الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تواطؤ الثقافة

راتب شعبو

2019 / 6 / 9
المجتمع المدني


ن للنظام السياسي أن يسير على قدم سياسية ما لم تواكبها أو تسبقها قدم ثقافية. التعدي السياسي على حقوق الناس وحياتهم، يحتاج إلى تمهيد ثقافي أو يتطلع إلى تغطية ثقافية لاحقة. على هذا فإن الثقافة التي تستوعب الجرائم السياسية وتفتح لها باباً من القبول أو التفهم، هي ثقافة متواطئة، كي لا نقول خائنة.
القرار السياسي بقصف المدنيين وقصف مصادر عيشهم لفرض الاستسلام، يحتاج إلى ترويج ثقافي يقول إن الشعب لا يُحكم إلا بالقوة، أو لا يفهم إلا لغة القوة. استسهال تجويع وقتل الناس لفرض واقع غير مقبول منهم، يحتاج إلى ترويج "عقلاني" يقول إن هذه تضحية بجزء من الشعب لإنقاذ عموم الشعب. شيوع هذا النمط من الثقافة في مجتمعنا، يجعل تاريخنا تكراراً مأساوياً لذاته.
ما شهدته سورية من قتل للمدنيين بناء على انحيازاتهم المختارة أو المفروضة، وبناء على مواقفهم السياسية الحقيقية أو المفترضة، أو بناء على مناطق عيشهم ومنبتهم الاجتماعي، هي ممارسة سياسية تستند، ليس فقط إلى قانون القوة، بل وأيضاً إلى كلام ثقافي متواطئ يفتح الباب أمام الجريمة السياسية.
تأتي خطورة الثقافة المتواطئة من عمق فاعلية الثقافة قياساً على سطحية أو عابرية السياسة. السياسة المجرمة التي يمكن أن يبتلى بها مجتمع ما، يمكن ترميم خرابها، حين تنتهي، إذا ظلت "الأدمة" الثقافية للمجتمع سليمة، أي غير متواطئة. ولكن حين يجري تكريس ثقافة تتقبل الجريمة، مهما تكن المبررات، يصبح الخلاص من السياسة المجرمة مجرد استهلال لسياسة مجرمة أخرى.
دائماً يحتاج الفعل السياسي إلى أصل ثقافي، فكرة العقيدة أو الوطن أو الطبقة، غالباً ما تشكل أساساً زائفاً لجرائم سياسية أساسها الحقيقي المصلحة المباشرة لأصحاب السلطة. الثقافة التي تعطي هذه الأفكار، على أهميتها، أولوية على حياة الناس وكرامتهم، تعطي في الواقع أولوية لمصالح أصحاب السلطة، وتكون الوجه "الثقافي" للاستبداد وللجريمة. الثقافة التي لا تجد في مقتل الأبرياء ما يستدعي إدانة صريحة دون استدراك، بصرف النظر عن الدوافع، هي ثقافة تساند الاستبداد السياسي وتديمه، حتى لو كانت تهاجم الاستبداد السياسي الحاكم أو المتطلع للحكم.
من علامات الوهن الثقافي أن يتمثل الفعل الثقافي بنظيره السياسي، فتدخل المعايير السياسية إلى الثقافة، ويظهر لذلك في المجال الثقافي نزوع براغماتي، يدفع الثقافة إلى أن تتخلى، لمصلحة ما، عن قيمة أو قيم ثقافية إنسانية عامة. أي تتخلى الثقافة عن دورها العام لتخدم دوراً سياسياً خاصاً، وتفقد ما للثقافة من دور مرجعي يحفظ تماسك المجتمع حول القيم الثقافية الأخلاقية العامة.
ينبغي التمييز بين الانحياز السياسي الطبيعي للمثقف وبين دوره كفاعل ثقافي. الانحياز السياسي يحدد موقع الشخص في صراع راهن، والدور الثقافي يحدد موقعه من القضايا الانسانية الأساسية التي لا تخضع للمساومات السياسية. تجد البراغماتية مكاناً لها في المجال السياسي ولكن لا محل طبيعياً لها في المجال الثقافي.
في السياسة يمكن مهادنة جريمة هنا ومهاجمة جريمة هناك وفق مقتضيات اللحظة السياسية، ولكن لا يمكن للثقافة أن تفعل ذلك، فتخسر القاسم المشترك "الإنساني"، وتنقسم وفق الانقسامات السياسية، حينها تتحرر السياسة من المساءلة الثقافية، ويفقد المجتمع مناعته ضد الممارسات السياسية الإجرامية، نظراً إلى غياب موقف ثقافي موحد ومطلق.
من بين المعايير الكثيرة التي تميز النظم المستبدة من النظم الديموقراطية، يمكن الكلام عن استقلالية الثقافة أو تابعيتها. في النظام المستبد تصبح السياسة قيّمة على الثقافة، وتصبح المعايير السياسية أعلى من المعايير الثقافية، ويبرز الحديث عن "الأدب الملتزم" مثلاً، الذي لم يعن في الواقع سوى الالتزام بسياسة النظام، وتتحول الرقابة السياسية إلى سلطة تنفيذية في الثقافة. الخطير في الأمر، ليس تسلط السياسة على الثقافة، فمن طبيعة السياسة أن تميل إلى الاستبداد بالمستويات الأخرى، الخطير هو استقبال الثقافة لهذا التسلط والتكيف معه وقبول موقع المغلوب له. الخطير هو أن يتحول المثقف إلى ناطق "ثقافي" باسم المجرم السياسي.
في النظام الديموقراطي تمتلك الثقافة القدرة على محاسبة السياسة أخلاقياً وقيمياً، وتستمد هذه القدرة من استقلالية الثقافة ووزنها لدى الجمهور، هذا الوزن المتأتي من حيوية ثقافية حرة ومصانة، ومن شغل ثقافي كثيف يتناول الهموم المباشرة والمتحركة للناس ويكتسب احترامهم. لا يتأتى احترام حقوق الإنسان في البلدان الديموقراطية من الطبيعة "الانسانية" للمسؤولين في هذه الدول، بل من "عجزهم" عن الاستبداد بفعل محددات كثيرة، من أهمها الحاجز الثقافي المتين الذي يقف في وجههم.
أن يضع المثقف انحيازه السياسي فوق القيم الأخلاقية العليا للثقافة، وأن تتساهل الثقافة مع الجريمة السياسية، استجابة للانحياز السياسي، هي الخسارة الأكبر التي يمكن أن يمنى بها مجتمع، لأن ذلك يتسبب في عطب الجهاز الذي من شأنه ترميم التخريب السياسي، وحماية المجتمع من التكرار المأساوي للإجرام السياسي.
كانون ثاني 2019








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حاكم ولاية تكساس يبدل رأيه في حرية التعبير في الجامعات: المت


.. الأخبار في دقيقتين | مجلس الحرب الإسرائيلي يناقش غزو رفح ومف




.. Iranian authorities must quash Toomaj Salehi’s conviction an


.. عائلات المحتجزين الإسرائيليين يتظاهرون أمام مقر انعقاد مجلس




.. تفاعلكم | شاهد.. عنف واعتقالات في مظاهرات طلابية في أميركا د