الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حضارة العرب من منظور التوسع الاستعماري (3)

محمد مبروك أبو زيد
كاتب وباحث

(Mohamed Mabrouk Abozaid)

2019 / 6 / 13
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


في عام 2011 اجتمع مجموعة من خبراء القانون وحقوق الإنسان في مدينة مساتريخت الهولندية واتفقوا على وضع المبادئ المتعلقة ‏بالالتزامات الخارجية للدول في مجال الحقوق الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، فبعد ظهور العولمة الاقتصادية وامتداد أثر الدولة (ثقافياً واقتصادياً ‏واجتماعياً) إلى شعوب خارج نطاقها الإقليمي، بدت ردة فعلٍ مقابلة لأبناء هذه الشعوب، حيث ظهرت عولمة لحقوق المواطن (ثقافياً واقتصادياً ‏واجتماعياً) يمكنه أن يستمدها من خارج النطاق الإقليمي لدولته.. ونتيجة لتزايد أثر الدول خاصة في المجال الاقتصادي تزايدت حاجة الشعوب إلى ‏مبادئ إنسانية ذات طابعٍ عالمي كي تحفظ حقوقها، ومن هنا ظهرت المبادئ التي تلقي بالتزاماتٍ دوليةٍ لحماية حقوق الإنسان(ثقافياً واقتصادياً ‏واجتماعياً) مثل حق العمل وتوفير ظروف معيشية ملائمة وضمان الرعاية الاجتماعية والغذاء والسكن والتعليم والصحة وبيئة ثقافية. وقد اعترفت الدول ‏بهذه الحقوق وقبلتها كالتزاماتٍ عليها خارج نطاقها الإقليمي، وبمساعي خبراء القانون وحقوق الإنسان أمكن التوصل لمبدأ؛ (لكل فرد الحق في التمتع ‏بنظام اجتماعي دولي) أي وضع قاعدة يشترك فيها جميع المواطنين من جميع الشعوب تضمن الحد الأدنى للحياة الإنسانية الكريمة أياً كان موطن ‏الشخص. وقد تأكد ذلك في إعلان وبرنامج فينّا، وتجدد التأكيد على هذه المبادئ في إعلان الألفية، فاستقر بذلك نظام دولي قائم على مبادئ المساواة ‏بداية من (حق تقرير المصير للشعوب والسلم، والديمقراطية، والعدل وسيادة القانون، والتعددية، والتنمية، وتحسين مستوى المعيشة، والتضامن). وتجسد ‏هذا النظام الدولي الإنساني في عدة محافل دولية واتفاقيات ومواثيق للأمم المتحدة، وصولاً إلى صكوك حقوق الإنسان العالمية، وقد استكملت هذه ‏المبادئ بناءً على مبادئ ليمبورج1986 الخاص بضمان الحقوق، ومبادئ ماستريخت1997 الخاص بانتهاك الحقوق.‏

وتدور المبادئ العامة في محورٍ إنساني يبدأ من حيث ميلاد الإنسان حراً كريماً، ومن ثم تنطلق المبادئ لتعميم هذه الحرية والكرامة بضمان الطرق ‏والوسائل التي تضمن بقاءها لصيقة بشخصية المواطن مهما اختلف موطنه أو جنسه بما يضمن (الحرية لكل إنسان، والمساواة، والكرامة، وعدم التمييز). ‏وبعد استقرار هذه الحقوق يأتي إلزام الدول (بصفتها القادرة على التحكّم في هذه الحقوق) بضمان تطبيق حقوق الإنسان الثقافية والاجتماعية ‏والسياسية والمدنية داخل وخارج نطاق ولايتها الإقليمي. وأصبحت بذلك حقوق الإنسان ذات طابع عالمي موحّد (تساوي جميع الأشخاص على ‏مستوى العالم في ذات الحقوق-تساوي الحقوق ذاتها مع بعضها في درجة الأهمية بالنسبة لكل إنسان) فأصبحت بذلك حقوق عالمية موحدة مشتركة ‏مترابطة متشابكة غير قابلة للتجزئة من حيث كونها حقوق، وأيضاً من حيث كونها التزامات يقع على عاتق جميع الدول تطبيقها داخل وخارج نطاقها ‏الإقليمي.‏

هكذا تفكر الشعوب المدنية في صياغة دساتير العالم ومواثيق حقوق الإنسان، حيث يبذل الخبراء قصارى جهدهم في حماية حقوق الإنسان في ‏دول أخرى وليس فقط في مجتمعاتهم، فهل فكر الصحابة الكرام في حماية حقوق الإنسان في فارس والعراق التي قتلوا من أنبائهم نصف مليون إنسان ‏خلال سنة واحدة من الفتوحات في عهد أبي بكر وسبوا وخطفوا ضعف هذا العدد نساء وأطفال واستعبدوهم وباعوهم في أسواق النخاسة؟ إذ هم كانوا ‏ينتهكون حقوق الإنسان في بلادهم وبلاد غيرهم، وفي تفسير قوله تعالى" يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم" قالوا أنها أمر إلهي للمؤمنين بقتال ‏الشعوب المجاورة لهم بالدور؛ أي الأقرب فالأقرب... ! بينما الآية تأمرهم بتخليص أنفسهم من المنافقين. فما علاقة العرب بالإسلام أو ماذا يعرفون عنه. ‏في الواقع إن العرب تلقوا من النبي جرعة العلاج ولفظوها عند وفاته ولم يبق في جوفهم منه شيء.. هم فقط فكروا في شيءٍ واحد هو كيفية توظيف هذا ‏الدين فيما يخدم طموحاتهم وأطماعهم ورغباتهم، حتى أنهم فسروا كتاب الله بما يعبر عن مكنون أنفسهم. ‏

