الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الموظف الغثيث

اسماعيل موسى حميدي

2019 / 6 / 21
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


الشر وصناعته

التقيت ذات مرة في احد الاسواق صديقا قديما لي كنا سوية في نفس المرحلة الدراسية ايام البكالوريوس ،وما ان التقينا حتى تراشقنا الحوار هنا وهناك مستعيرين ذكريات تلك الايام بحمرة شقاوتها وسعادة بساطتها،وراح يسألني عن احوال الكلية التي اصبحت في ذهنه كالسراب المجنون،ومن بين ما سألني عن حال احد الاساتذة الكرام الذين درسوه في الكلية، فقلت له ان هذا الاستاذ "توفى الى رحمة الله تعالى" ،وقد استغربت من ردة فعله ،فما ان سمع بخبر وفاته حتى قال لي (الى جهنم).
وعندما سألته عن السبب ،قال لي: ان هذا الاستاذ في احدى المرات كنت اتحدث مع زميلي اثناء محاضرته فنهرني وقال لي اخرج من القاعة ، وانا حاقد عليه الى اليوم.
لو حللنا هذا الموقف الذي مر به الاثنان( الطالب والاستاذ)،فالطالب بقي مجروحا متأسيا لسنين طويلة وربما سيبقى يحمل هذا السخط على استاذه لطالما يتذكر الموقف.
اما الاستاذ والذي حتما له مبرراته حينها في هذا الموقف، فانه ربما نسي ما جرى مع هذا الطالب بعد دقائق من خروجه القاعة.وهذه كارثة كبيرة ايضا.
(سؤال يطرح هنا :من يتحمل معاناة هذا الطالب لشعوره بالظلم كل هذه المسافة الزمنية الطويلة،خصوصا ان الاستاذ نسي الموقف في لحظتها ،و(هل ان الله سبحانه وتعالى سيحاسب شخصا اطلق عبارة عابرة او عن طريق المزاح فتسببت بإلم عميق طويل للمقابل).
الله سبحانه وتعالى جعل (ويل) وهو واد في جهنم (للهمزة واللمزة) وهو الاستهزاء والسخرية من الاخرين ..لو نفكر جيدا ونتأمل عميقا،فاننا سنجد ان شخصا يحكم على نفسه الدخول في هذا الوادي الرهيب خلال ثوان فقط ،وهو في حالة من الاسترخاء والمرح وهو يلمز فلانا او يهمزه بكلام سخرية وانتقاص واستهزاء وهذه المواقف نعيشها يوميا.....
هذا الموقف وغيره يقودنا الى مفهوم (صناعة الشر) داخل النفس الانسانية وطبيعة تلقيه في النفوس المقابلة ومدى حذر الانسان في تعاملاته ،فغالبا ماتكون صنيعة الشر ممتعة ومسلية او مفرغة لشحنات داخلية للفاعل وتحدث خلال ثوان فقط عنده بسبب نزعة او جموح او نزوة يعيشها في ظل جو نفسي محاط بالثقة والارتياح مع كل فعل شر يؤديه.
ولكن بالمقابل، الذي يتلقى الشر سوف يعيش الالم طويلا مع ما يترتب عليه من آثار نفسية ومادية، وكما يقال (الذي يضرب العصي ليس كمن يتلقاها).

