بين الاثنين. فنحن نعلم مثلا أن ليني قد أخذ، كأساس لتصنيف المزروعات، دليلا عمليا جدا، لكنه خارجي –أجهزة إعادة إنتاج المزروعات- بحيث كان ينبغي عليه –حسب التعبير الذي جاء به بنفسه- أن يبدل هذه العملية الأولى بتصنيف طبيعي أكثر حيوية من وجهة نظر تاريخ تطور العالم النباتي. وعلى عكس هذا نجد أن مورغان قد أثمر بحثه، عبر اختياره للمبدأ الأساسي الذي ركز عليه منهجه التصنيفي: لقد أخذ، كنقطة انطلاق للتصنيف الذي جاء به، المبدأ القائل بأن نمط العمل الاجتماعي، أي الإنتاج، هو الذي يحدد في كل حقبة تاريخية، منذ بداية الحضارة، كل العلاقات الاجتماعية بين البشر. وأن المنعطفات الحاسمة في تاريخ هذا التطور كانت هي العلامات التي تحدد مجرى تطور تلك العلاقات.
2- العمل الجليل الآخر الذي قام به مورغان، ذو علاقة بالروابط العائلية التي كانت سائدة في المجتمع البدائي. ففي هذا المجال أيضا، وعلى أساس مادة هائلة حصل عليها عن طريق عملية بحث عالمي دؤوب، تمكن مورغان من ترسيخ صورة لأول تعاقب، مرسوم بشكل علمي، في مجال أشكال تطور العائلة، ابتداء بالأشكال الأكثر انحطاطا في المجتمع البدائي، حتى شكل الزواج من امرأة واحدة Monogamie، أي شكل العلاقات الزوجية المسيطر اليوم، والذي يقضي بزواج رجل واحد من امرأة واحدة، بشكل يستمد شرعيته من الدولة، ويكون للرجل، فيه، الوضع المهيمن. صحيح أن الاكتشافات التي تم الوصول إليها منذ إتيان مورغان بنظريته تستدعي القيام بعدة تصحيحات لصورة تطور العائلة لديه. غير أن السمات الأساسية لنظامه المعتبر أول سلم يصف أشكال العائلة البشرية، منذ عصور الظلمات حتى عصرنا الحاضر مرورا بما-قبل التاريخ، والتي سارت، بشكل حازم، على أساس فكرة التطور، تظل حتى الآن إسهاما كبيرا وهاما يضاف إلى مكتسبات العلوم الاجتماعية. والواقع أن مورغان لم يثر هذا المجال فقط عن طريق منهجيته، بل أيضا عن طريق أفكاره الأساسية والعبقرية المتعلقة بالروابط بين العلاقات العائلية في مجتمع معين، ونظام القرابة الذي يهيمن في هذا المجتمع. لقد جذب مورغان، للمرة الأولى، الانتباه إلى هذا الواقع المدهش الذي يقول بأن علاقات القربى والتحدر الحقيقية لدى كثير من الشعوب البدائية، أي العائلة الحقيقية، لم تكن لتتطابق مع نعوت القرابة التي يتبادلها الناس فيما بينهم، ولا مع المتوجبات المتبادلة التي تفرضها مثل هذه النعوت. وكان مورغان أول من وجد لهذه الظاهرة الغامضة تفسيرا ماديا جدليا، إذ قال: «إن العائلة هي العنصر الفعال، وهي ليست ثابتة، بل تتطور من نمط أدنى إلى نمط أكثر ارتفاعا، بالنظر إلى أن المجتمع يتطور من نمط أدنى إلى نمط أكثر ارتفاعا. مقابل هذا نجد أن أنظمة القربى جامدة، وهي لا تسجل، إلا خلال حقب بعيدة جدا عن بعضها البعض، تطورات شبيهة بتلك التي تحققها العائلة خلال تلك الحقب، كما أنها –أي أنظمة القربى- لا تعرف التغيرات الجذرية، إلا حين تتغير العائلة بشكل جذري». ومن هنا نصل إلى الاستنتاج بأن صلات القربى ونظمها، لدى الشعوب البدائية (وهي نظم تتوازى مع شكل سابق ومتجاوز، من أشكال العائلة) ما تزال سارية حتى الآن، تماما مثلما تظل سارية مبادئ أشخاص يظلون لزمن طويل متعلقين بأوضاع تم تجاوزها عن طريق التطور المادي الفعال للمجتمع.
3- إن مورغان، استنادا منه إلى تاريخ تطور العلاقات العائلية، يعطي أول دراسة شاملة عن تلك التجمعات العائلية القديمة التي هي في أصل التقاليد التاريخية، لدى كافة الشعوب المتمدنة: لدى اليونان والرومان، ولدى الكلتيين والجرمان، ولدى اليهود القدماء، وبامكاننا أن نعثر عليها حتى أيامنا هذه لدى معظم الشعوب البدائية التي ما تزال تعيش في مناطق نائية ومتفرقة من العالم. لقد برهن مورغان كيف أن هذه التجمعات، استنادا منها إلى قرابة الدم والتحدر من أصل مشترك، ليست –من جهة- سوى مرحلة مرتفعة من مراحل تطور تاريخ العائلة، وليست –من جهة ثانية- سوى أساس كل حياة اجتماعية، في تلك الحقبة الزمنية الطويلة حيث لم تكن هناك بعد دولة بالمعنى الحديث للكلمة، أي حيث لم تكن هناك بعد منظمة سياسية قامعة تقوم على مقولة الأرض المشتركة (المقولة الجغرافية). كانت لكل قبيلة، تتألف من عدد معين من العائلات أو الأفخاذ (أوGENTES حسب التعبير الروماني)، أرض خاصة بها تملكها بشكل جماعي، وداخل كل قبيلة، كانت الجماعة العائلية هي الوحدة التي تدير شؤونها بنفسها وبشكل شيوعي، وحيث لم يكن هناك لا أغنياء ولا فقراء، ولا كسالى ولا عمال، ولا سادة ولا عبيد، وحيث كانت كافة القضايا العامة تسوى عن طريق الاختيار الحر والقرار الحر، اللذين يمارسهما الجميع. وكمثال حي على هذه العلاقات، التي مرت بها كافة الشعوب المنتمية إلى الحضارة الراهنة، يصف مورغان –بشكل مفصل- التنظيم الذي يتبعه الهنود في أمريكا، وهو التنظيم الذي كان ما يزال مزدهرا حين غزا الأوربيون القارة الأمريكية.
يقول مورغان:
«إن كافة أعضاء هذا التنظيم هم قوم أحرار، عليهم واجب حماية حرية الآخرين، وهم جميعا متساوون في الحقوق، بحث أن ما من أحد بامكانه المطالبة بأية امتيازات، وتنطبق هذه المقولة حتى على الزعماء الذين يسودون –بالاتفاق- أيام السلم وأولئك الذين يتولون زمام الأمور في أوقات الحرب، إن الجميع يشكلون أخوية تجمعها روابط الدم. والحرية والمساواة والأخوة، بالرغم من أن أحدا لا يفه بها، هي المبادئ الأساسية التي تسير العشيرة على هديها، وهذه الأخيرة –أي العشيرة- كانت، بدورها، وحدة النظام الاجتماعي بأسره، وأساس المجتمع الهندي المنظم. وهذا ما يفسر المعنى الحازم للاستقلال والكرامة الشخصية التي يلاحظها الجميع لدى الهنود..»
4- إن الانتظام داخل عشائر (عائلات) هو الذي قاد التطور الاجتماعي إلى عتبة الحضارة التي يصفها مورغان بأنها تلك الحقبة القصيرة الحديثة جدا من تاريخ الحضارة، حيث بزغت، على أطلال الشيوعية والديموقراطية القديمة، أساليب الملكية الخاصة، وبالتالي الاستغلال ومن ثم المؤسسة العامة القامعة (أي الدولة)، وسيطرة الرجل على المرأة داخل الدولة، ضمن حق الملكية المعطى له، وداخل العائلة. إن مجرى هذه الحقبة التاريخية القصيرة نسبيا، هو الذي شهد إنتاج أهم وأسرع عملية تطور أصابت الإنتاج والعلم والفن، لكنه شهد كذلك كل الانقسامات العميقة التي شهدها المجتمع عن طريق التعارض الطبقي، وشهد أيضا كل البؤس الذي أصاب الشعوب وأدى إلى استعبادها. وهاكم الحكم الخاص الذي أطلقه موغان على حضارتنا الراهنة، وهو الحكم الذي ينهي به دراسته الكلاسيكية، محددا استنتاجاتها:
«منذ بداية الحضارة، بات نمو الثروات رائعا وهائلا، وأشكالها متنوعة وانتشارها واسعا وإدارتها موجهة، بشكل أخرق لما فيه مصلحة مالكي الثروات. بحيث أن الثروة أضحت، في مواجهة الشعب، قوة مخيفة. لقد وجد العقل البشري نفسه مسحورا تجاه الشيء الذي خلقه بنفسه. ومع هذا، لا شك سيأتي يوم يضحي فيه هذا العقل من القوة بحيث يسيطر على الثروة، وتتوطد علاقة الدولة بالثروة، كما تنظم فيه حدود هذا العقل من القوة بحيث يسيطر على الثروة، وتتوطد علاقة الدولة بالثروة، كما تنتظم فيه حدود حقوق المالكين. إن مصالح المجتمع تتقدم على المصالح الخاصة، لذا يجب أن تقوم بين هذه وتلك علاقات عادلة ومتناسقة. إن عملية البحث عن الثروة، ليست المصير الوحيد للإنسانية، إذا ما كان ينبغي لقانون التقدم أن يظل قانون المستقبل كما كان قانونا للماضي. إن الزمن الذي مر منذ بدايات الحضارة، ليس سوى جزء يسير من الحياة الماضية للبشرية، وليس سوى قطاع صغير من حياة طويلة ما يزال عليها أن تعيشها. إن تفكك وذوبان المجتمع أمر يلقي بثقله كخطر يهددنا في نهاية مرحلة تاريخية كان هدفها النهائي والوحيد الحصول على الثروة، وذلك لأن تلك المرحلة تحمل في ذاتها كافة عناصر زوالها. ومن هنا نجد أن الديموقراطية في الإدارة، والإخاء في المجتمع، والمساواة في الحقوق، والتربية الكونية، كلها أمور ستعمل على تكريس المرحلة القادمة السامية من مراحل المجتمع، هي مرحلة تساهم التجربة والعقل والعلم في أخذنا إليها، ولسوف تساهم فيها بشكل دائم كذلك. وتلك المرحلة هي التي ستحيي الحرية والمساواة والإخاء، تلك المبادئ التي عرفتها الأقوام القديمة، لكنها ستحييها من جديد، وبشكل أكثر سموا...»
لقد كانت مساهمة مورغان في معرفة تاريخ الاقتصاد، مسألة ذات أهمية فائقة. فهو قد قدم الاقتصاد الشيوعي البدائي، الذي قدمه باعتباره قد عرف وفسر حتى ذلك الحين إلا على أنه سلسلة من الحالات الاستثنائية، قدمه باعتباره قاعدة عامة لتطور منطقي للحضارات، وكقاعدة أساسية ذات علاقة بتكون الشعوب والأقوام. وعلى هذا النحو تم البرهان على أن الشيوعية البدائية كانت هي مهد التطور الاجتماعي جنبا إلى جنب مع الديموقراطية والمساواة اجتماعية. وهكذا، عبر توسيعه لأفق الماضي ما-قبل-التاريخي، حدد مورغان كل حضارتنا الراهنة بما فيها من ملكية خاصة وسيطرة طبقية وهيمنة ذكورية ودولة وزواج إكراهي، حددها باعتبارها مجرد مرحلة قصيرة عابرة ولدت من جراء تحلل المجتمع الشيوعي البدائي، ولسوف تخلي المكان ذات يوم مقبل، لأشكال اجتماعية أكثر سموا. ومورغان، إذ فعل هذا، إنما زود الاشتراكية العليمة بسند جديد وقوي. وفي الوقت الذي كان فيه ماركس وانجلز قد برهنا، عن طريق التحليل الاقتصادي للرأسمالية، على أن المستقبل القريب سيشهد عبورا حتميا للمجتمع نحو الاقتصاد الشيوعي العالمي، وزودا –على هذا النحو- كل ذوي الآمال الاشتراكية بأساس علمي صلب، وفر مورغان –على نحو ما- لأعمال ماركس إنجلز قاعدة ارتكاز صلبة، وذلك حين برهن بأن المجتمع الديموقراطي الشيوعي يشمل، ولو بأشكال بدائية، كل ماضي التاريخ البشري الذي استبق حضارتنا الراهنة، وهكذا مدت التقاليد العريقة النبيلة الموغلة في القدم، يدها إلى أمال المستقبل الثورية، وبهذا انغلقت حلقة المعرفة، بشكل متناسق وضمن هذا الأفق بحيث بدا واضحا أن عالمنا الراهن، عالم السيطرة الطبقية والاستغلال الذي كان يزعم بأنه أسمى وأعلى ما وصلت إليه الحضارة، والهدف الأرفع للتاريخ العالمي، ليس أكثر من مرحلة صغيرة عابرة على طريق مسيرة البشرية الطويلة إلى الأمام.