لدرجة أننا نجد خبراء الدين والعقيدة الفقهاء والمفسرين في قوله تعالى "‏‎ ‎وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (الفلق 3) يقولون: من شر قضيب الرجل إذا ‏انتصب‎ !!! ‎قال ابن عباس في كتاب النقاش: الغاسق إذا وقب: ذَكَرُ الرَّجُل(1)‏‎.‎‏ وقال آخر: المعنى من شر الذَّكَر إذا قام(2) وقال ثالث: بأن الغاسق إذا ‏وقب يعني بيان اختلاف حكم الجوع وفضيلته واختلاف أحوال الناس فيه‎ ‎‏(3). وعن ابن عباس: في قوله تعالى ‏‎"‎‏ ومن شر غاسق إذا وقب ‏‎"‎‏ قال: هو ‏قيام الذكر. وقد أسنده بعض الرواة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه قال في تفسيره: الذَّكَر إذا دَخَل‎.‎‏ وقال رابع :" غاسَقٍ إذا وَقَب" ومعناه: أيرٍ "قضيب إذا ‏قامَ" حكاهُ الغَزاليُّ وَغيرهُ، عن ابن عباسٍ(4). وقال خامس:‏‎ ‎من شَرِّ الذَّكَرِ إذا قَامَ(‏‎ (5‎‏. وقال سادس: ‏‎ ‎من شر غاسق إذا وقب إنه الذكر إذا انتصب(‏‎6‎‏). ‏وقال سابع: وقب : معناه : أير أي الذكر إذا قام . حكاه الإمام أبو حامد الغزالي وغيره كالنقاش في تفسيره وجماعة عن الإمام الحبر عبد الله بن عباس ‏رضي الله عنهما(‏‎7‎‏). ‏

يقول المستشار أحمد ماهر أن المشكلة بين العرب وبين ابن عباس وابن عطية ومفسري القرآن كانت في أن قضيب الرجل إذا قام أو دخل أو إذا ‏انتصب.. لكنهم اتفقوا على أن الغاسق هو قضيب الرجل ! ولعل هذا هو السبب في أنهم أطلقوا لقب [ حبر الأمة الأعظم] على ابن عباس‎..‎‏ ونقرأ في ‏تفسير الطبري:معناها :‏‎ ‎من شر الليل إذا أظلم‎.‎‏ وبتفسير الجلالين‎ :‎ومن شر غاسقٍ إذا وقب‎:‎‏ أي الليل إذا أظلم أو القمر إذا غاب. وقال آخرون: هو ‏كوكب. وكان بعضهم يقول: ذلك الكوكب هو الثُّريا‎.‎‏ وفي تفسير السعدي: غاسق إذا وقب: أي: من شر ما يكون في الليل، حين يغشى الناس، ‏وتنتشر فيه كثير من الأرواح الشريرة، والحيوانات المؤذية..‏‎.‎‏ يعني من الممكن أن يختلف خبراء القانون حول تفسير مادة أو عبارة أو كلمة في نصوص ‏المعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، لكن هل يصل الخلاف بينهم إلى هذه الدرجة من الانحراف؟ أليس هناك أي ضوابط؟ ولا غاية ولا سبب ‏موضوعي ولا معنى؟ ثم أن الآية عبارة عن بيان من الله إلى النبي محمد عليه السلام يبدأ بالأمر "قُل " في سورة قصيرة آياتها خمس، يقول تعالى : قُلْ أَعُوذُ ‏بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)‏‎ ‎مِن شَرِّ مَا خَلَقَ(2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ‎ ‎‏(3)‏‎ ‎وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ(4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ‎ ‎‏ (5)/ الفلق.. ونلاحظ ‏أن جميع الآيات تتحدث عن الاستعاذة بالله من الشر والضرر والوسوسة، فما علاقة كتاب الله بقضيب العرب إذا انتصب؟ هل نتوقع أن يقول الله لنبيه ‏أن يستعيذ من القضيب إذا انتصب؟ !! ثم يدورون ويختلفون حول هل أن القضيب انتصب أم قام أم دخل !! برغم أن كلمة الغاسق تعني: الغموض ‏المصاحب للخطر، وكلمة "وقب" تعني الحلول والاقتراب، أي أن المراد( من شر وساوس الشيطان الخفية إذا ما دخلت علي النفس) و وكل ذلك يناسب ‏سياق الآيات والمعنى من الاستعاذة من شر ما خلق ومن الوسواس الذي يوسوس في صدور الناس... لكن ربما ما كان يوسوس في نفوس العرب هو ‏الجنس وانتصاب وقيام القضيب، ولهذا زادت أعداد السبايا.. فهل هكذا كانت رؤية العرب للقرآن ؟

وفي تفسير قوله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } يس55؛‎ ‎قالوا " وهو افتضاض الأبكار، على شط الأنهار، تحت الأشجار، ‏أو سماع الأوتار في ضيافة الجبار.." واختلفوا في معنى الشغل، قال ابن عباس: في افتضاض الأبكار.. وقال وكيع بن الجراح: في السماع.. وفي تفسير ‏الرازي: افتضاض الأبكار ومداعبة الكواعب.. وفي تفسير السعدي: في شغل مفكه للنفس، مُلِذِّ لها، من كل ما تهواه النفوس، وتلذه العيون، ويتمناه ‏المتمنون. ومن ذلك افتضاض العذارى الجميلات‎.‎‏. (في الواقع مثل هذه الفلسفات العقيمة هي ما تجعل فقهاء الإسلام اليوم في حالة دفاع عنه وليس ‏تبشير به وانتشار له، فحالة الدفاع ذاتها تعني أنه في انكماش وليس انتشار، لكنهم لم يدركوا سبب عدم قدرتهم على الانتقال به من حالة الانكماش إلى ‏حالة الانتشار)‏

