الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إياك أن تلتقي بكاتبك المفضل

عبدالله شطاح

2019 / 7 / 13
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


إياك أن تلتقي كاتبك المفضل
لما وقع بين يدي كتاب (Philosophers behaving Badly) لـ (Nigel Rodgers و Mel Thompson) والذي يمكن ترجمة عنوانه بالتقريب (فلاسفة يتصرفون بسوء)، قرأته بلهفة ومتعة وخوف من صفحة النهاية، ومن نفاذ مادته الممتدة على مائتين وخمسين صفحة، فاضطررت إلى إعادة قراءته مرة ثانية بروية وهدوء واستيعاب بعدما تخلصت من (رعشة) القراءة الأولى وما صاحبها شغف وضباب و لهوجة. قرأته وفي عيني تركيز خاص، وفي عقلي استعداد وانفتاح و شراهة لتلقف المضامين الإنسانية العميقة التي انطوت عليها الحيوات الخاصة للفلاسفة الذين كانوا موضوعا للكتاب، وهم في عمومهم يشكلون أهم قادة الفكر لقرنين كاملين من الزمان، إن في الفسفة الغربية، أو في غيرها من الفلسفات التابعة كليا او جزئيا لها، والتي لا تخرج في الغالب عن سياق الفلسفة الغربية المشكلة للنواة العميقة للحضارة المعاصرة، وهم على التوالي، كما وردوا بترتيب الكتاب: جون جاك روسو، آرثر شوبنهاور، فريدريك نيتشه، برتراند راسل، لودويغ جولدنشتاين، مارتن هيدجر، جون بول سارتر، وأخيرا ميشيل فوكو.
فكرة الكتاب، قرأت ما يلخص فحواها في عبارة خاطفة، في كتاب أو جريدة أو مجلة لا أذكر بالتحديد، في مرحلة مبكرة من حياتي الدراسية، لعلها الإعدادية أو قبل قبلها، تقول في ما يشبه النصيحة الملتبسة بالنهي: إياك أن تلتقي كاتبك المفضل. جملة عابرة ظلت مركونة في زاوية مظلمة من ذاكرتي لثلاثين سنة أو أكثر، ظللت خلالها منهمكا في القراءة، أتفرج من خلالها على الحياة دون أن أعيشها، وهي تنساب من بين أصابعي كحبات الرمل إلى قعر الماضي دون أن تستقر بالضرورة في شقوق النسيان، وظل الكتاب، والفلاسفة، والأفذاذ المشهورون، والعلماء، تثير خيالي صور باروكاتهم المسدلة، و نظاراتهم المستديرة، وجباههم العريضة الشامخة عزة وكبرياء وعبقرية، وظللت أقرأ حتى صارت القراءة وتدريس الكتب حرفتي في منتصف العمر، وحتى قدر لي أن أصير حميميا لكتاب ليسوا من جيلي، بل من جيل الأساتذة الذين كنت أقرأ كتاباتهم بمتعة، وأرقب صورهم في التلفزيون، وعلى صفحات الجرائد، والمجلات الصقيلة بإعجاب وتقدير وحب وامتنان للمتع الشهية التي كانت تمنحها نصوصهم لقلبي وعقلي في الليالي الهادئة و الصباحات الندية والأماسي اللطيفة، وللأنس الحسن، والرفقة البهية التي كانت تزيل وحشة الليالي و ملل الساعات الصيفية القائضة بألوان من الخيال السخي.
وحينها قفزت العبارة إياها إلى مقدمة الذاكرة: إياك أن تلتقي كاتبك المفضل، مكشوفة واضحة ومفهومة لأول مرة في حياتي، وقدرت أن أكبر الحماقات التي يرتكبها الكتاب هي أن ينزلوا من أبراجهم إلى الأسواق والساحات العامة وأن يشتبكوا مع بقية الأحياء في صراع البقاء، فإنهم مخلوقات تلزمهم حرفتهم أن يتجنبوا الخوض غمرات الحياة وأوحالها، وإلا استحالت حياتهم، وممارساتهم، واشتباكاتهم حجة عليهم، ودليل إدانة، ولطخات زيت وشحم تشوه كائناتهم النورانية التي صنعوها ذات حلم وأطلقوها في أفضية الحياة مثل الفراشات المزركشة تتكاثر في أمغة البشر ومخيلاتهم، قبل أن تنقلب في لحظة من اللحظات إلى كئنات عنكبوتية تفرخ القبح والتشوهات والأحقاء والضغائن والإنكسارت والخيبات العميقة، وتلك هي الموضوعات التي استثمرها الكاتبان في بلورة الكتاب المذكور في المقدمة، والذي تولى، من حيث لم ينتبه صاحباه، شرح عبارة النصح الملتبسة بالنهي شرحا طويلا مسهبا، مقنعا، ومنفرا في ذات الوقت.