--------------------------------------------------------------------------------

(2)
لقد شكل كتاب مورغان حول «المجتمع البدائي» -إن جاز لنا مثل هذا القول- مدخلا لاحقا للبيان الشيوعي الذي وضعه ماركس وانجلز. وكانت كافة الشروط قد توفرت لإجبار العلم البرجوازي على التحرك. وهكذا، خلال عقدين أو ثلاثة عقود من الزمن تلت منتصف القرن، أضحى مفهوم الشيوعية البدائية، متغلغلا من كافة الجوانب، إلى دخال العلم. وهذه الاكتشافات، طالما ظل الأمر متعلقا بتقاليد «عريقة تنتمي إلى القانون الجرماني» و«خصوصيات تنتمي إلى القبائل السلافية» وإلى دولة الانكا في البيرو.. الخ، ظلت تحتفظ بطابع الطرائف العلمية غير المؤذية، ودن أن تحمل أي معنى راهن، أو تكون لها أية علاقة مباشرة مع مصالح المجتمع البرجوازي ومعاركه اليومية. ولقد كان هذا الأمر على هذا النحو إلى درجة أن بعض المحافظين المتصلبين، والسياسيين الليبراليين المعتدلين من أمثال لودفيغ فون مورر والسير هنري مين، كان بوسعهم أن ينالوا الكثير من التقريظ بسبب وصولهم إلى مثل هذه اكتشافات. ومع هذا، سرعان ما ظهرت تلك العلاقة التي تربط الاكتشافات بالأحداث الراهنة، وذلك ضمن اتجاهين. ونحن سبق لنا أن رأينا كيف أن السياسة الاستعمارية كانت قد خلقت هوة بين المصالح المادية الملموسة للعالم البرجوازي وبين شروط الحياة ضمن الشيوعية البدائية. وكلما كان النظام الرأسمالي يعمل على فرض قدرته الكلية في أوربا الغربية منذ أواسط القرن التاسع عشر بعد عواصف ثورة عام 1848، كلما كانت تلك الهوة تزداد اتساعا. في نفس ذلك الحين، وبالتحديد منذ ثورة 1848، ظهر هناك عدو آخر بدأ يلعب دورا تزداد أهميته أكثر فأكثر داخل المجتمع البرجوازي: هذا العدو اسمه الحركة العمالية الثورية. ومنذ أيام حزيران 1848 في باريس، لم يعد «الشبح الأحمر» يختفي عن مسرح الأحداث، بل انبثق من جديد في العام 1871، إبان الارتباك العام الذي رافق نضالات الكومونة مما جعل البرجوازية الفرنسية والعالمية، ترتعد من رأسها حتى أخمص قدميها. ولكن على ضوء هذه الصراعات الطبقية العنيفة، أظهرت أحدث اكتشافات البحث –أعني الشيوعية البدائية- سمتها الخطيرة. فالبرجوازية، التي أصيبت في صميم مصالحها الطبقية، اشتمت رائحة علاقة غامضة بين التقاليد الشيوعية القديمة التي كانت في البلدان المستعمرة –بفتح الميم- تقف بعنف وصلابة في وجه عملية البحث عن الربح كما في وجه عملية «أوربة» السكان الأصليين، وبين الإنجيل الجديد الذي أتت به الحمى الثورية التي أصابت الجماهير البروليتارية في البلدان الرأسمالية العجوز.
وحين تم، في الجمعية الوطنية الفرنسية، في العام 1873، البحث لتقرير مصير عرب الجزائر عن طريق قانون يوطد الملكية الخاصة بالقوة، لم يكف المجتمعون في تلك الجمعية التي كانت ما تزال تحركها أسباب الجبن والرغبة العمياء في انتقام من آثار بطولات الكومونة، لم يكفوا عن القول بأن من الضروري، ومهما كان الثمن، تدمير الملكية المشاعية البدائية لدى عرب الجزائر، لأن شكل هذه الملكية «من شأنه أن يدخل إلى العقول والأذهان، اتجاهات شيوعية». إما في ألمانيا، خلال ذلك الوقت بالذات، فإن أبهات الإمبراطورية الألمانية الجديدة، ومضاربات عن التأسيس، والأزمة الرأسمالية الأولى التي شهدتها سنوات السبعين، ونظام الدم والحديد الذي وطده بسمارك عن طريق قوانينه المتخذة ضد الاشتراكيين، كلها أمور كانت في طريقها إلى تكثيف حدة الصراعات الطبقية حتى حدودها القصوى، وإلغاء كل مجاملة، حتى ولو كانت في مجال البحث العلمي البحت. والتطور الذي لا مثيل له الذي عرفته الاشتراكية-الديموقراطية، وتجسيد نظريات ماركس وانجلز، مسألتان عززتا، بشكل فريد من نوعه، الغريزة الطبقية لدى العلم البرجوازي في ألمانيا. وعلى هذا النحو كانت ردود الفعل ضد نظريات الشيوعية البدائية، شديدة الصرامة والحزم، فاليوم أضحى مؤرخون للحضارة من أمثال ليبرت وشورتز، ومنظرون للاقتصاد السياسي من أمثال بوخر، وعلماء اجتماع من أمثال شتراكه وويسترمارك وغروس، أضحوا جميعا متفقين على ضرورة التصدي بكل قوة لنظرية الشيوعية البدائية، وعلى وجه الخصوص لأفكار مورغان حول تطور العائلة، وسيطرة القانون العائلي في الماضي، بكل ما فيه من مساواة بين الجنسين وديموقراطية عامة. وعلى سبيل المثال نذكر هنا أن شتراكه يصف في كتابه «العائلة البدائية» الصادر عام 1888، أفكار مورغان وفرضياته بصدد نظام القرابة، بأنه «حلم متوحش»... «لكي لا نقول هذيان» [48].
بل وأن علماء أكثر جدية، مثل أفضل مؤرخ لتاريخ الحضارة مر في بلادنا، هو ليبرت، انطلقوا في حرب قاسية ضد مورغان، فليبرت، مثلا، استنادا منه إلى التقارير السطحية والمترهلة التي بعث بها المبشرون في القرن الثامن عشر (وهم لا يتمتعون عادة بأي إدراك اقتصادي أو عرقي)، وفي معرض تجاهله التام لدراسات مورغان الفذة، وصف العلاقات الاقتصادية لدى هنود أمريكا الشمالية، وهم الذين دخل مورغان على حياتهم وتنظيمهم الاجتماعي ، كما لم يقيض لأحد أن يفعل من قبله، وصفها على أنها البرهان على عدم وجود أي تنظيم جماعي للإنتاج لدى الشعوب التي تعيش على الصيد بشكل عام، كما قال بأنهم لا يهتمون أدنى اهتمام بالمستقبل، وأن ما يهيمن على وضعهم هو غياب كل قواعد وكل فكر وتنظيم.
إن ليبرت يستعيد، دون أي حس نقدي، كل التشويه الغبي الذي تمارسه عين المبشرين الأوربيين في النظر إلى الشيوعية القائمة لدى الهنود، وهكذا، على سبيل المثال، حين يأتي على ذكر تاريخ بعثة الإخوة الإنجيليين لدى هنود أمريكا الشمالية، الذي كتبه لوزكيك في عام 1789 يكتب قائلا: «إن كثيرين من أولئك الهنود، كما يقول مبعوثنا المبشر الفائق الإطلاع، كسلاء إلى درجة أنهم لا يزرعون شيئا بأنفسهم، بل يكتفون باقتسام ما لا يقدر الآخرون على رفض اقتسامه معهم. ربما أن العمال، على هذا النحو لا يتمتعون بثمرة عملهم أحسن مما يفعل غير العاملين، لذا نراهم يقللون شيئا فشيئا من حجم ما يزرعونه. وهكذا ما أن يأتي شتاء قاس تتراكم فيه الثلوج الكثيفة بحيث تحول بينهم والذهاب إلى الصيد، حتى تسود المجاعة العامة بكل سهولة، مما يؤدي إلى وفاة كثير من الأشخاص... وعند ذلك يتعلمون، في بؤسهم، الاستعانة بأكل لحاء الشجر للتغذية» ويضيف ليبرت إلى هذا الكلام الذي يستشهد به قوله: «وهكذا، عبر سلسلة متعاقبة من الظروف الطبيعية، يؤدي سقوط هؤلاء في الإهمال، إلى سقوط نمط حياتهم بأسره». وفي هذا المجتمع الهندي الذي لا «يمكن فيه لأحد أن يرفض» اقتسام مؤونته مع الآخرين، والذي عمد فيه «الإخوة الإنجيليون» على لسان منظرهم إلى إقامة تعارض وتقسيم حتميين، بشكل تعسفي واضح، بين «العاملين» وغير العاملين، تبعا للنمط الأوربي، يزعم ليبرت أنه، في هذا كله، قد وجد أفضل دليل لدحض فكرة الشيوعية البدائية ف«عند مثل هذا المستوى، يقل اهتمام الجيل المسن بتعليم الجيل الشاب أساليب وضرورات الحياة. وبهذا نرى أن الهندي بعيد جدا عن الإنسان البدائي. فمنذ أن يحوز المرء على آلة ما، حتى يصبح لديه حس التملك، غير أن هذا الحس يكون مقصورا على الآلة نفسها. أي أن لدى الهندي هذا الحس، ابتداء من اخفض المستويات، وفي هذه الملكية البدائية، نلاحظ غياب أي عنصر من عناصر الشيوعية... بل وأن التطور يبدأ بعكس هذا تماما».
أما البروفسور بوخر فلقد عارض نظرية الاقتصاد الشيوعي البدائي بنظريته حول «بحث الفرد عن الغذاء» لدى الشعوب البدائية، وحول «فسحات الزمن غير المتناظرة» التي كان «الإنسان يوجد فيها ودون أن يعمل». والمهم هنا أن مؤرخ الحضارات شورتز، ينظر إلى البروفسور بوخر وإلى «نظراته الثاقبة العبقرية» على أنه نبي ينبغي إتباع خطاه ولو بأعين مغمضة، ولاسيما حين يتعلق الأمر بدراسة اقتصاديات الحقب البدائية [49]. أما حامل البوق، الأكثر تمثيلا لرد الفعل القوي ضد نظريات الشيوعية البدائية الخطيرة وضد «أب الكنيسة الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية» مورغان، فهو السيد المبجل ارنست غروس. للوهلة الأولى، يبدو هذا السيد نفسه واحدا من محازبي الفهم المادي للتاريخ، فهو يفسر مختلف أشكال الحق والقانون والعلاقات بين الجنسين والفكر الاجتماعي، بالاستناد إلى علاقات الإنتاج، بوصفها العامل المحدد لهذه الأشكال. ويقول غروس في كتابه «بدايات الفن» الذي ظهر في عام 1894 «أن قلة من مؤرخي الحضارة تبدو مدركة لكل أهمية الإنتاج. ثم إنه لمن الأكثر سهولة الاستخفاف بهذا العامل، بدلا من تضخيم أهميته. فالاقتصاد -إذا جاز لنا القول –هو التمركز الحيوي لكل شكل من أشكال الحضارة، فهز الذي يمارس التأثير الأكثر عمقا والأكثر صلابة على كافة العوامل الحضارية الأخرى، بينما نجد أنه هو نفسه خاضع لسيطرة عوامل طبيعية: جغرافية ومناخية. ويمكننا أن نقول بالتحديد عن نمط الإنتاج أنه الظاهرة البدائية للحضارة، وهي ظاهرة لا تكون أمامها كافة سمات الحضارة الأخرى سوى فرعية (متفرعة عنها) وثانوية –ولكن ليس بالمعنى الذي يؤدي إلى القول بأن الفروع الأخرى تتحدر كلها من هذا الجذع، بل بالمعنى القائل بأنها جميعا تولد بشكل مستغل ثم تتطور وتتشكل تبعا لضغط العامل الاقتصادي المسيطر.»
للوهلة الأولى سيبدو أن السيد غروس نفسه قد استعار أفكاره الرئيسية من ترسانة «آباء الكنيسة الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية»، بالرغم من أنه يترك مجالا للشك، ولو عن طريق كلمة واحدة من كلامه بوجود منبع علمي يستقي منه أفكاره التي تجعله يتفوق على «معظم مؤرخي الحضارات»، بل وهو، فيما يتعلق بالفهم المادي للتاريخ «أكثر كاثوليكية من بابا روما»، ففي الوقت الذي يقر فيه انجلز –خالق الفهم المادي للتاريخ، بالاشتراك مع ماركس- بالنسبة إلى تطور العائلة منذ الأزمان البدائية حتى الزواج الراهن الذي تنظمه الدولة، بأن العائلة وظيفة مستقلة عن العلاقات الاقتصادية تستند وحسب على ديمومة الجنس البشري، نجد غروس يذهب إلى أبعد مما ذهب إليه انجلز بكثير. فهو يضع النظرية التي تقول بأن شكل العائلة ليس، في كل مرحلة، سوى النتاج المباشر للعلاقات الاقتصادية القائمة، ويقول: «أن دلالة الإنتاج وأثره على الحضارة، لا يبدوان في أي مكان آخر، أكثر وضوحا مما هما في مجال تاريخ العائلة. فالأشكال الغربية، للعائلة البشرية، التي قادت علماء الاجتماع إلى فرضيات أكثر غرابة، تصبح مفهومة للغاية ما أن تنظر إليها بعلاقتها مع أشكال الإنتاج».
والواقع أن كتاب غروس الذي صدر في عام 1896 بعنوان «أشكال العائلة وأشكال الاقتصاد» مكرس بكامله للتدليل على صحة هذه الفكرة. ولكن في الوقت نفسه نجد أن غروس هو من ألد أعداء نظرية الشيوعية البدائية. وهو بدوره يسعى للبرهان على أن التطور التاريخي للبشرية لم يبدأ بالملكية المشاعية بل الملكية الخاصة، وهو، على منوال ليبرت وبوخر، يجهد لكي يقول، انطلاقا من وجهة نظره، بأننا كلما توغلنا قدما في زمن ما قبل التاريخ، وجدنا أن «الفرد» بـ«ملكية الفردية» يهيمن على الوضع الاجتماعي. صحيح أن ليس بالوسع معارضة كل الاكتشافات التي تمت في كافة أرجاء المعمورة، والمتعلقة بالمشاعيات القروية الشيوعية والقبائل، غير أن غروس –وها هنا تكمن نظريته الخاصة- يحاول ألا يبرز التنظيمات التي تشكل إطار الاقتصاد الشيوعي، ألا بانتمائها إلى مرحلة محددة من مراحل التطور: عند المستوى الزراعي المتدني، وذلك لكي يعود إلى إلغائها عند مستوى الزراعة الأرفع، حيث تخلى المكان لـ«الملكية الخاصة». وعلى هذا النحو يقلب غروس، بظفر، كل الأفق التاريخي الذي جاء به ماركس وانجلز. فهذان الأخيران يريان ضمن منظورهما هذا، بأن الشيوعية كانت مهد البشرية في تطورها باتجاه الحضارة، مطورة معها شكل العلاقات الاقتصادية التي رافقت هذا التطور خلال الفترات الزمنية اللامتناظرة، لكي لا تتحلل إلا مع مجيء الحضارة حيث تركت مكانها للملكية الخاصة، والحضارة نفسها، عبر عملية تفكك سريعة، سائرة مجددا نحو الشيوعية، ولكن على الشكل الأرفع للمجتمع الاشتراكي.
ولكن حسب ما يقول غروس نجد أن الملكية الخاصة هي التي رافقت ولادة وتقدم الحضارة لكي لا تترك مكانها للشيوعية إلا بشكل مؤقت، وعند مرحلة محددة، هي مرحلة المستوى الزراعي المتدني. أما ماركس-انجلز ومورغان فيؤكدون على أن بداية تاريخ الحضارة لم يعرف سوى الملكية المشاعية والتضامن الاجتماعي، ومقابل هذا نجد غروس وصحبه أفذاذ العلم البرجوازي ينادون بأن «الفرد» بملكيته الخاصة هو الأصل.
غير أن هذا كله لا يكفي!
فغروس هو الخصم اللدود، ليس فقط لمورغان ولنظرية الشيوعية البدائية، بل لكل نظرية التطور في مجال الحياة الاجتماعية، وهو لا يني يفرغ كل ما يعتقد أنه «روح السخرية عنده» على أذهان التي تريد ربط كل ظواهر الحياة الاجتماعية ضمن سلسلة تطورية، واعتبارها عملية فريدة، أو تقدما للبشرية من الأشكال الأدنى للحياة نحو الأشكال الأكثر سموا. إن هذه لفكرة الأساسية التي عليها يرتكز كل العلم الاجتماعي الحديث –ولاسيما مفهوم التاريخ ونظرية الاشتراكية العلمية- هي الشيء الذي يسعى السيد غروس، العالم البرجوازي النموذجي، إلى مقارعتها بكل قواه. وهو يعلن بصوت مدوي: «إن البشرية لا تضع نفسها أبدا ضمن خط وحيد وفي اتجاه وحيد، بل على عكس هذا، نجد أن تنوع طرق الشعوب وأهدافها، إنما يستجيب لتنوع شروط حياتها». وهكذا توصل العلم الاجتماعي البرجوازي، في شخص غروس، وفي رده فعله إزاء النتائج الثورية التي تمخضت عنها اكتشافات كان –أي العلم البرجوازي- قد توصل إليها بنفسه، توصل إلى نفس النقطة التي كان الاقتصاد البرجوازي المبتذل قد وصل إليها في رد فعله ضد الاقتصاد الكلاسيكي: إلى رفض كل قانون يتعلق بالتطور الاجتماعي [50].
والآن لنتفحص عن كثب تلك «المادية» التاريخية الغريبة التي يأتينا بها أحدث مشوهي أعمال ماركس-انجلز ومورغان.
يتحدث غروس كثيرا عن «الإنتاج»، وهو طوال الوقت لا يكف عن ذكر «طابع الإنتاج» على أنه العامل المحدد الذي يؤثر على مجمل الحضارة. فماذا تراه يعني حين يتحدث عن الإنتاج وطابع الإنتاج؟ يقول غروس: أن الشكل الاقتصادي الذي يهيمن لدى مجموعة اجتماعية، والطريقة التي يتوصل عبرها أعضاء هذه المجموعة إلى الحصول على الوسائل بقائهم، هي أمور واقعية يمكن ملاحظتها بشكل مباشر، وهي موجودة في كل مكان بسماتها الرئيسية، وثمة تأكيد كاف على هذا. إن بامكاننا أن نشك، ما شاء لنا الشك، بصدد المفاهيم الدينية والاجتماعية لدى الأستراليين، غير أنه لا يمكن أن يساورنا أي شكك بصدد إنتاجهم، فالأستراليون يعيشون من الصيد ومن جمع المزروعات. وربما كان من المستحيل التسلل إلى ثقافة البيروفيين (أهل البيرو) القدماء وأفكارهم، غير أن من الأمور الأكيدة أن شعب إمبراطورية الأنكا القديم هذا، كان شعبا من المزارعين».
إذا يفهم غروس بـ«الإنتاج» و«طابعه» وبكل بساطة، أنهما المنبع الرئيسي لغذاء شعب ما. والصيد والقنص وتربية المواشي والزراعة هي تلك.. «العلاقات الإنتاجية» التي تمارس تأثيرا حاسما على كافة العلاقات الحضارية الأخرى لدى الشعب. إن علينا أولا أن نلاحظ بأنه إذا كان تفوق السيد غروس على «معظم مؤرخي الحضارة». يعود إلى هذا الاكتشاف الهزيل، فإنه تفوق لا أساس له على الإطلاق. ففكرة أن المنبع الرئيسي الذي يستقي منه شعب ما غذاءه، هو مسألة ذات أهمية فائقة بالنسبة إلى نمو الحضارة، ليست بأي حال من الأحوال اكتشافا جديدا جاء به السيد المذكور، بل هي واحدة من المكتسبات الأساسية القديمة التي حققها علم تاريخ الحضارات. ولقد قادت هذه الملاحظة إلى التصنيف الراهن للشعوب تبعا لكونها صيادة أو راعية أو مزارعة. وهو تصنيف وارد في كل تواريخ الحضارة، ويطبقه السيد غروس بدوره، إنما بعد كثير من المراوغة والمداورة.
وهذه الفكرة ليست فقط مغرقة في القدم... بل هي أيضا -ضمن نسختها المسطحة لدى غروس- مغرقة في الخطأ أيضا. فأن نعرف فقط عن شعب ما، أنه يعيش من الصيد أو القنص أو الرعي، أمر لا يجعلنا بأي حال ندرك علاقات الإنتاج المهيمنة في حضارة هذا الشعب. فالحوتنتو المعاصرين في جنوب غرب أفريقيا، وهم شعب حرمه الألمان المستعمرون من مصدر وجودهم الأساسي، بعد أن سلبوهم ماشيتهم، وزودوهم بالمقابل ببنادق للقتال، تحولوا –بالقوة- إلى صيادين. غير أن علاقات الإنتاج لدى هذا «الشعب من الصيادين» ليست على أدنى علاقة مشتركة مع علاقات الإنتاج القائمة لدى هنود كاليفورنيا الذين ما يزالون يعيشون في عزلتهم البدائية، وهؤلاء –بدورهم- ليست لهم أية علاقة تشابه مع فرق الصيادين، في كندا، الذين يزودون الرأسماليين الأمريكيين والأوربيين بكميات هائلة من جلود الحيوانات، لاستخدامها صناعيا. والرعاة البيروفيون الذين كانوا قبل الغزو الاسباني، يحتفظون بقطعان اللاما في زرائب جماعية، ضمن اقتصاد شيوعي أيام حكم إمبراطورية الانكا، والرعاة البدو العرب بكل ما لديهم من قطعان في أفريقيا والجزيرة العربية، والفلاحون المعاصرون في جبال الألب السويسرية وفي بافاريا والتيرول، هؤلاء الذين يحافظون على أخلاقهم وعاداتهم التقليدية وسط عالم رأسمالي، والعبيد الرومان الذين كانوا يعيشون عيشة نصف بدائية حيث يحافظون على قطعان أسيادهم في «آفوليا»، والمزارعون الأرجنتيون المعاصرون الذين يربون أعدادا هائلة من القطعان ليرسلوها فيما بعد، إلى مسالخ اوهايو ومصانع التعليب فيها –كل هؤلاء هم نماذج على جماعات تمارس «تربية الماشية» غير أن كلا منهم يشكل نمطا مختلفا تماما، بالنسبة إلى شكل علاقات الإنتاج، ومستوى الحضارة. وأخيرا نلاحظ أن «الزراعة» تشمل عددا متنوعا من أنماط الاقتصاد ومستويات الحضارة يبتدئ بالمشاعية الهندية البدائية حتى الإقطاعية الحديثة، وبالاستغلالية ذات الحجم الصغير، حتى الأراضي الهائلة التي يملكها السادة البلطيين، وبالمزرعة الإنكليزية الصغيرة حتى المزارع الرومانية، وبالبستنة الصينية حتى المزارع البرازيلية والعمل الزراعي العبودي، وبأعمال نزع الأعشاب التي تمارسها النساء في هايتي، حتى مزارع أمريكا الشمالية التي تدار بالكهرباء وبقوة البخار.
الحق أن مكتشفات السيد غروس حول أهمية الإنتاج، لا تكشف لنا إلا عن لا إدراكه الغريب لما هو «الإنتاج» حقا. والحق أيضا أن ما قام ماركس وانجلز ضده بكل قوة، هو هذه «المادية» المبتذلة التي لا تنظر إلا إلى الشروط الطبيعية الخارجية للإنتاج والحضارة، وهي مادية يعتبر عالم الاجتماع الإنكليزي «باكلي» خير ممثليها. إن ما هو حاسم بالنسبة إلى العلاقات الاقتصادية والثقافية بين البشر، ليس المصدر الطبيعي الخارجي لغذائهم، بل العلاقات التي يقيمها البشر فيما بينهم خلال عملهم. والواقع أن علاقات الإنتاج اجتماعية تنضوي تحت لواء هذا السؤال: أي شكل للإنتاج يهيمن لدى شعب ما؟ والحقيقة أنه ليس بمقدورنا أن نفهم العلاقات العائلية، ومفاهيم الحق القانوني، والأفكار الدينية، وتطور الفنون لدى شعب ما، إلا حين نتمكن من إدراك أساس هذه السمة الجذرية للإنتاج. غير أنه من العسير جدا، على معظم المراقبين الأوربيين، التسلل إلى داخل العلاقات الاجتماعية التي تقوم داخل إنتاج شعب يقال أنه متوحش. فعلى عكس السيد غروس الذي يعتقد مسبقا أنه يفهم كل الأمور، حين يعرف فقط أن الانكا في البيرو كانوا من المزارعين، نعود إلى عالم جدي هو السير هنري مين الذي يكتب قائلا: «إن الخطأ الرئيسي الذي يقع فيه المراقب المباشر للحقائق الاجتماعية أو القضائية (الحقوقية) الأجنبية، يكمن في أنه يقارنها، بسرعة، بالحقائق المعروفة لديها، والتي تكون –ظاهريا- من نفس الطبيعة».
والرابط المشترك بين أشكال العائلة و«أشكال الإنتاج» المنظور إليها على هذا النحو، يقدم إلينا من قبل السيد غروس، على النحو التالي:
«عند المستوى الأكثر تدنيا، يحصل المرء على غذائه عن طريق القنص –بالمعنى العريض للكلمة- كما عن طريق جمع النباتات. وهذا الشكل البدائي للإنتاج، يترافق مع الشكل الأكثر بدائية لتقسيم العمل، أي التقسيم الفيزيولوجي للعمل بين الجنسين. ففيما يتولى الرجل الحصول على الأغذية الحيوانية، تولى المرأة جمع الغصون والثمار. وضمن هذه الشروط يلقى على الرجل، وبشكل دائم تقريبا، العبء الأكبر في الحياة الاقتصادية، وكنتيجة لهذا يرتدي الشكل البدائي للعائلة، في كل مكان طابعا بطريركيا (أبويا). ومهما تكن الأفكار المتعلقة بقرابة الدم، فإن الرجل هو –كأمر واقع- سيد ومالك نسائه وأطفاله، حتى من صلبه. انطلاقا من هذا المستوى المتدني، يمكن للإنتاج أن يتقدم ضمن اتجاهين، تبعا لسيطرة واحد من الاقتصاديين: الاقتصاد الأنثوي أو الاقتصاد الذكوري. والحقيقة أن الأوضاع الطبيعية التي تعيش المجموعة البدائية ضمنها هي التي تحول هذا الفرع أو ذاك لتجعله الجزع الرئيسي. فعندما يجبر مناخ البلد وأحواله الجغرافية على تشكيل احتياطي من المزروعات الضرورية، ومن ثم زراعتها، يتطور الاقتصاد الأنثوي وتتحول عملية جمع المزروعات شيئا فشيئا لتصبح عمل زرع للمزروعات. ومن هنا نجد أن المرأة هي التي تتولى هذه المهام لدى الشعوب البدائية الزراعية. وعلى هذا النحو يتحول ثقل الحياة الاقتصادية نحو المرأة، مما يجعلنا نجد في المجتمعات البدائية التي تعيش، بشكل أساسي، من الزراعة، شكل عائلة مطريركية (أمومية) أو على الأقل آثارا تدل على مثل هذا الشكل الذي تكون فيه المرأة، المعيل الأول للأسرة وسيدة أرض، في مركز العائلة. صحيح أن هذا التطور لم يؤد، إلا نادرا إلى مجتمع أمومي بالمعنى الضيق للكلمة، أي إلى سيطرة حقيقية تمارسها المرأة، ومثل هذا الوضع لا يوجد عادة إلا لدى المجموعات الاجتماعية التي تعيش في مأمن تام من أية هجمات يشنها عدو خارجي. أما في الحالات الأخرى كلها، فلقد استعاد الرجل، بوصفه حاميا للمجموعة، هيمنته التي كان قد فقدها بوصفه معيلا للعائلة. وعلى هذا الشكل تكونت مختلف أنواع العائلات التي كانت قائمة لدى معظم تلك الشعوب الزراعية، والتي تشكل حلا وسطا بين الاتجاه إلى المجتمع الأمومي والاتجاه إلى المجتمع الأبوي.
«ومع هذا فإن جزءا كبيرا من البشرية قد عرف تطورا من نوع آخر تماما. فشعوب الصيادين التي كانت تعيش في مناطق قليلة اتجاه إلى الزراعة، أو حيث كانت ألفنة DOMESTICATION بعض الحيوانات أمرا ممكنا ومربحا، لم تتطور باتجاه زراعة النباتات بل باتجاه تربية الحيوانات. بيد أن هذه التربية، التي نمت شيئا فشيئا انطلاقا من الصيد، هي منذ البدائية، واحدة من الأمور الخاصة بالرجل مثلها مثل الصيد. وعلى هذا النحو تدعمت هيمنة الرجل الاقتصادية، وهي هيمنة قائمة مسبقا، ووجدت تعبيرها المنطقي في واقع أن الشكل البطريركي (الأبوي) للعائلة يهيمن لدى كافة الشعوب التي تعيش أساسا بفضل تربية المواشي. أضف إلى هذا أن الموقع المهيمن للرجل في مجتمعات الرعب، قد ازداد تفاقما بسبب أن الشعوب الرعاة قد اضطرت، من جراء حفظ الحروب، إلى أن تتشكل في تنظيمات عسكرية ممركزة. ومن هنا أتى ذلك الشكل المتطرف من أشكال البطريركية، حيث لا يكون للمرأة أي حق، بل تعيش عبدة لرجل هو الزوج والسيد الذي يتمتع بقدرة استبدادية» [51].
إن المصائر التاريخية الغربية للعائلة البشرية، كما هي موصوفة ها هنا في تبعيتها إزاء أشكال الإنتاج، إنما تقودنا إلى الصورة التالية: عصر الصيد –العائلة الزوجية بهيمنة ذكورية، عصر الرعي- عائلة زوجية بهيمنة ذكورية متفاقمة، عصر الزراعية الدنيا- عائلة زوجية مع هيمنة للمرأة، تبعا لاختلاف الأماكن، ثم خضوع المزارعين للرعاة، وهنا أيضا نعود إلى العائلة الزوجية ذات الهيمنة الذكورية، ثم لتتويج كل هذا التطور: عصر الزراعة العليا –عائلة زوجية بهيمنة ذكورية. وهكذا كما نرى، ها هو السيد غروس يأخذ بعين الجدية نفيه لنظرية التطور الحديثة. فهو لا يرى أن ثمة تطورا في عملية تكون الخلية العائلية. والتاريخ، بالنسبة إليه يبدأ وينتهي، بعائلة زوجية ذات هيمنة ذكورية. وهو –أي غروس- حين ينظر إلى الأمر على هذا النحو –لا يهمه ابدأ واقع أنه بعد أن جهد ليفسر ولادة الأشكال العائلية انطلاقا من أشكال الإنتاج، يعود ليفترض مسبقا تكون العائلة كشيء معطى سلفا ومنجز، هو الشكل الحديث للعائلة، ويدخله دون أي تبديل أو تعديل في كافة أشكال الإنتاج. والحقيقية أن ما يلاحقه غروس عبر الحقب الزمنية، ليس «الخلايا العائلية»، بل –وبكل بساطة- العلاقات بين الجنسين. سيطرة للمرأة أو سيطرة للرجل- هاكم، تبعا لرأي غروس، بذرة الخلية العائلية التي يقصرها على دليل خارجي كان، وبكل ابتذال، قد ربطه بشكل الإنتاج المتعلق بنوعية الإنتاج: صيد، تربية ماشية أو زراعية.
إن السيد غروس أمين وصادق مع نفسه في تبسيطاته هذه. أما أن تكون «الهيمنة الذكورية» أو «الهيمنة الأنثوية» قادرة على استكمال عشرات الأشكال المختلفة للعائلة، أو أن يكون ثمة داخل مستوى حضارة «الصيادين»، مجال لاكتشاف عشرات الأنظمة المختلفة من أنظمة القرابة، فمسائل لا يفكر بها السيد غروس أبدا، تماما مثلما لا يفكر بقضية العلاقات اجتماعية داخل نوع إنتاج معين. وعلى هذا النحو نجد أن العلاقة المتبادلة بين أشكال العائلة وأشكال الإنتاج إنما تقودنا إلى «مادية» مغرقة في روحانيتها هي على النحو التالي: يصار إلى اعتبار الجنسين متنافسين في الأعمال. وأي من الجنسين يعيل العائلة، يكون هو ربها... هذا ما يراود ذهن السفسطائي، وما يراود ذهن قانون الأحوال الشخصية البرجوازي كذلك. ومن هذا كله نرى أن سوء حظ الجنس الأنثوي قد شاء لهذا الجنس أن يكون معيلا للأسرة سوى مرة واحدة في التاريخ: خلال عهد الزراعة الدنيا، بل وحتى في ذلك الحين اضطر الجنس الأنثوي إلى التخلي عن هيمنته ومواقعه للجنس الذكوري المحارب. والحقيقة أن تاريخ العائلة، تبعا لهذا المنطق، ما هو سوى تاريخ استعباد المرأة، ضمن كافة «أشكال الإنتاج» وبالرغم من كافة أشكال الإنتاج.
إن الرابط الوحيد بين أشكال العائلة وأشكال الاقتصاد، ليس في نهاية الأمر سوى الفارق الضئيل بين أشكال أكثر أو أقل قسوة، من أشكال الهيمنة الذكورية. ولكي نختم هذا كله نذكر بأن أول تعويض قدم إلى المرأة المستعبدة في تاريخ الحضارة البشرية، هو ذاك الذي قدمته الكنيسة المسيحية التي قالت بأنه إذا كانت أرض قد عرفت فوارق بين الجنسين، فإن السماء لن تعرف مثل هذه الفوارق. ويقول غروس: انطلاقا من هذا الاجتهاد، أعادت الكنيسة إلى المرأة كرامة ينبغي على تعسف الرجال أن ينحي أمامها» [52]. والواقع أن هذا ما يخلص إليه السيد غروس، حين يرمي مرساته أخيرا في مرفأ الكنيسة المسيحية بعد أن يكون قد تمشى فترة طويلة بين رحاب التاريخ الاقتصادي. وبما أن أشكال العائلة التي قادت علماء الاجتماع إلى «فرضيات غريبة»، يمكن فهمها بشكل مدهش للغاية لذا من السهل النظر إليها في، علاقتها مع أشكال الإنتاج»وعلى المؤمنين السلام!
في هذه الأثناء نجد أن الأكثر إثارة للدهشة، في تاريخ «أشكال العائلة» هذه، هو الطريقة التي تعالج بها شراكة القربى، أو العشيرة حسب تعبير غروس. لقد سبق لنا أن رأينا الدور الهام الذي تلعبه الجمعيات العائلية في الحياة الاجتماعية، خلال المراحل الأولى للحضارة. ولكن، بشكل خاص، منذ برزت أبحاث مورغان التي سجلت انعطافة تاريخية هامة، بتنا نعلم أن تلك الجمعيات كانت، قبل تشكل الدولة الجغرافية (القائمة على وحدة الأراضي)، كانت الشكل الخاص بالمجتمع البشري، وأنها حتى فترة طويلة جدا بعد ذلك، ظلت تشكل الوحدة الاقتصادية والجماعية الدينية. فكيف ترانا نحدد موضع التاريخ الغريب لـ«أشكال العائلية» كما جاء به غروس، بالنسبة إلى هذه الوقائع؟ مما لا شك فيه أنه ليس بوسع إنكار وجود العشائر لدى كافة الشعوب البدائية. ولكن بما أن وجود هذه العشائر يتناقض مع الصورة التي يقدمها عن العائلة الزوجية وعن سيطرة الملكية الخاصة، نراه يبذل كل جهده لتقليص أهميتها إلى الحد الأدنى، اللهم إلا في فترات الزراعة الدنيا. وهو يقول:«لقد ولدت سلطة العشيرة مع ولادة الاقتصاد الزراعي الأدنى، كذلك اختفت مع اختفاء هذا الاقتصاد: وهكذا نرى أن العشيرة لدى كافة المجتمعات الزراعية (ذات الاقتصاد الزراعي الأعلى)، أما أن تكون قد انهارت نهائيا، وأما أنها تعيش انهيارها» [53]،وبهذا نرى أن غروس يبرز «سلطة العشيرة» باقتصادها الشيوعي في مرحلة من مراحل تاريخ الاقتصاد وتاريخ العائلة، ليعود ويلغيها من جديد بعد ذلك على الفور. فكيف، إذن، بوسعنا أن نفسر ولادة، ووجود، ووظائف العشائر خلال أحقاب تطور الحضارة قبل عصر الزراعة الدنيا، بينما «يؤكد» لنا غروس بأنه لم تكن للعشائر آنذاك أية وظيفة اقتصادية، أو أي مداول اجتماعي بالنسبة إلى العائلة الزوجية؟ وما هي، بشكل عام، تلك العشائر التي تعيش وجودها في الظل، وخلف العائلات الخاصة ذات الاقتصاد الخاصة، لدى شعوب الصيادين، كما لدى الرعاة؟ إنه، كما يبدو، سر خاص يمتلكه السيد غروس. وهذا السيد لا يبدي أدنى اهتمام بالتناقض الصارخ بين تاريخه الصغير، وبين جملة من الوقائع المعترف بها عالميا. يقول أن العشائر لم تحز على أهميتها إلا في عصر الزراعة الدنيا، غير أن العشائر ارتبطت في معظم الأحيان بعادات الثأر، وبالعبادة الدينية، وغالبا أيضا بمسألة تعيين حيوان طوطمي (حيوان له صفات القداسة)، إن كل هذه الأمور قديمة، بل هي أقدم من الزراعة، لذا ينبغي عليها، تبعا للنظرية الخاصة بالسيد غروس، أن تستخلص سلطتها من علاقات الإنتاج العائدة إلى مراحل بعيدة عنها بعد السماء عن الأرض. إن غروس يفسر وجود العشائر لدى المزارعين (في الاقتصاد الزراعي الأعلى) الجرمانيين والشلتيين والهنديبن، على أنه إرث من عصر الزراعة المنخفضة حيث تغوص جذور الشلل في اقتصاد ريفي أنثوي. غير أن الزراعة العليا لدى الشعوب المتمدنة، لا تنحدر من الزراعة الأنثوية القائمة على عمليات جمع المحاصيل، بل تنحدر من تربية المواشي، التي كان يمارسها الرجال، وحيث –حسب مال يقول غروس- لم يكن للعشيرة أية أهمية بالنسبة إلى الوضع في الاستغلالية العائلية البطريركية. وتبعا لما يقوله غروس أيضا نجد أن التنظيم في عشائر، لم تكن له أية أهمية لدى الرعاة البدو، وأن هذه العشائر –لم تحصل على السلطة إلا لفترة يسيرة من الزمن حين ثبتت الجماعة في أرض معينة وتحولت إلى الزراعة.
غير أن أفضل الأخصائيين في الحضارات الزراعية يؤكدون لنا على أن التطور الحقيقي إنما تم ضمن اتجاه معاكس: فطالما ظل الرعاة يعيشون حياة بدوية، كانت التنظيمات العشائرية (المستندة على أساس القرابة) تتمتع بالجزء الأكبر من السلطة، ولكن مع بدء حياة الاستقرار الزراعية، بدأ تلاحم العشيرة يتفكك ويتراجع لمصلحة التجمع المحلي للمزارعين الذين كانت مصالحهم المشتركة أكثر أهمية لديهم من تقاليد روابط الدم، وهكذا تحولت الجماعة العائلية، إلى جماعة جغرافية (وحدة الجوار). وهذا هو في لواقع رأي لودفيغ فون مورر، وكولفالفسكي وهنري مين ولافلي... وفي زماننا الراهن هذا، يسعى كوفمان للبرهنة على وجود نفس هذه الظاهرة لدى القرخيزيين والياكوتيين في أواسط آسيا.
ولنشر أخيرا إلى أن غروس يقر بنفسه أن ليس لديه أي تفسير يقدمه للظواهر الهامة التي تتحدر من مجال العلاقات العائلية البدائية، مثل المطريركية (الأمومية)، وأنه سيكتفي، وهو يهز كتفيه، باعتبار الحكم النسائي هذا بمثابة «أغرب الأمور النادرة التي يواجهها علم الاجتماع». وهو يصل إلى حد التأكيد، المذهل، بأن أفكار رابطة الدم، لم يكن لها لدى الاستراليين، أي تأثير على الأنظمة العائلية، وأنه لم تكن أية آثار لوجود العشائر لدى البيروفيين القدماء، وهو يحكم على حضارة الجرمانيين الزراعية. انطلاقا من وثائق لافلي القديمة والقابلة للنقاش، ونراه أخيرا يتبنى، مثلا، ذلك التأكيد الخرافي الذي جاء به لافلي ويقول بأن «الجماعة القروية الروسية ما تزال حتى أيامنا هذه أيضا، تشكل لدى الـ 35 مليون نسمة الذين تضمهم روسيا الكبرى، تجمعا عشائريا قائما على أساس قرابة الدم، أي أنهم جميعا يشكلون «جماعة عائلية» وهو أمر لا يمكننا أن نصدقه إلا إذا آمنا، مثلا، بأن كافة سكان برلين يشكلون، حتى أيامنا هذه، جماعة عائلية كبيرة. والواقع أن كل هذا يدفع بالسيد غروس إلى وصف مورغان «والد الكنيسة الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية» بأنه كلب هالك. والواقع أن الأمثلة الواردة أعلاه حول الطريقة التي يلجأ إليها غروس لمعالجة أشكال العائلة والعشيرة، تعطينا فكرة عن طريقته في معالجة «الأشكال الاقتصادية». والحقيقة أن كل محاججته التي يسوقها ضد الشيوعية البدائية، ترتكز على سلسلة من «الصحيح أن...» و«... اللكن»، صحيح أنه يخضع أمام الوقائع التي من المستحيل دحضها، غير أنه يعارضها بأخرى، بشكل يقلص من أهمية الأشياء التي لا تناسبه وتؤدي إلى تضخيم ما يناسبه، وأخيرا إلى الحصول على النتائج التي ينشدها.
وغروس يورد بنفسه، بصدد صيادي عصر الصيد الأدنى ما يلي: «أن الملكية الفردية، التي تشمل في كافة المجتمعات الدنيا، الأغراض المنقولة، ليست لها ها هنا أية أهمية، غير أن الجزء الأكثر أهمية من الملكية، وهو كلب الصيد، فإنه يخص الجماعة كلها بشكل مشترك، أي أن كل رجال القبيلة يمتلكونه. وكنتيجة لهذه يمكننا القول بأن الغنائم نفسها كانت كذلك توزع بين كافة أفراد الجماعة. وهذا، على سبيل المثال ما ينقله العلماء بصدد جماعات البوتوكودوس. وثمة وجود لمثل هذه العادات في بعض أجزاء أستراليا. إن كافة أعضاء الجماعة البدائية كانوا، ولا يزالون فقراء بالتساوي. وبما أنه ليس ثمة أية فوارق هامة في نسبة الثراء، نجد أن السبب الرئيسي لتشكيل فرق وشيع متميزة عن بعضها، لا وجود له. فبشكل عام، يتمتع كافة الرجال البالغين داخل قبيلة ما... بنفس الحقوق» (ص 55-56) وعلى هذا النحو نجد أن «الانتماء إلى القبيلة يكون ذا نفوذ هام على حياة الصياد. فهذا الانتماء هو الذي يعطيه الحق في استخدام كلب الصيد، كما يعطيه حق (ويفرض عليه واجب) الحماية والثأر» (ص 64). وكذلك نلاحظ أيضا أن غروس يقر بإمكانية وجود شيوعية عشائرية، لدى الصيادين الهنود في كاليفورنيا.
ومع هذا فإن العلاقات العشائرية هنا ضعيفة للغاية، إذ ليست هناك مشاعية اقتصادية. «...فنمط إنتاج الصيادين، نمط فردي، بحيث أن تلاحم العشيرة لا يمكنه أن يصمد طويلا أمام الأطماع». كذلك نجد، لدى الاستراليين «أن الصيد وجني المزروعات في الأراضي المشتركة، لا يمارسان، عامة، بشكل مشترك، إذ أن لكل عائلة منطقة استغلال خاصة بها». وبشكل عام نجد «أن شبح المواد الغذائية، لا يترك أي مجال لتلاحم الجماعة الدائم... بل هو يؤدي إلى تشتتها» (ص63).
والآن لنيمم وجوهنا شطر صيادي العصور الأعلى. صحيح «أن الأرض لدى الصيادين الأعلى تكون أيضا، وبشكل عامة، ملكية جماعية للقبيلة أو للعشيرة» (ص 69) وصحيح، أيضا أننا عند هذا المستوى نعثر على منازل جماعية، أو على عشائر تعيش عيشة مشتركة (ص 84)، وصحيح أن الكتاب يعلمنا بأن «حفر الآبار، وأشغال الإنتاج الهامة التي شاهدها ماكنزي في أنهار الهايدا، والتي ينبغي، تبعا لتقديراته أن تكون من عمل القبيلة كلها، كانت خاضعة لرقابة الزعيم، الذي لا يمكن لأي شخص أن يصطاد فيها إلا بإذن منه. إذن فهذه أشغال والآبار كانت، بكل وضوح، معتبرة كملكية تخص مجموع الجماعة القروية، التي تملك أيضا –دون قسمة- المياه المليئة بالأسماك والأراضي الصالحة لقنص الحيوانات» (ص 87).
كل هذا صحيح، ولكن «الوسائل المنقولة حازت هنا على أهمية جعلت ثمة إمكانية لقيام تفاوت في الثروة، بالرغم من المساواة في ملكية الأرض المشتركة» (ص 69) ثم «بشكل عام، وبصدد الغذاء، تبعا لما يمكننا أن نصدره من أحكام، لا يمكن أن يعتبر ملكية مشتركة، وهو في هذا ذو وضع يشابه وضع الوسائل المنقولة. ولهذا لا يمكننا وصف العشائر العائلية بأنها جماعات اقتصادية، إلا بمعنى محصور جدا للكلمة» (ص 88).
والآن لنستدر صوب مستوى من الحضارة أكثر علوا، مستوى حضارة الرعاة البدو. فبصدد هؤلاء أيضا، يورد غروس ما يلي: صحيح « أنه حتى البدو الأكثر تنقلا لا يتجاوزون حدودا جغرافية معينة، فهم يتحركون داخل أراض محددة تعتبر ملكية خاصة بقبيلتهم، وهي غالبا ما تكون مقتسمة بين مختلف العائلات والعشائر». وبعد ذلك يقول «تعتبر الأرض، في كل الحيز الخاص بالرعي تقريبا، ملكية مشتركة للقبيلة أو العشيرة» (ص 91) «وصحيح أن الأرض هي ملك مشترك لكافة أعضاء العشيرة، وهي تقسم –انطلاقا من هذا الوضع- على يد العشيرة أو الزعيم، بين مختلف العائلات التي تستغلها» (ص 128)
ولكن «الأرض ليست أغلى الممتلكات التي يمتلكها البدوي. فالشيء الأثمن هو القطيع، وهذا القطيع يعتبر على الدوام (!) ملكية خاصة بالعائلات الفردية. ولذا لم تصبح عشيرة الرعاة على الإطلاق (!) جماعة اقتصادية، وهي لم تعرف أية مشاعية في الملكية».
وبعد هذا يأتي مزارعو المستوى الأدنى. فهنا، صحيح، أن العشيرة اعتبرت للمرة الأولى، مشاعية شيوعية تماما. ولكن –وهنا أيضا ثمة «ولكن» تأتي بسرعة -ولكن أيضا ثمة الصناعة التي تأتي للتقليل من شأن المساواة الاجتماعية» (يتحدث غروس هنا عن الصناعة، ولكن من الواضح أنه يعني بهذا إنتاج البضائع، وهو إنتاج يبدو أنه لا يقدر على التمييز بينه وبين العمل الصناعي) وهذه «الصناعة» تخلق ملكية خاصة منقولة تكون ذات أفضلية على الملكية الجماعية للأرض، بل وتدمرها (ص 136-137). إذن بالرغم من مشاعية الأرض، يفيدنا غروس بأن «التمييز بين الغني والفقير موجود ها هنا» بحيث أن الشيوعية لا تعود أكثر من فترة استراحة قصيرة تتخلل التاريخ الاقتصادي، هذا التاريخ الذي يبدأ بالملكية الخاصة... لكي ينتهي أيضا بالملكية الخاصة.
ولكن مهلا... ما يزال ينبغي على عالمنا الفذ أن يبرهن على هذا!




