الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المثقف العنكبوت

محمد يعقوب الهنداوي

2019 / 7 / 4
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


المثقف العنكبوت والفشل المحتوم للحركات الثورية في بلادنا


طوال عهود تاريخنا تحت مظلة السلطات الدينية لم تنشأ ظواهر علمية حقيقية تأخذ شكل حركات وتجمعات واسعة تؤسس ملتقياتها ومنابرها ومدارسها لتوسيع رقعة العلم الذي تحمله وتنشر علومها في محيطها المجتمعي وتضمن ازدهارها وخلودها، ناهيكم عن تجذّرها وإحداث التراكم الضروري لبناء الصروح العلمية.

بل كان العلماء في مجتمعاتنا دائما أفرادا معزولين منعزلين قلائل مرصودين من قبل المحيط العام والسلطة وجواسيسها، وكانوا كذلك يفتقرون الى البعد الإنساني في فلسفاتهم وعلومهم فتعالوا على المجتمع وأحاطوا أنفسهم بهالة من العظمة الجوفاء وسعوا الى الاقتراب من قصور السلاطين والتكسب من علومهم. ولذا كان سهلا اقتناصهم وسجنهم وتعذيبهم وقتلهم وصلبهم والتمثيل بجثثهم وسط تهليل الجموع الهادرة المنتصرة لدين محمد وآله.

وهذا نقيض مباشر صارخ وواضح لما حدث في أوروبا حيث نجحت الحركة العلمية في أن تكون تيارا هادرا لم يلبث ان انتصر رغم كل طغيان الكنيسة وقوى العالم القديم المنتفعة من تجارة الخرافة، لأنه ارتبط دائما بالإنسان وبالمجتمع وبالسعي لإحداث فارق في حياة الناس وخدمتهم والتماهي معهم.

فالعلم الغربي كان علما إنسانيا أولا وقبل كل شيء بعكس العلوم في المجتمعات الإسلامية التي ظلت دائما نخبوية فردانية متعالية على المجتمع، ولا شك ان اتساع رقعة الجهل المتوارث وضيق الأفق الحضاري المرتبط بالبداوة واحتقار العلم والعامة معاً، لعبت كلها، وغيرها من العوامل، دورا في ذلك.

والحال نفسه ينطبق في عراق اليوم على الثقافة، أو ما يتراءى من فُتاتها ونثارها الهامشي التافه، وهو ما يصح أيضاً على عموم المجتمعات العربية والإسلامية. فالمثقف مرتزق أناني تابع خانع أساسا وهو لا يمثل إلاّ نفسه، بل ويجتهد لتمييز نفسه عن عامة الناس ويستنكف من تقديم خدمة للمجتمع لا ينال ثمنها "نقدا".

لذا فشلت كل الظواهر الثقافية المتمردة في بلادنا في أن تجذّر نفسها وتصبح جزءا من تراب هذه الأرض والناس يستحيل معه اقتلاعها. وحصل للمثقفين المتميزين من حملة مشاعل الثورة والتنوير الحقّ ما حصل للعلماء المستفردين طوال تاريخ الاسلام.

المثقفون العراقيون، أو من يسمّون أنفسهم هكذا، كانوا وسيبقون الخونة الأبرز لحركة الشعوب في بلداننا لأنهم يمثلون بدقة مطلقة روح المثقف العنكبوت الذي يجسد كارثتنا الوطنية تاريخيا ولا يمكن تفسيرها إلا به. فمشكلتنا في الشرق كانت دائما، وستبقى، هو هذا "المثقف العنكبوت"، فالمثقف العراقي، لو قصرنا حديثنا عليه، عبارة عن عنكبوت كثير الأرجل:

رِجْلٌ منها في القرية والبداوة، ورِجْلٌ في المدينة والمدنية.

رِجْلٌ في الجامعة، ورجلٌ في الجامع وتعاطي مفردات "سيدنا" و"مولانا" المخاتلة.