دعونا نعود إلى الغزوات والفتوحات أفضل، لأن أفضل تطبيق عملي لفض الأبكار وافتضاض العذارى الجميلات كان في السبي والجهاد وليس في ‏مواثيق حقوق الإنسان ومبادئ ماستريخت، فهل مجرد اعتراف الأزهر رسمياً بأن الجهاد في الإسلام إنما هو دفاعي فقط، وفي حدود الدفع الشرعي عن ‏حق الوجود، والتأكيد على ذلك بأن جميع المعارك التي تعرض لها النبي لم تكن غزوات وإنما كانت معارك دفاعية ولم تتجاوز حدود الدفاع الشرعي، أن ‏ذلك حتماً سيدفعه بعد مائة وعشرين عاماً للاعتراف بأن خالد ابن الوليد مجرم حرب ولم يكن مجاهداً في سبيل الله؟ أم أنه سيظل مجرم حرب في نظر ‏مواثيق حقوق الإنسان، وفي الوقت ذاته بطلاً قومياً للمسلمين؟ وهل معنى ذلك أن يعيش كل المسلمين على مستوى العالم باعتبارهم مجرمي حرب في ‏نظر هذه المواثيق؟ طالما أنهم يؤدون فعلاً من جرائم الحرب ويعتبرونه ديناً مقدساً لهم؟ وهل جاءت مواثيق حقوق الإنسان أكثر رحمة ورأفة بالإنسان من ‏الدين الإسلامي؟ وهل فعلاً أن الإسلام جاء رحمة وسلاماً للعالمين؟ وهل فعلاً أن مواثيق حقوق الإنسان قادرة على أن تثبت للمسلمين أنفسهم أن ‏دينهم دين سلامٍ بينما تاريخ الصحابة ليس من الإسلام في شيء؟ ‏

وهل معنى اعتراف الأزهر بأن الجهاد في الإسلام دفاعي فقط كما جاهد النبي، أن تكون فتوحات عقبة ابن نافع في شمال إفريقيا وطارق ابن زياد ‏للأندلس جرائم حرب واحتلال وغصب وعدوان على الشعوب؟ أم أنها ستظل في كتب التاريخ المدرسية تدرس للأطفال تحت مسمى فتوحات وبطولات ‏إسلامية وجهاد في سبيل الله، وفي ذات الكتب المدرسية نتعلم أن الجهاد دفاعي فقط وأن الإرهاب عدوان! أم أننا نعلمهم أن الفتوحات كانت الجهاد ‏الأمثل في سبيل الله حتى إذا ما خرج لنا جيل يدمر الأوطان والشعوب بالإرهاب نعود في محاولة لتهدئة الحملات الإرهابية بالقول بأن الجهاد دفاعي ‏فقط؟ فلماذا علمناهم في صغرهم أن الجهاد هجومي وأن الفتوحات جهاد؟ أم أن الجهاد كان دفاعي في عهد النبي، ثم أصبح هجومي في عهد الصحابة، ‏ثم عاد دفاعي في عهدنا نظرياً فقط! ونتساءل لماذا تصف مواثيق حقوق الإنسان غزوات النبي بأنها معارك دفاعية مشروعة وشريفة، وذات المواثيق ‏تصف الفتوحات العربية بأنها جرائم حرب؟ وذات المواثيق تصف ضباط أكتوبر بأنهم أبطال عظماء ويفخر بهم العالم أجمع وليس المصريين وحدهم !‏

بينما يكمل ابن كثير روايته عن الإنسانية بمفهوم العرب، فيقول:" ولما هزم‎ ‎خالد‎ ‎الجيش ورجع من رجع من الناس، عدل‎ ‎خالد‎ ‎إلى الطعام الذي ‏كانوا‎ ‎قد وضعوه ليأكلوه، فقال للمسلمين: هذا نفل فانزلوا فكلوا، فنزل الناس فأكلوا عشاء، وقد جعل‎ ‎الأعاجم‎ ‎على طعامهم جردقا كثيرا، فجعل من ‏يراه من أهل البادية من الأعراب يقولون: ما هذه الرقع ؟ يحسبونها ثيابا . فيقول لهم من يعرف ذلك من أهل الأرياف والمدن: أما سمعتم برقيق العيش ؟ ‏قالوا: بلى . قالوا : فهذا رقيق العيش . فسموه يومئذ رقاقا ، وإنما كانت العرب تسميه القرن‎" ‎‏.‏
وهنا نقف وقفة سريعة حول حجم التقدم والرقي الحضاري الذي كان يعيش فيه أهل هذه البلاد، في مقابل الشظف والهمجية والجهل والانحطاط ‏الخلقي الذي يعيش فيه العرب، بل وانعدام الإنسانية، والجوع لأن كل طير يشبعه منقاره، والنبي عليه السلام علمهم أن خيرهم من يأكل من عمل يده ‏لا من قوت الآخرين... برغم أن الرسول بُعث فيهم لنقلهم من جهلهم وغبائهم، إلا أنهم عادوا بعد وفاته يمارسون عادتهم القديمة في الهجوم والقتل ‏والسلب والنهب. ولم يكن أهل البلاد هذه يعتدون على ديار الإسلام ولا المسلمين بأي حال، ولم يتعرضوا لهم في طرقات حتى، كانوا آمنين، لكن ‏العرب بقيادة خالد لا يعرفون معنى الحضارة والرقي، حتى أنهم انتشروا في البلاد للعربدة والتخريب والنهب وخطف الأطفال والنساء لبيعهم في أسواق ‏النخاسة. وأقنعوا الناس بأنهم إنما جاؤوا لينشروا دين الله !! بينما كانت أسواق النخاسة أكثر ازدهاراً من معرض القاهرة الدولي للكتاب !‏