--------------------------------------------------------------------------------

(3)
لكي نتحقق من الصورة التخطيطية التي يقدمها غروس، علينا أن نتجه، رأسا، ناحية الوقائع. فلنتفحص –ولو بنظرة سريعة- نمط الاقتصاد لدى الشعوب ذات المستوى الأكثر انخفاضا. فما هو هذا النمط؟ غروس يسمي هذه الشعوب بـ « شعوب الصيادين ذوي المستوى أدنى» ويقول في صددهم: «أن شعوب الصيادين الدنيا لا تشكل اليوم سوى قطاع صغير جدا من البشرية. فهم بسبب الضعف العددي والفقر الناتجين عن أسلوب إنتاجهم غير المتكامل، تراجعوا في كل مكان أمام الشعوب الأكثر عددا وقوة، بحيث أنهم غير موجودين اليوم، إلا في مناطق الغابات العذراء التي لا يمكن الدخول إليها، وألا في الصحاري التي لا يمكن للبشر الآخرين السكن فيها. ويمكن القول بأن الجزء الأكبر من هذه القبائل البائسة إنما ينتمي إلى أعراق الأقزام. وهم الأكثر ضعفا بين كافة الشعوب، مما جعلهم، في صراعهم في أجل البقاء، يدفعون، من قبل الشعوب القوية، باتجاه المناطق العسيرة، بحيث حكم عليهم بالبقاء على أوضاعهم القديمة جامدين. وعلى أي حال، يمكننا أن نعثر حتى اليوم، وفي كافة القارات باستثناء القارة الأوربية، على ممثلين لأقدم أشكال الإنتاج هذه. ففي أفريقيا ثمة وجود لعدد من شعوب الصيادين ذوي أجساد القصيرة: ولسوء الحظ، ليست لدينا حتى الآن سوى معلومات قليلة، عن واحد من هذه الشعوب هو شعب البوشيمان القاطن في صحراء كالاهاري (في جنوب غرب أفريقيا). أما قبائل «البيغمي» الأخرى فما تزال مختبئة في ظلام الغابات العذراء.
ولنترك أفريقيا لنتجه إلى الشرق. إننا سنلاقي في جزيرة سيلان (عند الطرف الأكثر بعدا إلى الجنوب من شبه الجزيرة الهندية) شعب «الويدا» الصياد، وهو شعب من الأقزام. وأبعد منه، في أرخبيل عندامان، في المنكوبيا، داخل سومطرة، سنلتقي بقبائل الكوبو، أما في جبال الفلبين المتوحشة فلسوف نلتقي بشعوب «العايطاس»... وهذه الشعوب الثلاثة معا تنتمي إلى أجناس الأقزام. وقبل الاستعمار الأوربي، كانت القارة الاسترالية مسكونة من قبل قبائل الصيادين، فإذا كان السكان المحليون قد طردوا من الجزء الأكبر من المناطق الساحلية، بواسطة المستوطنين البيض خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإنهم ما يزالون حتى الآن يعيشون في الصحاري الداخلية.
في أمريكا، بوسعنا أن نتتبع أوضاع مجموعة كاملة من الجماعات البشرية تعتبر حضارتها من أفقر حضارات العالم، وهي مشتتة بين أقصى الجنوب حتى مجاهل الشمال. ففي الصحاري الجبلية عند راس «هورن» (المعتبر آخر نقطة إلى الجنوب في أمريكا الجنوبية) ثمة سكان «أرض النار» الذين تضربهم الأمطار والعواصف، والذين قال أكثر من مراقب أنهم أفقر وأبأس سكان الأرض قاطبة. وعبر الغابات البرازيلية يتجول ويعيش، عدا عن قبائل البوتوكودوس، ذات السمعة السيئة، جماعات أخرى من القناصين منهم البورورو الذين نعرفهم بفضل أبحاث فون ديرشتينن. «أن في كاليفورنيا الوسطى (على الشاطئ الغربي لأمريكا الشمالية) وجودا لمختلف القبائل التي لا يمكن اعتبار مستواها متميزا عن مستوى بؤساء القارة الأسترالية» [54] هذا ما يقوله غروس، وهو دون أن يتمكن من التوقف طويلا عند هذه الظاهرة، يذكر قبائل الاسكيمو بين الشعوب الأكثر انحطاطا في العالم. والآن سوف نستعرض بعضا من القبائل المذكورة أعلاه، باحثين فيها عن آثار تنظيم للعمل مخطط بشكل اجتماعي.
نوجه أنظارنا أول الأمر نحو الجماعات الاسترالية التي يقول عدد كبير من العلماء، أنها تعيش عند المستوى الأكثر انحطاطا في طول كرتنا الأرضية وعرضها، من الناحية الحضارية. لدى زنوج استراليا، يمكننا –قبل أي شيء آخر- أن نعثر على التقسيم البدائي للعمل بين الرجال والنساء (وهو تقسيم سبق لنا أن ذكرناه): فالنساء يشغلن هنا، بشكل رئيسي، المهام المتعلقة بالأغذية النباتية، وبالخشب وبالماء، أما الرجال فيتولون الصيد والمجيء باللحوم.
بالإضافة إلى هذا، نعثر هنا على لوحة تصويرية لنظام العمل متعارضة تمام التعارض مع مسألة «البحث الفردي عن الطعام»، تحمل لنا –في الوقت نفسه- دليلا وافيا على الطريقة التي يتم بها الاستخدام الضروري لكل قوى العمل، في المجتمعات الأكثر بدائية. فمثلا «لدى قبيلة الشيبارا، ينتظر من كافة الرجال القادرين أن يهتموا بالحصول على الطعام. فإذا كان واحد منهم كسولا وفضل البقاء في القرية، سيتعرض لسخرية الجميع منه وإهانتهم له. وها هنا يترك الرجال والنساء والأطفال الأكواخ باكرا عند الصباح حيث يتوجهون للحصول على الطعام. وعندما يصطادون ما فيه الكفاية، يحملون –رجالا ونساء- غنيمتهم ويتوجهون بها إلى أقرب نقطة فيها ماء، حيث يشعلون النار ويشوون الفريسة. والجميع، رجالا ونساء وأطفالا يأكلون معا في جو من التفاهم والانشراح، بعد أن يتم توزيع الطعام بين الجميع بمعرفة الأكبر سنا. ثم بعد الطعام تحمل النساء ما يتبقى منه إلى القرية... أما الرجال فيتابعون صيدهم في طريق العودة» [55].
تلكم كانت بعض المعلومات حول مخطط الإنتاج لدى الزنوج الأستراليين. والواقع أنه –هذا المخطط- بالغ التعقيد والتنظيم حتى في أدق تفاصيله. ولنلاحظ هنا أن كل قبيلة أسترالية تنقسم إلى عدد معين من العشائر التي تحمل كل منها اسم حيوان أو نبات تبجله، كما تمتلك لكل منها قطعة من الأرض محدودة داخل الأرض التي تخص القبيلة. فثمة، مثلا، ارض تخص رجال الكانغارو، وارض أخرى تخص رجال طير الايمو –وهو طير كبير الحجم يشبه النعامة- وثالثة تخص رجال الأفعى (أستراليون يأكلون أفاعي أيضا)... الخ. وتقول آخر المكتشفات العلمية أن كل هذه الطوطمات، ما هي سوى حيوانات ونباتات تستخدم كغذاء، لدى الزنوج الاستراليين. ولكل واحد من تلك الجماعات زعيم ينظم شؤون الصيد ويقوده. ولكن علينا أن نلاحظ بأن اسم النبات أو الحيوان والعبادة المتعلقة به، ليست أمورا خاوية، فالواقع أن كل جماعة تكون مجبرة على الاهتمام بالغذاء الذي تحمل اسمه، وعلى السهر للحفاظ على وجود وديمومة هذا الشيء الذي يشكل مصدرا رئيسيا لغذائها. ونلاحظ أن كل مجموعة لا تتولى الاهتمام بنبات أو حيوان معين، لتستفيد منه هي فقط، بل لكي تستفيد منه باقي الجماعات المنتمية إلى القبيلة. فرجال الكانغارو مجبرون على تزويد باقي أعضاء القبيلة بلحم الكنغارو، ورجال الأفاعي مجبرون على تزويدهم بالأفاعي، ورجال الايمو بالايمو... وهكذا دواليك. ومن الأمور الملفتة للنظر أن كل هذا تصحبه عادات دينية صارمة واحتفالات كبيرة. وتبعا لقاعدة شبه عامة، نجد أنه ليس بوسع أعضاء جماعة ما أن يأكلوا، أو يأكلوا كثيرا، من الحيوان أو النبات الذي يعتبر طوطمهم الخاص، ومقابل هذا يكونون مجبرين على تزويد الجماعات الأخرى بكميات منه. فعلى رجل ينتمي إلى مجموعة الأفاعي، إذا قبض على أفعى، عليه أن يغض النظر عن أكلها، إلا في حالات الجوع المضني، بل عليه أن يحملها إلى القرية حيث يقدمها للآخرين. وكذلك نجد أن الرجل-الايمو، لا يمكنه أن يأكل إلا نذرا يسيرا من لحم الايمو، كما أن من الممنوع عليه بتاتا أن يأكل بيض هذا الطير أو دهنه، إذ أن هذين يستخدمان كدواء، لذا يكون من الضروري عليه أن يسلم ما يحصل عليه منها إلى أعضاء القبيلة. ومن جهة أخرى لا يمكن للمجموعات الأخرى أن تصطاد أو تجمع أو تأكل حيوانا أو نباتا دون إذن من رجال الطوطم ذوي العلاقات بهذا الحيوان أو النبات.
وفي كل عام تحتفل كل مجموعة، بشكل صاخب بعيد يكون الهدف منه ضمان ديمومة الحيوان أو النبات الطوطم (وذلك عن طريق الغناء والموسيقى ومختلف أنواع الاحتفالات الطقوسية)، وهو احتفال يسمح بعد انتهائه للمجموعات الأخرى تناول الطعام المصنوع من الطوطم. ونذكر هنا أن الزعيم –زعيم كل مجموعة- هو الذي يحدد تاريخ الاحتفال، كما يتولى قيادته بنفسه. ويكون هذا التاريخ عادة، على علاقة مباشرة بشروط الإنتاج. فهناك في استراليا الوسطى فصل جفاف طويل تقاسي منه الحيوانات والنباتات بشدة، كما أن هناك فصل أمطار قصير يؤدي إلى تنامي الحيوانات وتكاثر النباتات. ولهذا نلاحظ أن معظم الاحتفالات تكون عند اقتراب الفصل الخير. ويرى العالم الانتروبولوجي راتزل بأن ثمة «سوء فهم مضحك» في الرأي الذي يؤكد بأن الأستراليين إنما يحملون اسم طعامهم الرئيسي [56]. ومع هذا لا يمكننا، بصدد نظام الجماعات الطوطمية الموصوف أعلاه بشكل مختصر، إلا أن نقر، من النظرة الأولى، بوجود تنظيم ناتج عن شروط الإنتاج الاجتماعي. فمن الواضح أن مختلف الجماعات الطوطمية ليست سوى أعضاء وأجزاء في نظام تقسيم للعمل، واسع. فالجماعات تشكل معا، كلا منظما ومخططا، كما أن كل مجموعة تعمل لذاتها حسب أسلوب منظم ومخطط وخاضع لقيادة واحدة. وما واقع أن نظام الإنتاج هذا يأخذ شكلا دينيا، وما شكل كافة أنواع المحظورات الغذائية، وما الاحتفالات كلها، سوى دلائل على أن مخطط العمل هذا عريق جدا وموغل في القدم، وعلى أن هذا التنظيم موجود لدى الزنوج الاستراليين منذ قرون عديدة...
بل ومنذ آلاف السنين، بحيث أنه كان لديه ما يكفي من الوقت للتبلور تبعا لمعادلات وصيغ صارمة، وللتحول إلى سلسلة أفعال الإيمان، وإلى معتقدات ذات علاقة بروابط غيبية غامضة، بعد أن كان في البداية مجرد قضية منفعة عامة من وجهة نظر الإنتاج وتموين الغداء.
إن هذه المعتقدات وعلاقاتها التي اكتشفها الإنكليزيان سبنسر وغيلن، جرى تأكيدها أيضا من قبل عالم آخر هو فريزر. ويقول هذا الأخير: «ينبغي علينا ألا ننسى بأن مختلف الجماعات الطوطمية لا تعيش معزولة عن بعضها البعض في مجتمع طوطمي، بل هي ممتزجة ببعضها وتمارس قواها السحرية في سبيل الصالح العام. ففي النظام البدائي-وإذا لم نكن مخطئين- كان الرجال-الكانغارو، يصطادون ويقتلون هذا الحيوان ليستخدم من قبل كافة الجماعات الطوطمية الأخرى، كما يستخدموه هم أنفسهم... ومما ريب فيه أن الأمر نفسه يمكن قوله بالنسبة إلى طوطم-ايمو، وطوطم-العقاب، وباقي الطوطمات. وفي النظام الجديد ذي الطابع الديني، حيث حظر على الرجل قتل وأكل الحيوانات الطوطمية، تابع الرجال-الكانغارو اصطياد هذا الحيوان... غير أنهم لم يعودوا يصطادونه لكي يستخدموه بأنفسهم، والرجال-الايمو تابعوا اصطياد الايمو من جهة، ودفعه إلى التكاثر من جهة أخرى، بالرغم من أنه لم يكن من حقهم تناول لحمه كغذاء، ورجال-اليسروع CHENILLE تابعوا تطبيق فنون سحرهم في سبيل الحفاظ على ديمومة هذه الحشرة، بالرغم من أنها باتت الآن لا تؤكل إلا من قبل بطون أقوام آخرين»، أي أن ما يقدم لنا على أساس أنه نظام عبادة لم يكن في الواقع، وباختصار، وفي الأزمان السحيقة، سوى نظام بسيط للإنتاج الاجتماعي المنظم يرتبط بتقسيم صارم للعمل.
والآن إذا اتجهنا صوب مسألة توزيع الإنتاج لدى الزنوج الاستراليين، سنواجه هاهنا أيضا، نظاما أكثر تفصيلا وتعقيدا في الوقت نفسه. إذ أن كل شريحة من الغنيمة التي ثم اصطيادها، وكلب قلب عصفور كان يعثر عليه، وكل حفنة من التمر تم جمعها، كانت تعطى لهذا العضو أو ذاك، من أعضاء المجتمع، تبعا لقاعدة ومخطط صارمين. فالأغذية النباتية التي كانت تجمعها النساء، كانت تخصهن وتخص الأطفال. وغنائم الصيد التي كان يأتي بها الرجال، كانت توزع تبعا لقواعد تختلف بين قبيلة وأخرى، لكنها كانت دائما وعلى العموم، قواعد دقيقة للغاية. وعلى هذا النحو، مثلا، لاحظ العالم البريطاني هوويت، نمط التوزيع التالي لدى سكان الجنوب الشرقي الاسترالي، ولاسيما سكان إقليم فيكتوريا:
«يقتل رجل ما حيوان كنغارو على مسافة معينة من المخيم (القرية). يرافقه رجلان، لكن هذين الرجلين لم يساعداه على قتل ذلك الحيوان. إن بعدهم عن القرية مسألة تؤخذ بعين الاعتبار، لذا يصار إلى شي الفريسة قبل حملها إلى القرية. الرجل الأول يشعل النار، والآخران يقطعان الفريسة أربا، والثلاثة يشون المحصول كله ويأكلونه. أما التوزيع بينهم فيتم على الشكل التالي: الرجلان الثاني والثالث يحصلان على فخذ وذنب، وعلى فخذ مع جزء من الالية، وذلك لأنهما شهدا عملية الصيد، وشاركا في الإعداد. الرجل الأول يحتفظ بالباقي ويحمله إلى القرية، فتقوم زوجته بتقديم الرأس وفقار الظهر إلى أهلها، أما الباقي فيقدم إلى أهل الرجل. وهذا الأخير إن لم يكن لديه لحم، يحتفظ بقليل منه، أما إذا كان لديه مسبقا شيء من اللحم، فإنه يتخلى عن باقي ما بقي من الفريسة. وإذا كانت أمه قد حصلت على بعض السمك، فإن بوسعها أن تعطيه بعض ما حصلت عليه، أو يتولى حماه وحماته، تزويده بشيء من السمك من جانبها... ثم يعطيانها كمية أخرى عند الصباح التالي. وفي جميع الأحوال يتولى الجد والجدة، من الجانبين، تزويد الأطفال بما يكفيهم من الغذاء» [57].
وفي قبيلة أخرى، تتم الأمور حسب القواعد التالية: فمن أصل حيوان كنغارو ثم قنصه، مثلا، يحصل القناص على قطعة من الظهر، ويحصل أبوه على الصلب والجوانب والكتفين والرأس، أما الأم فتحصل على الفخذ الأيمن، والشقيق أصغر يحصل على القائمة الأمامية اليسرى، أما الشقيقة الكبرى فتحصل على قطعة من الصلب طويلة، بينما تحصل الشقيقة الصغرى على القائمة الأمامية اليمنى. وهنا يعود الأب ويعطي الذنب وقطعة من الظهر لوالديه. أما من أصل دب تم قنصه، فيحصل القناص على الجانب الأيسر، وأبوه على القائمة الخلفية اليمنى، والأخ الأصغر على اليسرى. بينما تأخذ الأخت الكبرى الصلب وتحصل الصغرى على الكبد. أما الجوانب اليمنى فيحصل عليها شقيق الأب، أما شقيق الأم فيحصل على الكشح (الخاصرة)... أما الرأس فيحصل عليه الرجال بالتساوي.
وفي قبيلة أخرى يجري اقتسام الغذاء، مباشرة، بين كافة الحاضرين. فإذا تم مثلا اصطياد كنغارو صغير (فالابي)، وكان ثمة عشرة أشخاص أو اثني عشر، يتلقى كل واحد منهم قطعة من الحيوان. ولكن شرط ألا يحق لواحد منهم لمس الحيوان أو قطعة منه قبل أن يتولى الصياد توزيعها بنفسه. أما إدا كان الصياد، بالصدفة، غائبا خلال شي الفريسة، لا يحق لأحد لمسها قبل عودته وتوليه مسألة التوزيع بنفسه. أما النساء فيتلقين حصصا مساوية لتلك التي يتلقاها الرجال، بينما يهتم الأهل الكبار بتغذية الأطفال [58].
إن الشكل الطقوسي الذي تتخذه أنماط التوزيع هذه، وهي متنوعة بتنوع القبائل، تنم عن الطابع الموغل في القدم لهذه الأنماط [59]. إذ نجد التعبير فيها، بلا ريب، تقاليد قديمة للغاية تتولى الأجيال جيلا بعد جيل، احترامها بحزم ودقة. والواقع أن هذا النظام كله، يظهر لنا أمرين هامين، بكل وضوح: فمن جهة نجد أن الإنتاج، لدى الزنوج الاستراليين، الذين يعتبرون أكثر أقوام الأرض تخلفا، ليس هو وحده المنظم بطريقة مرسومة، وكقضية جماعية اجتماعية، بل يشاركه في هذا، الاستهلاك، ومن جهة أخرى نجد أن هذا المخطط إنما يهدف إلى تأمين المؤونة لكافة أفراد المجتمع، سواء تبعا لحاجاتهم أم تبعا لإنتاجهم: ففي كافة الظروف، يصار إلى الاهتمام بغذاء المسنين، وهؤلاء بدورهم، مثلهم مثل الأمهات، يتولون الاهتمام بصغار الأطفال. إن الحياة الاقتصادية للاستراليين، سواء من ناحية الإنتاج أو تقسيم العمل أو توزيع الغذاء، إنما هي منظمة بطريقة مرسومة بشكل دقيق للغاية، ومقننة تبعا لقواعد ثابتة موغلة في القدم.
نترك الآن استراليا لنتوجه إلى أمريكا الشمالية. ها هنا نلاحظ أن بقايا الهنود الذين ظلوا متواجدين في الشرق، على جزيرة تيبورون في خليج كاليفورنيا، وعلى جزء يسير من الساحل، يوفرون لنا صورة ذات أهمية خاصة، وذلك لأنهم يعيشون في عزلة تامة، ويواجهون كل الغرباء بروح عدائية. وهم، بفضل هذا، تمكنوا من الحفاظ على النقاء التام لكافة عاداتهم البدائية. ففي عام 1895، قام علماء الولايات المتحدة بعملية غزو عليمة تهدف إلى دراسة هذه القبيلة، ولقد تولى الأمريكي ماكغي تصوير نتائج هذه الحملة. ويقول هذا الأخير بأن قبيلة هنود «ساري» -وهو اسم هذا القوم ذي الحجم الضئيل- تنقسم إلى أربع مجموعات تحمل كل منهما اسما لحيوان معين. والمجموعتان الأكبر هما مجموعة «البجعة» ومجموعة «السلحفاة». ويلاحظ العالم الأمريكي أن المجموعات تحافظ على عادتها وتقاليدها وقواعد عيشها، وكل ما يتعلق بحيواناتها الطوطمية، بشكل سري للغاية، بحيث يصعب التعرف عليها. وحين نعلم أن غذاء هؤلاء الهنود يتألف أساسا من لحم البجع والسلاحف والأسماك، وبقية الحيوانات البحرية، وحين نتذكر النظام المذكور أعلاه والمتعلق بالمجموعات الطوطمية لدى زنوج استراليا، يمكننا التوصل، بدرجة كبيرة من اليقين، إلى أن العبادة السرية للحيوانات الطوطمية، وتقسيم القبيلة إلى مجموعات حسب هذه الحيوانات، ليس، لدى هنود كاليفورنيا، سوى آثار نظام إنتاج قديم للغاية، ومنظم بشكل صارم ويشتمل على تقسيم للعمل تبلور في نوع من الرموز الدينية. والواقع أن ما يعزز هذه الفكرة لدينا هو أن البجعة تعتبر الروح الحارسة العليا لدى هنود «ساري».ويشكل هذا الطير، في الوقت نفسه، أساس الوجود الاقتصادي للقبيلة. فلحم البجعة هو الغذاء الرئيسي، كما أن جلدها يستخدم لصنع الثياب والأسرّة، والأقفال وأدوات مقاومة الغرباء.
ومن جهة أخرى لاحظ العلماء الأمريكيون أن نمط العمل الأكثر أهمية لدى هنود «ساري» وهو الصيد، خاضع بدوره لقواعد صارمة للغاية. فصيد البجع هو عملية منتظمة تنظيميا دقيقا، ولها «طابع نصف-احتفالي» على الأقل، ولا يمكن لصيد هذا الطير أن يجري إلا في حقب معينة، بشكل يتم معه توفير هذا الطير في الفترات التي يتكاثر ويبيض فيها، وذلك لضمان ديمومته وتكاثره». وبعد ذبح الطير (الذي يتم بشكل كثيف دون أن يشكل أية صعوبة بالنظر إلى ثقل وزن هذا الطير) يتم تناول الطعام بصورة جماعية، حيث تنزوي كل عائلة في ركن مظلل لتتلهم نصيبها... وتظل تأكل حتى يداهمها النعاس. وفي اليوم التالي تبحث النساء عن ما بقي من الجثث لتنزع عنها الجلد» ويستمر مثل هذا الصيد لعدة أيام تصحبه احتفالات متنوعة. إن هذه «الوليمة الجماعية» الفخمة التي تجري في الظل وبكثير من الصخب، والتي لا شك أن البروفسور بوخر سيرى فيها دلائل سلوك حيواني لا تخيب، هي في حقيقتها عملية منظمة تمام التنظيم –وما طابعها الاحتفالي سوى الضمانة الكافية لصحة هذا الرأي. فعادة ما يترافق التخطيط للصيد مع تنظيم صارم لعملية التوزيع والاستهلاك. بحيث أن الوليمة المشتركة تتبع نظاما محددا: فأولا يأتي زعيم القبيلة (وقائد الصيد) ثم المحاربين الآخرون حسب أعمارهم، وبعدهم الأطفال (أيضا حسب أعمارهم) حيث يلاحظ أن الفتيات (وخاصة القريبات من البلوغ منهن) يتمتعن بشيء من الامتياز، وذلك بفضل التساهل الذي يمارس تجاه المرأة. «إن بوسع كل فرد من أفراد العائلة أو العشيرة أن يطالب بما يلزمه من الغذاء أو الملبس، ومن مهمة جميع الآخرين السهر على تغطية كل هذه الاحتياجات. أما درجة هذا الإرغام الأخير فتكون، جزئيا، تابعة لتسلسل الجوار، والمكانة ودرجة المسؤولية ضمن المجموعة (وعادة حسب تسلسل السن). إن مهمة الشخص الأول أن يسهر على أن يبقى من الطعام لمن هم دونه، وهذه المهمة الإجبارية تأخذ شكلا تسلسليا انحداريا، حتى تصل إلى ما فيه مصلحة الأطفال الصغار العاجزين، بمفردهم، عن تدبر أمورهم» [60].
وبالنسبة إلى أمريكا الجنوبية، لدينا الشهادة التي أدلى بها البروفسور فون شتينن حول قبيلة البورورو المتوحشة في البرازيل. فهنا أيضا يهيمن التقسيم النموذجي للعمل: تتولى النساء أمر الغذاء النباتي ويبحثن عن ضلوع النباتات الصالحة بواسطة عصا مدببة، وهن لهذا يتسلقن الأشجار ويجمعن ثمار الجوز ويبحثن عن الثمار وما شابهها. والنساء هن اللواتي يهيئن الأغذية النباتية ويصنعن آنية الفخار والآنية الحجرية. وهن، حين يعدن إلى الأكواخ، يعطين الثمر للرجال ليحصلن بالمقابل على ما تبقى من اللحم. أما عملية التقسيم والاستهلاك فتنظمان بشكل صارم.
ويقول فون شتينن: «إذا كانت تقاليد البورورو لا تمنعهم من الأكل سويا، فإن لديهم بالمقابل عادات أخرى غربية تبرهن بكل وضوح على أن القبائل التي تحصل على غنيمة هزيلة، عليها أن توجد من الوسائل ما يكفي للحيلولة دون العراك والخصام ساعة التوزيع». فلقد كانت هناك، على سبيل المثال، قاعدة مدهشة للغاية يقول بأن ما من أحد يحق له شي الفريسة التي يصطادها بنفسه، بل على الصياد أن يعطيها لآخرين يشوونها! ومثل هذه الاحتياطات العاقلة لتتخذ أيضا بالنسبة إلى عملية توزيع الجلد والدفاع عن الحيوانات. فعندما يتم اصطياد نمر مرقط SAGUAR يقام لهذه المناسبة احتفال كبير يتم خلاله أكل اللحم، غير أن الصياد ليس هو الذي يحصل على الجلد والأسنان، بل يحصل عليها أقرب أقرباء آخر هندي (أو هندية) توفي من أفراد القبيلة. أما الصياد فيجري تكريمه حيث يقدم له الجميع هدايا هي عبارة عن ريش ذات احترام خاص، كما يهدى قوسا ثمينا. أما عملية التسوية الأكثر أهمية، في سبيل الحيلولة دون قيام أي خلاف، فتعزى إلى الطيب (أو إلى الساحر أو الكاهن حسب ما يقول الأوربيون عادة). فبهذا ينبغي عليه أن يكون حاضرا حين يتم قتل حيوان ما، وهو الذي يعطي الإذن بتقسيم أجزاء كل حيوان مقتول، أو كل كمية من الثمر، وذلك خلال طقوس احتفالية معينة. أما الصيد فيجري تبعا لمبادرة يقوم بها الزعيم وتحت قيادته. لدى هذه القبائل، يلاحظ بأن الشبان غير المتزوجين يعيشون مع بعضهم البعض عيشة جماعية في «بيت الرجال» حيث يعملون ويصنعون الأسلحة والأدوات ويحيكون ويمارسون بعض الألعاب، وكل هذا بصورة مشتركة، كما يأكلون بشكل مشترك تبعا لنظام وامتثال صارمين،مثلما سبق لنا أن ذكرنا أعلاه. ويقول البروفسور فون شتينن: «إن العائلة التي يموت أحد أفرادها، تشعر أنها أصيبت بخسارة عظيمة... خاصة وأن كل ما كان يستخدمه الميت من أدوات يحرق فور موته، أما جثمانه فيرمي في النهر بعد أن يثقل بكمية من العظام، تمنعه من الطفو ثانية. أما كوخه فسرعان ما ينظف. وهنا يتلقى الباقون من أسرته هدايا جديدة، وتصنع لهم أقواس وأسهم. وتقول التقاليد بأنه حين يقتل نمر مرقط يعطي جلده إلى شقيق آخر امرأة متوفية، أو إلى عم آخر رجل متوف» [61] إذن، نلاحظ من كل هذا أن ثمة تخطيطا وتنظيما محددين للغاية يهيمنان على عملية الإنتاج وكذلك على عملية التوزيع.
والآن إذا اجتزنا القارة الأمريكية لنصل إلى أبعد مناطقها الجنوبية، سنجد في «أرض النار» شعوبا تعيش في مستويات أكثر انخفاضا. فهذه الشعوب تعيش في مجموعة من الجزر غير مضيافة تقع عند أقصى الجنوب من أمريكا الجنوبية. أما معلوماتنا عنها فلا تعود إلى أبعد من القرن السابع عشر، إذ في العام 1698، وبمبادرة من بعض القراصنة الفرنسيين، الذين كانوا منتشرين منذ بضعة أعوام في البحار الجنوبية: أرسلت الحكومة الفرنسية إلى المنطقة حملة استكشافية. ولقد ترك أحد المستكشفين الذين اشتركوا في الحملة، يومياته التي تحتوي على المعلومات المختصرة التالية حول سكان «أرض النار»:
«إن لكل عائلة هنا، وأعني الأب والأم والأطفال غير المتزوجين، زورقا (مصنوعا من تجويف جدع شجرة) تحتفظ في داخله بكل ما تحتاجه، وتنام في داخله حين يدهمها الليل. فإذا لم يكن لهذه العائلة كوخا مبنيا،فإنها تقيم كوخا من الزورق هذا. أو تقيم الكوخ بين مجموعة من الأشجار، حيث تشعل نارا ينام أفراد العائلة حولها، فوق أكواب من العشب. وحين يجوعون يطبخون بعض الأصداف والمحار الذي يوزعه، الأكبر سنا، بينهم بالتساوي. وفي هذه المجموعة لاحظنا أن المهمة الرئيسية والعمل الأساسي للرجال يتقوم في بناء الكوخ، والقنص والصيد، أما النساء فيكون من واجبهن العناية بالزوارق الصغيرة وجمع الأصداف، وهم يصطادون سمكة الرنجة على الشكل التالي: يتوجهون إلى أعلى البحر في خيمة أو ستة زوارق، وحين يعثرون على سمكة يلحقون بها ويضربونها بالسهام الكبيرة التي تكون رؤوسها مصنوعة من العظام أو من الحجارة ومقصوصة بشكل دقيق للغاية... وحين يقتلون السمكة (أو العصفور) أو أي حيوان، أو يحصلون على كمية من السمك أو المحار (وهذه كلها تشكل غذاءهم الرئيسي أو الوحيد) يقسمون المحصول بين كافة العائلات... وهم يتميزون عنا بشيء هام هو أنهم يحتفظون بكل مؤنهم ملكا للمجموعة» [62].
والآن بعد هذه الجولة، نترك أمريكا متجهين إلى آسيا، وهنا يروي لنا العالم الإنكليزي أ.ه.مان الذي أمضى أحد عشرة سنة بين قبائل أقزام المنكوبيا، في أرخبيل عندمان (في خليج البنغال) وحصل بالتالي على معرفة دقيقة تفوق ما يعرفه عنهم كافة الأوربيين، يروي لنا الوقائع التالية:
«يتوزع أهالي منكوبيا على تسع قبائل، كما تنقسم كل قبيلة إلى عدد كبير من المجموعات يتألف كل منها من نحو 30 أو 50 وأحيانا 300 شخص. ولكل من هذه المجموعات زعيمة، كما أن للقبيلة كلها زعيما تفوق مرتبته زعماء الجماعات. غير أن سلطته محدودة للغاية. وهي تتقوم، بشكل أساسي في عملية تنظيم اجتماعات كافة الجماعات التي تتشكل منها القبيلة. إنه هو الذي يقود القنص والصيد والحملات، وهو الذي يحكم حين تنشب الخلافات. وفي داخل كل جماعة يكون العمل مشتركا، كما يكون ثمة تقسيم للعمل بين الرجال والنساء، فالرجال هم الذين يمارسون القنص والصيد وجمع العسل وصنع الزوارق والأقواس والسهام وبقية الأدوات، أما النساء فيحصلن على الخشب والماء وكذلك على الأغذية النباتية، وهن اللواتي يصنعن الحلي ويقمن بأعمال الطبخ. أما العناية بالأطفال فهي مهمة كافة الرجال والنساء الذين يبقون في البيت، وهؤلاء يتولون أيضا العناية بالمرضى والعجائز، وبتوفير النار لكافة الأكواخ، إن كل واحد هنا قادر على العمل، يكون مجبرا على ممارسة العمل لما فيه خيره وخير الجماعة، ومن الأمور المعتادة السهر على أن تكون ثمة على الدوام كميات زائدة من الغذاء، وذلك لتقديمها للأصدقاء العابرين. والأطفال الصغار والضعفاء والعجائز هم موضع رعاية الجميع، وتكون أوضاعهم أفضل مما هي أوضع بقية أفراد الجماعة، ولاسيما فيما يتعلق بسد حاجاتهم اليومية.
«أما بالنسبة إلى استهلاك الطعام، فثمة قواعد محددة أولا بأن الرجل المتزوج لا يمكنه أن يأكل بشكل جماعي إلا مع رجال متزوجين آخرين أو مع عازبين، لكنه لا يقدر أبدا على تناول الطعام مع نساء غير زوجته، اللهم إلا إذا كان متقدما في العمر. أما الأشخاص غير المتزوجين فمجبرون على تناول وجباتهم على حدة: الشبان في جانب، والفتيات في جانب آخر.
«والنساء هن اللواتي يتولين، عادة، تحضير الوجبات، وهن يقمن بهذا، بشكل عام، أثناء غيبة الرجال. فإذا ما كن منهمكات، استثنائيا، بالحصول على الخشب والماء، إبان أيام الأعياد أو خلال فترة يكون فيها الصيد وفيرا، فإن الرجل هو الذي يتولى شؤون الطبخ، والذي ما أن يصبح الطعام نصف ناضج، يقسمه بين الحاضرين، تاركا مهمة استكمال الإعداد والتحضير يقوم بها كل واحد منهم على ناره الخاصة. فإذا كان الزعيم حاضرا، يكون هو الذي يحصل على القطعة الأولى، أي حصة الأسد، ثم يليه الرجال ثم النساء فالأطفال، أما ما يتبقى فيحصل عليه الرجل الذي قام بعملية التوزيع.
«وفي مجال صنع أسلحتهم وأدواتهم وكل ما يحتاجونه، يبدي أهالي مينكوبيا عادة، مثابرة ملحوظة، إذ أنهم يمضون الساعات في تقطيع قضيب من الحديد، بشكل دقيق، وبواسطة مطرقة من الحجر تساعدهم على تسوية القوس...الخ. وهم يتولون مثل هذه الأعمال حتى ولو لم تكن ثمة ضرورة مباشرة، أو متوقعة، تحثهم على هذا الأمر. غير أن الواحد لا يمكنه اتهامهم بالأنانية –كما يفعل البعض- وذلك لأنهم يقدمون أفضل ما يملكونه للآخرين، بحيث أنهم لا يحتفظون بالآلات التي يبدعون في صنعها...كما أنهم لا يحتفظون أبدا بأفضل ما يصنعونه، لأنفسهم» [63].
والآن سوف ننهي سلسلة الأمثلة التي ذكرناها أعلاه بنموذج عن حياة المتوحشين الأفارقة. والواقع أن قصار القامة من قبائل شعب البوشمان في صحراء كالاهاري، يقدمون لنا أكثر الأمثلة تخلفا، على أدنى مستوى بلغته أية حضارة بشرية. ويذكر لنا علماء ألمان وإنكليز وفرنسيون، بالاتفاق فيما بين رواياتهم، جملة من المعلومات تقول بأن البوشيمان يعيشون كجماعات (زمر) تمارس حياة اقتصادية مشتركة. وثمة، في مجموعاتهم الصغيرة، مساواة تهيمن عليهم هيمنة تامة وتشمل المؤن والأسلحة...الخ. وهم يجمعون الأغذية التي يعثرون عليها خلال حملاتهم في أكياس وتفرغ في المخيم «عندئذ –كما يروي الألماني باسارج- تبرز حصيلة اليوم: لحاء شجر، ثمر، أعشاب، حشرات، عصافير، ضفادع، سلاحف، سحالي... بل وأفاعي» وعند هذا يتم توزيع الغنيمة على الجميع. «إن جمع النباتات والثمار ولحاء الشجر، والعصافير الصغيرة أيضا، هو من عمل النساء. وهؤلاء ينبغي عليهن أن يجمعن مؤونة من هذه المواد لاستخدام الجماعة كلها، ويساعدهن في هذا كافة الأطفال. والرجل يأتي كذلك بكل ما يعثر عليه صدفة من هذه الأشياء، غير أنها تكون ثانوية بالنسبة إليه... إذا مهمته الأولى القنص».. وغنيمة القنص تؤكل بشكل مشترك من قبل الجماعة كلها. وأفراد الجماعة يقدمون لمواطنيهم الشريدين والجماعات الصديقة، مكانا يأوون إليه وشيئا من الطعام حول نارهم المشتركة. ويرى العالم باسارج، الأوربي الطيب الذي ينتحل نظارات مجتمعه البرجوازي، يرى في «الفضيلة المبالغ فيها» التي يقاسم، تبعا لها، البوشمان مع الآخرين لكل ما يتبقى لهم، سببا في عدم قدرتهم على التمدن [64]!!
وهكذا نرى إذن، بالنظر لما نعرفه عنهم عن طريق الملاحظة المباشرة، أن الشعوب الأكثر بدائية، وبالتحديد أولئك الأكثر بعد عن الاستقرار المكاني والزراعي، أي المتواجدين عند نقطة الانطلاق في سلسلة التطور، يقدمون لنا صورة تختلف تمام الاختلاف عن «وضعهم» الذي يصوره السيد غروس. فنحن لا نرى، في كل الزوايا، سوى جماعات اقتصادية مشاعية، منظمة أمورها بشكل دقيق، ولديها ملامح نموذجية للتنظيم الشيوعي، ولا تعيش أي «تشتت» أو «في استغلاليات منفصلة». هذا بالنسبة إلى «الصيادين ذوي المستوى الأدنى». أما بالنسبة إلى «صيادي المستوى الأعلى» فإن صورة اقتصادهم العشائري، كما هو عند قبائل الايروكوا، وكما يصفه لنا مورغان بالتفصيل، تكفينا لتكوين صورة متكاملة. لكننا نرى كذلك أن الرعاة يقدمون لنا أيضا مادة كافية لتوجيه تكذيب حازم لكل المزاعم الوقحة التي يأتي بها غروس [65].
إن المشاعية الزراعية في «المارش» ليست الوحيدة إذن، بل هي الأكثر تطورا، وهي ليست الأولى، بل الأخيرة بين التنظيمات الشيوعية البدائية التي نلاقيها خلال تفحصنا للتاريخ الاقتصادي. عن هذا التنظيم الشيوعي البدائي، نفسه، ليس نتاجا من نتاجات الزراعة، بل واحدا من أقدم التقاليد الشيوعية، ولقد ولد في صلب التنظيم العشائري، وانتهى إلى المجتمعات الزراعية، ووصلت فيه الشيوعية إلى قمة باتت تعجل من انهياره. والحقيقة أن الوقائع لا تؤيد أيا من صور غروس. فإذا ما طلبنا منه تفسيرا لهذه الشيوعية، هذه الظاهرة الهامة التي انبثقت في أواسط التاريخ الاقتصادي لتعود وتختفي بعد فترة، سيكتفي بأن يقدم لنا واحدة من تفسيراته «المادية» الروحانية ويقول: «لقد رأينا في الواقع أنه إذا كانت العشيرة قد حازت على قدر فائق من الصلابة والسلطة لدى مزارعي المستوى الأدنى، مما هو لدى الشعوب التي لديها أنماط حضارة أخرى، فما هذا إلا لأن العشيرة تبرز على شكل جماعة سكنية وتمارس جماعية الملكية والاقتصاد. أما أن تكون قد توصلت إلى هذا المستوى من النمو، فأمر تفسره لنا بدوره طبيعة الزراعية الدنيا التي توجد فيما بينهم، بينما نلاحظ أن القنص يبعد البشر عن بعضهم، مثلما هو الحال مع تربية المواشي» (ص 15)، وبكلمات أخرى أن «الاجتماع» أو «التشتت» المكاني للبشر هو الذي يحدد هيمنة الشيوعية أو الملكية الخاصة. ومن المؤسف هنا أن السيد غروس قد نسي أن يفسر لنا كيف حدث أن الغابات والبراري –حيث يبتعد الناس عن بعضهم البعض طوعا –قد ظلا لفترة طويلة من الزمان (بل حتى أيامنا هذه في بعض الأماكن) ملكية جماعية، بينما تحولت الحقول (التي «تجمع» الناس مع بعضهم البعض) إلى ملكية خاصة منذ وقت مبكر. وخسارة أن السيد غروس هذا لا يفسر لنا لماذا، طوال التاريخ الاقتصادي، لم يؤد نمط الإنتاج الذي «يجمع» كافة البشر (أعني الإنتاج الصناعي الكبير)، لم يؤد إلى إنتاج الملكية الجماعية، بل على العكس، أدى إلى نشوء أسوا أنواع الملكية الخاصة، أعني الملكية الرأسمالية.
ها نحن نرى إذن أن «مادية» غروس، ما هي سوى دليل جديد على أنه لا يكفي التحدث عن «الإنتاج» ومدلوله بالنسبة إلى مجمل الحياة الاجتماعية، للحصول على مفهوم مادي للتاريخ، وعلى أن المادية التاريخية، بشكل خاص، إذا فصلت عن المفهوم الثوري للتطور، تصبح شيئا لا معنى له أشبه بركام من الخشب الفاسد بدلا من أن تكون، كما هو وضعها لدى ماركس، ضربة من ذهن عبقري.
إن ما يتبدى أمامنا للوهلة الأولى، هو أن السيد غروس، في نفس الوقت الذي يكثر فيه من الثرثرة حول الإنتاج وأشكاله، لا يمكنه أن ينظر بوضوح وتفهم، إلى المفاهيم الأكثر عمقا ذات العلاقة بعلاقات الإنتاج. لقد سبق لنا أن رأينا بأن غروس يفهم بـ«أنماط الإنتاج» مقولات خارجية تماما مثل الصيد وتربية الماشية والزراع. وإذن، في سبيل الإجابة، داخل كل واحد من «أنماط الإنتاج» هذه، على السؤال المتعلق بشكل الملكية –ملكية مشاعية، عائلة أو خاصة –أو بمن هو المالك الحقيقي، نلاحظ أن البروفسور يميز بين مقولات مثل «الملكية العقارية» و «الأملاك المنقولة». ثم حين يجد مالكين مختلفين لمختلف أشكال الملكية هذه، ينصرف إلى التساؤل عن «أي نوع من الملكيات هي الأهم» ومن ثم يجعل من «الملكية الأهم» نمط الملكية المهيمن في المجتمع. وهو يقول، مثلا، بأن لدى الصيادين- على المستوى الأرفع- «حازت ملكية الأغراض المنقولة على أهمية فائقة» بحيث أضحت أكثر أهمية من الملكية «العقارية» وبما أن الأغراض المنقولة، بما فيها الطعام مثلا، هي ملكية خاصة يستنتج غروس بأن عليه ألا يقر بوجود اقتصاد شيوعي، بالرغم من الملكية المشاعية للأرض.
غير أن هذه التمييزات، القائمة على أساس خارجي بحت –أشياء منقولة أو ثابتة- ليس لها في الواقع أي مدلول بالنسبة إلى الإنتاج، وهي –تقريبا- تقف على ذات المستوى الذي تقف عنه بقية التمييزات التي يحددها غروس بين أشكال العائلة، تبعا للهيمنة الذكورية أو الأنثوية، أو بين أنماط الإنتاج تبعا لإثارتها المشتتة أو الموحدة. قد تكون «الأغراض المنقولة» تتألف من مؤن، من مواد أولية، من أدوات ثقافية أو من أدوات عملية. وقد يكون بالامكان صنعها للاستعمال الخاص أو للتبادل. وتبعا للاتجاه المعين، تكتسب هذه الأغراض أهمية مختلفة تماما بالنسبة إلى علاقات الإنتاج. غير أن غروس يطلق حكمه على علاقات الإنتاج وعلاقات الملكية لدى الشعوب، انطلاقا من المؤن ومن أغراض الاستهلاك الأخرى بالمعنى الواسع للكلمة –وبهذا يقدم السيد غروس نفسه كواحد من الممثلين النموذجيين للعلم البرجوازي المعاصر. فإذا ما وجد هذا السيد أن الأفراد هم الذين يتملكون الأغراض الاستهلاكية ويستهلكونها، فإن الملكية الخاصة، بنظره، هي التي تهيمن على الشعب المعني. والواقع أن هذا هو الأسلوب الذي يستخدم هذه الأيام من أجل نقض الشيوعية البدائية «علميا» [66]. إذ، تبعا لوجهة النظر العميقة هذه، نجد أن جماعة الشحاذين التي تلاقيها غالبا في مناطق الشرق، والتي تحصل على الفضلات وتستهلكها بشكل جماعي، أو عصابة اللصوص التي تستفيد بشكل تضامني جماعي من منتوج السرقات، هما اللتان تمثلان «جماعية اقتصادية شيوعية» بالمعنى النقي للكلمة. وعلى عكس هذا، نجد –وأيضا تبعا لوجهة النظر نفسها- أن الجماعة الزراعية التي تملك وتزرع الأرض بشكل مشترك، لكنها تستهلك ثمار العمل بوصفها عائلات متفرقة لا يمكن اعتبارها تعيش في «مشاعية اقتصادية إلا بالمعنى الضيق جدا لكلمة». أي باختصار، أن ما يقرر طابع الإنتاج، وكذلك تبعا لنفس المفهوم الذي نتحدث عنه، هو حق الملكية الذي يتعلق بالأغراض الاستهلاكية، وليس بأدوات الإنتاج ، أي بشروط التوزيع وليس بأوضاع الإنتاج نفسه. ونحن، ها هنا، وصلنا إلى نقطة مركزية في مسألة الاقتصاد السياسي، وهي نقطة ذات أهمية فائقة للغاية في سبيل فهم شامل للتاريخ الاقتصادي بأسره.
لهذا يجدر بنا أن ندع البروفسور المحترم غروس لمصيره، ولنوجه كل اهتمامنا وعنايتنا نحو مسائل أكثر جدية وأهمية.