أحيانا يُصنع الشر بكلمة عابرة او بنظرة وربما بايماءة يدين،فيتلقاها المقابل بسواد وألم نفسي حاد وبدون ان يشعرالفاعل وهنا تكمن المأساة وهي عندما يكون الانسان أداة لصناعة الشر وهو لا يدرك ذلك.
وعلى العكس من ذلك تماما صناعة الخير ، فانك عندما تصنعه مع شخص فعليك بذل جهد ووقت كبيرين لعمل خير لشخص ما ، اما متلقي الخير منك فانه لا يشعر بجهدك ،على سبيل المثال انك ربما تأخذ دور المحامي في الدفاع عن شخص ما وهو لايعلم بدفاعك عنه وانت تدافع عن سمعته او عرضه او تحاول ابعاد عقوبة ادارية كبيرة عنه او كيد اعداء، لكن هذا الشخص لا يشعر بجهدك ،والسبب لانه يعيش حياته الطبيعية التي لم يطرأ عليها مايغير مسار حياته، لان الشر لم يطرق بابه بعد.
وهذا دليل ان الخير هو الاصل في الاشياء وان الشر هو الطارئ لذلك الانسان يستشعر بالطارئ الذي يكسر عنده حواجز الاعتياد.
مثلا عندما تسير بسيارتك في احد الشوارع ، وهذا الشارع معبد بصورة جيدة فانك اثناء مسيرك فيه ولعدد من المرات لا يخطر ببالك ما يزعجك فيه لان الامر يسير فيه بصورة طبيعية ،ولكن اذا عمل احدهم حفرة كبيرة او مطبا في الشارع نفسه فانك حتما سوف تستشعر بالاذى كلما تمر من فوق هذا الحفرة.وتبدأ تفكر بحجم الخطأ او الخلل الذي حدث في المكان.
لذا ان نشرات الاخبار غالبا ما تتناول الاحداث التي فيها شر ومأساة وليس التي فيها خير، اي انها تتناول الامور التي كسرت الاعتياد في حياة الناس ،مثلا وسائل الاعلام او الاتصال الاجتماعي تنقل لنا خبرا عن حدوث انفجار او مقتل اشخاص او حرق ممتلكات،وكل مافيه شر.... وهكذا، ولكن لانسمعها تنقل لنا خبرا مفاده ان( حجي خربيط) تبضع الفواكه لعياله من سوق عريبه ، او لا نسمع نشرات الاخبار تتناقل خبر ان( ام تحسين) ذهبت الى العمرة وعادت بسلام .
يا ترى كم من حكم معنوي او مادي نصدره على الاخرين يوميا دون ان نشعر ، ربما بتحركاتنا اليومية الى العمل وترددنا في الاسواق وووجودنا في المحافل وحديثنا في المجالس ،نعمل اثناء ذلك عشرات الشرور يتلقاها غيرنا ويعيش مأساتها بمجرد كلمات نطلقها بصورة عابرة او مزاح او نظرات او افعال اعتباطية،تجدد المأساة في نفوس من يشاركونا المكان والعمل ، فتبقى هذه النفوس مجروحة منكسرة تحمل إصر اخطائنا وتلعننا دهورا ونحن غافلون.

كم من مدير عام نقل موظفا من عمله (بجرة قلم) لسبب تافه ،ربما بمجرد ان هذا الموظف مظهره لا يعجب السيد المدير العام او ان انفه كبير يزعجه النظر اليه كل صباح ، فتغيرت حياة هذا الموظف تماما الى السلب.
كم من رغبة لامر عسكري وهو بمزاج غير رائق اثناء الحرب امر باعدام جندي او اقصائه او سجنه.
كم من عصبية قاضي او حاكم قضى بمعاقبة شخص بالمؤبد او غيره نتيجة توتره
كم كلمة تصدر في مقهى او ملتقى بسبب حقد طائفي او عرقي ادت الى قتل شخص او تهجيره، وكم رأي اطلق بمزاج فدمر حياة كاملة وزرع فتنة ...وكل هذه الامور تحدث خلال ثوان دون الشعور بمأساة بالمتلقي ...
هل نحن نجر وراءنا قوافل من ذنوب رهيبة دون ان نشعر، وماذا عن النفس الرهينة ومتى سيفك رهانها وتتضح الحقيقة لها في يوم يكون البصر فيه حديدا وعندها لامناص من عذاب الله.
.
ابو حاتم ،موظف يعمل بدائرة التقاعد لاكثر من عشرين عاما ،وجهه جهمي على الموظفين وهو جاف التعامل وحاد الطبع، شزر النظرة، قاسي العبارة على مراجعيه ،وكل من حوله محنوق من جفاء طبعه .
المشكلة ان ابا حاتم لايعرف بكل ذلك،ولم يستوعب حجم سخط نفوس من حوله عليه طوال عشرين عاما في الخدمة.
شاء الله سبحانه ويتعالى ان يقضي بموت احد ابناء (ابي حاتم) بحادث ،واثناء تشييع جنازة ابنه ،رفع ابو حاتم يديه الى السماء وهو بين المشيعين وقال (يارب، ماذنبي الذي اذنبته حتى تعاقبني هكذا عقوبة ...ردت عليه الملائكة في السماء .كثير من نفوس حولك تحمل لك غيظا وانت لم تذكر ذنبك ..لم تستغفر...لم تتصدق ..فشاء الله .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آثار القصف الإسرائيلي على بلدة عيترون جنوبي لبنان


.. ما طبيعة القاعدة العسكرية التي استهدفت في محافظة بابل العراق




.. اللحظات الأولى بعد قصف الاحتلال الإسرائيلي منزلا في حي السلط


.. مصادر أمنية عراقية: 3 جرحى في قصف استهدف مواقع للحشد الشعبي




.. شهداء ومفقودون في قصف إسرائيلي دمر منزلا شمال غربي غزة