ثم ينتقل ابن كثير في تأريخه لخالد في صفحة 518 فيقول: وقام خالد في الناس خطيباُ فرغبهم في بلاد الأعاجم وزهدهم في بلاد العرب وقال: ألا ‏ترون ها هنا من الأطعمات!؟ وبالله لو لم يلزمنا الجهاد في سبيل الله والدعاء إلى الإسلام ولم يكن إلا المعاش، لكان الرأي أن نقاتل على هذا الريف حتى ‏نكون أولى به ونولّي الجوع والإقلال ممن اثّاقل عما أنتم عليه، ثم خمّس الغنيمة وقسم أربعة أخماسها على الغانمين وبعث بالخُمس إلى الصديق"‏

كُنّا نتوقع من خالد الفاتح المغوار، عندما ينتهي من قتل الكفار المشركين الأعداء الفُساق الملحدين الوثنيين عبدة النار، أن يأوي إلى الصحابة ‏الكرام يذكرهم بكتاب الله أو يروي لهم حديثاً عن رسول الله من مئات الآلاف من الأحاديث التي حفظها.. لكنه لم يبدأ حتى خطبته باسم الله ! فقط ‏قتل باسم الله.!. ولم يكن خالد منافقاً، بل كان واضحاً جداً مع نفسه ورفاقه في هذه الخطبة أشد ما يكون، إذ عبّر بكل صراحة أن الغاية من هذه ‏الحروب ليس وجه الله ولا نشر دينه، ولكن النهب والسلب، فيقول، حتى ولو لم يكلفنا الله بالجهاد في سبيل الله لكان أولى لنا أن نقاتل أهل هذه البلاد ‏لما فيها من رغد العيش، ذلك كله في سبيل الحصول على الغنائم والسبايا والأطفال وإن كان خالد قد أخذ وسيلته هي الدين، فقاتل الناس باسم الدين ‏واغترف من أعراض الناس وأنفسهم وأموالهم بسيفه المسلول واعترف على ملأه بالغاية الحقيقة من قتاله... والعهدة على الراوي إن صح التأريخ.‏

ونتساءل عما إذا كان من قُتلوا في هذه الحرب من المسلمين، هل قُتلوا في سبيل الله أم في سبيل الغنيمة والجزية؟، هل أمرهم الله بقتل الناس ‏لتحصيل الجزية؟ فكيف يكون ذلك؟ إذ أن الجزية لا تذهب إلى الله وإنما يتم توزيعها على المقاتلين وخمسها يذهب لخزانة الدولة ليوزع منه الخليفة سبايا ‏وأسرى وفتيات وأطفال هدايا على الصحابة ! والفقراء، فكيف يكون ذلك في سبيل الله؟ فسبيل الله هو نشر الإسلام والدفاع عنه والثمن هو المال ‏والأنفس، أما جيش خالد فقد عرض الإسلام عرضاً مقتضباً على الناس وقد رفض الناس وانتهى الأمر، ثم انتقل إلى مرحلة جمع الجزية، فمن رفض ‏الدفع قامت عليه الحرب وبالتالي فيقع القتلى من الفريقين على الجزية وليس على الإسلام، فهل يعتبر من وقع من المسلمين قد استشهد في سبيل الله أم ‏في سبيل الجزية ؟؟ فسبيل الله ليس له بدل في الدنيا، وأما الجزية فقد كانت توزع كغنائم على المقاتلين فكيف بمن قتل من أجل الحصول على المال أن ‏يكون في سبيل الله؟ ثم من قتل من غيرهم -الأعداء- في سبيل الدفاع عن الوطن والأنفس والأعراض والأموال، فهل يمت محارباً للإسلام؟

يقول ابن كثير:" وكان كل من قُتل بهذه الوقعة يوم أُلّيْس من بلدة يقال لها‎ : ‎أمغيشيا‎ . ‎فذهب إليها‎ ‎خالد‎ ‎وأمر بخرابها، واستولى على ما بها، ‏فوجدوا فيها مغنما عظيما، فقسم بين الغانمين فأصاب الفارس بعد النفل ألفا وخمسمائة، غير ما تهيأ له مما قبله. وبعث خالد‎ ‎إلى‎ ‎الصديق‎ ‎بالبشارة ‏والفتح والخُمس من الأموال والسبي مع رجل يقال له‎ : ‎جندل‎ ‎من‎ ‎بني عجل،‎ ‎وكان دليلا صارما، فلما بلغ‎ ‎الصديق‎ ‎الرسالة، وأدى الأمانة، أثنى عليه ‏وأجازه جارية من السبي، وقال‎ ‎الصديق:‏‎ ‎يا معشر‎ ‎قريش،‎ ‎إن أسدكم قد عدا على الأسد، فغلبه على خراذيله، عجزت النساء أن تلدن مثل‎ ‎خالد بن ‏الوليد. ثم جرت أمور طويلة‎ ‎لخالد‎ ‎في أماكن متعددة يمل سماعها، وهو مع ذلك لا يكل ولا يمل ولا يهن ولا يحزن، بل كل ما فعله في قوة وصرامة وشدة ‏وشهامة، ومثل هذا إنما خلقه الله، عز وجل، عزاً للإسلام وأهله، وذلا للكفر وشتات شمله. (ص‎522‎‏/9)‏

نقف هنا وقفة أخرى مع الخليفة أبي بكر الذي استلم الغنيمة والسبايا، وأول شيء فعله أن أهدى جندل (الرجل الذي أحضر الغنائم والسبايا ‏من خالد)، فشكره أبو بكر ومدحه وأهداه جارية من السبي !، حيث كان خالد يهجم على الناس ويأخذ أهالي المقاتلين وزوجاتهم وأطفالهم أسرى، برغم ‏أن الله يقول "ولا تزر وازرة وزر أخرى" فإذا كان الرجال قد دافعوا عن بلادهم وأعراضهم وممتلكاتهم، واعتبرناهم مجرمين وتم قتلهم، ومن وقع منهم في ‏الأسر أيضاً تم قتله وصب دمائه في النهر ليرهب الباقين، فما ذنب زوجاتهم وأطفالهم وبناتهم؟ وكيف قبل الخليفة أبي بكر ذلك؟ وكيف أهدى جندل ‏تلك الفتاة؟ هل أرسل خالد لخطف بنات الناس كي يوزعهم هدايا على الصحابة الأبرار؟ .. ‏