--------------------------------------------------------------------------------

(4)
إن على كل من يتصدى لدراسة التاريخ الاقتصادي، ويريد معرفة مختلف الأشكال التي تتخذها العلاقات الاقتصادية لمجتمع ما خلال تطوره التاريخي، عليه أن يعرف، أولا، وبكل وضوح، أي طابع مميز من طوابع هذه العلاقات الاقتصادية، عليه أن يأخذه كحجر للأساس وكوحدة لقياس هذا التطور. وعليه، لكي لا يضيع ضمن وفرة الظواهر في مجال محدد، ولاسيما لكي يكتشف نظام تعاقبها التاريخي عليه أن يعرف، وبكل وضوح، أي عامل هو المحور الداخلي الذي تدور من حوله هذه الظواهر. لقد اتخذ مورغان لقياس تاريخ الحضارات، وكحجر أساس للمستوى الذي وصلت إليه هذه الحضارات، عاملا محددا للغاية هو تطور تقنية الإنتاج. وهو، إذ فعل هذا، نظر إلى الحضارة البشرية كلها في جذورها، وعرّى هذه الجذور. غير أن مقولة مورغان ليست بكفاية بالنسبة إلى التاريخ الاقتصادي. فالواقع أن تقنية العمل الاجتماعي تظهر لنا المستوى الذي وصل إليه البشر في مجال الطبيعة الخارجية. وكل خطوة إلى الأمام على طريق تحسين تقنية الإنتاج، هي في الوقت نفسه، خطوة إلى الأمام على طريق خضوع الطبيعة المادية للعقل البشري، وخطوة إلى الأمام على طريق تطور الحضارة البشرية العالمية. في هذه الأثناء، إذا كنا راغبين في دراسة أشكال الإنتاج داخل المجتمع، لا تكفينا علاقات الإنسان بالطبيعة على الإطلاق لتحقيق هذا، وذلك لأن ما يهمنا، بالدرجة الأولى، هو سمة أخرى من سمات العمل البشري: إنها سمة علاقات البشر بين بعضهم البعض خلال العمل، وأعني بهذا: التنظيم الاجتماعي للإنتاج. فإذا كنا نعلم أن شعبا بدائيا يعرف «دورة صانعة الخزف» ويصنع الآنية، يكون هذا شيئا مميزا يدل على درجة الحضارة التي وصل إليها هذا الشعب. ولقد جعل مورغان من هذا التقدم الهام للتقنية إشارة، ذات دلالة، لمرحلة كاملة من مراحل الحضارة، عرفها بأنها مرحلة العبور من الحالة الوحشية إلى البربرية. غير أنه ليس بامكاننا، بعد، أن نحكم على نمط الإنتاج لدى هذا الشعب انطلاقا من هذا الأمر. بل يتوجب علينا، للوصول إلى هذا، أن نعرف مجموعة كاملة من الظروف، وأن نعرف من هو الذي يمارس، في هذا المجتمع، فن صنع الآنية، وأن نعرف ما إذا كان كافة أفراد المجتمع، أو قطاعا منه فقط، عائلة مثلا، أو النساء، هم الذين يتولون صنع الآنية بشكل جماعي، وأن نعرف ما إذا كان نتاج صنع الآنية (أي الآنية نفسها) يستخدم من قبل الجماعة نفسها، القرية مثلا، لاستخدامها الخاص، أو أنه يستخدم للتبادل مع جماعات أخرى، وأن نعرف ما إذا كان إنتاج كل فرد يصنع الآنية، يستخدم من قبل هذا الشخص فقط، أم أن كافة الآنية المصنوعة تستخدم بشكل جماعي من قبل كافة أعضاء الجماعة.
إن العلاقات الاجتماعية القادرة على تحديد طابع نمط الإنتاج في مجتمع ما، متعددة ومتنوعة: تقسيم العمل، توزيع المنتوج بين المستهلكين، تبادل...الخ. وهذه السمات الخاصة بالحياة الاقتصادية هي نفسها تخضع في تحديدها لهيمنة عامل حاسم من عوامل الإنتاج. للوهلة الأولى من الواضح أن تقسيم المنتوج وتبادله، لا يمكنهما إلا أن يكونا ظاهرتين متحدرتين من ظواهر أخرى. إذ لكي يمكن توزيع المنتوج وتبادله بين المستهلكين، ينبغي-أول الأمر- صنعه. إذن فالإنتاج هو العامل الأول والأكثر أهمية في الحياة الاقتصادية للمجتمع. والعامل الحاسم في سيرورة الإنتاج هو السؤال التالي:
ما هي العلاقات بين أولئك الذين يعملون، وبين أدوات الإنتاج؟
إن كل عمل يتطلب عددا من المواد الأولية، ومكانا محددا للقيام بالعمل ثم... بعض العدد (بضم العين). ونحن نعلم، مسبقا، أية أهمية تكون لهذه العدد، ولمسألة صنعها، داخل حياة المجتمع البشري. وإلى هذا كله تضاف قوة العمل البشري، وذلك من أجل إنجاز العمل بالاشتراك مع هذه العدد وأدوات الإنتاج الأخرى، ومن أجل إنتاج المواد الاستهلاكية الضرورية لحياة المجتمع. بيد أن المسألة الأولى في الإنتاج والعامل الحاسم فيه، هي علاقات البشر العاملين مع وسائلهم الإنتاجية. نحن لا نتحدث هنا عن العلاقات التقنية، ولا عن الطابع الأكثر أو الأقل اكتمالا لأدوات الإنتاج التي يستخدمها الناس، ولا عن الطريقة التي بها ينجزون عملهم. إننا نتحدث عن العلاقات الاجتماعية بين قوة العمل البشري، وبين أدوات الإنتاج الجامدة... ونطرح السؤال الأساسي التالي: من هو الذي يملك أدوات الإنتاج؟ على مجرى الزمن، حدثت في هذه العلاقات تغييرات عديدة. وفي كل مرة كان طابع الإنتاج وتوزيع المنتوج، والشكل الذي يتخذه تقسيم العمل، واتجاه التبادل وأهميته، وباختصار كل الحياة المادية والذهنية للمجتمع، كان هذا كله يتعرض لتغييرات أساسية. وتبعا لما إذا كان العاملون يمتلكون –شراكة- أدوات إنتاجهم، أو أن كلا منهم يمتلكها بنفسه، أو إذا كان العاملون –على عكس هذا- هم، مثل أدوات الإنتاج نفسها، مملوكين لأولئك الذين لا يعملون، أو أنهم مربوطون –كعبيد- إلى أدوات الإنتاج، أو أحرار لكنهم لا يملكون أدوات الإنتاج مما يجبرهم على بيع قوة عملهم بوصفها واحدة من أدوات الإنتاج- تبعا لمعرفة هذا كله نصبح إما أمام اقتصاد شيوعي، أو اقتصاد فلاحين صغار، أو اقتصاد حرفي، أو اقتصاد عبودي، أو اقتصاد فيودالي –إقطاعي-، أو حتى اقتصادي رأسمالي يرتكز على العمل المأجور.
إن لكل واحد من هذه الأنماط الاقتصادية، شكل تقسيم العمل الخاص به، وكذلك أسلوب توزيع الإنتاج والتبادل والحياة الاجتماعية، القضائية أو الذهنية. وحسبنا، في التاريخ الاقتصادي للبشر، أن تكون العلاقات بين العاملين وأدوات الإنتاج، خاضعة لتغير جذري، لكي تتغير كافة السمات الأخرى الخاصة بالحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية، وبشكل جذري أيضا، وكذلك لكي يولد مجتمع جديد تمام الجدة. وثمة، كما هو واضح، نوع من التفاعل المتبادل المستمر بين كل هذه السمات العائدة إلى الحياة اقتصادية للمجتمع. فليس فقط أن علاقات قوة العمل بأدوات الإنتاج تؤثر على تقسيم العمل وعلى توزيع الإنتاج وعلى التبادل، بل أن هذه العوامل بدورها تؤثر على علاقات الإنتاج. غير أن طريقة التأثير تختلف. فتشكل تقسيم العمل الذي يهيمن في كل مرحلة اقتصادية، وتوزيع الثروات، والتبادل، كلها أمور بامكانها أن تنسف، شيئا فشيئا، العلاقات بين قوة العمل وأدوات الإنتاج التي تكون قد تمخضت عنها. بيد أن شكلها لا يتغير، إلا حين يحدث انقلاب جذري، وثورة في العلاقات، المتجاوزة، بين قوة العمل وأدوات الإنتاج. فهل تشكل الانقلابات في العلاقة بين قوة العمل وأدوات الإنتاج، يا ترى، تلك الانعطافات الأساسية على طريق مسيرة التاريخ الاقتصادي؟ وهل تراها تحد من حيز المراحل الطبيعية في الصيرورة الاقتصادية للمجتمع؟ إنه لمن المهم جدا لفهم التاريخ الاقتصادي، أن نميز بوضوح بين الأساسي وغير الأساسي، وهذا ما يوضحه لنا تفحص دقيق للمنهج المقبول أكثر من غيره الآن في ألمانيا من قبل الاقتصاد السياسي البرجوازي، والمعمول به بشكل اعتيادي لتقسيم التاريخ الاقتصادي. ويراود ذهننا، في هذا المقام، التقسيم الذي أتى به البروفسور بوخر. ففي كتابه المسمى «تكوّن الاقتصاد القومي»، يعرض هذا الأستاذ، أهمية القيام بتقسيم صحيح، حسب المراحل، من أجل فهم التاريخ الاقتصادي. وهو، حسب عادته، لا يتصدى للمسألة ببساطة لكي يقدم لنا حصيلة أبحاثه العقلانية، بل يبدأ بأن يهيئنا لفهم عمله، عن طريق التوقف طويلا عند كل النقائص التي تميز أبحاث كافة العلماء الذين سبقوه.
لقد كتب بوخر يقول:
«إن أول سؤال سيكون على أخصائي الاقتصاد السياسي الذي يريد فهم اقتصاد شعب عاش في فترة موغلة في القدم، أن يطرحه على نفسه هو: الاقتصاد... هل هو اقتصاد قومي؟ وظواهر هذا الاقتصاد هل تراها تنتمي إلى نفس الجوهر الذي ينتمي إلى نفس الجوهر الذي ينتمي إليه اقتصاد التبادل الذي نعرفه اليوم، أم ترى الاقتصادين يختلفان عن بعضهما البعض بشكل أساسي؟ ونحن لا يسعنا أن نجيب على هذا السؤال إن لم نبتعد عن دراسة الظواهر الاقتصادية للماضي، استنادا إلى نفس أساليب التحليل المفهومي، وأساليب التفحص السيكولوجية، التي برهنت عن تفوق تام بين أيدي معلمي الاقتصاد السياسي القديم «التجريدي»، بالنسبة إلى دراسة اقتصاد زمننا الراهن.
«ونحن ليس بمقدورنا أن ندفع عن المدرسة «التاريخية» الحديثة، التهمة الموجهة إليها والقائلة بأنها قد نقلت إلى دراسة الماضي، وتقريبا دون تفحص ، نفس المقولات التجريدية المعتادة المطبقة على ظواهر الاقتصاد القومي الحديث، بدلا من التغلغل في جوهر الحقب الاقتصادية السابقة، أو بأنها قد أساءت استخدام مفاهيم اقتصاد التبادل إلى درجة أنها باتت تبدو قادرة على التأقلم والتكيف مع كافة الفترات الاقتصادية. وهذا الأمر لا يلحظ في أي مكان آخر. أكثر مما يلحظ في الطريقة التي يتم عبرها التحدث عن الفروقات بين الاقتصاد الراهن للشعوب المتمدنة، وبين اقتصاد الحقب الماضية، أو الشعوب المفتقرة إلى الحضارة. وتنتج هذا عن طريق تعداد مراحل التطور المزعومة، وهو تعداد يتم عبره تلخيص كل مسيرة التطور التاريخي للاقتصاد في شعار واحد.. إن كافة المحاولات السابقة من هذا النوع تعاني من عيب واحد: فهي لا توفر لنا أي سبيل للوصول إلى جوهر الأمور... بل تظل عند القشور» [67].
فأي تقسيم للتاريخ الاقتصادي يقترحه علينا البروفسور بوخر الآن؟ فلنصغ إليه: «إذا ما رغبنا في إدراك كل هذا التطور انطلاقا من وجهة نظر وحيدة، فلن تكون هذه الوجهة –على الأرجح- سوى تلك التي تجعلنا ندرك الظواهر الأساسية للاقتصاد القومي، غير أنها تكشف لنا، في الوقت نفسه، العامل المنظم للحقب الاقتصادية السابقة. وهذا لا يمكنه أن يكون سوى العلاقة بين إنتاج المواد واستهلاكها، أو بالتحديد: طول الطريق التي تجتازها المواد لتصل من عند المنتج إلى عند المستهلك. وانطلاقا من وجهة النظر هذه، سنتوصل إلى التقسيم التالي لكل التطور الاقتصادي، أو على الأقل للتطور الخاص بشعوب أوربا الوسطى والغربية، حيث يمكننا متابعة التقسيم مع الكثير من الدقة، والتقسيم يتضمن مراحل ثلاث:
1-مراحل الاقتصاد المنزلي المغلق (وهو إنتاج يتم لمصلحة المنتج نفسه، أي لا يجري تبادله)، وهذه المرحلة يتم فيها استهلاك المراد في المكان الذي تنتج فيه.
2- مرحلة الاقتصاد المديني (إنتاج من اجل الزبائن، تبادل مباشر)، وهذه المرحلة تمر فيها البضائع بشكل مباشر من الاقتصاد الإنتاجي إلى اقتصاد الاستهلاك.
3- مرحلة الاقتصاد القومي (إنتاج سلعي، توزيع ودورة للمواد المنتجة)، وهي مرحلة يكون على المواد المنتجة، خلالها، أن تتحول عن طريق سلسلة من الاقتصاديات قبل أن تصل على مرحلة الاستهلاك» [68].
إن هذه الصورة التي يقدمها لنا بوخر عن التاريخ الاقتصادي، مهمة أولا بالنسبة إلى ما لا تحتويه. فبالنسبة إلى هذا البروفسور، يبدأ التاريخ الاقتصادي بالمشاعية الزراعية التي عرفتها شعوب أوربا المتمدنة، أي بالزراعة كما في مستواها الأعلى. أما كل المرحلة، التي يبلغ طولها ألوف السنين، وحيث كانت تهيمن علاقات إنتاج سابقة للزراعة العليا، وهي علاقات ما زالت تهيمن حتى الآن على عدد من الأقوام، فان بوخر –كما نعلم- يصفها بأنها مراحل «لا-اقتصادية»، أو مراحل ما يسمى بـ«البحث الفردي عن الغذاء» و«اللا-عمل». وعلى هذا يبدأ البرفسور بوخر تاريخ الاقتصاد، بهذا الشكل الأكثر تأخرا من أشكال الشيوعية البدائية، وهو الشكل الذي يحتوي في داخله، مع الحياة المستقرة والزراعة العليا، بذور انحلاله الحتمي وتحوله إلى اللامساواة والاستغلال، أي إلى المجتمع الطبقي. فإذا كان غروس قد أنكر وجود الشيوعية في كل المرحلة السابقة على الشيوعية الزراعية، فإن بوخر يمحى تلك المرحلة من مراحل التاريخ الاقتصادي، بصورة تامة.
ولنلاحظ بأن المرحلة الثانية (مرحلة «الاقتصاد المديني» المغلق) ما هي سوى اكتشاف مثير ندين به إلى «العين العبقرية الثاقبة» التي يتمتع بها بروفسور لابسيغ (كما قد يحلو لبروفسور آخر اسمه شولتز أن يقول). فإذا، على سبيل المثال، كان «الاقتصاد المنزلي المغلق» لجماعة زراعية يتميز بواقع أنه يشتمل على حلقة من الأشخاص الذين يستجيبون، جميعا، لحاجاتهم الاقتصادية داخل هذا الاقتصاد المنزلي، فإن الأمر معاكس لهذا تماما بالنسبة إلى مدن أوربا الوسطى والغربية في العصر الوسيط (فهذه وحدها، بالنسبة إلى البروفسور بوخر، وهي التي تشكل «الاقتصاد المديني»-. وفي المدينة القروسطية ليس هناك من «اقتصاد» مشاعي، بل – ولكي نستخدم تعبير البروفسور بوخر نفسه- عدد من «الاقتصاديات» يساوي عدد المشاغل والمنغلقات الحرفية، حيث كل واحد ينتج ويبيع ويستهلك لنفسه، حتى ولو كان يتم تبعا للقواعد العامة المعمول بها في المنغلق الحرفي وفي المدينة. بيد أن المدينة القروسطية الألمانية، أو الفرنسية، لم تكن تشكل حيزا اقتصاديا «مغلقا»، وذلك لأن وجودها كان يرتكز، بشكل مباشر، على عملية التبادل مع الريف الذي منه كانت تتلقى المواد الغذائية والمواد الأولية، ولأجله تصنع المنتجات الصناعية. لقد بنى بوخر، حول كل مدينة، بيئة ريفية منغلقة ضمها إلى «الاقتصاد المديني» للمدينة، محولا –لتسهيل تمرير آرائه- عملية التبادل بين المدينة والريف إلى عملية تبادل مع الفلاحين المجاورين عن قرب. أما بلاطات السادة الإقطاعيين الأغنياء، الذين كانوا يشكلون أفضل الزبائن للتجار المدينيين، والمشتتة قصورهم، جزئيا، في الريف بعيدا عن المدينة، مع مراكز رئيسية لهم، وجزئيا أيضا، داخل المدينة –ولاسيما في المدن الإمبراطورية والكنيسة- يكوّنون داخلها مجالهم الاقتصادي الخاص، فلقد تركهم السيد بوخر على حدة. وكذلك يغض بوخر نظره عن التجارة الخارجية التي كانت ذات أهمية قصوى بالنسبة إلى الحياة الاقتصادية القروسطية، ولاسيما بالنسبة إلى مصير المدن نفسها. أما ما كان يمثل طابعا مميزا للمدن القروسطية، وهو واقع أن هذه المدن كانت مركز الإنتاج السلعي (السوقي) الذي تحول للمرة الأولى –ولو في أرض محدودة للغاية- إلى شكل (نمط) الإنتاج المسيطر، فإن البروفسور بوخر يتجاهله تمام التجاهل. بل على عكس هذا تماما نجد أن الإنتاج السلعي يبدأ، في نظره، مع «الاقتصاد القومي»- ونحن نعلم الآن بان الاقتصاد السياسي البرجوازي قد اعتاد إطلاق هذا الاسم على النظام الراهن الذي هو نظام الاقتصاد الرأسمالي، أي هو ««مرحلة» في الحياة الاقتصادية تكمن ميزتها الأساسية في أنها لم تعد مرحلة الإنتاج السلعي، بل مرحلة الإنتاج الرأسمالي-. إن غروس يطلق، وبكل بساطة، اسم «صناعة» على الإنتاج السلعي، غير أن البروفسور بوخر، يحول –وبكل بساطة أيضا- الصناعة إلى «إنتاج سلعي»، وذلك لكي يبرهن على تفوق أستاذ للاقتصاد على عالم اجتماع بائس. والآن لننتقل من هذا كله إلى المسألة الرئيسية. فالأستاذ بوخر يقدم «الاقتصاد المنزلي المغلق» على أساس أنه أول «مرحلة» في تاريخـ«ه» الاقتصادي. فما الذي يقصده بهذا؟ لقد سبق لنا أن أشرنا إلى أن هذه المرحلة تبدأ مع المشاعية القروية الزراعية. وبالإضافة إلى المشاعية الزراعية البدائية، يصنف الأستاذ بوخر أنماطا تاريخية أخرى فيما بين «الاقتصاديات المنزلية المغلقة»، منها الاقتصاد العبودي الذي عرفه اليونانيون والرومانيون القدماء، واقتصاد البلاط الإقطاعي. وعلى هذا نجد أن كل التاريخ الاقتصادي للبشرية منذ ظلمات ما-قبل-التاريخ، مرورا بالزمن الكلاسيكي القديم والعصر الوسيط، حتى عتبة الأزمان الحديثة، ينضوي تحت لواء «مرحلة» الإنتاج، التي يتعارض معها الاقتصاد الرأسمالي الراهن بوصفه مرحلة ثالثة، والمدينة القروسطية الأوربية باعتبارها مرحلة ثانية. أي أن التاريخ الاقتصادي كما يعرفه البروفسور بوخر، يصنف المشاعية القروية الشيوعية القائمة بهدوء في مكان ما عند واد جبلي في ولاية البنجاب بالهند، والاقتصاد المنزلي الذي ساد في زمن بركليس في عز ازدهار الحضارة الأثينية، والبلاط الإقطاعي الذي ساده أسقف بامبرغ في العصر الوسيط، ضمن «مرحلة اقتصادية» واحدة ووحيدة. إن أي ولد، سبق له أن حصل عبر كتبه المدرسية على شيء من المعلومات التاريخية السطحية، سيقر بأن هذه الظواهر ما هي –في الواقع- سوى ظواهر مختلفة واحدة عن الأخرى. فالمشاعيات الزراعية الشيوعية، عرفت مساواة في الحقوق والممتلكات بين الجماهير الفلاحية، واليونان وروما القديمتان، كما هو الحال بالنسبة إلى أوربا الإقطاعية، عرفنا تناقضا عنيفا بين الشرائح الاجتماعية: بين الأحرار والعبيد، بين المحظوظين ذوي الامتيازات، والمحرومين من كل حق، بين السادة والخدم، وبين الثراء والفاقة. هناك كان ثمة ما يجبر الجميع على العمل، أما ها هنا فإن ثمة تعارضا بين جمهرة العمال المستعبدين، وبين أقلية من الأسياد الذين لا يعملون. لقد كان، بين الاقتصاد العبودي لدى اليونانيين والرومانيين القدماء، والاقتصاد الإقطاعي في العصر الوسيط، فارق كبير، بحيث أن العبودية القديمة قد أدت، في نهاية الأمر، إلى تدمير الحضارة هلينو-رومانية، بينما اشتملت الإقطاعية القروسطية، في داخلها، على حرفية المنغلقات، جنبا إلى جنب مع التجارة المدينية، وهي الطريقة التي أدت، في نهاية الأمر، إلى بزوغ الرأسمالية الراهنة.
إن أي واحد يعمل على جمع هذه الأنماط الاقتصادية والاجتماعية البعيدة عن بعضها البعض، وهذه المراحل التاريخية، ضمن مفهوم واحد ومخطط واحد، ينبغي عليه أن يطبق مقولة طريفة حقا على قضية المراحل الاقتصادية. والواقع أن البروفسور بوخر يشرح لنا بنفسه تلك المقولة التي يطبقها لكي يخلق ما يسمى «الاقتصاد المنزلي المغلق» حيث كل القطط تكون رمادية، لكي يصل بود، عن طريق «الهلالين» وما شابههما، إلى نجدة عدم إدراكنا. «اقتصاد بدون تبادل»، هذا هو اسم تلك المرحلة الأولى التي تمتد بدايات التاريخ المدون حتى الأزمان الحديثة، والتي تليها مرحلة «المدينة القروسطية» أي «مرحلة التبادل المباشر»، ومن ثم النظام الاقتصادي الراهن، أي «مرحلة دورة البضائع». أي، وبكلمات أخرى: لا تبادل، تبادل بسيط، تبادل معقد –أي، أيضا، وبتعابير دارجة: غياب التجارة، وجود تجارة بسيطة، وجود تجارة متطورة- وهذه هي، في الواقع، المقولة التي يطبقها البروفسور بوخر على مختلف الحقب الاقتصادية. هل كان التاجر موجودا أم لا؟ هل كان هو نفسه المنتج، أم أن المنتج كان شخصا آخر؟ إن هذه هي المعضلة الرئيسية في التاريخ الاقتصادي.
والآن لنتغاضى، مؤقتا، عن «اقتصاد اللاتبادل» الذي طلع به البروفسور: إذ أن هذه المقولة ما هي سوى «صرعة» أستاذية ليس لها أدنى وجود على الأرض، فإذا ما طبقت على اليونان وروما القديمتين، كما على العصر الإقطاعي الوسيط، ابتداء بالقرن العاشر، لن تشكل أكثر من طرفة تاريخية مليئة بوقاحة صارخة. إن اتخاذ علاقات التبادل، وليس علاقات الإنتاج كمقولة للتحدث عن تطور الإنتاج عموما، ووضع التاجر في مركز النظام الاقتصادي وجعله قياسا لكل شيء، بينما هو في الواقع لم يوجد بعد... هما النتيجتان البراقتان اللتان توصل إليهما «التحليل المفهومي للاستنباط النفساني.. وهذه هي، إجمالا، الطريقة التي يتبعها بروفسورنا المبجل لـ«الدخول إلى جوهر الأمور» بدلا من «البقاء عند القشور»! ترى أليس المخطط القديم، الخالي من الادعاء، الذي تنادي به «المدرسة التاريخية» والمتضمن تقسيم التاريخ الاقتصادي إلى ثلاث مراحل «الاقتصاد الطبيعي، والاقتصاد النقدي، والاقتصاد الائتماني (المصرفي) «أليس أفضل بكثير، وأكثر قربا إلى الواقع، من هذا النتاج المدعي الذي تمخضت عنه عبقرية البروفسور بوخر، الذي يبدأ بشتم كافة المحاولات التي سبقته، ليتخذ بعد ذلك، كقاعدة انطلاق، نفس فكرة التبادل التي «تبقى عند قشور» الأمور، ومن ثم يشوهها عبر حجج واهية، ويجعل منها مخططا مخطئا للغاية؟
ليس من قبيل الصدفة أن يظل العلم البرجوازي واقفا عند القشور. فبين العلماء البرجوازيين نجد أن البعض، من أمثال فريدريشت ليست، يقسمون التاريخ تبعا للطبيعة الخارجية لمصادر الغذاء الرئيسية، ويفرقون بين عصور للصيد وتربية الماشية والزراعية والصناعة –وهي فروقات لا تكاد تكفي للتحدث عن تاريخ للحضارات مروي من الخارج. كما نجد البعض الآخر، من أمثال البروفسور هيلد براند، يقسمون التاريخ الاقتصادي تبعا للشكل الخارجي للتبادل، إلى اقتصاد طبيعي وآخر نقدي وثالث مصرفي، أو من أمثال بوخر الذين يقسمونه إلى اقتصاد بدون تبادل وآخر بتبادل مباشر، وثالث بدورة للبضائع. وهناك أيضا آخرون، من أمثال غروس، يأخذون عملية توزيع المواد، على أنها نقطة الانطلاق في تحديدهم للأنماط الاقتصادية. أي أن العلماء البرجوازيين، بكلمة أخرى، يضعون –في المقام الأول لاعتباراتهم التاريخية- مسألة التبادل ثم التوزيع أو الاستهلاك، أي كل شيء باستثناء الشكل الاجتماعي للإنتاج، أي باستثناء ذاك الذي يكون هو الحاسم عند كل مرحلة تاريخية، وينتج عنه التبادل وأشكاله، كما ينتج عنه التوزيع والاستهلاك في سمتهما الخاصة.
لِمَ كان الأمر على هذا النحو؟
لقد كان لنفس السبب الذي حمل أولئك العلماء على أن يروا في الاقتصاد الرأسمالي، المرحلة الأعلى والأخيرة من مراحل التاريخ البشري، وعلى أن ينكروا أي تطور اقتصادي عالمي لاحق، وآفاقه الثورية. إن الشكل الاجتماعي للإنتاج، أي مسألة العلاقة بين العاملين وأدوات الإنتاج، هي المسألة الرئيسية في كل حقبة اقتصادية، وهي نقطة الفصل في كل مجتمع طبقي، حيث لا تكون أدوات الإنتاج ملكا للذين يعملون. هاكم هي، بشكل أو بآخر، قاعدة هذه المجتمعات، وهاكم هو الشرط الأساسي لكل استغلال ولكل هيمنة طبقية. ولفت النظر بعيدا عن هذه النقطة المفصلية، والتمركز عند السمات الخارجية والثانوية ليساهما –دون أدنى ريب- الطموح الواعي الذي يراود أذهان العالم البرجوازي، غير أن تردده الطبقي الغريزي المنتمي إلى الطبقة التي يمثلها ذهنيا، يدفعه بعيدا عن الثمرة الخطرة الكامنة في شجرة المعرفة. إن أستاذا معاصرا وشهيرا كالأستاذ بوخر، إنما يظهر غريزته الطبقية هذه انطلاقا من «ثقوب نظر عبقري»، حين يضع بكل هدوء، في زاوية ضيقة من زوايا مخططه، مراحل فسيحة كاملة مثل مرحلة الشيوعية البدائية والعبودية، والرق، بكل أشكال علاقتها، المتميزة جذريا، بين قوة العمل وأدوات الإنتاج، بينما نراه يدخل في تمييزات عديدة وواهية فيما يتعلق بتاريخ الصناعة، حيث يميز، ويدور ويعيد، بين «العمل المنزلي» و«العمل المأجور» و«العمل المأجور» و«العمل الحرفي» الخ..
لقد سار واضعو النظريات الخاصة بالجماهير المستغلة، وهم أقدم المدافعين عن الاشتراكية، وساروا في الظلمات، وظلوا ملتصقين في الهواء حين كانوا ينادون بالمساواة بين البشر، وفي نفس الوقت الذي كانوا يوجهون اتهاماتهم ونضالهم، بشكل رئيسي، ضد عملية التوزيع غير العادلة أو –كما فعل بعض اشتراكيي القرن التاسع عشر- ضد أشكال التبادل الحديثة. وعندما فهم أفضل قادة الطبقة العاملة أن التوزيع والتبادل إنما يتبعان، في شكلهما، عملية تنظيم الإنتاج، وأن العامل الحاسم في هذه الأخيرة هو العلاقات بين العمال وأدوات الإنتاج، وجدت الآمال الاشتراكية، لنفسها، أساسا علميا صلبا. وانطلاقا من هذا الفهم الموحد، انفصل الموقع العلمي للبروليتاريا، عن موقع البرجوازية، وذلك عند مدخل التاريخ الاقتصادي، تماما كما سبق لهما أن انفصلا عند مدخل الاقتصاد السياسي. فإذا كان من مصلحة الطبقة البرجوازية أن تخفي المسألة الرئيسية في التاريخ الاقتصادي ضمن تحولاتها التاريخية –أي تبعا للشكل الذي تتخذه العلاقات بين قوة العمل وأدوات الإنتاج- فإن من مصلحة البروليتاريا الكشف عن هذه العلاقات ووضعها في المقام الأول، لتصبح المقولة الأساسية في الحديث عن البنية الاقتصادية للمجتمع. وأنه لمن الضروري، بالنسبة إلى العمال، النظر بعين الاعتبار إلى المنعطفات التاريخية الكبرى التي تفصل المجتمع الشيوعي البدائي عن مجتمع الطبقات اللاحق، كما أنه من الضروري النظر بعين الاعتبار إلى الفروقات التي تفصل بين مختلف الأشكال التاريخية التي عرفها المجتمع الطبقي نفسه. إن من يأخذ في اعتباره الخصوصيات الاقتصادية للمجتمع الشيوعي البدائي، والميزات الخاصة بالاقتصاد العبودي القديم، واقتصاد القنانة القروسطي، هو الوحيد القادر حقا على إدراك السبب في أن المجتمع الرأسمالي يقدم، للمرة الأولى، إمكانية إنجاز الاشتراكية، كما يمكنه أن يفهم الفرق الأساسي بين الاقتصاد الاشتراكي العالمي –الذي سيقوم في المستقبل- وبين المجموعات الشيوعية الما-قبل-تاريخية.