ولكن ماذا فعل الكتاب؟ لقد فعل خلاف ما يفعله الناس جميعا: قرأ حيوات الفلاسفة الحميمية الخاصة على ضوء فلسفتهم، واستهدى بأفكارهم في مقاربة الجانب الخفي، المسكوت عنه، والمقصي إلى الهامش مما لم يذكره الفلاسفة أنفسهم أو مما خفي على عامة القراء من شأنهم وحياتهم وتجاربهم ومواقفهم في الحياة من أشذ الموضوعات خصوصية، وعلاقاتهم الخاصة بالمال والمرأة والسلطة السياسية القائمة والجنس والدين، وهي الموضوعات التي تتكشف على ضوئها الطبائع، و تمحص النفوس، وتبرز الشمائل والفضائل والرذائل والصفات، و تتصدع في النهاية على حافة الأخلاق بلا تردد. وعندما يقول القائل بأن الفكر شيئ والحياة الخاصة للكاتب والفيلسوف والمفكر شيئ آخر، يقول له بعض القراء بأن الخصوصية والعموم في هذا الباب شيئ واحد، وما زال الناس ينصدمون عندما تتعارض الأفعال والأقوال، فتكشف لهم الأيام عن الإمام الزاني أو القس اللوطي أو الحاكم الفاسد أو المعلم (البيدوفيلي)، يشعرون بإحساس عميق بخيانة الثقة والاستغفال والنفاق والغدر.
من أجل ذلك ربما كان الأنبياء هم الأنبياء، لما تطابقت أوصافهم وأقوالهم، وتجردوا للحقيقة العارية، و انهمكوا في التحنف والتطهر السنوات ذات العدد، قبل أن يبرزوا للناس مثل الذهب الإبريز الذي لفظ كل شوائبه، فصاروا مصدرا مشعا بالطاقة الذاتية مثل معدن الراديوم، وصاروا قادرين على إلهام الأفراد والجماعات وتغيير المصائر والتاريخ في كل وقت وحين. صاروا قادرين على ذلك لما استطاعوا التسامي فوق أنانياتهم و(بشريتهم) وفوق الاهتمامت الصغيرة التي يتقاتل الناس من أجلها ويفقدون بسببها إنسانيتهم ورونقهم و أهميتهم، وأستطاعوا، دون سواهم، أن يعانقوا المطلق والحقائق العليا والصدق العارم.
سيجعلك الكتاب عاجزا عن تلقي فلسفة روسو بالطمأنينة نفسها التي تلقيتها به قبل أن تعلم بأنه تخلى عن أولاده الأربعة طواعية حيث تولى ميتم سويسري رعايتهم، وأنه كان شحاذا صغيرا ومتملقا عظيما، وسوف تتأفف مرة أخرى من فلسفة نيتشة عندما تدرك بأنه كان مجنونا رسميا يتطاير الشرر من عيونه الجاحظة و يسيل اللعاب من أشذاقه وهو يتنقل من خيبة عاطفية إلى خيبة، وستدرك أن فلسفة القوة التي ملأ بها الدنيا وشغل الناس هي في واقع الأمر تعويض كلامي عن إحباطاته الغرامية وضعفه الجسدي والعقلي الذي انتهى به إلى الجنون الصرف. أما شوبنهور فيصدمك عجزه الجنسي وبخله وتقتيره وهوسه بالمال وعقوقه لوالدته وستدرك أن صغاره ونذالته و قلة مروءته جديرة بالمقت. سيعرفك الكتاب إلى الكثير من هذه المساوئ التي تؤثث الخلفية المضببة لحيوات الكتاب والمفكرين والعباقرة التي حاول الكثير من المغفلين إعادة صياغتها في حيواتهم الخاصة، حتى أمددت أحد أصدقائي القارئين مرة بكتاب (خيانة المثقفين) لإدوارد سعيد وأنا أقول له: إياك أن تظن بكل المثقفين خيرا، أو ترى في كتبهم المتراكمة التي لا يقرأها أحد مزية، فهي لم تنشد فضيلة، ولم تزح حيرة، ولم تنقذ أحدا من شطط نفسه ولا من غلواء مجتمعه، وكل قصاراها أنها ملأتهم بالزهو والغرور والدعاوى العريضة، فهجروا الأرض ولم يدركوا السماء. وقلت له: إنك لو تقرأ تاريخهم لعجبت لخياناتهم، فهذا الفيلسوف العظيم مارتن هايدجر كان نازيا متعصبا، رأى في هتلر المجرم زعيمه وقائده، وهذا المعلم العظيم أرسطو كان في نهاية المطاف معلما ومبررا لدمويات الاسكندر المقدوني، و هذا عميمور الثرثار أفنى حياته مسبحا بحمد بومدين الانقلابي الديكتاتور الجبار، وهذا حسنين هيكل أفنى حياته وهو يبخر البخور لزعيم الهزائم المخزية عبد الناصر، ولو شئت لأحصيت لك منهم عددا عديدا ولأنجزت لك في هذا الباب كتابا لن يضيف إلى الحقائق المعروفة شيئا. عليك فقط يا عزيزي أن تدرك أن التكسب بالشعر قديما قد حل محله التكسب بالولاء و وبمنثور الكلام، لكن طبيعة المثقف هي هي لم تتغير، غرور واسع جاهز للاستعمال إن رغبة وإن رهبة، وفي أحسن الأحوال يصبحون رخويات خطابية مبررة، ترتكب كل الاستحالات، وتقوم بكل الحركات البهلوانية لتبرر ما لا يبرر، وإن الخوض في هذا الباب ليملأ القلب بغصص أليمة، فانتبه مجددا إلى من تسلم ثقتك، وحيث تضع ثقتك فإن عرق الكتابة دساس.
عبدالله شطاح.
12/07/2019








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل باتت الحرب المفتوحة بين إسرائيل وحزب الله أقرب من أي وقت


.. حزمة المساعدات الأميركية لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان..إشعال ل




.. طلاب جامعة كولومبيا الأمريكية المؤيدون لغزة يواصلون الاعتصام


.. حكومة طالبان تعدم أطنانا من المخدرات والكحول في إطار حملة أم




.. الرئيس التنفيذي لـ -تيك توك-: لن نذهب إلى أي مكان وسنواصل ال