رجلٌ في "الدواوين" ومجالس الفصل العشائري، ورجلٌ في "دواوين الرئاسة" وإدارة الانتخابات "الديمقراطية"، ولا بأس أن يتواطأ "قليلا" لصالح أبناء طائفته وقريته وذوي النفوذ من قادة المافيات السياسية ممن ينفعونه في "اليوم الأسود".
رِجْلٌ في ألاعيب التجارة والمساومات والصفقات الانتهازية و"الحيل العلمانية"، ورِجْلٌ في التطيّر من الحسد وأخذ الطالع بكتاب الله والمسبحة و"الحيل الشرعية".

رِجْلٌ في التنوير والتنظير والصحافة "الحرة"، ورِجْلٌ في البسملة و"غسل الجنابة".

رجلٌ في السعي الى الانتفاع من آخر ابتكارات العلوم والتقنيات ومنجزات الثورة الصناعية والتقدّم، ورجلٌ مع الايمان بالغيبيات والسحر والشعوذة والدجل والأدعية المقدسة في زيارات أضرحة الأئمة والأولياء.

رِجْلٌ في اليسار وبرودون وريجي دوبريه، ورِجْلٌ في اليمين والصدر والسيستاني.

رِجْلٌ في دعوات الطليعية واقتفاء خطى المجتمعات الغربية المتقدمة، ورِجْلٌ في طويريج والدغارة والأعراف والتقاليد والتغنّي بها ورفض التقدّم والانفتاح.

رِجْلٌ ضد سمير أمين وچومسكي، ورِجْلٌ في مغازلة فوكوياما وهننغتون.

رِجْلٌ في الأصالة بمعناها الأكثر رجعية، ورِجْلٌ في الحداثة الأكثر إنفلاتاً.

رجلٌ مع التعليم الحديث وإتقان اللغات الأوروبية والمعارف الحديثة والتخصص في الفلسفة والكتابة عن الدايلكتيك وتطاوله حتى "تخلف" كارل ماركس "الرجعي"، ورجلٌ مع "مدارس الخوئي" الشيعية يأخذ أبناءه اليها بلا خجل ليضمن لهم تنشئة إسلامية قويمة على مذهب آل البيت الذين يقدس تراب قبورهم.

رِجْلٌ مع العشيرة والطائفة والقومية والوطنچيّة والحنين الى "طويريج" (بستان بابل المزعومة)، ورِجْلٌ مع الدولة الحديثة وحقوق الانسان والحريّات الفردية.

رِجْلٌ مع غرائزيته وبهيميته الجنسية وخياناته الزوجية والطعن في الظهر لأقرب أقاربه، ورِجْلٌ مع نفاقه ومزاعمه الأخلاقية ومحاضراته الفلسفية عن "الهيغلية" و"فويرباخ" والفلسفة الألمانية وتنظيره للفن الحديث.
رِجْلٌ مع الإبداع والسريالية والتنوير، ورِجْلٌ مع الموروث المهترئ والتزوير.

رِجْلٌ مع تحرر المرأة واعتاقها وتوليها أعلى ذرى الإدارة والزعامة وحقول الإبداع والفنون والمساواة بين الجنسين بالحقوق والواجبات، ورِجْلٌ مع وصاية الذكر على الأنثى وتكفينها بأردية التخلّف وأقفال العفّة وعزلها عن الحياة العامة وتقييد حركتها ووضعها موضع الشك والشبهة في كل حركاتها وسكناتها وفرض "أحكام الشريعة" في الإرث والزواج واغتصاب القاصرات وسلطة الأب.