--------------------------------------------------------------------------------

الفصل الثاني: انحلال المجتمع الشيوعي البدائي
(1)

والآن يحسن بنا أن نتفحص المؤسسات الداخلية للجماعة الجرمانية في منطقة «المارك»، وهي الجماعة التي درست أفضل من غيرها. كان الجرمانيون يتمركزون في قبائل وعشائر GESCHLECHTER وفي كل عشيرة كان يعطي لكل رب عائلة قطعة من الأرض يقيم عليها بيتا له ومزرعة. وبعد هذا كان قسم من الأرض يستخدم للزراعة، بحيث تنال كل عائلة قطعة منه. وتبعا للشهادة التي تركها لنا «سيزار» نجد أنه كانت هناك، في بداية العصر المسمى قبيلة ألمانية (هي السويف أو السواب) كانت تزرع الحقول بشكل جماعي دون أن تقسمها بين العائلات، غير أن التقسيم السنوي للأرض إلى قطع، كان معمولا به، ولاسيما أيام المؤرخ الروماني تاسيتيوس في القرن الثاني. وفي بعض المناطق، مثلما في مقاطعة فريكهوفن، «في منطقة ناساو»، كانت عمليات التوزيع السنوي للأرض سارية حتى القرنين السابع عشر والثامن عشر. وفي القرن التاسع عشر، في بعض مقاطعات منطقة «بالاتينات» البافارية على ضفة نهر الرين، كان ثمة نظام للقرعة معمولا به، ولو خلال فترات زمانية أكثر طولا: أي مرة كل ثلاث، أو أربع أو تسع سنوات، أو حتى 12 و14 و18 سنة. وهذه الحقول لم تصبح ملكيات خاصة، نهائيا، إلا نحو منتصف القرن الثامن عشر وكذلك في بعض أقاليم اسكوتلاندا، كان تقسيم الحقول ما يزال ساري المفعول حتى الحقب الأخيرة في الأصل، كانت كافة القطع متساوية في مساحتها، بشكل يتناسب مع متوسط احتياجات كل عائلة، وتبعا لخصوبة التربة وإنتاجية العمل وكانت مساحة القطعة تصل، تبعا لنوعية الأرض، إلى 15 أو 30 أو 40 اربنتا أو أكثر، وذلك في مختلف المناطق في الجزء الأكبر من أوربا، تحولت قطع الأرض المعطاة تبعا لنظام القرعة، تحولت منذ القرنين الخامس والسادس، إلى أراض تملكها العائلات الزوجية بشكل وراثي، ويمكنها أن تورثها... وعلى هذا تقلص نظام القرعة تدريجيا حتى اختفى تماما. غير أن هذا كان فقط بالنسبة إلى الحقول، أما الأراضي الباقية: الغابات، البراري، المياه والمناطق غير المستقلة، فظلت ممتلكات للمجموعة كلها في المارك، لا يمكن اقتسامها. فالمواد التي كانت الغابات توفرها، على سبيل المثال، كانت تستخدم لسد الحاجات الجماعية وللاتفاق العام... أما الباقي فكان يقسم بين الجميع. وكذلك المراعي كانت تستخدم بشكل جماعي.. ولقد ظلت على حالها هذا لزمن طويل، بل ويمكن العثور عليها حتى الآن أيضا في منطقة الألب البافارية، والتيرول وسويسرا، كما في فرنسا والنرويج والسويد.
ولضمان مساواة كاملة في عملية توزيع الحقول، كان يبدأ بتقسيم الأرض، تبعا لنوعية التربة وبقية المواصفات، إلى بضعة أحياء (تسمى OESH أو GEWANN) وكان كل واحد من هذه الأحياء يقسم إلى قطع ضيقة يساوي عددها عدد أصحاب الحق في الحصول عليها. فإذا كان ثمة لدى أحدهم من شك بصدد عدالة التوزيع، كان يمكنه، في أية لحظة يشاء، أن يطالب بإجراء قياس جديد لكل الأرض، بحيث أن عقابا صارما كان يطال من يحاول منعه من هذا.
ثم حين أهملت تماما مسألتا اعتماد القرعة، والتوزيع الدوري للأراضي، ظل عمل كافة أعضاء الجماعة في الحقول، عملا مشتركا خاضعا لقوانين جماعية وصارمة. ولقد نتج عن هذا، بالنسبة إلى كل عضو من أعضاء الجماعة، أن كل واحد كان مجبرا على العمل بشكل عام. وذلك لأنه لا يكفي الواحد أن يقيم في تلك الأراضي لكي يكون حقا عضوا في الجماعة. بل كان ينبغي عليه أن يقيم لنفسه، بنفسه سكنا، وأن يزرع حاجاته بنفسه. وكل واحد كان يتخلف، لعدة سنوات متتالية عن زراعة أرضه، كان يفقدها دون أية إجراءات قانونية، بحيث يصبح بمقدور الجماعة أن تعطيها إلى أيد فرد آخر لكي يتولى زراعتها، أما هذا العمل نفسه فكان يتم بإشراف الجماعة كلها. في سنوات الاستيطان الجرماني الأولى، كانت تربية المواشي في مركز الحياة الاقتصادية، وكانت تمارس في المراعي والبراري المشتركة تحت قيادة الرعاة المشتركين. ولتربية الماشية كان يجري استخدام الأراضي البور، والحقول بعد حصادها. وعن هذا وحده نتج أن فترات البذار والحصاد، وتعاقب الزراعة واستراحة الأراضي بالنسبة إلى كل قسم من أقسام الأرض المشتركة، وتعاقب فترات البذار، كانت كلها أمور تسوي بشكل مشترك، بحيث كان على كل واحد أن يخضع للقوانين العامة. وكان كل حي يحاط بسياج وأبواب، ويظل مغلقا ما بين موسم البذار وموسم الحصاد، أما مواعيد الفتح والإغلاق فكان يجري تقريرها عن طريق القرية كلها. أما كل حي فكان يخضع لإدارة مراقب يعتبر موظفا عاما من موظفي المجموعة، ويكون مسؤولا عن تطبيق النظام المعمول به، أما مسألة تحديد الأحياء فكانت مناسبة لإقامة احتفالات تشترك فيها كافة القرى، بكل سكانها، بما فيهم الأطفال الذين يعاملون بخشونة لكي يفهموا تماما معنى الحدود، ويدركوا مغازيها.
تربية المواشي، كذلك، كانت تمارس بشكل جماعي، بحيث كان يمنع على أي عضو من أعضاء الجماعة أن يحتفظ بقطعانه معزولة. كما أن كافة حيوانات القرية كانت توزع إلى قطعان مشتركة، تبعا لصنف الحيوان، وكان لكل قطيع رعيانه، بالإضافة إلى حيوان قائد له، وكان من القوانين المرعية ضرورة تعليق جرس في رقبة كل حيوان. أما الحق في القنص والصيد، في الأراضي المشاعية، فكان حقا مشتركا. بحيث أن ما من واحد كان يحق له أن يغضب الشباك والأفخاخ في قطعته إن لم يخطر سلفا، بهذا، بقية أفراد الجماعة. هذا بينما المعادن والفلذات، وكل ما كان يعثر عليه في جوف الأرض، على عمق يزيد عما يمكن للمحراث حفره، فكان يعتبر ملكا للجماعة كلها، وليس لذاك الذي عثر عليه. وداخل كل جماعة كان ينبغي أن يتواجد العدد اللازم من الحرفيين الماهرين. صحيح أن العائلات الفلاحية كانت تصنع، بنفسها معظم الأدوات التي تستخدمها في حياتها اليومية: ففي البيت كان يتم الطهو على نار الموقدة، وكانت تعقد البيرة، وتحاك أقمشة الثياب. ومع هذا، منذ زمن مبكر، أخذ البعض يتخصصون في ممارسة عدد من المهن، ولاسيما تلك التي تتعلق بصناعة الأدوات الزراعية. وهكذا مثلا نرى كيف أن كافة أعضاء جماعة «وولب» التي تعيش بالقرب من الغابات في منطقة الساكس الدنيا، كان عليهم أن يكون من بينهم «رجلا متخصصا في كل مهنة من مهن الغابات، يمكنه أن يصنع –شيئا مفيدا- من الخشب»، وفي كل مكان كان يحدد سلفا، للحرفيين، نوع الخشب الذي يمكنهم استخدامه، والكمية التي يسمح لهم بها، وكان هذا من أجل توفير القسم الأكبر من الغابة، وعدم صنع ما يزيد عن حاجة أعضاء الجماعة من المواد الضرورية. وكان الحرفيون يتلقون، من الجماعة، كل ما كانوا بحاجة إليه لعيشهم، وكان لهم –بشكل عام- نفس الوضع الذي يتمتع به كافة الفلاحين، غير أنه لم تكن لهم نفس الحقوق –وذلك لأنهم لم يكونوا من العاملين في الزراعة التي تعتبر النشاط الاقتصادي الأول في الحياة العامة، بحيث أن كافة الحقوق والواجبات كانت تدور من حولها [69].
وهذا هو السبب في أنه لم يكن بامكان كل من يشاء، أن يصبح فردا من الجماعة. إذ كان ينبغي –لكي يتم توطين غريب ما- الحصول على إذن بالإجماع من كافة أعضاء الجماعة. ولم يكن لأي واحد من هؤلاء أن يتنازل عن قطعة الأرض التي تخصه، لأي غريب، بل فقط لواحد من الجماعة، وعلنا أمام المحكمة الخاصة بهذا.
على رأس الجماعة كان هناك مختار القرية الذي كان ينطلق عليه اسم «دورففراف» أو «شولتهايس» أو حتى «ماركميستر» و«سنتر». وكان هذا ينتخب بواسطة جميع أفراد الجماعة. والواقع أن هذا الانتخاب لم يكن ليعتبر تشريفا للمنتخب، بل وظيفة أساسية: لذا لم يكن من حقه أن يرفض الانتخاب، تحت طائلة العقاب. ولكن نعرف جميعا أن هذه الوظيفة أضحت، مع مرور الزمن، وظيفة وراثية تخص عددا من العائلات. ومن هنا لم يكن ثمة سوى خطوة واحدة تجتازها هذه الوظيفة حتى تصبح شيئا يباع ويشتري –بسبب الجاه والثراء اللذين كانت توفرهما لحاملهما. لتتحول بالتالي من وظيفة ديموقراطية وانتخابية، إلى وسيلة للسيطرة على الجماعة. ومع هذا، لم يكن الزعيم، في عز تلك الأيام، سوى منفذ لرغبات الجماعة. أما كافة المسائل والقضايا فكانت تسوى عن طريق مجالس تضم كافة أعضاء الجماعة، وتتولى التحكيم في كافة الخلافات وفرض العقوبات. وكان المجلس هو الذي يقرر مسألة تنظيم الأعمال في الحقول، وشق الطرقات والبناء، وتعيين رجال الأمن للحقول والقرية. ولهذا المجلس كان كافة الأعضاء يقدمون الحسابات التي كانت تدون في «سجلات المشاعية». وكانت كافة الأحكام القضائية تقال، من قبل المساعدين، شفهيا وعلنا، وذلك بإشراف الزعيم. وكان أعضاء الجماعة هم الوحيدين الذين يحق لهم حضور جلسات المحاكم، هذا الحضور الذي كان ممنوعا على الغرباء. وكان –كذلك- أعضاء الجماعة ممنوعين من الشهادة من أجل بعضهم البعض، بالرغم من أنهم جميعا كانوا مجبرين على التعاون فيما بينهم، بكل أمانة وأخوة، في حالات الحرائق والهجمات الخارجية..الخ، وفي داخل الجيش، كان أعضاء كل جماعة مشاعية، يشكلون فرقتهم الخاصة ويقاتلون –على هذا النحو- جنبا إلى جنب. وفي حالة الجرائم والخسائر التي تجري داخل الجماعة، أو من قبل أحد أفرادها في الخارج، كانت الجماعة كلها تعتبر مسؤولية بالتكافل والتضامن. وكان أعضاؤها مجبرون على إيواء المسافرين ومساعدة المعوزين. والجماعة «الماركية» كان تشكل كلها، في الأصل جماعة دينية، ثم منذ دخول المسيحية –التي دخلت بشكل متأخر جدا، لدى جزء من الجرمانيين، ولدى الساكسون مثلا- أضحت الجماعة تشكل رعية كنسية واحدة، ثم، أخيرا، كانت الجماعة كلها، وبشكل عام، توفر معلم مدرسة يتولى تعليم شبيبة القرية.
ليس بوسعنا بالطبع، أن نتصور شيئا أكثر بساطة وتناسقا من هذا النظام الاقتصادي الذي عاش في ظله أهالي الماركات الجرمانية القديمة. إن كل آلية الحياة الاجتماعية، هنا، يشبه سماء صافية: تخطيط صارم وتنظيم دقيق يشمل نشاط كل واحد ويدخله كعنصر من كل متناسق. إن الحاجات المباشرة للحياة اليومية، وإرضاء هذه الحاجات بالنسبة إلى جميع، هما نقطة الانطلاق لهذا التنظيم، كما أنهما هدفه النهائي. فالجميع هنا يعملون سوية في سبيل الجميع، ويقررون كل شيء شراكة. فمن أين أتى، وعلام يستند هذا التنظيم، وهذه السلطة التي تمارسها الجماعة على الفرد؟ لقد أتت من شيوعية الأرض، أي من الامتلاك الجماعي لأهم أداة من أدوات الإنتاج. ومع هذا ستظهر السمات النموذجية للتنظيم الاقتصادي للشيوعية البدائية بشكل أفضل إن نحن درسناها بالمقارنة على الصعيد العالمي، لكي ندركها على هذا النحو كقوة عالمية للإنتاج في تنوعه وفي مرونته العالميين.
لنتجه الآن بأبصارنا شطر إمبراطورية الأنكا القديمة في أمريكا الجنوبية. لقد كانت الأرض الخاصة بهذه الإمبراطورية، والتي تغطي ما يعرف اليوم بـ«البيرو» و«الشيلي» و«بوليفيا» -أي ما تصل مساحته الحالية إلى 3364600 كلم مربع، وعدد سكانه إلى 12 مليون نسمة- كانت تدار في الزمن الذي جرى فيه غزوها على يد بيزارو، بنفس الأسلوب الذي كانت به تدار في العصور السالفة. فنحن، في تلك الإمبراطورية، نجد نفس المؤسسات التي وجدناها لدى الجرمانيين القدماء، فكل عائلة ها هنا، تشكل مشاعة، وتكون في الوقت نفسه كتيبة من الرجال القادرين على حمل السلاح، وهذه العائلة المشاعية تشتغل قطعة من الأرض تملكها، ويطلق عليها –ويا للغرابة!- نفس الاسم الذي يطلق على مثيلتها لدى الجرمان: الـ«ماركا». كانت الأراضي القابلة للزراعة تفصل عن أرض الماركا، وتقسم إلى قطع تعطى –تبعا للقرعة- كل عام قبل موسم البذار، بين العائلات. وكانت مساحة القطع تقاس تبعا لحجم العائلة المعنية، أي –بالتالي- تبعا لحجم حاجات هذه العائلة. أما زعيم القرية، الذي –عند زمن تأسيس الإمبراطورية- أي في القرنين العاشر والحادي عشر- لم يعد ينتخب انتخابا، بل ينال وظيفته عن طريق الوراثة، فكان يحصل على القطعة الأكبر. في شمال البيرو لم تكن كل عائلة تزرع أرضها بشكل مستقل، بل كانت كل عشر عائلات تعمل سوية تحت إشراف زعيم –وهو تنظيم يشير بعض العلماء إلى وجود ما يشابهه لدى الجرمانيين-. وكانت العائلات العشر تتولى، واحدة بعد أخرى، زراعة كافة قطع الأرض التي تعود لكل منها، بل وحتى للغائبين الذين يكونون منهمكين في الحرب، أو في أعمال السخرة خدمة للأباطرة. كانت كل عائلة تتلقى الثمار التي تجنى في أرضها. ولم يكن من حق أي واحد، من غير القاطنين في الماركا، والمنتمين على العشيرة، أن يحصل على قطعة من الأرض. وكان على كل واحد أن يزرع أرضه بنفسه، أما الذي يهمل أرضه خلال عدة سنوات (ثلاث سنوات في المكسيك) فكان يفقد حقه فيها. أما الحصص من الأرض، فلم يكن بالامكان لا بيعها ولا شراؤها.. ولا حتى تقديمها مجانا. وكان من الممنوع بتاتا مغادرة الماركا الخاصة، والإقامة في ماركا أخرى.. ومما لاشك فيه أن هذا ذو علاقة بمسألة روابط الدم بين العشائر القروية. كما أن زراعة الحقل، في المناطق الساحلية حيث لا تهطل الأمطار إلا بشكل موسمي، كانت تتطلب قنوات تحفرها الجماعة بشكل مشترك. ولقد كانت هناك قواعد صارمة تتعلق باستخدام الماء وتوزيعه بين مختلف القرى، وداخل كل قرية. وكانت هناك في كل قرية حقول تعرف باسم «حقول الفقراء» يتولى زراعتها كافة أعضاء الجماعة، ويتم توزيع محصولها، عن طريق زعيم القرية، بين العجائز والأرامل، وبقية المعوزين. أما بقية الأراضي التي تقع خارج نطاق الحقول فكانت تسمى «ماركا باتشا» أي «الأراضي المشتركة».
في الجزء الجبلي من البلاد، حيث لم تنجح عملية زراعة الحقول، كان نوع من تربية الماشية، يقتصر تقريبا على تربية حيوان اللاما، يشكل أساس وجود السكان الذين، بين وقت وآخر، كانوا يحملون نتاجهم من الصوف إلى الوديان ليبادلوه، مع الفلاحين، بالذرة والجزر وبعض التوابل. وفي الجبال، كانت توجد، منذ عهد الغزو، قطعان تعتبر ملكية خاصة، كما كان ثمة تفاوت حقيقي في الثروات. فالفرد الواحد في الماركا كان يملك بين ثلاث وعشر لامات، بينما كانت تصل ممتلكات الزعيم، من هذا الحيوان إلى خمسين أو مائة. أما الأرض والغابات والمراعي فكانت تعتبر ملكية عامة (مشاعية) وكان هنا، إضافة إلى القطعان الخاصة، قطعان تملكها القرية كلها. وفي مواعيد محددة، كان يتم ذبح جزء من القطعان المشتركة، ليوزع لحمها وصوفها بين العائلات. وفي تلك المجتمعات، لم يكن ثمة وجود للحرفيين، إذ أن كل عائلة كانت تصنع ما هي بحاجة إليه. وكانت هناك قرى تعرف بمهارتها الخاصة في هذا النشاط أو ذاك: الحياكة، صنع الآنية، أو الأشغال المعدنية. وعلى رأس كل قرية كان هناك زعيم، كان يعين بالانتخاب أصلا، لكن المنصب أضحى وراثيا بعد ذلك، وكان هذا الزعيم يسهر على زراعة الحقول، أما بالنسبة إلى القضايا الهامة فكان يعمد إلى استشارة مجلس القرية التي تضم البالغين، ويكون من حقه استدعاؤها حالما تدعو الحاجة.
حتى الآن نلاحظ بان الماركا البيروفية القديمة، لها نفس الملامح والصفات الموجودة لدى الماركات الجرمانية. أما الشيء الذي تختلف فيه عن الصورة التي تعرفها، فمسألة من شأنها أن تتيح لنا الدخول في طبيعة هذا النظام الاجتماعي بشكل أفضل. فالشيء الخاص بإمبراطورية الأنكا القديمة، كان أن الأمر يتعلق هنا ببلد تعرض للغزو، أو هو الآن خاضع لسيطرة أجنبية. صحيح أن الغزاة، أي الأنكا، كانوا يشكلون جزءا من القبائل الهندية بدوره، غير أنهم عمدوا إلى إخضاع قبائل ألفشوا المسالمة الزراعية، لمجرد أنها كانت تعيش معزولة عن العالم، حيث كانت كل قرية تهتم بنفسها، دون أية علاقة تربطها بالمناطق الأخرى، ودون أدنى اهتمام بما من شأنه أن يحدث خارج أراضي الماركا. بشكل عام، ترك الغزاة الأنكا، هذا التنظيم الانعزالي على حاله، خاصة وأنه هو الذي سهل لهم الغزو. وكل ما في الأمر أنهم طعموه بنظام استغلال اقتصادي وسيطرة سياسية، معدل. إذ أن كل ماركا تم غزوها كان عليها أن تضع جانبا بعض الحقول التي تسميها «حقول الأنكا» أو «حقول الشمس».. وهذه الحقول تظل مملوكة للماركا، غير إن نتاجها يذهب إلى الأنكا وإلى كهنتهم. وكذلك كان على قبائل الرعاة الجبلية أن تحتفظ بقسم من قطعانها، يعتبر «ملكا للسادة». أما حراسة هذه القطعان ورعيها، تماما مثل زراعة حقول الانكا وكهنتهم، فعمل سخرة يقوم به أعضاء الجماعة إذ هو مفروض عليهم فرضا. أضف إلى هذا كله، عمل السخرة الذي كان أبناء الماركات يؤدونه في المناجم والأشغال العامة من شق للطرقات وبناء للجسور، وهي أعمال كان السادة يشرفون عليها، وهذا دون أن ننسى الخدمة العسكرية ذات النظام الصارم التي كان يؤديها الشبان، فيما كان عدد من الفتيات يقدم، أما كقرابين وضحايا للآلهة، وأما كجاريات لخدمة الأسياد.
غير أن نظام الاستغلال القاسي هذا، لم يحدث أي تغيير في الحياة الداخلية للجماعات أو لمؤسساتها الشيوعية الديموقراطية، وذلك لأن أقوام الماركات تحملوا أعمال السخرة وكل ما فرض عليهم، بشكل جماعي. ومن الأمور الجديرة بالانتباه أن التنظيم القروي الشيوعي لم يكن، كما كان يحدث غالبا في مجريات التاريخ، مجرد الركيزة الصلبة والدؤوبة لنظام استغلال واستعباد، بل كان لهذا النظام نفسه تنظيم شيوعي. فالواقع أن الأنكا الذين عاشوا عيشة مريحة على حساب القبائل البيروفية الخاضعة، كانوا هم أنفسهم يعيشون في تجمعات عشائرية تمت إلى نظام الماركا بأكثر من صلة، بحيث أن مقرهم الرئيسي، مدينة كوزكو، لم يكن سوى تجمع يضم دزينة ونصف من المساكن التي كان كل واحد منها مقر حياة جماعية لعشيرة بأكملها، كما كان لكل مسكن مدفن مشترك في داخله، ويحظى بنوع من العبادة خاص به تتم طقوسه بشكل مشترك. وحول هذه المساكن العشائرية الفسيحة، كانت تمتد أراضي الأنكا التي تحوي غابات ومراع مشتركة، وحقول مقسمة، تزرع بشكل جماعي. فهؤلاء المستغلون والمسيطرون، لأنهم كانوا شعبا بدائيا، لم يكونوا قد تخلوا بعد عن العمل، كل ما في الأمر أنهم كانوا يستغلون وضعهم كأسياد، لكي يعيشوا عيشة أفضل من تلك التي يعيشها أتباعهم، ويقدموا المزيد والمزيد من الضحايا لآلهتهم. أم الفن الحديث، فن العيش بفضل عمل الآخرين، وجعل اللهو في كل الأوقات إحدى مكاسب التسلط، فأمر كان غريبا عن ذاك التنظيم الاجتماعي حيث كانت الملكية المشاعية، والإرغام العام على العمل، يشكلان عادات شعبية متجذرة بصورة عميقة. أما ممارسة السلطة السياسية فكانت منظمة بشكل يجعلها أشبه بوظيفة مشتركة بين عائلات الأنكا. فالمديرون الأنكا المقيمون في أقاليم البيرو، والذين كان عملهم مماثلا لعمل المقيمين الهولنديين في الأرخبيل الماليزي، كانوا يعتبرون مندوبين لعشائرهم في كوزكو، حيث كانوا يحتفظون بمكان لهم في المساكن الجماعية ويساهمون في حياة جماعتهم الخاصة بهم. وفي كل عام كان هؤلاء المندوبون يعودون إلى كوزكو للاحتفال بأعياد الصيف، حيث يقدمون تقريرا حول الطريقة التي بها مارسوا وظيفتهم، ومن ثم يحتفلون بالعيد الديني الكبير، برفقة أعضاء عشائرهم الآخرين.
إن لدينا هنا، وإلى حد ما، فئتين اجتماعيتين، أحداهما متميزة عن الأخرى، والاثنتان معا منتظمتان داخليا تبعا للنمط الشيوعي، وكل منهما تعيش تبعا لوضعها الاجتماعي: أحداهما مستغلة –بفتح الغين- والأخرى مستغلة -بكسر الغين-. للوهلة الأولى قد تبدو هذه الظاهرة عسيرة على الإدراك، لأنها في تناقض صارخ مع مبادئ المساواة والأخوة والديموقراطية، التي كانت تشكل أساس تنظيم المشاعيات الزراعية. غير أن لدينا هنا الدليل الحي على أن المؤسسات الشيوعية البدائية كانت ذات علاقة يسيرة للغاية، في الحقيقة، مع أي مبدأ من مبادئ المساواة والحرية الشاملتين. فهذه «المبادئ» المطبقة في مفهومها الشامل على كافة البلدان، أو على الأقل في البلدان «المتمدنة»، أي في بلدان الحضارة الرأسمالية، أي على «الإنسان» المطلق، على كافة البشر، ليست سوى المنتوج المتأخر للمجتمع البرجوازي الحديث، وهي مبادئ كانت الثورات –الأمريكية والفرنسية..الخ.- هي أول من نادى بها. أما المجتمع الشيوعي البدائي فكان يجهل المبادئ العامة التي تسري على كافة البشر: وذلك لأن المساواة والتضامن في هذا المجتمع إنما كانا نتاجا للتقاليد الشيوعية العائدة إلى روابط الدم، وإلى الملكية المشاعية لأدوات الإنتاج. فها هنا لم تكن المساواة في الحقوق، وتضامن المصالح ليصلان إلى أبعد مما كانت تصل إليه روابط الدم وهذه الملكية. وكل ما كان يقوم خارج هذه الحدود –التي كانت تقع ضمن أراضي القرية أو القبيلة في أحسن الأحوال- كان غريبا، بل ومعاديا أحيانا. أما الجماعات، القائمة في الداخل على أساس التضامن الاقتصادي، فكانت مجبرة أحيانا وبشكل دوري، بسبب انخفاض مستوى نمو الإنتاج، والمدخول المتدني ونفاذ مصادر الغذاء وازدياد عدد السكان، مجبرة على الدخول في صراع مصالح قاتل فيما بينها، وبينها وبين الجماعات الأخرى المشابهة لها. عند ذاك كان من شأن العراك الحيواني، أي الحرب، أن يقرر مصير الصراع: إبادة أحد المعسكرين أو –في أغلب الأحوال- إقامة علاقات استغلال بين المتصارعين. إذن لم يكن التعلق بمبادئ المساواة والحرية المطلقة، في أساس الشيوعية البدائية، بل كانت الضرورة الماسة ضمن ذلك المستوى المنخفض من مستويات تطور الحضارة البشرية، هي التي تشكل أساسها، بالإضافة إلى العجز البشري في مواجهة الطبيعة، هذا العجز الذي كان يفرض على القبيلة، كشرط مطلق لبقائها، كان يفرض عليها أن تعيش بشكل تضامني في جماعات كبيرة الحجم، وأن تعمل بشكل موحد، وكذلك أن توحد نضالها في سبيل الحياة والبقاء.
غير أن سيطرة الطبيعة المحدودة نفسها، كانت تقلص المخطط والعمل المشتركين لتحصرهما في أراض ضيقة تضم بعض المراعي والحقول المحيطة بالقرية، وتمنع هذه الأخيرة من أن تمد عملها المشترك إلى أبعد من تلك المراعي والحقول. فالواقع أن المستوى البدائي للزراعة لم يكن ليسمح بزراعات تتجاوز أرض القرية، وهذا كان يضع حدودا ضيقة للغاية لمسألة تضامن المصالح. وكان هذا المستوى المخفض لإنتاجية العمل، يؤدي دوريا إلى قيام صراعات بين مختلف الجماعات الاجتماعية، مما كان يجعل العنف، الأسلوب الوحيد لتسوية تلك الصراعات. أي أن الحرب ظلت الأسلوب الدائم لحل صراعات المصالح بين الجماعات الاجتماعية، وذلك حتى الوقت الذي جاء فيه المستوى الأعلى لنمو إنتاجية العمل، أي سيطرة الإنسان التامة على الطبيعة، ليضع حدا لصراعات المصالح المادية. ولكن إذا كان الصدام بين مختلف الجماعات الشيوعية البدائية، معطى دائما. فإن المخرج من هذا الوضع كان إذا يحدد بدوره، مستوى تطور إنتاجية العمل. فبالنسبة، مثلا، إلى صراع بين شعبين من البدو مربي الماشية، يتنازعان على استخدام المراعي، نجد أن العنف القاسي وحده كان القادر على تقرير مّن من الشعبين سيظل سيدا في هذه المراعي، ومن هو الشعب الذي سيطرد باتجاه المناطق الجافة غير الصالحة لاستقبال الإنسان، هذا إذا لم يباد. أما حيث كانت الزراعة قد ازدهرت بشكل لا بأس به بحيث كانت قادرة على ضمان غذاء جيد، دون امتصاص كل قوة عمل، وكل حياة، القوم المعنيين، فكان يقوم كذلك الأساس الصالح لوجود استغلال منتظم للفلاحين على يد غزاة أجانب. وعلى هذا النحو، مثلا، شهدنا وجود وضع مثل وضع البيرو، كان فيه المجتمع الشيوعي يستغل مجتمعا شيوعيا آخر. والواقع أن هذه البنية الخاصة بإمبراطورية الأنكا مسألة هامة للغاية، إذ أنها تتيح لنا فهم سلسلة من التشكيلات الاجتماعية المشابهة التي قامت في الزمن الكلاسيكي القديم، ولاسيما في بدايات التاريخ اليوناني.
عندما يعلمنا التاريخ المدون، بشكل عابر، بأن السكان المستعبدين، في جزيرة كريت التي يسيطر عليها الدوريون، كانوا مجبرين على أن يقدموا كل إنتاج حقولهم إلى «الجماعة»، بعد أن يحسموا منه ما هم بحاجة إليه لغذائهم وغذاء عائلاتهم، وللإنتاج المدفوع كأتاوة، كان يغذي الولائم المشتركة للأشخاص الأحرار (أي السادة الدوريون): أو يعلمنا بأنه كان في سبارطة، وهي بدورها مدينة دورية، كان يوجد «عبيد للدولة» هم الهيلوطس، الذين كانت أراضي هؤلاء.. عندما يعلمنا التاريخ كل هذا، نشعر بأن هذه الأوضاع هي أقرب إلى الأحجية. وعلى سبيل تفسير هذه التقاليد الغربية التي عرفها التاريخ، يقدم لنا عالم برجوازي هو ماكس فيبر، الأستاذ المقيم في هايدلبرغ، يقدم لنا أغرب الافتراضات، من جهة نظر الوضع الراهن ومفاهيمه إذ يقول:
«إن السكان المستعبدين يعاملون هنا (في سبارطة) على أساس أنهم عبيد للدولة، بحيث أن الأتاوات العينية التي يقدمونها، إنما تخدم لتغذية المحاربين، وبشكل مشترك جزئيا، وجزئيا بشكل يعيش معه الفرد، من إنتاج بعض الحقول التي يزرعها العبيد، وهي حقول يتملكها بأشكال مختلفة، لم تكن الوراثة اقلها.. بل كانت عامل تملك يزداد أهمية مع الزمن. ويقول لنا التاريخ بأن هبات جديدة تشمل قطعا من الأرض، وتقسيما جديدا للأراضي، أضحت أمورا ممكنة خلال الحقبة التاريخية المدونة. غير أن هذه لم تكن، طبعا، عمليات إعادة توزيع للحقول (و«طبعا» لأن أستاذا برجوازيا لا يمكنه أن يقر بمثل هذا التوزيع.. إن استطاع) بل –بشكل من الأشكال- إعادة توزيع للريع العقاري. أما التفاصيل فتقررها الاعتبارات العسكرية، وبشكل خاص سياسة عسكرية تتعلق بالسكان هي التي تقرر كافة التفاصيل. إن طابع الفيودالية (الإقطاعية) المدينية لهذه السياسة يبرز أمامنا بشكل يتميز في أن الأملاك العقارية لشخص حر، تزرع على يد عبد، تكون –في غورتين- خاضعة للقانون العسكري الخاص: فهذه الأملاك تشكل ما يعرف باسم KLAROS وتكون خاضعة لضرورة إعاشة عائلة المحارب (فإذا ما ترجمنا هذه اللغة الأستاذية إلى لغة واضحة ينتج عنها ما يلي: إن قطع الحقول تعتبر ملكية للمدينة كلها، ولهذا لا يجوز اغتصابها ولا توزيعها بعد موت صاحبها، وهو الأمر الذي يفسره الأستاذ فيبر بعد ذلك بأنه إجراء حكيم يهدف إلى «منع تمزيق الثروة إربا» وأنه «في مصلحة الحفاظ على قطع الأراضي اللائقة بوضع المحارب»). إن ذروة هذا التنظيم تكون في مسألة إقامة الطاولة المشتركة لكافة المحاربين، وذلك عن طريق التعليم المشترك للأطفال بواسطة الدولة لجعلهم جميعا من المحاربين.. وذلك تماما مثلما يحدث بالنسبة إلى صف الضباط في ألمانيا» [70].
وعلى هذا النحو، هاكم اليونانيون زمن الأبطال، زمن هكتور وآخيل، وقد تحولوا إلى ضباط بروسيين، بكل ما لدى هؤلاء من حفلات العهر التي تسودها الشمبانيا «وهي وسيلة تليق بوضعهم». وعلى هذا النحو أيضا يتحول الشبان والشابات العراة في سبارطة، والذين يتلقون دراسة شعبية مشتركة، يتحولون إلى أشياء تشبه المقيمين في مؤسسة صف الضباط الشبيهة بـ غروس-ليخترفيلد في برلين، التي هي بالسجن أشبه.
بالنسبة إلى من يعرف البنية الداخلية لإمبراطورية الأنكا، لن يمثل الوضع المرسوم أعلاه، أية صعوبات على الإطلاق، فهو، دون أدنى شك، نتاج وجود تشكيلتين اجتماعيتين شيوعيتين، أحداهما مجتمع زراعي تستغله التشكيلة الأخرى. أما إلى أية درجة تدوم الركائز الشيوعية في عادات السادة وفي وضع المستغلين –بفتح الغين- فمسألة ترتبط بدرجة تصور واستمرار هاتين التشكيلتين، وبيئتهما. مما لا شك فيه أن إمبراطورية الأنكا، حيث يعمل السادة بأنفسهم، وحيث ظلت الملكية العقارية للمضطهدين –بفتح الهاء- على حالها، وحيث كانت كل تشكيلية اجتماعية منظمة بشكل مغلق، إمبراطورية الأنكا هذه يمكن اعتبارها أقدم أشكال علاقات الاستغلال التي لم يقدر لها أن تبقى إلا بفعل مستوى بدائي، نسبيا، من الحضارة، وإلا بفضل العزلة التي عاش فيها هذا البلد بعيدا عن العالم طوال قرون عديدة من الزمن. أما بالنسبة على مستوى أكثر تقدما، فترينا المعلومات التي نقلت إلينا عن جزيرة كريت، أن الجماعة الفلاحية المستغلة، كانت مجبرة على تسليم كل نتاج عملها، باستثناء ما هي بحاجة ماسة إليه، إلى الجماعة المسيطرة التي لم تكن تعيش بفضل عملها في الحقول، بل بفضل ما تقدمه لها الجماعة الخاضعة، ومع هذا كانت تستهلك هذه الأتاواة بشكل جماعي شيوعي. فإذا ما تقدمنا خطوة أخرى على طريق التطور نصل إلى سبارطة حيث لم تعد الأرض ملكا للجماعة المستعبدة، بل ملكا للسادة الذين يوزعونها فيما بينهم عن طريق القرعة. إن فقدان الحق في ملكية الأرض، أدى إلى تمزيق التنظيم الاجتماعي للجماعة المستعبدة، بحيث تحول أعضاؤها أنفسهم إلى عبيد تمتلكهم جماعة السادة، أي أنهم أصبحوا قوة العمل التي يجري تقسيمها بشكل شيوعي بين السادة تبعا لتنظيم يتم بـ«اسم الدولة». أما السادة السبارطيون فظلوا يعيشون تبعا لنمط جماعي صارم. ومثل هذا الوضع يبدو أنه هيمن، بشكل أو بآخر، في تيساليا، حيث خضع سكان المنطقة الأصليون، البنستوس، (أو القوم الفقراء)، لسيطرة الأيوليين، وفي بيثينيا حيث استعبدت قبائل تراسيوس (التراقية) سكان المنطقة الأصليين من «المارياندين».