ثم يستمر الخليفة في مدح خالد الوليد ولم يكن الخليفة أبو بكر منافقاً بل كان صادقاً مع نفسه وإنما نحن المنافقون؛ ذلك لأنه عندما جاءته ‏بشرى انتصار جيش خالد توجه إلى قومه بخطاب قومي وليس ديني، (قومي يخص عرب الحجاز من قريش وليس الإسلام ولا المسلمين) فقال أبو بكر: ‏‏"يا معشر قريش " ولم ينادي المؤمنين المسلمين، ثم قال لهم " إن أسدكم قد عدا على الأُسد" أي أن أبا بكرٍ لصديق كان حكيماً بليغاً صادقاً في كلامه ‏حينما نادى قومه بالمفهوم القومي " قريش" وبشرهم أن الأسد قد اعتدى على الأسود، أي هجم على أسود العجم فهزمهم، ويعترف أنه هو من هجم ‏واعتدى على الناس، فيقول: (إن أسدكم قد عدا على الأسد) فهل أمرنا الإسلام بالعدوان على الناس؟.. حتى ابن كثير نفسه وهو يروي ما حدث، ‏يشعر بأن ما فعله خالد هو بطولة قومية ويمدحه ويثني عليه، كما يقول : كل ما فعله في قوة وصرامة وشدة وشهامة، ومثل هذا إنما خلقه الله، عزاً ‏للإسلام وأهله" فهل يرى ابن كثير أن عز قريش هو عز للإسلام؟ منذ متى؟ وهل أن القتل بهذه البشاعة عز للإسلام ؟ أيّ إسلام يعتز بهذه الجرائم؟ إنه ‏إسلام قريشٍ فقط وليس إسلام محمد.‏

ولا يجب أن ننسى أن خالداً لم يقاتل الفلاحين في ريف فارس لأنهم قبلوا بدفع الجزية، أما أمراء المدن فقد رفضوا دفع الجزية فقاتلهم باسم الدين! ‏فالواضح في هذه الوقائع أنها قتال على مال "الجزية" والجزية هي قيمة مالية تقدر بالدراهم أو الدنانير أو الجنيهات، وهذا ما يعني أن قتال المسلمين ‏لأعدائهم بقيادة خالد الوليد لم يكن محاولة منهم لإقناع هؤلاء الأعداء بالدين الإسلامي، ولم يكن دفاعاً منهم ضد العدو المهاجم على الإسلام، بل ‏كان طلباً للجزية، ومن دفع الجزية عصم نفسه وماله وشرفه وأطفاله من قتال خالد وجيشه! فهل هذا منطق الإسلام؟ هل قرر الإسلام قتال الغير على ‏مال؟ إذا كان الخيار هو إما المال وإما السيف، فهل هناك دين يأمر بذلك؟ بل لا يفعل ذلك إطلاقاً إلى قطاع الطرق وقبائل العرب قبل الإسلام، ‏فكيف بخالد الوليد أن يقرر من نفسه قتال كل من امتنع أو عجز عن دفع المال الذي طلبه هو "الجزية" وعلى افتراض أن خالد الوليد كان دائناً لهؤلاء ‏الناس بقيمة الجزية فهل يجوز شرعاً قتالهم عليها؟ أم أنه فعل ما أمر به خالد من قتال كل من رفض دفع الزكاة في حروب الردة؟ وهل يجوز استخدام من ‏عجز أو امتنع عن دفع الجزية لبيعه في أسواق النخاسة؟ فخالد الوليد وجيشه الجرار قد اكتسح شعوب الأرض قتالاً واستثنى من ذلك الفلاحين الذين ‏قبلوا دفع الجزية. ‏

في الحقيقة إن ما فعله خالد الوليد قبل ألفٍ وأربعمائة عام هو ما يفعله قادة الإرهاب الداعشي في سوريا اليوم باسم الإسلام وسعياً وجهاداً في ‏سبيل الله ومرضاة له، ذلك لأنه إلى عصرنا الحالي ولم يتم تمحيص هذه الروايات التاريخية إن صحت عن ابن كثير والطبري والبخاري أو غيره، فهي تمثل ‏تاريخ العرب وليس تاريخ الإسلام؛ لأن العرب انحرفوا عن الإسلام بعد رحيل الرسول وعادوا لعادتهم وأعرافهم وتقاليدهم الجاهلية، وتجسد الصورة ‏التاريخية للجهاد في سبيل الله الذي ابتدعه العرب باسم الدين والخلافة. لم يكن خالد الوليد يدرك أن أفعاله هذه ليست من الإسلام ولا تمثل المسلمين ‏ولا أي دين على وجه الأرض، بل هي محض غريزة عنف وعدوان وقتل، ولم يدرك أن ما فعله يخالف الميثاق العلمي لحقوق الإنسان، فلم يكن موجوداً ‏وقتها أي ميثاق، ربما ما كان موجوداً هو كتاب الله القرآن الذي هو أرقى وأسبق من ميثاق حقوق الإنسان، لكن خالد لم يقرأه وانشغل بحروبه وانتشى ‏بفروسيته وانتصاراته على حساب القيم والمبادئ والرحمة بالناس. ‏