رِجْلٌ مع وعي المرأة الاقتصادي والاجتماعي والحرص والتوفير في النفقات لصالح الأسرة ومستقبلها ما دام الامر يخص زوجته وبناته، ورِجْل مع عزل أخواته وأمه وحرمانهن من استقلالهن الاقتصادي وسرقته حقوقهن وخيانته الأمانة وتبذيره المستهتر ونفقاته على نزواته خارج البيت وسكره وقماره في اسطبلات ومضمار سباق الخيل مع أصيل طبرة وصبيان عبد القادر عبد الله وهيمنته على ميزانية العائلة وتصرفه بلا ضمير بمواردها وما تمتلك وتبديدها كما يشاء.

رجلٌ مع حقّ بناته وأخوات زوجته وأقاربها في الاستهتار "معه" والزواج وتكوين أسرة مهما تقدم بهن العمر أو فشل زواجهن الأول أو مات أزواجهن، ورجلٌ مع استنكافه من الزواج هو نفسه بمطلقة أو أرملة ذات أطفال، بل ويتمنى الزواج من صغيرة السن ويدافع عن تشريع تزويج الطفلة القاصر رغما عنها، ولكن مع انفاقه حقوق أخواته على محظياته تحت عنوان "الزواج العرفي" و"الاستمتاع".

رِجْلٌ مع الطفولة ورعايتها وتشجيعها على الإبداع والتألق والإزدهار ومطالبتها بالشطارة والنجاح والتفوق في المدرسة، ورِجْلٌ مع ضرب الطفل والقسوة عليه وإنكار حقه في التفكير وطرح الأسئلة بدعوى "الحلال والحرام" والتهذيب والاحترام و"العصا لمن عصى" ومعاملته كناقص عقل وإدراك ووعي.

رجلٌ مع الحق والعدالة والتعامل النزيه و"يشهد الله" على كلامي و "بحقّ أرواح موتاي"، ورجلٌ في سرقة أموال أخيه وحقوق أبناء أخيه ليورثها لأبنائه هو.

رجلٌ مع المساواة بين الأقارب و"إيتاء حقوق ذوي القربى" و"صلة الرحم"، ورجل في ظلم أخواته والاستحواذ على حقوقهن لصالح زوجته "ملكة جمال الكون" بنظره وإطلاق العنان لإبنه ليستهتر على خطى أبيه ويبدّد ما سرق بلا نبضة وجدان.

وكل هذي الارجل متطرفة جدا وعلى الدوام.

هذا التطرف لأرجل المثقف العنكبوت العراقي المنافق الدعيّ يحتاج علاجا جذريا والعلاج صعب عسير، بل وشبه مستحيل، طالما ظلّ المثقف الشرقي مرتزقا يعيش مخبرا يتواطأ مع المافيات ويلعق فضلات السلطات والقوى المتحكمة بالمجتمع وبالاقتصاد وبمصادر القوة في البلاد وعصابات الأحزاب الفاسدة.

ولأن اقتصاد بلد كالعراق اقتصاد طفيلي والناتج الاقتصادي الاجتماعي خارج الطفيلية الاقتصادية تافه أو شبه معدوم، وبما أن معظم الحركة الاقتصادية في البلاد تقوم على التجارة الطفيلية والريعية والسمسرة، وليس على الدورة الاقتصادية المنتجة التي تصنع المستقبل والأمل والازدهار، فلا يمكن التحرر من هذه العقلية العنكبوتية واستئصالها، لأن النظام الاجتماعي الاقتصادي السياسي وبنية المجتمع وأخلاقياته تحتاج كلها الى هكذا مثقف عنكبوتاوي.

* * *








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تقارير عن ضربة إسرائيلية ضد إيران وغموض حول التفاصيل | الأخب


.. إيران وإسرائيل .. توتر ثم تصعيد-محسوب- • فرانس 24 / FRANCE 2




.. بعد هجوم أصفهان: هل انتهت جولة -المواجهة المباشرة- الحالية ب


.. لحظة الهجوم الإسرائيلي داخل إيران.. فيديو يظهر ما حدث قرب قا




.. نار بين #إيران و #إسرائيل..فهل تزود #واشنطن إسرائيل بالقنبلة