إن هذا الوجود الطفيلي، قد أدى –بشكل لا يقاوم- إلى إدخال بذرة تحلل واضمحلال الجماعة المهيمنة نفسها. فالغزو وضرورة تحويل الاستغلال إلى مؤسسة دائمة، أديا إلى تطور هائل للجهاز العسكري، وهي ظاهرة نلاحظها كذلك في دولة الأنكا وفي الدول السبارطية. وهذه الظاهرة هي أساس اللامساواة، وأساس قيام الشرائح المتمتعة بالامتيازات داخل جمهرة الفلاحين المتساوين والأحرار أصلا. عن ذاك بات يكفي أن تصبح الظروف الجغرافية والتاريخية ملائمة، وأن يوقظ الاصطدام بالشعوب الأكثر تحضرا، حاجات أكثر تطورا ورغبة في التغيير حتى تعم اللامساواة لدى السادة، وحتى يضعف التماسك الشيوعي، مخليا مكانه لملكية خاصة أدت إلى انفصال حاد بين الأغنياء والفقراء. والواقع أن بدايات التاريخ اليوناني بعد الاصطدام بالحضارات الشرقية القديمة، توفر لنا مثالا كلاسيكيا على هذه الظواهر. فالحقيقة أن نتيجة خضوع جماعة شيوعية بدائية لأخرى، هي على المدى الطويل، وعلى الدوام، نفسها: تتفكك الروابط الشيوعية التقليدية عند السادة كما عند العبيد، ويتكون مجتمع جديد تسوده الملكية الخاصة والاستغلال والتفاوت. إن تاريخ المشاعيات الزراعية في الأزمان الكلاسيكية القديمة يؤدي، من جهة، إلى التعارض بين جمهرة من صغار الفلاحين المديونين، وبين النبلاء الذين يحتفظون بالخدمة العسكرية حقا لهم، وبالتالي يهيمنون على الوظائف العامة والتجارة ويتملكون الأراضي المشتركة، ومن جهة أخرى إلى التعارض بين مجتمع الرجال الأحرار هذا ككل، وبين العبيد الخاضعين للاستغلال.
والحقيقة أنه لم تكن ثمة سوى خطوة واحدة بين هذه الأشكال المتعددة للاستغلال الطبيعي للبشر الخاضعين عسكريا لسيطرة جماعة أخرى، وبين شراء الأفراد للعبيد ولقد اجتاز اليونانيون هذه الخطوة بسرعة، بفضل المبادلات البحرية، وبفضل التجارة العالمية مع الدول البحرية الأخرى، وما نتج عنها. ويلاحظ العالم تشيكوتي أن ثمة اختلاف بين نمطين من العبودية: «فأولا هناك النمط الأكثر قدما، والأكثر أهمية وانتشارا، وهو نمط الاستعباد الاقتصادي، الذي نجده عند عتبة التاريخ اليوناني، وهذا الاستعباد ليس هو العبودية بل هو نمط من العبودية يمكننا أن نطلق عليه اسم: الاستتباع». أما ثيوبومبوس فيلاحظ أن «أول اليونانيين، بعد التبساليين واللاكدمونيين، الذين استخدموا العبيد، كان سكان جزيرة «كيو»، غير أنهم لم يتملكوهم كما فعل أولئك.. ونحن يمكننا أن نرى بأن اللاكدمونيين والتيساليين، قد صنعوا لأنفسهم طبقة عبيد مؤلفة من اليونانيين الذين وجدوا في البلاد قبلهم، وذلك عبر إرغامهم الأخيين والبربيين والمانتيتيين على خدمتهم بعد أن أطلقوا عليهم اسم الهلوطس أو البنستيس. أما سكان «كيو» فلقد جاؤوا بعبيدهم من البرابرة غير اليونانين، وكانوا يشترونهم مقابل أثمان محددة»، ويضيف تشيكوتي، على صواب، بأن سبب هذا التمايز يعود إلى درجات التطور المختلفة لشعوب الداخل، من جهة، وشعوب الجزر من جهة أخرى. فالغياب التام له، أولا جدوى، الثروة المتراكمة، والتطور غير الكافي للمبادلات التجارية كانا يستبعدان، في أولى الحالتين، قيام إنتاج مباشر ومتعاظم عن طريق المالكين، كما كانا يستبعدان أي استخدام مباشر للعبيد، وكانا يؤديان إلى نوع بدائي من فرض الأتاوة، وإلى تقسيم للعمل، وإلى تكون للطبقات، وكلها أمور كانت تجعل من الطبقة المسيطرة فريقا مسلحا، ومن الطبقة الخاضعة للسيطرة جمهرة من الفلاحين» [71].
لقد كشف لنا التنظيم الداخلي لإمبراطورية الأنكا عن سمة هامة من سمات المجتمع البدائي، واظهر لنا –في الوقت نفسه- واحدة من الدروب التي أدت به إلى التدهور. ونحن، حين ندرس الفصل التالي من تاريخ الهنود البيروفين، وهنود المستعمرات الأسبانية الأخرى في أمريكا، سنرى دربا آخر سار فيه هذا الشكل من أشكال المجتمع. لاسيما وأن لدينا هاهنا منهجا آخر للغزو لم تعرفه السيطرة التي مارستها الأنكا. فالواقع أن السيطرة الأسبانية، والأسبان هم أول الأوربيين الذين وصلوا إلى العالم الجديد، بدأت باكرا عن طريق إبادة، لا تعرف الرحمة، للشعوب الخاضعة. واستنادا إلى شهادات جاءت على لسان شهود عيان أسبانيين، نجد أن عدد الهنود الذين أبادهم الأسبان خلال السنوات القليلة التي تلت اكتشاف أمريكا قد وصل إلى ما بين 12 و15 مليون هندي. وهن هذا يقول «لاس كازاس»: «إننا مخولون بالقول بأن الأسبانيين، عن طريق تعاملهم الوحشي واللاانساني مع سكان المنطقة الأصليين، أبادوا نحو 12 مليون رجل وامرأة وطفل، وأنا أرى، شخصيا، بأن عدد السكان الأصليين الذين –اختفوا- في ذلك الوقت قد زاد حتى عن 15 مليون» [72].
أما هاندعان فيقول: «في جزيرة هايتي، بلغ عدد السكان الأصليين الذين وجدهم الأسبانيون، في عام 1492، مليون نسمة، ولكن في العام 1508 لم يكن قد بقي منهم سوى 60 ألفا، ثم بعد تسع سنوات فقط هبط العدد إلى 14 ألف، بحيث أن الأسبان اضطروا إلى استيراد الهنود من الجزر المجاورة لكي يحصلوا على ما يلزمهم من اليد العاملة. وهكذا، خلال العام 1508 وحده، نقلإلى هايتي نحو 40 ألف هندي من جزر الباهاما وحدها، ليحولوا إلى عبيد» [73].
لقد مارس الأسبانيون عملية مطاردة لا ترحم، ولا هوادة فيها، لذوي الجلد الأحمر، وكانت العملية من القسوة بحيث أن شاهدا عليها ومشاركا فيها، هو الإيطالي جيرولامو بنزوي يصفها لنا على النحو التالي: «جزئيا بسبب افتقارهم إلى الطعام، وجزئيا بسبب الحزن الذي خلفه لديهم انفصالهم عن أبائهم وأمهاتهم وأبنائهم، مات معظم الهنود الـ 4000 الذين طوردوا في جزيرة كومانغا ثم أسروا، وذلك خلال نقلهم إلى ميناء كوماني. ففي كل مرة يبدو على هندي أنه أكثر إرهاقا من أن يتمكن من مواكبة رفاقه، كان الأسبانيون يغرزون في مؤخرته خناجرهم ويقتلونه بشكل وحشي، وذلك خوفا من أن يخلفوه وراءهم فيرتد عليهم ويقتلهم. لقد كان مشهدا يدمي القلوب، ذاك الذي كنا نشاهد فيه أولئك التعساء، وهم عراة منهكون مثخنون بالجراح، وأهلكهم الضعف الناتج عن الجوع الذي برّح بهم، بحيث كانوا بالكاد قادرين على الصمود. وفوق هذا كله كانت سلاسل الحديد تحيط برقابهم وأيديهم وأقدامهم. ولم يترك الأسبان بينهم امرأة إلا واغتصبوها، مما أدى إلى إصابة الكثيرين بمرض الزهري الخبيث، أما كافة السكان الأصليين المعتبرين أرقاء، فلقد دمغوا بالحديد الأحمر. وكان توزيع العبيد يتم على أساس أن يحتفظ الضباط لأنفسهم بالعدد الأكبر، ومن ثم يوزعون الباقي على الجنود. وهؤلاء كانوا يراهنون –يلعبون القمار- عليهم، أو يبيعونهم إلى المستوطنين الأسبان. وكان ثمة تجار يحصلون على العبيد مقابل الخمر والطحين والسكر وبعض المواد الضرورية الأخرى، ومن ثم ينقلونهم إلى المناطق المستوطنة، حيث كان الطلب على العبيد في ازدياد. وخلال عملية النقل كان قسم من أولئك البائسين يهلك بسبب فقدان الماء، وبسبب تعفن الهواء في الكبائن، حين كان التجار يكدسونهم فوق بعضهم البعض في قاع السفن، دون أن يتركوا لهم فسحة يجلسون فيها، أو حيزا يؤمن نقل هواء نقي إليهم ليتنفسوا» [74]. في هذه الأثناء، ولكي يوفروا على أنفسهم مشقة مطاردة ذوي الجلد الأحمر، وتكاليف شرائهم، وطد الأسبانيون في الجزر وفي القارة الأمريكية نظاما يقال له «ريبارتيمينتيس»- أي نظام اقتسام الأرض-. وتبعا لهذا النظام كانت كافة الأراضي المحتلة تقسم إلى مناطق على زعمائها أن يتولوا بأنفسهم إعطاء الأسبانيين العدد المطلوب من العبيد. وكان كل مستوطن أسباني ينال، دوريا، من الحاكم، عددا من العبيد شرط أن يهتم «بتنصيرهم»- أي بجعلهم مسيحيين- [75]. أما المعاملة السيئة التي كان العبيد يعاملون بها فكانت تتجاوز كل خيال. بل وأن القتل نفسه كان يعتبر ثوابا، إن مورس على الهنود. ويقول أحد معاصري تلك المرحلة: «إن كافة السكان الأصليين الذين يؤسرون من قبل الأسبان، كانوا يرغمون على القيام بأعمال مرهقة وشاقة في المناجم، بعيدا عن قبائلهم وعائلاتهم، وتحت التهديد الدائم بأبشع أنواع العقوبات الجسدية. لذا لم يكن من المدهش أن ألوف العبيد، الذين لم يكونوا ليجدون أية وسيلة أخرى للخلاص من هذا المصير البشع، كانوا لا يكتفون بوضع حد لحياتهم عن طريق الشنق أو الغرق أو بوسائل أخرى، بل كانوا يستبقون هذا بقتل نسائهم وأطفالهم، على أمل أن يتمكنوا بهذا من إنهاء تعاستهم المشتركة التي لا مهرب آخر منها. ومن جهة ثانية كانت النساء يلجأن إلى الإجهاض، أو يتفادين معاشرة الرجال لكيلا يؤدي هذا بهن إلى توليد مزيد من العبيد البؤساء» [76].
ولقد علم المستوطنون، عن طريق كاهن إمبريالي فاسد هو الأب غارسيا دي لويوزا، بأن ثمة مرسوما أصدره شارل كان ينص، بشكل إجمالي، على أن الهنود العبيد يكونون ملكا للمستوطنين الأسبان عن طريق الوراثة أيضا. ويزعم بنزوني أن هذا المرسوم لم يكن يطبق إلا في جزر الكاراييب، غير أنه –أي المرسوم- فسر طويلا وطبق باعتباره يسري على كافة الهنود. أما المستوطنون الأسبان، وعلى سبيل تبرير أفعالهم الوحشية الشنيعة، فقلد نشروا، بشكل مستمر ودائب، حكايات رهيبة عن عمليات أكل لحوم البشر، وغيرها من «الجرائم المذهلة» التي كان الهنود يقومون بها، ولقد انتشرت مثل هذه الحكايات بشكل جعل مؤرخا فرنسيا معاصرا يدعي مارلي دي شاتيل، يروي في كتابه «التاريخ العام للهند العربية» الصادر في باريس العام 1569 أن «الله قد عاقبهم –أي الهنود الحمر- بسبب خبثهم ورذائلهم وفرض عليهم أن يصبحوا عبيدا، إذ حتى سام بن نوح لم يخطئ في حق أبيه، بشكل زاد عن الخطايا التي ارتكبها الهنود في حق الله». ومع هذا ثمة كاتب أسباني، معاصر بدوره، اسمه أكوستا كتب في مؤلف له عنوانه «التاريخ الطبيعي والأخلاقي للهنود» صدر في برشلونة العام 1591، يقول بأن هؤلاء الهنود أنفسهم كانوا «طيبين، وعلى استعداد دائم لتقديم الخدمات إلى الأوربيين، لقد كانوا شعبا يبدي، في سلكوه، براءة مذهلة وإخلاصا يكفي لمعاملتهم بحنان وحب، لولا أن المتعاملين معهم كانوا وحوشا محرومين من كل صفة إنسانية».
لقد كان من الواضح أن ثمة محاولات جرت للتصدي لتلك الوحشية. ففي العام 1531، مثلا، نشر البابا بولس الثالث، منشورا كنسيا أعلن فيه أن الهنود هم جزء من الجنس البشري، ولذا يجب ألا يتحولوا إلى عبيد أرقاء. وكذلك أعلن المجلس الإمبريالي الأسباني لشؤون الهند الغربية، بدوره، أنه يقف ضد العبودية. غير أن هذه الجهود كلها إنما تشهد على الفشل الذي أصابها، أكثر مما تشهد على إخلاصها.
إن ما حرر الهنود من العبودية، لم يكن العمل الطيب الذي قام به رجال الدين الكاثوليك، ولا الاحتجاجات التي تقدم بها الملوك الأسبان، بل واقع أن وضعهم الجسماني والنفساني، قد جعلهم –في آخر الأمر- غير قادرين على القيام بالعمل العبودي الشاق. وعلى المدى الطويل، لم يكن بامكان وحشية الأسبان المذهلة أن تفعل شيئا تجاه هذه الاستحالة –استحالة الاستمرار في العمل- فذوو الجلد الأحمر العبيد كانوا يموتون كالذباب، كانوا يهربون أو ينتحرون.. أي أن العملية كلها لم تعد مربحة على الإطلاق. والعملية كلها لم تتوقف إلا حين واتت الأسقف لاس كازاس، المدافع الحار النشيط عن الهنود، فكرة استبدال الهنود غير القادرين على العمل، بزنوج عمالقة أقوياء يستوردون من أفريقيا.. وعند هذا فقط توقفت التجارب اللامجدية التي مورست على الهنود طويلا. ولقد كان لهذا الاكتشاف العمل مفعول أكثر سرعة وحسما من كافة البيانات التي كان لاس كازاس قد أصدرها بصدد الفظائع الأسبانية. وهكذا، بعد عدة عقود من السنين، تحرر الهنود من العبودية، ليبدأ استعباد الزنوج.. هذا الاستعباد الذي دام أربعة قرون. وعند نهاية القرن الثامن عشر حمل نبيل ألماني اسمه نتلبك (من كلبرغ)، وهو قبطان سفينة، حمل معه من غينيا إلى غويانا، حيث كان ثمة «ألمان نبلاء آخرون» ينهبون المزارع الفسيحة، حمل مئات من العبيد السود الذين كان قد حصل عليهم في أفريقيا عن طريق المقايضة مع بعض البضائع، وكدسهم في قعر سفينته، تماما مثلما كان يفعل التجار الأسبان في القرن السادس عشر.
كان الأمر مماثلا، غير أن تقدمية عصر الأنوار وإنسانيته برزتا هنا، حين كان نتبلك يدفع عبيده إلى الرقص كل مساء فوق سطح السفينة، كدواء ضد الحزن الذي كانوا يشعرون به، وهي فكرة لم تراود أبدا أذهان تجار العبيد الأسبان المفعمين بالشر. وعند نهاية القرن التاسع عشر، وبالتحديد في العام 1871، كتب النبيل دافيد ليفنغستون، الذي كان قد أمضى ثلاثين عاما في أفريقيا بحثا عن منابع النيل، كتب يقول في رسالته الشهيرة إلى الأمريكي غوردون بنيت: «إذا كان ما أمطت عنه اللثام حول الوضع في ودجيدجي من شأنه أن يضع حدا لتجارة العبيد الرهيبة في أفريقيا الشرقية، أجدني مهتما بالوصول إلى هذه النتيجة، أكثر ألف مرة من اهتمامي باكتشاف منابع النيل كلها. لقد ألغي الرق عندنا، فهات مد لنا يدك المنقذة والقوية، للوصول إلى هذه النتيجة. إن هذا البلد مصاب بلعنة رهيبة، هي لعنة كلي القدرة..»
ومع هذا فإن وضع الهنود في المستعمرات الأسبانية لم يعرف أي تحسن على الإطلاق. وكل ما في الأمر أن نظام استيطان جديد حل مكان النظام القديم. وبدلا من نظام «الديبارتيمينتس»، الذي كان يهدف مباشرة إلى استبعاد السكان الأصليين، صار هناك نظام يعرف بـ«الأننكومينداس». وضمن هذا النظام كان يعترف للسكان بحريتهم الشخصية وبملكيتهم الكاملة للأرض. أما الأراضي كلها فأخضعت لإدارة المستوطنين الأسبان المتحدرين، في معظمهم، من صلب الغزاة الأول، والذين بات عليهم الآن بوصفهم «الكومنديروس» ممارسة وصاية على الهنود الذين اعتبروا قاصرين، كما بات عليهم، وبشكل خاص، أن يبشروا بينهم بالدين المسيحي. ومن أجل تغطية مصاريف إنشاء الكنائس، كما من أجل التعويض على التعب الذي يصيب الأسبان من جراء ممارستهم للوصاية المذكورة، كان يحق لهؤلاء، شرعيا، أن يفرضوا على السكان «أتاوات معتدلة، نقدية وعينية». والواقع أن هذه المراسيم كانت كافية لتحويل الـ«الكومينداس»، وبشكل سريع، إلى شيء أشبه بالجحيم بالنسبة إلى الهنود. لقد تركت لهؤلاء الأرض، بوصفها ملكا للقبيلة لا يقسم. غير أن الأسبان لم يضموا هذه الأرض، أو بالأحرى لم يشاؤوا أن يضموا إليها، سوى الأراضي المشجرة. أما الأراضي غير المزروعة، أو حتى تلك التي تعيش فترة استراحتها، فكانت سرعان ما تصادر بوصفها «أراض مهجورة»، ولقد مورست هذه المصادر بشكل منتظم ومخجل، دفع واحدا مثل زويتا لكي يكتب حول هذا الأمر قائلا: «ليس هناك قطعة من الأرض أو مزرعة لم تعلن ملكا للأوربيين، دون أدنى اهتمام بالإساءة التي يلحقها هذا الأمر بمصالح وحقوق السكان الأصليين، الذين يرغمون –انطلاقا من هنا- على ترك الأراضي التي يقطنون فيها منذ ساحق الزمن. بل وليست نادرة تلك المرات التي تؤخذ فيها منهم، الأراضي التي زرعوها بأنفسهم بدعوى إنهم لم يبذروا الحب فيها إلا لكي يمنعوا الأوربيين من مصادرتها. وبفضل هذا النظام تمكن الأسبانيون من توسيع أملاكهم في بعض الأقاليم، بشكل لم يتركوا معه أية قطعة أرض يمكن للهنود زراعتها» [77]. وفي الوقت نفسه زاد «النكومنديروس» -الأوصياء- من كمية الأتاوات «المعتدلة» التي كانت، بحملها الثقيل، تسحق الهنود. ويقول زوريتا نفسه حول هذا الأمر: «أن كل أملاك الهندي لا تكفيه لدفع الضرائب المفروضة عليه. لذا كان غالبا ما نلتقي بين الهنود، أشخاصا لا تصل ثروتهم إلى ما يعادل البيزو –عملة أسبانية- الواحد، فيضطرون إلى القيام بالعمل المأجور لكسب معيشتهم، بل ولم يكن ليتبقى لدى أولئك التعساء ما يمكنهم من إعالة أسرهم لهذا نجد معظم الشبان يفضلون العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، وخاصة حين لا يكون أهلهم، يملكون أربع أو خمس ريالات. إنه لمن الصعب على الهنود الحصول على ثمن الألبسة، ولأن كثيرين منهم غير قادرين على سراء الثياب، كانوا كثيرا ما يتخلفون عن حضور القداس في الكنائس فهل ندهش بعد هذا إن علمنا أن كثيرين منهم يصابون باليأس، إذا لا يجدون وسيلة تمكنهم من الحصول على الطعام الضروري لهم ولعائلتهم؟ لقد علمت خلال رحلاتي الأخيرة أن هنودا كثيرين قد شنقوا أنفسهم يأسا من الحياة، بعد أن شرحوا لنسائهم وأطفالهم إنما يفعلون هذا بسبب عجزهم عن دفع الضرائب المفروضة عليهم» [78].
ومن أجل استكمال سرقة الأراضي والضغط بالضرائب، استنبط العملا الإرغامي. ففي بداية القرن السابع عشر عاد الأسبانيون إلى النظام الذي كانوا قد تخلوا عنه شكليا خلال القرن السادس عشر. لقد ألغي الرق بالنسبة إلى الهنود، غير أنه استبدل بنظام عمل إرغامي خاص، لم يكن ثمة الكثير من الفرق بينه وبين الرق. ومنذ أواسط القرن السادس عشر، إليكم الصورة التي كان عليها وضع الهنود المأجورين العاملين لدى الأسبانيين، حسب ما جاء على لسان زوريتا: «خلال كل هذا الوقت لم يكن لدى الهنود ما يأكلونه سوى خبز الذرة.. وكان الانكوميندورس يشغلهم منذ الصباح حتى المساء، تاركا إياهم عراة الأجسام في مواجهة جليد الصباح والمساء، وفي وجه العواصف والأعاصير، دون أن يعطيهم للغذاء سوى خبز نصف يابس وعفن. وكان الهنود يمضون لياليهم في الهواء بلا غطاء ولا دثار. وبما أن الأجر لم يكن يدفع لهم سوى في نهاية حقبة العمل الإرغامي، لم يكن لدى الهنود ما يشترون به الثياب الدافئة الضرورية لهم. إذن، ضمن هذه الأوضاع لم يكن من المدهش أن العمل لدى الانكومندورس، كان عملا شاقا متعبا، بل ويمكن اعتباره واحدا من أهم الأسباب التي أدت إلى فناء ذوي الجلد الأحمر».. [79]
بيد أن نظام العمل الارغامي المأجور هذا، توطد على يد التاج الأسباني في بداية القرن السابع عشر. ويفسر لنا قانون هذا النظام، في حيثياته، أن الهنود لم يكونوا راغبين في العمل تلقائيا، وان المناجم -بدونهم- كانت بلا نفع، إذ لا يمكن استخراج ثرواتها، بالرغم من تواجد الزنوج. لذا كانت السلطات تجبر القرى على تقديم العدد المطلوب من العمال (وهو سبع عدد سكان البيرو، وربع عدد سكان «أسبانيا الجديدة»)، وهؤلاء العمال كانوا جميعا يوضعون تحت رحمة «الانكومندروس». وهكذا سرعان ما تمخض هذا النظام عن نتائج مميتة بشعة. وفي رسالة مجهولة المؤلف، موجهة إلى فيليب الرابع وتحمل عنوانا يقول: «تقرير حول الوضع الخطير في مملكة الشيلي، ومن وجهة نظر زمنية وروحية» يمكننا أن نقرأ ما يلي: «أن السبب المعلوم للتناقض السريع الحاصل في عدد السكان الأصليين، وهو نظام العمل الارغامي في مناجم الانكومندورس وحقولهم. فمع أن لدى الأسبانيين عددا هائلا من الزنوج، وبالرغم من أنهم فرضوا على الهنود ضرائب فادحة، لم يسبق لهؤلاء أن دفعوا مثلها لزعمائهم قبل الاحتلال، إلا أنهم –أي الأسبانيين- يعتبرون من المستحيل التخلي عن نظام العمل الارغامي» [80].
بالإضافة إلى هذا كان من نتيجة العمل الارغامي، أن الهنود غالبا ما كانوا يعجزون عن زراعة حقولهم مما كان يوفر للأسبانيين فرصة طيبة لمصادرة هذه الحقول باعتبارها «أرض مهجورة». ولقد قدم انهيار الزراعة الهندية، بشكل تلقائي، أرضية طيبة لتفاقم الربا. ويقول زوريتا أن «الهنود لم يكونوا يعرفون الربا والمرابين، أيام كانوا يحكمون أنفسهم بأنفسهم».. ولقد أتى الأسبان ليعرفوهم، بشكل وثيق، على هذا النتاج «الرائع» من مخلفات الاقتصاد النقدي والضغط الضرائبي. وهكذا، بعد أن غرقت بالديون، تحولت الأراضي الهندية التي لم يكن الأسبان قد استولوا عليها بعد، تحولت بشكل جماعي إلى أيدي الرأسماليين الأسبان.. والحقيقة أن هذا الأمر بالذات يشكل فعلا أسود من تاريخ الدناءة الأوربية. فسرقة الأرض والضرائب والعمل الارغامي والربا، شكلت على السواء سيفا من الحديد ضرب وحطم وجود المشاعيات الزراعية الهندية. بحيث أن تدهور هذه الأوضاع الاقتصادية كان كاف ليفكك النظام التقليدي السائد، وكافة الروابط الاجتماعية التي كانت قائمة فيما بين الهنود بل ولم يكتف الأسبان بهذا، بل عمدوا، إلى إحداث تمزيق نهائي ومنتظم لتلك الأوضاع الاقتصادية، وذلك عبر إلغاء السلطات التقليدية وإزاحتها. وعلى هذا النحو أصبح الانكومندورس الأسبان هم الذين يصادقون على بقاء زعماء القرى والقبائل في مهامهم، وعلى هذا كان الأسبان ينتهزون الفرصة لتعيين أتباعهم وعملائهم، وهم من بين الأفراد الأكثر انحطاطا ودناءة في المجتمع الهندي. وإضافة إلى هذا كان الأسبان كثيرا ما يعمدون إلى إثارة الهنود ضد زعمائهم. وبالاستناد إلى التبرير المسيحي القائل بـ«ضرورة حماية السكان إزاء استغلال الزعماء لهم»، كانوا غالبا ما يحرروهم من كل ما يجبرهم على دفع الأتاوات لهؤلاء الزعماء. ويقول زوريتا: «يعتقد الأسبانيون أن بامكانهم الاستناد إلى ما يحدث حاليا في أسبانيا، لكي يؤكدوا على أن الزعماء يستغلون قبائلهم، غير أنهم هم –أي الأسبانيين- المسؤولون عن هذا النهب، لأنهم هم الذين حرموا الزعماء القدامى من مكانتهم ومن مداخيلهم، واستبدلوهم بزعماء جدد اختاروهم من بين صنائعهم» [81].
وكذلك كان الأسبان يسعون إلى استثارة انتفاضات حين كان زعماء القرى أو القبائل يحتجون ضد النهب غير الشرعي الذي تتعرض له أراضي هذا أو ذاك من أفراد الجماعة، على يد الأسبان. وكانت نتيجة هذا ثورات وانتفاضات مزمنة. وسلسلة من الدعاوي والمحاكمات بين السكان الأصليين بسبب عمليات التقسيم غير الشرعي للأراضي. وهكذا أضيفت الفوضى إلى البؤس والجوع والعبودية، لتجعل هذه كلها من حياة الهنود جحيما حقيقيا. أما حصيلة تلك الوصاية الأسبانية والمسيحية فيمكن تلخيصها على النحو التالي: تملك الأسبانيين للأراضي، صحبته إبادة جماعية للهنود. وعن هذا يقول زوريتا: «في كافة الأراضي الهندية التي نهبها الأسبانيون، كانت القبائل الهندية تندثر كليا، أو تتضاءل حجما وعددا.. هذا بالرغم من أن البعض يحاولون الادعاء بأن العكس هو الصحيح. كان السكان الأصليون يهجرون ديارهم وأراضيهم التي فقدت، بالنسبة إليهم، كل قيمتها بالنظر إلى الأتاوات العينية والنقدية الهائلة التي كانوا يجبرون على دفعها، وكانوا يتوجهون إلى بلدان أخرى، متشردين بشكل دائم، بين منطقة وأخرى، أو مختبئين في الغابات مغامرين بأن يصبحوا ذات يوم فريسة سهلة للحيوانات المفترسة. كان الكثيرون منهم ينهبون حياتهم انتحارا، وهو أمر شهدته بنفسي مرارا وتكرارا عن طريق الملاحظة الشخصية، أو خلال أحاديث كنت أطرحها على بعض السكان» [82]. بعد ذلك بنحو نصف قرن، كتب موظف كبير آخر من موظفي الحكومة الأسبانية في البيرو، هو خوان اورتيو دي سر فانتس، كتب يقول: «أن عدد السكان الأصليين في المستعمرات الأسبانية يتقلص بشكل متزايد، فهم يهجرون ديارهم ويتركون أراضيهم بدون زراعة، بحيث أن الأسبانيين كانوا بالكاد يجدون ما يكفيهم من المزارعين والرعاة. وقبيلة «الميتاي» التي بدونها كان من المستحيل استخراج الثروات من مناجم الذهب، كانت إما تترك نهائيا المدن التي يقطنها الأسبانيون، أو يتناقص عددها وتزول بسرعة تدعو إلى العجب، إن هي بقيت» [83]. والواقع أنه ينبغي علينا أن نبدي إعجابنا بالمقاومة المذهلة التي كان يبديها السكان الهنود، دفاعا عن مؤسساتهم الشيوعية الزراعية التي ظلت لها بقايا قائمة حتى القرن التاسع عشر بالرغم عن كل الظروف السيئة التي تحدثنا عنها.
من جهة ثانية نجد أن المستعمرات الإنكليزية في الهند، ترينا مصائر المشاعية الزراعية القديمة، في سمة أخرى من سماتها فها هنا، وبشكل أفضل مما في أي ركن آخر من العالم، بامكاننا أن ندرس أكثر أشكال ملكية الأرض اختلافا، وهي أشكال تصور لنا تاريخيا يمتد إلى أزمان موغلة في القدم. فهنا توجد المشاعيات القروية جنبا إلى جنب مع المشاعيات العشائرية، ويوجد توزيع دوري لقطع متساوية من الأرض جنبا إلى جنب مع تمليك قطع غير متساوية من الأرض لمدى الحياة، وتوجد زراعة جماعية الأرض إلى جانب الاستغلال الفردي الخاص لها، وتوجد مساواة بين كافة سكان القرية بالنسبة إلى حقوقهم في الأراضي المشتركة إلى جانب امتيازات تعطى لعدد من الجماعات... وأخيرا، إلى جانب كل أشكال الملكية العامة هذه، ثمة وجود لملكية خاصة الأرض، إما على شكل قطع زراعية صغيرة، وإما على شكل مزارع تعطى لآماد قصيرة، وإما على شكل إقطاعيات كبيرة- إن هذا كله هو الذي كان بالامكان دراسته بحجم طبيعي منذ بضع عشرات من السنين، في الهند. أما أن تكون المشاعيات الزراعية شيئا قديم الوجود في الهند، فأمر تشهد عليه الوثائق القضائية الهندية، ومنها ذلك القانون القديم المتعارف عليه والمسمى «المانو» ويعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وهو يحوي عددا من البنود التي تنص على تخطيط الحدود بين المشاعيات، وإقامة مشاعيات جديدة على الأراضي التي تخص المشاعيات القديمة، ولا يمكن تقسيمها.
وهذا القانون العرفي لا يعترف بالملكية إن لم تكن قائمة على العمل الشخصي، وهو يأتي على ذكر العمل الحرفي بوصفه عملا ملحقا بالزراعة.. ويحاول أن يقضي على القوة الاقتصادية للكهنة (البراهمين)، عبر عدم السماح لهم بتلقي هدايا تخرج عن نطاق المواد المنقولة. أما أمراء المستقبل (الراجات) فلا يذكرهم القانون إلا باعتبارهم زعماء منتخبين للقبائل. أما القانونان العرفيان الأكثر حداثة (البادجنافالكبا والنارادا) العائدان إلى القرن الخامس، فينظران أيضا إلى مسألة التنظيم الاجتماعي، ضمن الشراكة العشائرية، والقوة العامة والعدالة، على أنها أمور يجب أن تكون بين أيدي مجلس الجماعة. وهذا المجلس يكون مسؤولا بالتكافل والتضامن، عن كافة الخسائر والجرائم التي يحدثها أعضاء جماعته. والزعيم المنتخب يوضع على رأس القرية. وينصح القانونان المذكوران باختيار الرجال العادلين والمسالمين لممارسة هذه المهمة وبضرورة إطاعتهما من قبل الجميع. ويمير قانون «نارادا» بين نوعين من المشاعيات: «المشاعيات القائمة على روابط القربى العشائرية» و«التعايشيات» أي المشاعيات القائمة على روابط الجوار. والقانونان معا لا يعترفان، كما ذكرنا أعلاه، إلا بالملكية القائمة على أساس العمل الشخصي: ومن هنا كانت أي أرض مهجورة تعطى للذي يأخذها ليزرعها، أما التملك غير المشروع فلا يعترف به، حتى ولو لبعد ثلاثة أجيال متعاقبة، إلا إذا كان يصحبه عمل شخصي.
إذن، نرى حتى الآن هذا الشعب الهندي عائشا تبعا لنفس العلاقات الاجتماعية، وضمن نفس العلاقات الاقتصادية البدائية. وذلك لقرون طويلة من الزمن، في أراضي الهندوس، ثم بعد ذلك خلال العهد البطولي، عهد الغزوات التي طالت ضفاف الغانج، والتي تروي لنا حكاياتها، الملحمتان الشعبيتان المعروفتان باسم: الرامايانا والمهابهاراتا. ونحن، لولا التعليقات الواردة في هذين القانونين، وهي تعليقات تعتبر على الدوام، الدليل المميز للتبدلات الاجتماعية الحاصلة وللجهد المبذول في سبيل تفسير بعض المبادئ الحقوقية القديمة تبعا للمصالح الجديدة، أقول لولا هذه التعليقات العائدة إلى القرن الرابع عشر، لما حصلنا على أي دليل يقول لنا بان المجتمع الهندي –في تلك الحقبة- كان قد عرف تبدلات اجتماعية عميقة. وفي هذه الأثناء كانت قد تكونت شرعية من الكهنة سرعان ما ارتفعت ماديا وحقوقيا، فوق مستوى الجماهير الفلاحية.. ومن هنا بدا الشراح والمفسرون –تماما كما فعل زملاؤهم المسيحيون في الغرب الإقطاعي- بمحاولة تفسير اللغة الجلية التي تسود القوانين القديمة، بشكل يجعلها تبرر الملكية العقارية التي استحوذ عليها الكهنة، وتشجع تقديم الهبات غير المنقولة (الأراضي) للبراهمين، وتنشط –على هذا النحو- عملية تقسيم أراضي المشاعيات، وتكوين ملكيات عقارية كبيرة عقارية كبيرة تخص الكهنة، وذلك على حساب الجماهير الفلاحية. والواقع أن هذه الظاهرة كانت أحد الأشياء التي تميز مصير كافة المجتمعات الشرقية.
إن المسألة [84] الحيوية بالنسبة إلى كل زراعة متطورة بعض الشيء، في معظم مناطق الشرق، هي مسألة الري الصناعي. ففي الهند كما في مصر، نلاحظ منذ أزمان مبكرة أن ثمة أعمال ري هائلة الحجم، تعتبر أساسا صلبا للزراعة، وهي عبارة عن قنوات أو منابع، أو إجراءات منتظمة تضمن تكييف الزراعة مع الفيضانات الدورية. والواقع أن هذه الأشغال تتجاوز –ومنذ البداية- قوى المشاعيات الزراعية المعزولة، ومبادرتها ومخططاتها الاقتصادية. إذ يحتاج الأمر، في سبيل إدارة هذه الأشغال وإنجازها، إلى سلطة تضع نفسها فوق مستوى المشاعيات القروية، التي كان بامكانها أن توحد لها قواها العاملة، وكذلك كان الأمر يحتاج إلى سيطرة على الطبيعة، تكون على مستوى أعلى من ذاك الذي يمكن أن يصل إليه فلاحون منعزلون ضمن حدود قراهم. ومن هذه الاحتياجات كلها، ولد الدور الهام الذي لعبه كهنة الشرق: فهم عن طريق ملاحظاتهم للطبيعة التي بها يرتبط كل دين طبيعي، وعن طريق تحررهم من كل مساهمة مباشرة في الأعمال الزراعية، كانوا أقدر من غيرهم على إدارة أشغال الري العامة ذات الحجم الكبير. وكان من الطبيعي أن يؤدي هذا الدور الاقتصادي البحت، على المدى الطويل، إلى إعطاء الكهنة قوة وسيطرة اجتماعية خاصة، أي تخصص قطاع من المجتمع، هذا التخصص الناتج عن تقسيم العمل، حول هذا القطاع إلى شريحة وراثية على حدة، لديها كل المصالح التي للمستغلين –بكسر الغين- في مواجهة الجماهير الفلاحية. وكانت هذه العملية تكتمل بشكل يقل أو يزيد سرعة، ويقل أو يزيد جذرية، حسب الشعوب المعنية، وكانت تظل عند حدودها الجنينية، كما لدى هنود البيرو، أو تصل إلى نوع من الأوتوقراطية، كما عند العبرانيين القدامى أو في مصر، وذلك تبعا للظروف الجغرافية والتاريخية الخاصة، وتبعا للصدامات الدموية مع الشعوب المجاورة، وهي صدامات كانت تؤدي إلى تطور شريحة قوية من المحاربين، إلى جانب شريحة الكهنة، كانت غالبا ما تقف منها موقف المنافس. وفي جميع الأحوال كانت الحدود الانعزالية الخاصة للمشاعية الشيوعية القديمة، ذات التنظيم العاجز عن القيام بمهمات ضخمة ذات طبيعة اقتصادية أو سياسية، كانت تجبر هذه المشاعيات على القبول بهيمنة السلطات التي كانت تتولى تلك المهمات، وذلك بشكل خارج عنها وأعلى من مستواها. والواقع أن هذه المهام هي التي فتحت الطريق أمام السيطرة السياسية والاستغلال الاقتصادي اللذين طالا الجماهير الفلاحية التي هيمن عليها غزاة الشرق (سواء أكانوا من المنغول أم من الفرس أو العرب) هؤلاء الغزاة الذين تولوا، في البلدان المحتلة، كافة المسائل المتعلقة بالأشغال العامة الكبرى، التي هي الشرط الحيوي للزراعة.. ناهيك عن السلطة العسكرية. وتماما مثلما فعل الأنكا في البيرو، حين اعتبروا من امتيازاتهم وكذلك من واجبهم، وضع يدهم على أشغال الري وإنشاء الطرق والموانئ، هكذا كان الحال مع المستبدين الآسيويين الذين تعاقبوا على حكم الهند طوال قرون من الزمن.. وتوجهوا نفس ذاك التوجه.