ويروي ابن كثير عن: فتح‎ ‎خالد‎ ‎للأنبار،‎ ‎وتسمى هذه الغزوة ذات العيون‎ ‎‏" ركب‎ ‎خالد‎ ‎في جيوشه، فسار حتى انتهى إلى‎ ‎الأنبار‎ ‎وعليها رجل من ‏أعقل الفرس وأسودهم في أنفسهم، يقال له‎ ‎شيرزاذ.‏‎ ‎فأحاط بها‎ ‎خالد‎ ‎وعليها خندق وحوله أعراب من قومهم على دينهم، واجتمع معهم أهل أرضهم، ‏فمانعوا‎ ‎خالدا‎ ‎أن يصل إلى الخندق، فضرب معهم رأسا، ولما تواجه الفريقان أمر‎ ‎خالد‎ ‎أصحابه فرشقوهم بالنبال حتى فقئوا منهم ألف عين، فتصايح ‏الناس: ذهبت عيون أهل‎ ‎الأنبار.‏‎ ‎فسميت هذه الغزوة ذات العيون، فراسل‎ ‎شيرزاذ‎ ‎خالدا‎ ‎في الصلح، فاشترط‎ ‎خالد‎ ‎أمورا امتنع‎ ‎شيرزاذ‎ ‎من قبولها، ‏فتقدم‎ ‎خالد‎ ‎إلى الخندق فاستدعى برذي الأموال من الإبل فذبحها حتى ردم الخندق بها، وجاز هو وأصحابه فوقها، فلما رأى‎ ‎شيرزاذ‎ ‎ذلك أجاب إلى ‏الصلح على الشروط التي اشترطها‎ ‎خالد، وسأله أن يرده إلى مأمنه، فوفى له‎ ‎خالد‎ ‎بذلك، وخرج‎ ‎شيرزاذ‎ ‎من‎ ‎الأنبار‎ ‎وتسلمها‎ ‎خالد، فنزلها واطمأن بها، ‏وتعلم الصحابة ممن بها من العرب الكتابة العربية (‏‎ ‎‏527/9)‏

وهنا نلاحظ للمرة الثانية مدى ارتقاء هذه الشعوب وحضارتها في مقابل بربرية العرب وهمجيتهم وجهلهم، غير أنهم هم من بدؤا الهجوم على ‏الشعوب، ولم يعودوا في حاجة لإرسال "الإنذارات الحربية"، بل يبادرون بالهجوم، حتى أن الناس حفروا خندق لمنع خالد من الهجوم عليهم، فقام بذبح ‏الإبل والخيول ووضعها في الخندق وعبر بجيشه عليها، وحاصر الناس في بيوتهم واشتعل القتل بلا رحمة (وهم عرب مسيحيين).. ثم دخل البلد ليتعلم ‏منهم القراءة والكتابة لأن أغلب جيشه من الجهلاء الذين لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، ومع ذلك يزعمون أنهم إنما دخلوا ليعلمون الناس الدين ‏الإسلامي! فهل دخلوا ليعلموهم الدين أم ليتعلموا منهم القراءة والكتابة؟ والغريب أن ذات الفعل العدواني وذات الفلسفة الهمجية فعلها التتار عند ‏اقتحامهم بغداد العاصمة العباسية فيما بعد وقاموا بوضع الكتب في النهر ليعبروا عليها حتى تلونت مياه النهر بلون الحبر، ثم استمر العرب يصرخون ‏على مدار لتاريخ بجريمة التتار الذين ردموا النهر بالكتب، ولم يذكروا أنهم أيضاً فعلوا ما هو أبشع من ذلك قبل خمسة قرون، برغم أن إلقاء كتاب ورقي ‏في نهر أرحم من إلقاء حيوان في النهر لعبور الجيش عليه.‏

في عام 2015م ، تداولت وكالات الأنباء معلومات عن الشاب العراقي "هشام الذهبي"، 25 عامًا، من سكان مدينة "عين التمر" العراقية، ‏وقد أنشأ حديقة لإيواء الأطفال في بيته، حيث قام بلملمة 33 طفلاً يتيمًا عجزت الدولة عن توفير الرعاية لهم، وعاهد نفسه أن يرعاهم حتى يكبروا ‏ويواجهوا الحياة بأنفسهم‎.‎‏ واستمر حريصاً على مشاركة الأطفال أحزانهم وأفراحهم ليعوضهم عن حنان الأب والأم الذي فقدوه نتيجة سنوات من ‏الضياع‎.‎‏ واتخذ شعاراً لمجموعته "لا تذرف دمعة، بل امنحني فكرة"، بغية تطوير وتنمية الأطفال، وإعدادهم، وتأهيلهم، ليكونوا عنصراً فاعلاً في المجتمع ‏دون إحساسٍ بالغبن والتهميش.. هذا الشاب النبيل الخلق الذي لا يخلد إلى النوم إلا بعدما يتأكد من أن جميع الأيتام بخير، ويقص لهم قصصًا جميلة، ‏راويا لهم ما حدث معه في نهاره، ويقوّي شخصيتهم بحكم جميلة وسرد مواقف رائعة من صميم الحياة‎.‎‏.. والجدير بالذكر أن المخرج السينمائي العراقي ‏المعروف محمد الدراجي قد رصد عن كثب الجهود التي يبذلها هشام الذهبي في انتشال اليتامى من الضياع، فأخرج فيلما خاصاً بعنوان "في أحضان أمي"، ‏يؤرخ سيرة الذهبي مع هذا المشروع منذ عام 2008 إلى 2010، وقد حصد 18 جائزة من أمريكا وأستراليا وإيطاليا وكوبا وبلدان أخرى‎.‎‏(8)‏‎ ‎‏..‏

بينما كان الشاب السعودي المناضل خالد الوليد يجاهد في سبيل الله، في ذات المدينة العراقية " عين التمر"، حيث ينتقل ابن كثير ليروي عن ‏وقعة عين التمر، وهي الأكثر كارثية في تاريخ السعودية، بينما هم افتخروا به كما لو كان مشهداً سينمائياً، فيقول: وقصد‎ ‎خالد‎ ‎حصن عين التمر، فلما ‏بلغ‎ ‎مهران‎ ‎هزيمة‎ ‎عقة‎ ‎وجيشه، نزل من الحصن وهرب وتركه، ورجعت فل النصارى الأعراب‎ ‎إلى الحصن، فوجدوه مفتوحا فدخلوه واحتموا به، ‏فجاء‎ ‎خالد‎ ‎فأحاط به، وحاصرهم أشد الحصار، فلما رأوا ذلك سألوه الصلح، فأبى إلا أن ينزلوا على حكمه، فنزلوا على حكم‎ ‎خالد، فجُعلوا في السلاسل ‏وتسلم الحصن، ثم أمر فضربت عنق‎ ‎عقة، ومن كان أسر معه، والذين نزلوا على حكمه أيضاً أجمعين، وغنم جميع ما كان في ذلك الحصن، ووجد في ‏الكنيسة التي به أربعين غلاماً يتعلمون الإنجيل، وعليهم باب مغلق، فكسره‎ ‎خالد‎ ‎وفرقهم في الأمراء وأهل الغناء، وكان فيهم‎ ‎حمران، صار إلى‎ ‎عثمان ‏عفان‎ ‎من الخمس، ومنهم‎ ‎سيرين والد محمد سيرين، أخذه أنس مالك، وجماعة آخرون من الموالي المشاهير.‏

نقف هنا وقفة أخرى، مع فعلة غير إنسانية لم يرتكبها أقذر مجرمي الحرب في التاريخ البشري، حيث هجم خالد على الحصن وأسر جميع من فيه ‏ثم قتل جميع الأسرى، ثم وجد كنيسة بداخلها أربعين طفلاً، فأسرهم جميعاً ونقلهم إلى المدينة المنورة، حيث تم بيعهم في سوق النخاسة، وتوزيع بعضهم ‏هدايا على الصحابة الأبرار، واشترى منهم بعض الأمراء والصحابة عبيداً.. فهل يفرض علينا الإسلام أن نكون منعدمي الإنسانية كما كان خالد ابن ‏الوليد رضي الله عنه طالما رضي عنه الأعراب ؟! وهل يفرض علينا الإسلام هذه العقيدة البدوية البرية الإجرامية الشرسة ؟! فهذه العقلية البدوية البرية غير ‏موجودة في المدن والشعوب المدنية، فهل يتخلى المدنيون عن مدنيتهم وإنسانيتهم كي يؤمنوا بالإسلام أم يعتنقوا العقلية البدوية البرية الشرسة هذه ؟! ‏أو لنتساءل ما الفرق بين الإسلام وبين تاريخ العرب القذر؟

ونحن نقف هنا لنتساءل عن مجهودات خالد الوليد في نشر الدين بين هؤلاء الناس، فكانت كل مجهوداته فقط في القتل والذبح والنهب والسلب ‏والسبي، لكن هل علمهم شيئاً من الدين؟ بل على العكس أعطاهم الأمان وحنث بوعده وغدر بهم وقتلهم جميعاً، وبرغم أن رسولنا الكريم نهى عن ‏التعرض للطفل والشيخ والمرأة والعابد والصومعة ..." إلا أن خالد دخل الصومعة عنوة (الكنيسة) فوجد بداخلها أطفال يدرسون الإنجيل فأخذهم أسرى ‏وأرسلهم إلى أسواق النخاسة في المدينة.. ألم ينه الرسول عن ذلك؟ هل هذا إسلام؟ وما علاقة الإسلام بجرائم الحرب هذه؟ ‏

أذكر واقعة حدثت على جدار برلين بعد انفصال ألمانية الشرقية عن الغربية عقب الحرب العالمية الثانية، وكانت السلطات الألمانية في كلا ‏الجانبين تمنع عبور الأهالي للجدار الفاصل، فحدث أن هاجرت عائلة من جانبٍ إلى الآخر وتأخر عنها طفلها، وكان أحد الجنود الألمان يقف حارس ‏على الجدار العازل لمنع العبور، لكنه تعاطف مع هذا الطفل، ونقله كي يلحق بعائلته، وعرض نفسه لعقوبة الإعدام كي ينقذ حياة هذا الطفل ولا يتركه ‏يعيش وحيداً مشرداً بعيداً عن أهله. ( الصورة لجندي يفتح السلك الشائك في جدار برلين لطفل ليلحق بأهله..)‏

وهذا يوضح الفارق بين العرب وغيرهم من حيث الحس الإنساني العام، ودون أن يكون للدين أي دخلٍ في ذلك، فالمصريين الفراعنة استعمروا ‏ذات المنطقة التي فتحها خالد الوليد، وخاضوا 17 معركة مثله بالتمام والكمال، وفي حين أسر خالد الوليد أربعين طفلاً من الكنيسة وصدرهم لأسواق ‏العبيد التي كانت مصدر الدخل القومي الوحيد للعرب، بينما تحتمس باشا المصري أسر فقط أبناء الملوك والأمراء وأحضرهم لمصر، ليس لأسواق العبيد ‏ولكن ليعلمهم في العاصمة المصرية ويغرس فيهم قيم الحضارة ثم يعيدهم إلى بلادهم ليحكموها تحت رقابته.. فلماذا أصبح تاريخ خالد الوليد هو تاريخ ‏الإسلام؟ ألا يستحق تاريخ الفراعنة أن يكون هو تاريخ الإسلام؟ أليس ما فعله تحتمس أقرب إلى الإسلام وأفضل وأرقى مما فعله خالد؟ غير أن هذه ‏الواقعة تحديداً توضح الفارق بين الحضارتين والثقافتين، إذ كان المصريين يفتحون البلاد ليس فقط للحصول على الثروة والسيادة، بل ينشرون العلم ‏والمعرفة أينما ذهبوا، بينما العرب لم يكن لديهم أي علم ولا معرفة يصدرونها لهذه الشعوب، حتى معينهم الثقافي (الإسلام ) تركوه ولم يتفقهوا فيه حتى ‏جاء الأطفال العبيد الذين أسروهم من هذه البلاد ولملموا المعرفة الدينية المتناثرة حولهم فصاروا علماء للعرب أنفسهم!.. ‏