غير أن القرية الهندية استمرت في حياتها الهادئة والمتواضعة بالرغم من تكوّن الشرائح، وبالرغم من السيطرة الأجنبية التي هيمنت في البلاد، وبالرغم من كافة التقلبات السياسية. وفي داخل كل قرية استمرت القواعد والنظم التقليدية في تحريك الجماعة، وتحت حمأة عواصف التاريخ السياسي كان لتلك تاريخها الداخلي الخاص، وكانت تسير على هدي أشكال تحولاتها العريقة، عابرة من حالة الازدهار إلى حالة الانهيار فحالة التحلل فحالة الولادة من جديد. إنه لمن الغريب أن أي مدون للتاريخ لم يعمد إلى تسجيل هذه الظواهر، وبينما نجد أن التاريخ العالمي قد أتى على وصف الحملة الجريئة التي قام بها الاسكندر منطلقا من مقدونيا إلى الهند، وعلى وصف قرقعة السلاح الدموي الذي شهره تيمرولنك والمنغول، نجد أنه –أي التاريخ- قد صمت تماما دون التحدث عن التاريخ الاقتصادي الداخلي للشعب الهندي. إن الآثار والبقايا هي وحدها التي تتيح لنا إعادة بناء الصورة الافتراضية لهذا التطور الذي عرفته المشاعية الهندية، ولعل الفضل في القيام بهذه المهمة العلمية الهامة يعود بالدرجة الأولى إلى المؤرخ كوفالفسكي. وهذا العالم الفذ يخبرنا بأن مختلف أنماط المشاعيات الزراعية التي كانت تلاحظ في الهند حتى أواسط القرن التاسع عشر، تنقسم حسب المراحل التاريخية التالية:
1-الشكل الأكثر قدما، وهو الشكل المشاعي العشائري البحت الذي يشمل مجموع الأقرباء –قربى الدم- الذين يمتلكون الأرض بشكل جماعي ويزرعونها كذلك بشكل جماعي. في هذه الحالة لا يتم تقسيم الحقول بل الذي يقسم هو منتوج العمل الذي يجمع في عنابر جماعية. إن هذا النمط من المشاعية القروية، وهو نمط بدائي للغاية، لم يستمر باقيا إلا في مناطق نادرة وقليلة في شمال الهند، حيث يشمل جزءا قليلا من السكان المتحدرين من الأقوام القديمة. ويرى كوفالفسكي في هذا النمط، المشابه لنمط «زادروغا» الذي يوجد في بوسينا وهرزغوفينا –في البلقان- نتاجا لتحلل علاقات الدم التي توزعت، إثر التعاظم المتسارع في عدد لسكان، إلى عدة عائلات كبرى افترقت بعضها البعض، هي وأراضيها. وفي نحو أواسط القرن الماضي، كان ثمة مشاعيات قروية هامة من هذا النمط تضم بعضها 150 فردا، وبعضها الآخر يصل عدد أفراده إلى 400 نسمة. أما الشكل المهيمن، على أي حال، فكان المشاعيات القروية الصغيرة التي لم تكن لتجتمع مع بعضها البعض إلا في حالات نادرة، منها على سبيل المثال الحالة التي تفرض عليها أن تتخلى عن جزء من ملكيتها العقارية. إما في حياتها العادية فكانت تعيش تلك الحياة المعزولة والمنظمة بشكل دقيق، التي وصفها كارل ماركس، باختصار، في «رأس المال» استنادا على المصادر الإنكليزية على النحو التالي [85]:
«إن هذه المشاعيات الهندية الصغيرة التي بوسعنا تتبع آثارها حتى ساحق الأزمان، والتي ما يزال لها وجود جزئي، ترتكز إلى مبدأ الملكية الجماعية للأرض، وإلى نوع من الإتحاد المباشر بين الزراعة وبين الحرفة، وإلى تقسيم عمل لا يتبدل، وهو تقسيم يصح اعتباره نموذجيا ومثالا يحتذى كل مرة تتشكل فيها مشاعيات جديدة. وهذه المشاعيات المقامة على أرض تبلغ مساحتها بين 100 وبضعة ألوف من الاكرات [86] تشكل هيئات إنتاج متكاملة وتكفي نفسها بنفسها. هنا نجد أن القسم الأكبر من الإنتاج يخصص للاستهلاك المباشر للجماعة، وهو لا يتحول إلى سلعة على الإطلاق، وذلك لأن الإنتاج مستقل عن تقسيم العمل المتكيف مع عمليات التبادل القائمة في مجمل المجتمع الهندي. أما الفائض فيتحول، وحده، إلى بضاعة ليقع أولا بين أيدي الدولة التي كانت تستحوذ، في الأزمان الغابرة، على جزء من الريع على شكل عيني. لقد كانت هذه المشاعيات ترتدي أشكالا مختلفة في مختلف أجزاء الهند. والمشاعية، في أشكالها الأكثر بساطة، كانت تزرع الأرض بشكل جماعي، وتقسم المنتوج بين أعضائها، فيما كانت كل عائلة، تقوم في مسكنها، بالأشغال المنزلية كالحياكة والنسيج..الخ. وإلى جانب هذا الجمهور المنهمك بأشغاله بشكل أحادي، نجد «المواطن الرئيسي» أي القاضي وقائد الشرطة وجابي الضرائب.. وكل هذه المهام كانت تجتمع في شخص واحد، ونجد ماسك الدفاتر الذي يسوّي الحسابات الزراعية وغيرها، ويدون كل ما يتعلق بها، أما الموظف العام الثالث فهو الذي يلاحق المجرمين ويحمي المسافرين الأجانب بمرافقتهم من قرية إلى أخرى، ونجد أيضا رجل –الحدود الذي يمنع أي تسلل قد تحاول القيام به المشاعيات المجاورة، ومفتش الماء الذي يوزع الماء المتدفق من الخزانات المشتركة تبعا لاحتياجات الزراعة، والبراهمي الذي يتولى شؤون العبادة، ومعلم المدرسة الذي يعلم أبناء الجماعة القراءة والكتابة على الرمل، والبراهمي- التقويم، الذي بصفته عالما بالفلك، يحدد فترات البذار والحصاد والأوقات الملائمة لمختلف الأشغال الزراعية، كما نجد حدادا وفحاما يتوليان صناعة وتصليح كافة الأدوات الزراعية، وصانع الآنية الذي يصنع آنية القرية كلها، والحلاق، والغسال والجوهري، وأحيانا.. الشاعر الذي يحل في بعض الجماعات محل الجوهرجي، وفي بعضها الآخر محل معلم المدرسة. إن هذه الدزينة من الأشخاص تعيش على حساب الجماعة. أما بالنسبة إلى السكان الجدد، فسرعان ما تقام مشاعية جديدة على غرار المشاعيات القديمة، وهي تقام في أراض غير مزروعة، أما القانون الذي يسوي تقسيم العمل داخل الجماعة، فإنه ذو مفعول لا يخرق، تماما وكأنه قانون موضوع بشكل مادي.. إن بساطة التنظيم الإنتاجي لهذه المشاعيات التي تكفي نفسها بنفسها، وتعيد إنتاج نفسها بشكل دائب تبعا لنفس النمط، ثم ما أن تدمر بشكل عرضي، حتى تعاد إقامتها في نفس المكان وتحت نفس الاسم، إن هذه البساطة هي التي تقدم لنا مفتاح «جمود المجتمعات الآسيوية» وهو جمود يتناقض بشكل غريب مع تحلل هذه «الدول» الأسيوية وإعادة إقامتها بشكل دائب، ومع التبدلات العنيفة التي تحصل فيها. غير أن بنية العناصر (العوامل) الاقتصادية الأساسية للمجتمع، تظل –على أي حال- بعيدة عن متناول كافة التحولات والأعاصير السياسية» [87].
2-في الوقت الذي كان فيه الغزو الإنكليزي قائما، كانت المشاعية العشائرية البدائية، بأراضيها غير المجزأة قد تحللت، في جزء كبير منها. ومن تحللها هذا، قامت المشاعية المرتكزة على رابطة القربى حيث كانت الحقول تجزأ إلى قطع عائلية غير متساوية يرتبط حجمها بدرجة القرى مع الجد الأكبر البدائي. وكان هذا النمط منتشرا في شمال غربي الهند وفي البنجاب. أما قطع الأرض فلم تكن تعطي، لا لمدى الحياة، ولا بشكل وراثي، بل كانت تظل ملكا للعائلات طالما أن تعاظم السكان، أو ضرورة لجوء أقارب كانوا غائبين لفترة من الزمن لم يكونا يجبران على أية قسمة للأرض. وغالبا ما كانت طلبات إعادة توزيع الأرض الجديدة يستجاب لها عن طريق أراض تؤخذ من الجزء غير المزروع من الأرض. وعلى هذا النحو كانت القطع تعطى لمدى الحياة بل ويمكن توريثها. وإلى جانب هذه الحقول الموزعة بشكل غير متساوي، تظل الغابات والمناطق المستنقعية والبراري والأراضي غير المزروعة ملكا مشتركا بين كافة العائلات وتستخدم بشكل جماعي. والحقيقة أن هذا التنظيم الشيوعي الغريب والمبني على اللامساواة، كان على المدى البعيد، يدخل في تناقض مع المصالح الجديدة. إذ مع مجيء كل جيل جديد كان يضحى أكثر فأكثر صعوبة تحديد درجة قرابة كل واحد، وهكذا تضعف تقاليد علاقة القربى، وتزداد حدة اللامساواة بين القطع العائلية، بحيث أن الأمر يعتبر ظلما من قبل الذين تقل استفادتهم عن غيرهم. ومن جهة أخرى، في كثير من المناطق، كان رحيل قسم من الأقارب، وحروب الإبادة التي تصيب قسما آخر من المقيمين، وإقامة واستقبال قادمين جدد، كانت كلها أمور تؤدي إلى اختلاط بين السكان. وبالرغم من الجمود الظاهر للعلاقات، كانت الأراضي تقسم فيما بين مختلف الفئات تبعا لنوعية الأرض، بحيث أن كل عائلة كانت تتلقى قطعا مختلفة، سواء من أصل الأراضي المروية بشكل جيد، أو من الأراضي الأقل جودة. في البداية، وعلى الأقل قبل الغزو الإنكليزي لم يكن ثمة تقسيم دوري، عن طريق القرعة، للأرض، بل كان هذا يحدث حين يؤدي التزايد الطبيعي لعدد السكان إلى تفاوت فعلي في الوضع الاقتصادي للعائلات. وكانت هذه هي حالة المشاعيات التي كان لديها احتياطي يمكن استخدامه من الأرض، مثلا. أما في المشاعيات الأقل حجما، فكان التقسيم الجديد يحدث مرة كل عشر، أو ثماني أو خمس سنوات.. بل غالبا مرة كل عام، وكان التقسيم يحدث مرة كل عام بشكل خاص هناك حيث الافتقار إلى الأراضي الصالحة كان يجعل من المستحيل إجراء تقسيم عادل بين كافة الأعضاء، وحيث لم يكن بالامكان تحقيق المساواة إلا عن طريق استخدام الأراضي بشكل دوري (أي لكل عائلة بدورها..) ونلاحظ في هذا المجال أن المشاعية العشائرية الهندية الآيلة إلى الانحلال، انتهت بالشكل الذي ارتدته، تاريخيا، المشاعية الجرمانية في بداياتها.
لقد رأينا في الهند البريطانية وفي أمريكا نموذجين كلاسيكيين، من نماذج النضال اليائس والنهاية المأساوية للتنظيم الاقتصادي الشيوعي القديم، حين دخل في صراع مع الرأسمالية الأوربية. والواقع أن الصورة التي نقدمها عن المصائر المتقلبة للمشاعية الزراعية، لن تكتمل إذا لم تأخذ في اعتبارنا، على سبيل الختام، النموذج الهام الذي كانه البلد الذي يبدو تاريخه وكأنه سار في مجرى مختلف تمام الاختلاف، وحيث الدولة لم تجهد لتدمير المشاعية الزراعية عن طريق القوة، بل على العكس أنقذتها وتولت حمايتها بكل الوسائل. وهذا البلد هو روسيا القيصرية.
نحن لن نهتم هنا بالجدال النظري الذي ظل قائما لعشرات السنين، بصدد جذور وأصل المشاعية الفلاحية الروسية. فلقد كان طبيعيا جدا، ومتطابقا تمام التطابق مع الذهنية العامة للعلم البرجوازي المعاصر –المعادي لفكرة الشيوعية البدائية- ذلك الاكتشاف الذي جاء به البروفسور الروسي تشيتشيرينا في العام 1858، ليقول من خلاله أن المشاعية الفلاحية في روسيا لم تكن نتاجا تاريخيا أصيلا، بل نتاجا مصطنعا للسياسة الضريبية التي اتبعها القياصرة، وكان من الطبيعي أن يلقي هذا الاكتشاف الكثير من الترحيب لدى العلماء الألمان الذين أبدوا له كل تأييد. فتشيتشيرينا، الذي يبرهن لنا مجددا على أن العلماء الليبراليين هم أقل جودة بوصفهم مؤرخين من زملائهم الرجعيين، يقول بصحة النظرية التي هجرت بالنسبة إلى أوربا منذ أبحاث فون مورر، والتي تقول بأن المشاعيات لم تتشكل إلا في القرنيين السادس عشر والسابع عشر انطلاقا من استغلاليات فردية معزولة.. يقول بصحتها إذا ما طبقت على روسيا. ويضيف إلى هذا أن الاستغلال المشترك للحقول إنما نتج عن اختلاط الأراضي فيما بينها، وعن الملكية المشتركة والصراعات الحدودية، والسلطات العامة التي مارستها الجماعة، وعن مسؤولية الجماعة الضرائبية المشتركة بالنسبة إلى الضرائب الشخصية التي بديء بتطبيقها منذ القرن السادس عشر، أي أن تشيتشيرينا يقلب، بذهنية ليبرالية ضعيفة، رأسا على عقب، كافة العلاقات التاريخية، ويحول الأسباب إلى نتاج، وهذه الأخيرة إلى أسباب.
ولكن مهما كان رأينا بشأن قدم واصل المشاعية الفلاحية في روسيا، فمن المؤكد أنها ظلت على قيد البقاء بالرغم من الزمن الطويل الذي شهد تفاقم القنانة وإلغاءها.. ومرورا حتى الحقبة الأخيرة. غير أننا لن نتناول هنا سوى المصير الذي آلت إليه هذه المشاعية في القرن التاسع عشر. فحين أنجز القيصر الاسكندر الثاني عملية «تحرير الفلاحين»، عمد السادة إلى بيع أراضيهم إليه –وذلك على النمط البروسي- مما جعلهم يحصلون على تعويضات ضريبية على الأجزاء الأكثر سوءا من الأراضي الساداتية المزعومة، وعلى الحق في أن يفرضوا على الفلاحين، بالنسبة إلى الأراضي «المعارة»، قرضا قيمته 900 مليون روبل امتد أجل سداده إلى تسعة وأربعين عاما، بأقساط تبلغ 6 بالمئة. غير أن هذه الأراضي لم تعط، كما كان الأمر في روسيا، للعائلات على سبيل إنها ملكيات خاصة، بل إنها سلمت إلى جماعات بأسرها، على أساس أنها ملكيات جماعية. وعلى هذا النحو كانت الكوميونات مسؤولة بالتضامن إزاء مسألة القروض، وإزاء دفع كافة الضرائب والأتاوات كما كانت حرة في توزيع هذه الضرائب والأتاوات على مختلف أعضائها. وفي بداية تسعينات القرن التاسع عشر كان توزيع مجمل الأراضي في روسيا الأوربية (باستثناء بولندا وفنلندا وأراضي الكوزاك المجاورة لضفاف الدون) على الشكل التالي: أراضي الدولة التي كانت تتألف، بشكل عام، من غابات الشمال الفسيحة، ومن الأراضي الصحرواية. وتشمل 150 مليون ديسياتين (الديسياتين الواحد=1,09 هكتار)، والممتلكات الإمبراطورية تساوي 7 ملايين، والكنيسة والمدن تملك معا ما لا يقل عن 9 ملايين، وكان هناك 93 مليونا موزعة على شكل ملكيات خاصة منها 5 بالمئة تخص الفلاحين، والباقي يخص النبلاء، ولكن كان هناك في المقابل 131 مليون ديسياتين تعتبر ملكيات فلاحية جماعية. وفي العام 1900، كان الفلاحون يملكون بشكل جماعي 122 مليون هكتار، بينما هناك 22 مليون، تعتبر ملكيات خاصة فلاحية.
والآن إذا درسنا الأسلوب الذي كان الفلاحون الروس يستغلون تبعا له، هذه الأراضي الفسيحة حتى فترة قصيرة من الزمن، بل وحتى الآن جزئيا، سنتعرف -وبكل سهولة- على المؤسسات النموذجية الخاصة بالمشاعية الزراعية كما كانت قائمة، على الدوام، في ألمانيا كما في أفريقيا، وعلى ضفاف نهر الغانج كما البيرو. كانت الحقول مقسمة. أما الغابات والبراري والمياه فكانت تشكل معا أراض مملوكة بشكل جماعي لا يجوز اقتسامها. وكانت المناوبة الثلاثية هي النظام المهيمن، فأراضي المواسم الشتائية والصيفية كانت توزع تبعا لنوعية الأرض، وعلى هذا النحو كانت تقسم إلى قطع متفرقة. وكانت العادة تجري على الشكل التالي: الحقول الصيفية توزع في نيسان، والحقول الشتوية توزع في حزيران. والواقع أن المراقبة الدقيقة للمساواة القائمة في التوزيع كانت تؤدي إلى اختلاط غريب بحيث أنه بالنسبة إلى حكومة «موسكو» كان هناك ما معدله 11 نوعا من الحقول الصيفية و11 نوعا من الحقول الشتوية، وكان على كل فلاح أن يزرع ما لا يقل عن 22 قطعة من الأرض متفرقة. وكانت الجماعة تضع جانبا، الأراضي التي كانت تزرع احتياطا للحاجات الجماعية الاستثنائية، وأحيانا كان ثمة -لهذا الغرض مخازن احتياط كان على كل فلاح أن يضع فيها قسطا متوجبا عليه من الحب. وكان السهر على التطور التقني لعملية الاستغلال هذه يتم عن طريق السماح لكل عائلة فلاحية بالاحتفاظ بحصتها لمدة عشر سنين شرط أن تستمدها بنفسها، أو كانت توضع على حدة قطع من الأرض تسمد ثم لا توزع إلا مرة كل عشر سنين. وغالبا ما كانت حقول الكتان، والبساتين ومزارع المقولات تخضع لنفس القاعدة.
أما توزيع القطعان المشتركة على مختلف البراري والمراعي، والتقاعد مع الرعاة، وتسييج المراعي، وحماية الحقول، وتحديد مواعيد مختلف الأشغال، ونمط التوزيع وتاريخه، فكلها أمور كانت تسوي بشكل جماعي، أي عن طريق مجلس القرية. وأما بصدد مدة التوزيع، فكان ثمة اختلاف كبير يهيمن بين مكان وآخر. ففي العام 1877، وفي منطقة واحدة فقط، هي منطقة ساراتوف، ومن أصل 278 مشاعية قروية أخضعت للدراسة، وجد أن قرابة نصفها تقوم بعملية القرعة مرة كل عام، وهناك مشاعيات كانت تقوم بهذه القرعة مرة كل عامين، وأخرى كل ثلاثة أعوام، وخمسة وستة وثمانية وإحدى عشر، هذا بينما كانت هناك 38 مشاعية تمارس عملية تسميد الأرض، كانت قد تخلت نهائيا عن نظام التوزيع [88].
إن الأكثر لفتا للنظر في المشاعية الزراعية الروسية، هو نمط التوزيع الذي يتم فيها. فنحن ليس لدينا هنا، لا مبدأ القطع المتساوية كما عند الجرمانيين، ولا مبدأ تساوي القطع مع حاجات كل عائلة كما لدى البيروفيين، بل –وحسب- مبدأ القدرة الضريبية. لقد كانت المشاكل الضريبية تهيمن على حياة المشاعية كلها منذ «تحرير الفلاحين»، بحيث أن كافة مؤسسات القرية كانت تدور حول مسألة الضرائب. ويقينا أن الأساس الوحيد لفرض الضريبة، بالنسبة إلى الحكومة القيصرية، كان عدد «الأشخاص المحصيين». وهم كافة السكان الذكور في المشاعية دون أي تمييز في السن، وتبعا للتحديد الذي كان يجري مرة كل عشرين عاما عن طريق «إعادات النظر» الشهيرة، ابتداء من أول إحصاء فلاحي جرى على عهد بطرس الأكبر، وإعادات النظر هذه كانت الرعب الذي يعيش الشعب الروسي في ظله، والذي كانت قرى بأسرها تهرب في مواجته [89].
كانت الحكومة تفرض مقدار الضريبة على القرى تبعا لعدد السكان الذين يشملهم الإحصاء. وكانت الجماعة توزع القيمة الإجمالية للضريبة، على مختلف المزارع، وتبعا لعدد اليد العاملة ولحصة الأرض التي تخص كل مزرعة، كان يتم حساب القدرة الضريبية.
ومنذ العام 1861، كان توزيع الأرض في روسيا يتم استنادا إلى عملية دفع الضرائب، وليس إلى الغذاء الذي يناله الفلاحين، أي أن التوزيع لم يكن عملا خيرا هو من حق كل واحدة من المزارع، بل كان شيئا يجبر عليه كل فرد من أفراد الجماعة، باعتباره خدمة تقدم للدولة. لذا لم يكن ثمة ما هو أطراف من مجلس قروي روسي، وهو مجتمع لتوزيع الأرض. فمن كل جانب كان بامكان المرء أن يصغي على الاحتجاجات فكل واحد يحتج لكي لا يعطي قطعة كبيرة من الأرض، وعلى هذا النحو كانت العائلات الفقيرة، التي ليس لديها عدد كاف من اليد العاملة، والتي يتألف أكثر أعضائها من النساء والأطفال القصر، كانت تحرم من قطع الأرض بينما يحصل الأغنياء على القطع الكبيرة. فالعبء الضريبي الذي هو في مركز حياة المشاعيات الروسية كان عبئا ثقيلا للغاية.. فبالإضافة إلى الدين الواجب دفعه، هناك الضريبة المفروضة على كل فرد، وهناك الضريبة البلدية، وضريبة الكنيسة والضريبة على الملح الخ.. صحيح أن ضريبة الفرد وضريبة الملح الغيتا في ثمانينات القرن التاسع عشر، غير أن الضريبة الإجمالية ظلت من الضخامة والثقل بحيث أنها كانت تمتص كل ثروة الفلاحين الهزيلة. واستنادا إلى إحصاء أجري في التسعينات، نجد أن 70 بالمئة من الفلاحين كانوا يحصلون من قطع الأرض المعطاة لهم، أقل من الحد الأدنى الكافي للمعيشة، و20 بالمئة كانوا قادرين على إطعام أنفسهم بأنفسهم إنما دون أن يتمكنوا من اقتناء ماشية، وذلك مقابل 9 بالمئة فقط كانوا قادرين على بيع الفائض الذي يزيد عن حاجاتهم. والواقع أن المتخلفين عن دفع الضرائب كانوا يشكلون ظاهرة هامة من ظواهر القرية الروسية. وذلك في الفترة التي تلت «التحرير» مباشرة. فمنذ السبعينات، كان هناك دخل سنوي من الضرائب الفردية يصل إلى 50 مليون، يضاف إليه مبلغ 11 مليونا هو القيمة السنوية للضرائب المتخلفة. ولكن حتى بعد إلغاء الضريبة الفردية، استمر بؤس القرية الروسية في التفاقم، وذلك لأن الضرائب غير المباشرة أضحت أكثر فأكثر ثقلا. أما في العام 1907، فقد بلغ مجموع الضرائب المتأخرة ما يقارب الـ 127 مليون روبل، بحيث اضطرت السلطة إلى إعفاء الفلاحين من دفعها، بسبب عجزهم التام عن دفعها من جهة، وبسبب تفاقم المد الثوري، من جهة ثانية.
غير أن الضرائب سوف تمتص بعد ذلك، ليس فقط كافة المكاسب التي تحققها الاقتصاد الفلاحي، بل ستجبر الفلاحين على البحث عن أعمال مكسبة ملحقة. وهكذا كانت الأعمال الموسمية التي ما زالت حتى الآن تؤدي، في روسيا، إلى هجرات جماعية حقيقية، حيث أن القرويين الذكور الأكثر قوة كانوا يذهبون للعمل كمياومين في أملاك السادة الكبيرة، بينما كانوا يتركون قطع الأرض التي تخصهم، لكي تقوم بزراعتها النساء، مع الأطفال والعجائز، ومن جهة أخرى كانت المدينة بمصانعها، تشكل قطبا جاذبا بالنسبة للفلاحين. وعلى هذا النحو تشكلت في المراكز الصناعية، شرعية العمال المؤقتين الذين ما كانوا يؤمنون المدن إلا في الشتاء، ليعملوا بشكل خاص في مصانع النسيج، ومن ثم يعودون في الربيع إلى الحقول في قراهم ليمارسوا الزراعة حاملين معهم ما كسبوه في المدن. وفي كثير من المناطق كان ثمة عملا صناعيا في المنازل، كما كانت ثمة أعمال زراعية موسمية ملحقة ، مثل صناعة العربات وقطع الخشب وما شبه. ولكن بالرغم من كل هذا، كانت جمهرة الفلاحين بالكاد قادرة على سد الرمق. فالضرائب لم تكن تمتص ثمار الزراعة فقط، بل كذلك كل ما يحققه الفلاحون من الأعمال الصناعية الملحقة. وكانت الدولة قد زودت الجماعة بكل وسائل القهر القاسية.. خاصة وأن الجماعة المشاعية كانت هي المسؤولة، بالتكافل والتضامن، عن الضرائب المفروضة على أفرادها. ولذا كان بامكان الجماعة أن تؤجر إلى الخارج أولئك الذين كانوا يتخلفون عن دفع الضرائب، كما كان بامكاننا أن تعاد أموالهم، وكان من حقها أن تمنح أو تمنع، جواز السفر عن الأفراد.. وهم بدونه ما كان بامكانهم الابتعاد عن قريتهم. وكذلك كان من حق الجماعة أن تعاقب جسديا كل المتخلفين والمتمردين.
بشكل دوري، كانت القرية الروسية تقدم لنا صورة غريبة عن الأرض الروسية الفسيحة. فما أن يصل جابي الضرائب إلى القرية، حتى تبدأ عملية كانت روسيا القيصرية قد ابتكرت لها اسما تقنيا ذا مغزى هو «الحصول على المتخلف من الضرائب عن طريق الضرب». إذ عند ذاك كان مجلس القرية يجتمع بكامله، ويكون على المتأخرين في الدفع أن ينتزعوا سراويلهم ثم يستلقوا على مقعد طويل حيث يقوم رفاقهم القرويون بجلدهم حتى ينز الدم من جلودهم، ومن ثم يعمد إلى ضرب أعضائهم التناسلية بقوة. أما التوسل وبكاء الضحايا –وهم غالبا من الآباء أو من الكهول ذوي الشعر الأبيض –فكانا يرافقان السلطة العليا- أي ممثل هذه السلطة الذي، ما أن يتم إلحاق العقاب، حتى يعتلي عربته ليبدأ العملية نفسها في قرية أخرى. ولم يكن من النادر أن يفلت بعض الفلاحين من هذا العقاب العلني عن طريق الانتحار. وكان ثمة مخرج آخر من هذا الوضع هو «التسول الضريبي»، حيث يرحل الفلاحون الفقراء وهم يحملون عصي المتسولين، لكي يحاولوا جمع الضرائب المطلوبة عن طريق التسول والعودة بها إلى القرية. لقد كانت الدولة تسهر بقسوة وصرامة على مؤسسة المشاعيات الزراعية، التي تحولت على هذا النحو، إلى مجرد جهاز لتحصيل الضرائب. وينص قانون 1881 على أن الأراضي الفلاحية لا يجوز التخلي عنها من قبل المشاعيات، إلا إذا قرر ثلثا الفلاحين مثل هذا الأمر، ثم وافق عليه وزراء الداخلية والمال والأراضي. ولم يكن بوسع الفلاحين بيع ممتلكاتهم وحوائجهم التي يحصلون عليها عن طريق الوراثة، إلا لفلاحين آخرين ينتسبون إلى جماعتهم نفسها، وكان رهن الأرض الزراعية محظورا ثم في عهد الاسكندر الثالث، حرمت المشاعية القروية من أي استقلال ذاتي لها، وأخضعت لسلطة «الكابتن الريفي» الذي هو عبارة عن سلطة مشابهة للمجالس الريفية في بروسيا. وعلى هذا النحو كان ينبغي على كل قرار يتخذه مجلس القرية، أن يحصل على رضى هؤلاء الموظفين، الذين كان حتى توزيع الأراضي يتم تحت إشرافهم، وكذلك توزيع الضرائب وجبايتها. أما قانون 1893 فقد قدم بعض التنازلات إذ لم يسمح بتوزيع الأراضي إلا مرة كل دزينة من الأعوام. وفي الوقت نفسه لم يكن بوسع الفلاح أن يترك جماعته إلا بعد الحصول على إذن البلدية، وبشرط أن يكون قد سد كامل ديونه.
ولكن برغم هذه الروابط التي خلقها القانون، بشكل اصطناعي، داخل المشاعية القروية، وبرغم وصاية الوزارات الثلاث وتوطيد مراكز التشينوفيك (الموظفين الذين أشرنا إليهم أعلاه) لم يكن ممكنا تفادي تدهور المشاعية القروية على الإطلاق. فالعبء الضريبي الساحق، وانهيار الاقتصادي الزراعي بعد تحقق المكاسب عن طريق الأرباح الزراعية والصناعية الملحقة، وفقدان الأرض –ولاسيما المراعي والغابات التي كان النبلاء غالبا ما يعمدون إلى ضمها إلى أراضيهم- وفقدان الحقول القابلة للزراعة في نفس الوقت الذي كان فيه عدد السكان في التصاعد.. كل هذا أدى خلق نوعين من الظواهر الحاسمة في حياة القرية، الهروب إلى المدينة، وظهور الربا في القرية. فيما أن الجزء المخصص من الأرض، والعمل الصناعي أو الزراعي الملحق، لم يعودا بكافيين إلا لدفع الضرائب دون التمكن –حتى من هذا- حقا، ودون قدرة على سد أكثر الحاجات إلحاحا، أضحى الانتماء إلى المشاعية، سلاسل مربوطة حول رقبة الفلاح الجائع. ولذا كان الهدف الطبيعي، بالنسبة إلى الأكثر بؤسا، هو الإفلات من ربقة تلك السلطة. غير أن البوليس كان يعتقل مئات الهاربين، بتهمة التشرد وعدم حيازة جوازات مرور، ومن ثم يسلمهم إلى مجالس القرية التي كانت تعمد إلى معاقبتهم علنا، في وسط الحقول، ليعتبروا درسا وأمثولة لغيرهم. غير أن العقوبات، وجوازات المرور الإجبارية لم يكن بوسعها فعل شيء في مواجهة الرحيل الجماعي للفلاحين الذين كانوا يهربون، تحت جنح الليل وفي خبأة الضباب، من جحيم «الشيوعية القروية» ليتوجهوا إلى المدينة، حيث يختفون نهائيا وسط المحيط الصاخب الذي يؤلف البروليتاريا الصناعية. أما الآخرون الذين كانت روابطهم العائلية، وبعض الظروف الأخرى، تجعل هربهم مستحيلا، فكانوا يسعون إلى الخروج من المشاعية بالوسائل الشرعية. ولتحقيق هذا كان عليهم إيفاء كل ديونهم.. وهنا كان المرابي يهرع لإنقاذهم (!). ومنذ وقت مبكر كانت الضرائب والبيع الارغامي للحَبّ، ضمن أسوأ الشروط، تجعل الفلاح الروسي يلجأ إلى المرابي، خاصة وأن كل كارثة وكل حصاد سيء كانا يجعلان مسألة الاستعانة بالمرابي أمرا حتميا. وهكذا، للتحرر من ربقة المشاعية؟، لم يكن أمام الفلاح البائس إلا أن يخضع نفسه للربقة الربوية. ثم في الوقت الذي كان فيه الفلاحون الفقراء يبذلون كل جهودهم للإفلات من المشاعية، كان الفلاحون الأغنياء غالبا ما يديرون لها ظهورهم ويتركونها، طمعا بالإفلات من مسؤولية الضرائب الجماعية التي يحاول الفقراء الهروب منها. ولكن حتى حين لم يكن الفلاحون الأغنياء يبرحون الجماعة، شكليا، فإنهم كانوا يشكلون داخل المشاعية –علما بأنهم هم نفسهم المرابون- يشكلون في مواجهة الفلاحين البائسين، سلطة مهيمنة كانت تعرف كيف تستفيد من القرارات التي يتبناها الفلاحون المدينون والتابعون.
وهكذا قام داخل المشاعية، التي كانت قد ارتكزت أساسا على المساواة وعلى الملكية العامة، تمايز طبقي واضح: فمن جهة هناك برجوازية قروية، صغيرة العدد لكنها نافذة، ومن جهة أخرى هناك جمهرة من الفلاحين التابعين والبرولتاريين. وعلى هذا النحو بزغ الانهيار الداخلي للمشاعية القروية التي مزقها عبء الضرائب، والتهمها المرابي، وحلت في داخلها مختلف الانقسامات. ولقد أدى هذا، في سنوات الثمانين، إلى جعل المجاعات والانتفاضات الفلاحية في روسيا، ظواهر دورية وموسمية، كانت تضرب الحكومات من الداخل بشكل كان من القسوة بحيث أن قسوته باتت تفوق قسوة جباة الضرائب والجيش المكلف بـ«تهدئة» القرية.
وأضحت الأرياف الروسية مسرحا لأبشع المجاعات والقلاقل الدامية. وعرف الموجيك نفس المصير الذي عرفه الفلاح الهندي، ولم يعد ثمة من فرق بين «أوريسا» الهندية البائسة، وبين عشرات القرى الروسية المنتشرة على ضفاف الفولغا [90]. وحين اندلعت أخيرا، في عامي 1904 و1905 ثورة البروليتاريا المدينية في روسيا، ألقت الاضطرابات الفلاحية الكابوسية بكل ثقلها للمرة الأولى، في ميزان الثورة، بحيث أن المسألة الزراعية سرعان أضحت القضية المركزية للثورة. فالآن، إذ يجتاح الفلاحون، وكأنهم إعصار لا يقاوم، أراضي النبلاء ويحرقون المخازن، والآن إذ يعمد حزب العمال إلى التعبير عن استياء الفلاحين، عبر إذاعة مطالبهم الثورية المنادية بمصادرة الأراضي الكبيرة دون أي تعويض، ومن ثم إعادتها إلى الفلاحين، عمد القيصر، أخيرا، إلى هجر السياسة الزراعية التي كانت تمارس منذ قرون طويلة.. فبما أنه لم يعد بالامكان إنقاذ المشاعيات الزراعية من السقوط بات من الضروري التخلي عنها.
منذ عام 1902، وصل التصدع إلى جذور المشاعية القروية، ذات الشكل الروسي الخاص: ففي ذلك العام ألغيت المسؤولية الضريبية الجماعية. وكان قد صير إلى تحضير هذا الإجراء، بشكل نشط، عن طريق السياسة المالية القيصرية نفسها: فالآن صار من السهل على السلطة المسؤولة أن تتخلى عن مبدأ المسؤولية الجماعية في دفع الضرائب المباشرة. ولكن في الوقت نفسه كانت الضرائب غير المباشرة قد وصلت إلى نسبة يمكن إدراك أهميتها إذا عرفنا أن في العام 1906، كان الدخل الشامل الذي تنص عليه الميزانية 2030 مليون روبل، منه فقط 148 مليونا تأتي عن طريق الضرائب المباشرة، مقابل 1100 مليون عن طريق الضرائب غير المباشرة، منها 558 تأتي من احتكار السلطة لتجارة الخمور، وهو احتكار كان قد ابتكره الوزير «الليبرالي» دي ويت في سبيل الحد من انتشار الإدمان على المسكرات. وكما نرى، فإن قسما كبيرا من هذه الضرائب كان يأتي عن طريق بؤس الجماهير الفلاحية وجهلها ويأسها. وبين عامي 1905 و1906 انخفض الدين الفلاحي المخصص لشراء الأراضي مجددا، إلى النصف، لكنه الغي تماما في العام 1907. أما قانون «الإصلاح الزراعي» الذي صدر في العام 1907، فلقد حدد لنفسه هدفا علنيا هو خلق الملكية الخاصة الصغيرة للأراضي الزراعية. وكانت طريقة الوصول إلى هذا هي تجزئة أراضي الدولة وجزءا من الأملاك العقارية الكبيرة.
وعلى هذا النحو تكون ثورة القرن العشرين البروليتارية قد صفت بنفسها، في مرحلتها الأولى غير المنجزة، آخر بقايا القنانة في نفس الوقت الذي صفت فيه المشاعية الزراعية التي كان القيصر قد حافظ على بقائها بشكل مصطنع.