هكذا كان العرب.. وهكذا جاء التراث الإسلامي، والمشكلة ليست في تصحيح المفاهيم والأفكار، بل في بناء أجيال جديدة على أفكار ‏جديدة؛ لأن الأمر ليس متعلقاً بالعقل والمنطق، وإنما هناك رابطة أمومية حميمية بين رجال الدين والتراث، هذه الرابطة أقوى من حسابات العقل والمنطق، ‏بل هي كما الأم التي قبضت الشرطة على ابنها وقد ارتكب جناية قتل مع سبق إصرار وترصد وقدموه للمحاكمة فصدر ضده حكمٌ بالإعدام.. فمهما ‏حاولوا إقناع الأم بأن تسلمه لحبل المشنقة فلن تقتنع ولن تتنازل، برغم علمها القيني بأنه مجرم، لكن تظل تدافع عنه ولن تتخلى عنه أو تخونه أبدا.. ‏وهكذا التراثيين مثلها.‏

فأذكر عندما كنت أتحدث مع صديق سلفي حول واقعة اقتحام خالد الوليد كنيسة عين التمر وخطف الأطفال وتصديرهم لأسواق العبيد، ‏وقلت له أن هذا إجرام مضاعف ومخالفة مضاعفة للإسلام وأوامر الرسول ونواهيه، لأنه نهى عن التعرض لبيوت العبادة أو المتعبدين بها أو الأطفال، ‏ومع ذلك فجاء خالد يعتدي على بيت من بيوت العبادة والمتعبدين به من الأطفال (أي ارتكب المخالفات الثلاثة في واقعة واحدة؛ أي إجرام مركب ‏ومعقد جداً.. لكن هكذا كان العرب أكثر إجراماً من الإجرام البشري، ثم نسبوا إجرامهم للدين وقالوا أنه جهاد من أجل الله !‏

لكن صديقي السلفي رد ببساطة وقال، إن خالد كان عطوفاً رءوفاً ورحيماً بهم لأنه لم يفجر الكنيسة !! ‏

كان وهابياً بامتياز ثم سألني: هل تدافع عن الصحابة أم تدافع عن الأعداء؟ أراك متعاطفاً مع الأعداء؟ فقلت له: من أين وصفتهم بأنهم أعداء؟ ‏هم مجرد جيران ، قال: كل من لم يسلم فبالتأكيد هو عدو. قلت حتى الأطفال؟ فما مظهر العداء فيهم؟ .. على كل حال أنا أدافع عن الإسلام لأن ‏النبي نهى عن الاعتداء على (الأطفال وبيوت العبادة والمتعبدين بها) أما خالد فقد ضرب بكلام الرسول عرض الحائط واعتدى على الأطفال المتعبدين ‏في بيت من بيوت العبادة، فهل ترانا نجامل الصحابة على حساب الإسلام وتعليمات النبي؟ فقال: إن خالد حتى لو فعل ذلك، فقد فعل ما فيه خير ‏لهم !، فقلت له: ‏"ما لا ترغب أن يحدث لك ، لا تؤذي به الناس". كيف يكون خطف الأطفال واستعبادهم خير لهم ؟ خير لهم من الحياة في حضانة ‏أهلهم؟ ولماذا نهى النبي عن الاعتداء عليهم طالما كان هذا العدوان خير لهم؟ فقال: النبي قال (لا تسبوا أصحابي)، فقلت له: أن النبي قال هذا الكلام ‏لخالد نفسه حينما كان يتحدث مع عبد الرحمن ابن عوف بأسلوب غير لائق في حضور النبي، فتدخل النبي وأمر خالد بعدم التحدث مع أصحابه بهذه ‏الطريقة.. لكن صديقي السلفي قال أن خالد صحابي جليل والصحابة كلهم عدول وكلهم صادقون وقدوة ونحن نأخذ منهم الإسلام، فقلت له: نحن ‏نأخذ الإسلام من كتاب الله وليس من تاريخ العرب.. ‏


الهوامش؛
‏ 1- نقلاً عن المستشار أحمد ماهر - تفسير “المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز” / ابن عطية
‎2‎‏ - وفي تفسير “تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة” / الجنابذي‎ ‎‏ ‏‎ ‎
‎3‎‏ - كتاب إحياء علوم الدين ـ الجزء الثالث ـ تجد مكتوبا بكتاب كسر الشهوتين ـ الكاتب: حجة الإسلام أبو حامد محمد الغزالي الطوسي الشافعي
‎4‎‏ - القاموس المحيط والقاموس الوسيط لما ذهب من كلام العرب شماميط ـ حرف الباء ـ فصل الواو - الكاتب: الإمام مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي‎.‎
‎5‎‏- القاموس المحيط والقاموس الوسيط لما ذهب من كلام العرب ـ حرف القاف ـ فصل الغين - الكاتب: الإمام مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي
‏6- ‏‎ ‎كتاب: الإتقان في علوم القرآن ـ النوع الثامن والسبعون في معرفة شروط المفسر وآدابه‎..‎‏ الكاتب: عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين ، الخضيري ، المعروف بـ جلال الدين ‏السيوطي
‏7‏‎- ‎كتاب: تاج العروس من جواهر القاموس - الكاتب: محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني
‏8- المصدر؛ شبكة ‏‎ AR‏ الإخبارية .. رابط: ‏‎ https://arabic.rt.com/news / ‎








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري


.. عمران خان: زيادة الأغنياء ثراء لمساعدة الفقراء لا تجدي نفعا




.. Zionism - To Your Left: Palestine | الأيديولوجية الصهيونية.


.. القاهرة تتجاوز 30 درجة.. الا?رصاد الجوية تكشف حالة الطقس الي




.. صباح العربية | الثلاثاء 16 أبريل 2024