--------------------------------------------------------------------------------

(2)
مع المشاعية القروية الروسية انتهى المصير المضطرم للشيوعية البدائية الزراعية وانغلقت الدائرة على نفسها. والمشاعية الزراعية التي كانت، في بداياتها، نتاجا طبيعيا للتطور الاجتماعي، وضمانة لأفضل تقدم اقتصادي وازدهار مادي وذهني للمجتمع، سرعان ما أضحت وسيلة للتخلف السياسي والاقتصادي. وما مشهد الفلاح الروسي الذي يجلد بالسوط على أيدي جماعته الخاصة الذين يخدمون الحكم الروسي المطلق، سوى أقسى نقد تاريخي للحدود الضيقة للشيوعية البدائية، وسوى التعبير الأكثر اندهاشا عن واقع أن النمط الاجتماعي هو بدوره خاضع للقاعدة الديالكتيكية: فالعقل يصبح هباء، والخير يضحي آفة.
إن هناك واقعين يصدماننا حين ننظر بانتباه إلى مصائر المشاعية الزراعية في مختلف البلدان والقارات. فهذا النمط الأقصى والأكثر ارتفاعا في النظام الاقتصادي الشيوعي البدائي، بدلا من أن يظهر كنموذج جامد صلب، نراه يظهر لنا الكثير من التنوع والمرونة والقدرة على التكيف مع بيئته التاريخية. ففي كل بيئة وفي كل الظروف، مر هذا النمط بسيرورة تحول كانت تجري ببطء شديد، بحيث أن تحولها هذا لم يكن ممكنا أن ننظر إليه من الخارج، وكانت السيرورة تبدل، داخل المجتمع، البنى العتيقة ببنى جديدة، وهي، تحت كافة البنى الفوقية السياسية للمؤسسات الدولية الأصلية أو الأجنبية، في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، كانت على الدوام في حالة ولادة وموت، وتطور وتآكل.
وهذا النمط الاجتماعي كان ذا صلابة وصمود غريبين، وذلك بفضل مرونته وقدرته على التأقلم. ولقد وقف متحديا في وجه كافة عواصف التاريخ السياسي، بل وتحمل كل هذه العواصف إذ رزحت فوقه، وتركها تمر عليه خلال قرون من القمع والغزوات والاستبداد والسيطرة الخارجية والاستغلال ولكن كان هناك احتكاك واحد، لم تحمله هذا النمط، ولم يتمكن من البقاء بعد حدوثه: إنه الاحتكاك بالحضارة الأوربية.. أي بالرأسمالية. ففي كل مكان، ودون أي استثناء، كان الاصطدام بهذه الأخيرة مميتا بالنسبة إلى المجتمع القديم، وأدى على ما لم تؤد إليه أبدا، قرون طويلة من الغزوات الشرقية المتوحشة: لقد أدى انحلال تلك البنية الاجتماعية من داخلها، وإلى تحطيم كافة العلاقات التقليدية، وإلى تحويل المجتمع إلى كومة من الأطلال المشوهة.
إن النفخة المميتة التي مارستها الرأسمالية الأوربية، ليست في الواقع سوى العامل الأخير، وليس الوحيد، الذي جعل من الحتمي –على المدى الطويل أو القصير- انهيار المجتمع البدائي. وبذور هذا الانهيار تمركزت في داخل هذا المجتمع. فإذا ما لخصنا مختلف دروب ذلك الانهيار، على الشكل الذي درسنا أعلاه مختلف أمثلته، سيتبين لنا أن ثمة تعاقبا تاريخيا معينا. فالملكية الشيوعية لأدوات الإنتاج، التي هي الأساس لاقتصاد منظم بشكل صارم، ضمنت –خلال حقب طويلة من الزمن- إنتاجية هائلة للعمل، كما قدمت أفضل ضمان مادي للمجتمع. ولهذا كان من الضروري لهذا التطور البطيء –إنما الأكيد- لإنتاجية العمل، أن يدخل في صراع مع التنظيم الشيوعي. وبعد أن، أنجز داخل هذا التنظيم، التقدم الحاسم باتجاه التحول إلى الزراعة العليا- التي تتم عن طريق استخدام المحراث-، وبعد أن اتخذت المشاعية الزراعية على أساس هذه القاعدة، أشكالا ثابتة، بات التطور الذي أصاب تقنية الإنتاج، يتطلب زراعة للأرض أكثر كثافة، غير أن هذه الزراعة لم يكن بالامكان تحقيقها، عند هذا المستوى التقني، إلا عن طريق الاستغلالية الصغيرة المكثفة، وإلا عن طريق الارتباط الأكثر وثوقا وصلابة، بين قوة العمل الفردية وبين الأرض. ومن هنا بات الاستخدام الأكثر ديمومة لنفس قطعة الأرض من قبل نفس العائلة الفلاحية، شرطا أساسيا لحدوث زراعة أكثر إنتاجية ومعتني بها. والتسميد هو –بشكل خاص- أحد الأسباب المعروفة لعملية توزيع الأرض- لأزمان أكثر طولا- والتي عرفت في ألمانيا كما في روسيا.
وبشكل خاص علينا أن نلاحظ أن الاتجاه نحو توزيع الأرض يمتد لأزمان أكثر طولا، أخذ يظهر في كل مكان في المشاعيات الزراعية. مما أدى إلى التحول من «التوزيع عن طريق القرعة» إلى تحول ملكية الأرض عن طريق الوراثة. إذن فإن التحول من الملكية الجماعية إلى الملكية الخاصة، إنما يسير جنبا إلى جنب مع مسألة ازدياد كثافة العمل.. وفي الوقت الذي ظلت فيه الغابات المراعي، لأزمان أكثر طولا، أراض جماعية مشاعية، فتحت الحقول، المزروعة بشكل أكثر كثافة، الطريق في وجه تقسيم الأراضي الجماعية، كما فتحت الطريق في وجه مبدأ الوراثة. أما الملكية الخاصة لقطع الأرض الزراعية، فإنها لم تلغ التنظيم الجماعي للاقتصاد، إذ أن هذا التنظيم ظل قائما لفترة طويلة بسبب تمازج الأراضي، وبسبب مشاعية الغابات والمراعي. وكذلك علينا أن نلاحظ بأن المساواة الاقتصادية والاجتماعية لم تلغ في المجتمع القديم. فلقد تشكلت، في البداية، جمهرة من البلدان الصغيرة، ذات شروط الحياة المتشابهة، والتي يمكنها أن تعيش وتعمل طوال قرون طويلة من الزمان، ضمن نفس التقاليد القديمة. ومع هذا فإن الطريق قد فتحت بوجه اللامساواة، عن طريق الطابع الإرثي للملكية، وعن طريق الحق المعطى للابن البكر، وعن طريق إمكانية تخلي الفلاح عن أرضه.
إن هذه السيرورة لم تفجر التنظيم التقليدي للمجتمع، إلا بشكل بطيء للغاية. ومع هذا فلقد دخلت العملية عدة عوامل تاريخية أخرى، تحركت بشكل أكثر جذرية وسرعة: إنها النفقات العامة التي كانت تزداد حجما، بحيث أنها تجاوزت الحدود الطبيعية الضيقة للمشاعية الزراعية. ونحن نعلم سلفا، الأهمية الجاسمة لمسألة الري الاصطناعي بالنسبة إلى زراعة الحقول في الشرق. لقد كان لتكثف العمل هذا، وللنمو المتعاظم لإنتاجيته، نتائج تفوق في أهميتها تلك التي أسفر عنها تسميد الأرض في الغرب. فمنذ البداية أدت أعمال الري إلى قيام الأشغال ذات المستوى العريض الضخم. وبما أن المؤسسات الصالحة لمثل هذا لم تكن ذات وجود في داخل المشاعية الزراعية، صار ينبغي خلق المؤسسات الخاصة التي تقف خارج المشاعية وفوقها. ونحن نعرف أن إدارة الأشغال العامة المتعلقة بإيصال الماء وتوزيعه، كانت في أصل هيمنة الكهنة، وكافة أنواع الهيمنة في المجتمعات الشرقية. وفي الغرب كذلك كانت ثمة أشغال عامة متنوعة كان ينبغي تسويتها، بالرغم من ضآلة أهميتها بالمقارنة مع مثيلاتها في التنظيم الراهن للدولة، ولقد ازدادت هذه الأشغال عددا وأهمية مع تطور وتقدم المجتمع البدائي، بحيث باتت تتطلب، بالنتيجة وعلى المدى الطويل، مؤسسات متخصصة. ولقد لاحظنا في كل مكان –في ألمانيا كما في البيرو، وفي الهند كما في الجزائر –أن التحول من الانتخابية إلى الوراثية في تسلم المناصب العامة في المجتمع البدائي، كان سمة عامة من سمات التطور.
غير أن هذا التحول، الذي تم ببطء ودون أن يلحظه أحد، لا يشكل قطيعة مع أسس المجتمع الشيوعي. فتحول المناصب العامة إلى الانتقال عن طريق الوراثة، نتج أولا، بشكل طبيعي، عن واقع أن التقاليد والتجربة الشخصية المتراكمة، كانت في المجتمع الشيوعي البدائي، أفضل ضمان لإنجاز العمل بأفضل شكل. وعلى المدى الطويل، أدى الانتقال الوراثي للمناصب ضمن بعض العائلات، وبشكل حتمي، إلى تشكل اريستقراطية محلية صغيرة، تحولت من خدمة الجماعة إلى السيادة. والواقع أن الأراضي التي لا يجوز تجزئتها، والتي كانت السلطات العامة هي المسؤولة عنها بشكل مباشر، شكلت الأساس الاقتصادي لتكون تلك النبالة. أما سرقة الأراضي العامة وغير المستخدمة، فكانت الأسلوب المنتظم الذي استخدمه السادة المحليون أو الأجانب الذين ارتقوا فوق مستوى الجماهير الفلاحية واستعبدوها. فإذا كان الأمر يتعلق بشعب يعيش بعيدا عن مجاري الحضارة الرئيسية، سنلاحظ بأنه من الممكن ألا يكون لدى النبالة البدائية ما يميزها –في نمط حياتها- عن طريق الجماهير إلا بصعوبة، فهي كانت مرغمة على المساهمة في عملية الإنتاج، وعلى إخفاء فارق الثروة عن طريق بعض البساطة الديموقراطية: فالأرستقراطية الياقونية، مثلا، غنية فقط بما لديها من قطيع، وبالنفوذ الذي تمارسه في المسائل العامة وحسب. أما إذا أضفنا إلى هذا بعض الاحتكاك مع الشعوب الأكثر تحضرا وشيئا من التبادل الفعال، سنجد أن احتجاجات النبالة ستضحي أكثر تميزا، وستكف عن العمل، بحيث يؤدي هذا إلى تفريق حقيقي بين الشرائع المتواجدة داخل المجتمع. وما اليونان، في الحقبة التي تلت هوميروس، سوى المثال النموذجي على هذا.
إن تقسيم العمل داخل المجتمع البدائي، قد أدى –بسرعة تقل أو تزيد- إلى النهاية الحتمية التي قضت على المساواة السياسية والاقتصادية. والواقع أن منصبا ذا طابع عام، يلعب دورا أساسيا في هذه السيرورة ويؤثر بشكل أكثر قوة من كافة المناصب ذات الطابع السلمي: إنه السلوك الساري أيام الحرب. فالحرب التي كانت، في البداية، قضية يهتم بها الجميع، أضحت إثر تطور الإنتاج، شيئا تتخصص فيه بعض الأوساط في المجتمع البدائي. وكلما تطورت سيرورة العمل وأضحت أكثر انتظاما وتخطيطا داخل المجتمع، أضحى هذا الأخير أقل قدرة على تحمل اللاإنتظام، وفقدان الطاقة، المرتبطين بالحياة العسكرية. فإذا كانت الحملات العسكرية الدورية، نتيجة مباشرة للنظام الاقتصادي السائد لدى الشعوب التي تعيش من الصيد وتربية الماشية، فإن الزراعة مرتبطة إلى حد بعيد بنوع من الجمودية لدى المجتمع، لذا نراها تتطلب وجود شرعية خاصة من المحاربين تتولى الدفاع عنها. والحياة الحربية –هي نفسها ليست سوى التعبير عن الحدود الضيقة لإنتاجية العمل- تلعب دورا هاما لدى الشعوب البدائية، وتؤدي إلى نوع جديد من تقسيم العمل. والواقع أن انفصال النبالة المحاربة، أو القادة العسكريين، بشكل إحدى أقوى الصدمات التي اضطرت المساواة الاجتماعية إلى مجابهتها في المجتمع البدائي. فحيثما نجد مجتمعات بدائية، لا يمكننا على الإطلاق أن نعثر على العلاقات البشرية المتساوية بين بشر أحرار، التي وصفها مورغان لدى الشعوب الايروكية: فالتفاوت والاستغلال هما الميزتان اللتان تطبعان المجتمعات البدائية، واللتان سنعثر عليهما بوصفهما نتاجا لحقبة طويلة من التفكك، سواء بالنسبة إلى الشرائح المهيمنة في الشرق، أو الاريستقراطية الياقوتية، أو «العشائر الكبيرة» الكلتية في اسكوتلندا، أو لدى النبالة العسكرية في بلاد اليونان والرومان والجرمان أيام الهجرات ذات الحجم الكبير، أو أيضا لدى الاستبداديين الصغار في ممالك إفريقيا.
ولننظر على سبيل المثال، إلى إمبراطورية «مواتا كاسيمبي» في وسط جنوب أفريقيا إلى الشرق من امبراطورية لوندا، حيث كان البرتغاليون قد تسللوا في بداية القرن التاسع عشر، فها هنا سوف نرى، وحتى في المناطق التي بالكاد تمكن الأوربيون من الدخول إليها، على علاقات اجتماعية لم تعد تترك أي مكان للمساواة والحرية. والواقع أن حملة الماجور مونتيرو والكابتن غاميتو، التي جرت في العام 1831، انطلاقا من الزامبيزي نحو الداخل، ركضا وراء أهداف تجارية وعليمة، تصف لنا الوضع هناك على الشكل التالي: لقد وصلت الحملة، أولا، إلى بلاد المارافي، التي كانت تمارس زراعة بدائية تعتمد على جني ما تنتجه الأشجار، وكان سكانها يقطنون أكواخا هرمية الشكل ولا يرتدون سوى قطعها صغيرة من الملابس تحيط بمؤخراتهم. في الحقبة التي اجتاز فيها مونتيرو وغاميتو بلاد المارفي، كان يقود هذا الشعب زعيم مستبد يحمل لقب «نيدي». وكان هذا الزعيم يحكم في كافة الخلافات في عاصمته موتزيندا، ولم يكن يحق لأي شخص أن يحتج على أي حكم يصدره الزعيم. ولكن على سبيل الشكلية المحضة، كان الزعيم يجمع مجلسا يضم كبار السن، غير أنه كان يتوجب دائما على هذا المجلس أن يرى رأي الزعيم. أما البلاد كلها فكانت تقسم إلى أقاليم يديرها «المامبو»، وهذه الأقاليم نفسها كانت تقسم إلى مقاطعات يتولى إدارتها زعماء يعرفون باسم «فونوس». وكافة هذه المناصب كانت وراثية. «في الثامن من آب وصلنا إلى مقر الموكوندا، زعيم التشيفا القوي. وهذا الزعيم الذي كنا قد بعثنا إليه ببعض الهدايا من الأقمشة القطنية الحمراء والجواهر والملح..الخ، وصل في اليوم التالي إلى مخيمنا راكبا حصانا. وكان موكوندا رجلا في الستين إلى السبعين من عمره، وذا سمة مرحة وذات جلال. وكان الثوب الوحيد الذي يرتديه عبارة عن قطعة من القماش ملفوفة حول وسطه. لقد بقي بيننا زهاء ساعتين، ثم حين أراد الذهاب طلب لكل منا هدية بشكل مؤثر ولا يقاوم..
..إن دفن الزعماء، تصحبه لدى التشيفا احتفالات بربرية للغاية. فنساء الميت تسجن مع جثته في كوخ واحد، حتى الوقت الذي يصبح كل شيء فيه معد للدفن. وعلى الفور يتجه الموكب الجنائزي في طريقه نحو حفرة، ما أن يصل إليها حتى تنزل فيها امرأة الميت الأثيرة مع سبع نساء أخريات حيث يتمددن بسيقانهن الممدودة.. ثم ترمى فوقهن أكداس من القماش تغطيهن، وبعد هذا تلقي الجثة وفوقها ست نساء أخريات كانت قد قطعت رقابهن سلفا. وبعد هذا كله يغطي القبر، وينهي الاحتفال الرهيب بعد أن يخوزق شابان، أحدهما يحمل طنبورا ويكون خازوقه على رأس القبر، والثاني يخوزق عند أسفله وهو يحمل قوسا وسهما. ولقد شهد الماجور مونتيرو واحدة من هذه المراسيم خلال تجواله في بلاد التشيفا».
ومن هناك تابعت الرحلة سيرها باتجاه الجبال الواقعة في وسط الإمبراطورية. ولقد وصل البرتغاليون «إلى منطقة مرتفعة ومهجورة، ومحرومة عمليا من أي مادة غذائية أو كائنات حية، ولقد شوهدت في المنطقة بعض الآثار التي خلفتها الحملات العسكرية السابقة.. ولقد أحاطت المجاعة بالحملة الحالية وهددتها بأبشع العواقب. وعلى الفور بعث الرسل، مع بعض الهدايا، إلى أقرب زعيم «مامبو» ليطلبوا منه موافاة الحملة بدليل، لكن الرسل سرعان ما عادوا بأنباء رهيبة تقول بأنهم لم يجدوا في القرية سوى المامبو وأفراد عائلته وجميعهم على وشك الفناء بسبب الجوع.. وقبل وصولنا إلى قلب المملكة، قيّض لنا أن نشاهد العديد من الأدلة على نوعية العدالة البربرية التي تمارس، فغالبا ما كنا نصادف شبابا قطعت آذانهم وأيديهم وأنوفهم، وبعض أعضائهم الأخرى، عقابا لهم على مساوئ كانوا قد ارتكبوها. وفي التاسع عشر من نوفمبر، تمكنا أخيرا من الوصول إلى العاصمة، حيث أحدث الحمار الذي يركبه الكابتن غاميتو، صخبا وضجيجا. ووصلنا إلى شارع وضعت على جانبيه حواجز هي أشبه بالجدران. وعلى الجانبين كنا نشاهد في هذه الحواجز، أبواب مفتوحة. أما في نهاية الشارع فكان ثمة كوخا مربع الشكل لم يكن يفتح إلا لناحية الغرب، وفي وسط هذا الكوخ كان ثمة شكل إنساني لا يزيد طوله عن 70 سنتمترا، ومقطوع بشكل رهيب وموضوع على أريكة من الخشب، وفي الجانب المفتوح من الكوخ كان ثمة كومة تضم نحو 300 جمجمة. وفي هذا المكان كان الشارع يتحول إلى ساحة مربعة كبيرة المساحة، تمتد عند طرفاها غابة لا تفصلها عن الساحة سوى بعض الأعمدة. وعلى جانبي الباب وضع، على سبيل الزينة، ما يزيد عن 30 جمجمة.
«بعد هذا حل دور الاستقبال الذي أعده «مواتا» وبدأ في كل جلاله محاطا بقوته الحربية التي تعد بين 5000 و6000 رجلا. وكان جالسا على كرسي مغطاة بقماش أخضر وبجلود الأسود والنمرة. أما غطاء رأسه فكان عبارة عن قبعة أرجوانية مصنوعة من ريش يبلغ طول كل منها 50 سم. وعلى جبهته كان ثمة جواهر براقة معلقة. أما حول رقبته فثمة عقد علقت فيه قواقع وقطع من المرايا المكسرة وبعض الأحجار الكريمة المزيفة. وحول ذراعيه كانت هناك قطع من القماش الأزرق المغطى بالفراء، وأساوره مليئة بالحجارة الزرقاء.. أما أسفل جسده فكان ملفوفا بشرشف أصفر وأحمر وأزرق معلق بحزام. والأفخاذ كاليدين، كانت مزينة بالحجارة الزرقاء..
«كان الملك جالسا هناك، بكل تيه وكبرياء، تحميه سبع مظلات ملونة. ويقف حوله نحو دزينة من الزنوج يحملون المنافض ويتولون إبعاد أية حبة غبار قد يحلو لها إزعاج جلالته. أما حول المكان كله فكان ثمة بلاط معقد للغاية، فأولا هناك صفان من التماثيل التي يصل ارتفاع كل منها إلى 40 سنتمترا، وتمثل زنوجا حملوا قرون حيوانات.. ووسط هذه التماثيل كلها كان ثمة قفص فيه تمثال أصغر حجما. وأمام التماثيل كان ثمة زنجيان يحرقان أوراقا ذات رائحة نفاذا. وإضافة إلى هذا كله كانت ثمة امرأتان رئيسيتان، أحداهما ترتدي ثيابا على شاكلة ما يرتديه مواتا، وتشغلان معا مكاني الشرف. أما في المؤخرة فيوجد «الحريم» بأكمله، وهو مؤلف من نحو 400 امرأة كلهن عاريات إلا من بعض الزينة الضئيلة. وعدا هؤلاء، كان ثمة 200 امرأة أخرى واقفات على استعداد للاستجابة لأي طلب. وداخل المربع الذي شكلته النساء، كان يجلس كبار أعيان المملكة، وهم المعروفون باسم «كيلولو»، وكانوا يجلسون على جلود الأسود والنمرة، وكل منهم فوقه مظلة، ويرتدي ثيابا شبيهة بثياب مواتا، وعدا عن هذا كانت ثمة بعض الفرق الموسيقية التي تعزف على آلات فريدة من نوعها، محدثة أصواتا رهيبة، وبعض الخدم وكلهم يرتدون ثياب وقرون الحيوانات.
«وهؤلاء جميعا كانوا يحيطون بالملك مواتا كاسمبي، الذي جلس وسط كل هذه الفخامة ينتظر اقتراب البرتغاليين منه. والواقع أن «مواتا» -ومعناها السيد-، هو الذي يحكم بشكل مطلق شعبه بأسره. وكمساعدين له، ثمة أولا الكيلولو أو النبلاء الذين ينقسمون بدورهم إلى طبقتين. ومن بين النبلاء الأكثر امتيازا، هناك ولي العهد وأقرباء «المواتا»، والقائد الأعلى للقوات العسكرية. وللمواتا على كل هؤلاء سلطة غير محدودة، تشمل أيضا حياة وممتلكات كافة النبلاء.
«إذا كان الطاغية ذا مزاج سيء، لم يكن ليتورع عن إصدار الأمر بقطع إذن ذاك الذي لم يفهم أمرا أصدر إليه ويطلب منه تكراره «لكي يتعلم كيف يصغي بشكل أفضل في المرة القادمة». وكل سرقة كانت ترتكب في أملاك الملك، كانت تسبب لمرتكبها قطع أذنيه ويديه، أما الذي يجرؤ على مقابلات إحدى نسائه أو التحدث إليها فيعاقب بالقتل أو بقطع كل أعضائه. وكان الملك يتمتع بين شعبه المتطير باحترام كبير إلى درجة أن أي واحد سيلمسه سيموت بسبب سحره. ولكن بما أنه لم يكن من الممكن تفادي مثل هذا اللمس على الدوام، ابتكر الملك ترياقا للحيلولة دون موت لامسه. وتبعا لهذا الترياق يكون على من يلمس الملك أن يركع في حضرته، فيعمد الملك إلى لمسه محررا إياه على هذا النحو من السحر القاتل» [91].
تلكم هي صورة مجتمع ابتعد كثيرا عن الأسس الأصيلة لأية مشاعية بدائية، كما ابتعد عن كل ديموقراطية ومساواة. وليس من المستبعد أن تكف العلاقات الشيوعية والملكية الجماعية للأرض، والتنظيم المشترك للعمل، عن الوجود والبقاء ضمن هذا الشكل الاستبدادي. والبرتغاليون الذين لاحظوا بدقة الشكل الخارجي للملابس وللقاءات هاهنا، لم يكن لديهم –مثلهم مثل كافة الأوربيين- أية مصلحة تحملهم على إصدار حكم على علاقات اقتصادية، لاسيما إذا كانت هذه العلاقات تسير بشكل يختلف عن الشكل الذي تسير عليه الملكية الخاصة الأوربية. وعلى أي حال، نجد أن التفاوت الاجتماعي والاستبداد السائدين في المجتمعات المتمدنة، يتميزان تماما عن ذنيك السائدين في المجتمعات المتمدنة، واللذين عادا وأدخلا المجتمعات البدائية. إن ارتفاع مستوى النبالة البدائية، والسلطة الاستبدادية التي يتمتع بها الزعيم البدائي، ما هما سوى نتاجين طبيعين لهذا المجتمع تماما مثل شروط وجوده الأخرى. وما هما سوى تعبير آخر عن عجز المجتمع في مواجهة البيئة المحيطة، وفي مواجهة علاقاته الاجتماعية الخاصة، وهذا العجز يتبدى من خلال الممارسات السحرية العبودية، ومن خلال المجاعات الدورية حيث يتعفن الزعماء المستبدون، تعفنا نصفيا أو كليا مثلهم مثل رعاياهم. ولهذا نجد أن هذه السيطرة التي تمارسها النبالة والزعماء، تبدو متناسقة تمام التناسق مع السمات المادية والذهنية الأخرى للحياة الاجتماعية، وهو أمر ملحوظ من خلال واقع أن السلطة السياسية للزعماء البدائيين تكون على الدوام مرتبطة وثيق الارتباط بالدين الطبيعي البدائي، بعبادة الأموات وتبجيلهم. وانطلاقا من وجهة النظر هذه. نجد أن المواتا كاسمبي –زعيم زنوج لوندا، الذي ترافقه 14 امرأة حية في قبره، والذي له مطلق الصرف بحياة وموت أتباعه تبعا لمزاجه الخاص، ولأنه هو نفسه وشعبه يعتقدان، بحزم، أنه ذو قوة سحرية، أو أن أمير «كازنغو» عند ضفاف نهر لوماني، الذي –بعد ذلك بأربعين عاما- ذبح، على سبيل التحية الموجهة إلى الإنكليزي كاميرون، راقصة وهو يرتدي ثياب النساء وجلود القردة ويضع منديلا وسخا على رأسه محاطا بابنتيه العاريتين وبكبار مساعديه وشعبه، إن هذين هما في ذواتهما ظاهرتان أقل عبثية من ظاهرة السيطرة عن طريق «الفضل الالوهي» التي يمارسها رجل لا يمكن حتى لألذ أعدائه أن يقول بأنه ساحر، على شعب يتألف من 68 مليون نسمة، سبق له أن أنتج أشخاصا مثل كنت وهلمهولتز [92] وغوته!
إن المجتمع الشيوعي البدائي، انطلاقا من تطوره الداخلي نفسه، يقود إلى اللامساواة وإلى الاستبداد. غير أنه لا يمكنه أن يختفي بسبب هذا التطور، بل على العكس بامكان هذا الأخير أن يضمن له بقاء يستمر ألوف السنين. وعلى سبيل الانتظام، تصبح مثل هذه المجتمعات، آجلا أو عاجلا، فريسة للمحتلين الأجانب. ومن هنا تحدث التحولات الاجتماعية الكبيرة. وفي هذا المجال نجد أن الهيمنة الإسلامية هامة للغاية، لأنها –وفي كثير من الأماكن- استبقت السيطرة الأوربية في آسيا وإفريقيا. ونلاحظ انه حيثما وطد شعب من البدو المسلمين (سواء أكانوا من المنغول أو من العرب) سلطته في بلد محتل، نمت تلك السيرورة التي أطلق عليها هنري مين وكافالوفسكي اسم FEODALISATION. فالمحتلون دون أن يستولوا على الأراضي بأنفسهم، كانوا يسعون وراء هدفين: إبراء الذمة من الأتاوات، والتعزيز العسكري لسيطرتهم على البلد. والواقع أن التنظيم العسكري والإداري الدقيق كان يخدم هدفين: كان البلد يقسم إلى عدة ولايات يتولى فيها موظفون مسلمون مهمة جمع الضرائب والإدارة العسكرية. وعلى هذا النحو كانت أراض غير مزروعة تستخدم لتأسيس مستوطنات عسكرية.
وهذه المؤسسات، بالإضافة إلى نشر الشريعة الإسلامية، كانت تؤدي إلى حدوث تغير أساسي في أوضاع العيش العامة في المجتمعات البدائية، أما الأوضاع الاقتصادية فلم يكن يصيبها الكثير من التبدل. فأسس وتنظيم الإنتاج كانت تظل هي نفسها وتدوم لقرون طويلة –بالرغم من الاستغلال والضغط العسكري. غير أن السيطرة الإسلامية لم تهتم –في كل مكان- نفس الاهتمام بشروط حياة السكان الأصليين. فلقد مارس العرب، على الساحل الشرقي لإفريقيا، وطوال قرون من الزمان، تجارة العبيد السود.. ولقد قادتهم هذه التجارة إلى حملات طرد عنيفة للعبيد في وسط إفريقيا، وإلى تفريغ القرى من سكانها وتدميرها بشكل كلي، وإلى تعاظم استبدادية الزعماء المحليين الذين كانوا يربحون من جراء بيع أتباعهم للعرب، أو بيع هؤلاء أبناء القبائل المستعبدة المجاورة. غير أن هذا التحول، الذي أدى إلى كل هذه النتائج التي أثرت على مصير المجتمع الإفريقي، لم يكن سوى النتيجة المباشرة للتأثيرات الأوربية: فتجارة العبيد السود لم تزدهر إلا مع الاكتشافات والغزوات التي قام بها الأوربيون في القرن السادس عشر، وإلا عندما احتاج الأمر إلى السود للعمل في المزارع والمناجم التي كان الأوربيون يستغلونها في أمريكا وآسيا.
وعلى جميع الأحوال نجد أن العامل المميت للعلاقات الاجتماعية البدائية، لك يكن سوى التسلل الذي قامت به الحضارة الأوربية. فالمحتلون الأوربيون هم الأول الذين لم يهدفوا فقط إلى استعباد السكان المحليين واستغلالهم اقتصاديا، بل أيضا إلى الاستيلاء على الأرض وعلى أدوات الإنتاج. وللقيام بهذا، حرمت الرأسمالية الأوربية النظام الاجتماعي البدائي من ركيزته الأساسية. وأنها لأسوا من كل قمع واستغلال، تلك الفوضى الأوربية الشاملة وتلك الظاهرة الأوربية الخاصة التي هي عدم أمان الوجود الاجتماعي. إن الشعوب الخاضعة، إذ فصلت عن أدوات إنتاجها، لم تعد تعتبر من مثل الرأسمالية الأوربية، سوى قوة عمل، وهي إن كانت تساوي شيئا بالنسبة إلى أهداف رأس المال، فهي لا تساويه إلا إذا حوّلت إلى عبيد، وإلا جازت إبادتها. لقد رأينا هذا المنهج يطبق في المستعمرات الأسبانية والإنكليزية والفرنسية، والمجتمع البدائي الذي تمكن من البقاء خلال كل مراحله التاريخية السابقة، استسلم أمام المسيرة الرأسمالية. وكما استسلم، نجد أن بقية ما بقي من آثاره، تكنس اليوم من على سطح الأرض، فيما تعمد الرأسمالية إلى امتصاص عنصرية الرئيسين: قوة العمل وأدوات الإنتاج. لقد زال المجتمع الشيوعي البدائي –وذلك لأنه، في التحليل الأخير، تم تجاوزه من قبل التقدم الاقتصادي- وأخلى مكانه لآفاق التطور الجديد. وهذا التطور وذاك التقدم، سوف لن يتم التعبير عنهما لفترة طويلة قادمة، إلا عن طريق المناهج الدنيئة التي يتبعها مجتمع الطبقات، وسيظل يتبعها حتى اللحظة التي يتجاوزه فيها التقدم ويزيله.
والعنف ليس هنا سوى الخادم الذي يعمل لمصلحة التطور الاقتصادي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعتقال متظاهرين أغلقوا جسر البوابة الذهبية في كاليفورنيا بعد


.. عبد السلام العسال: حول طوفان الأقصى في تخليد ذكرى يوم الأرض




.. Britain & Arabs - To Your Left: Palestine | الاستعمار الكلاس


.. الفصائل الفلسطينية تسيطر على طائرة مسيرة إسرائيلية بخان يونس




.. مسيرة في نيويورك لدعم غزة والشرطة الأمريكية تعتقل المتظاهرين