الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البيئة الدولية للاستثمار الأجنبي المباشر في العالم

محمد عبد الشفيع عيسى

2019 / 8 / 1
العولمة وتطورات العالم المعاصر


لقد سبق لنا ان تناولنا موضوع الاستثمار الأجنبي الخاص المباشر من زاوية التوزيع على الرقعة الكونية، تحت عنوان "الحغرافيا الاقتصادية للاستثمار الأجنبي المباشر في العالم".
و انطلاقا من الأهمية التي يكتسيها هذا الموضوع فيما يتصل بالتنمية في بلداننا، فإننا نواصل الدرس بتقديم عرض تحليلي للبيئة الدولية للاستثمار المذكور، وفق منهجية الاقتصاد السياسي الدولي التي تقودنا إلى عدم التكافؤ في تقسيم العمل الدولي الرأسمالي الراهن، والذي تقوده حفنة من الدول الكبرى المهيمنة، وتتولى حراسته عشرات الشركات العملاقة عابرة الجنسيات.
وفيما يلي أهم القضايا المتصلة بموضوع البحث.

القضية الأولى
الإنتاج الدولي والمشاركة في سلاسل القيمة المضافة العالمية

أولا : المشاركة فى سلاسل القيمة المضافة العالمية

إن عملية الإنتاج الدولي هى عملية تكوين قيمة مضافة معينة على مراحل وحلقات متتابعة للسلسلة وفى أماكن مختلفة من العالم ، تنتهى بإتمام إنتاج السلعة أو الخدمة عند نقطة البيع النهائى والتداول، ويكون لها قيمة اقتصادية معينة فى السوق ، السوق الدولية.
هذه إذن عملية "مشاركة" فى الإنتاج ، حيث تختص بعض الأطراف بالعمليات الإنتاجية الأكثر تقدماً من الناحية العلمية التكنولوجية ، وهى التى تتم فى مرحلتى : ما قبل الإنتاج (العمليات التصنيعية و التصميمات و "النماذج الأولية"، القائمة جميعها على الابتكار و "البحث والتطوير" R&D) ، و ما بعد الإنتاج : (التسويق والمبيعات وإدارة التعامل مع الزبائن المحتملين وسلاسل البيع بالتجزئة وصولاً للمستهلك النهائى ..الخ) . هذا، بينما يختص طرف معين، هو الأقل تقدماً من الناحية العلمية – التكنولوجية، فى العمل بمرحلة الإنتاج نفسها، أى تنفيذ العمليات والتصميمات الواردة من الخارج بناءً على الأنشطة الخارجية للبحث والتطوير والابتكار. ويتم ذلك من خلال "تعاقدات من الباطن" او مقاولات فرعية تتضمن التوريد والتسليم للسلع ، و"التعهيد" لبعض الخدمات المتضمنة فى عملية التصنيع، أو المستقلة عنها، عند مستوى أدنى من المحتوى العلمى و التكنولوجي الرقمى .

ثانيا : العلاقة بين المشاركة فى القيمة المضافة العالمية و الاستثمارات الموجهة نحو تطوير الصادرات 1
تزايد النصيب النسبى للقيمة المضافة المولدة عالمياً من إجمالى قيم التجارة الدولية فى السلع والخدمات خلال فترة 2000-2010 عند ذروة "العولمة الجامحة"، ثم تناقص بعد 2010 . وبرغم هذا التناقص العام فى النصيب النسبى مؤخراً ، إلا أنه حدث تزايد فى المقادير المطلقة. و سواء قبل 2010 أو بعدها، فإن البعض من البلاد النامية فى قارة آسيا بالتحديد اندمجت فى سلاسل القيمة المضافة العالمية، بمعدل أسرع من الدول المتقدمة.
أما خارج آسيا، فإن معدل النمو لمشاركة البلاد النامية في القيمة المضافة العالمية كان ضعيفا جدا خلال السنوات الأخيرة، سواء في القارة الإفريقية أو فى أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبى.
و بالنسبة للدول المتقدمة فإن نمط اندماجها في سلاسل القيمة المضافة العالمية – بالتركيز على عمليات ما قبل الإنتاج وما بعد الإنتاج – قد أخذ شكل التوسع فى استخدام البلاد النامية و الأقل تطوراً كمقرات لعمليات إنتاجية وسيطة، أو ممرات تجارية ومنّصات مالية إلى بقية العالم. ولذلك وجدنا الدول الصناعية المتقدمة خلال فترة "العولمة الجامحة" تميل إلى الزيادة فى نصيب القيمة المضافة المولدة خارج حدودها (القيمة المضافة الأجنبية) من إجمالى القيمة الاقتصادية المولدة لديها سواء لأغراض الاستخدام والاستهلاك الداخلى أو لأغراض التصدير. و فيما يتعلق بالقيمة المولّدة من التصدير، يتبيّن من البيانات المتاحة وجود ميل عام نحو الارتباط الموجب بين المشاركة في توليد القيمة المضافة خارج حدود الدولة المعيّنة، و بين أداء الصادرات في هذه الدولة كمتغير رئيسي في الأداء الاقتصادي على المستوى الخارجي عموما. ويتوقف جانب أساسي من هذا الأداء على تطور المقادير المطلقة و الأنصبة النسبية للاستثمار في السلع الموجهة نحو التصدير من إجمالي الاستثمار المحلي، وعلى التوزيع القطاعي للاستثمار التصديري باتجاه زيادة النصيب النسبي الفرعي للقطاعات ذات التكنولوجيا العالية، ثم المتوسطة العليا.
ولتقريب هذه الحقيقة، نقدم فيما يلى بيانا توضيحيا مقارنا بين مجموعتيْ الدول المتقدمة و النامية، بالتركيز على أحد المؤشرات المفيدة في ذلك، و هو النصيب النسبي للقيمة المضافة المولّدة خارج الحدود ( القيمة المضافة الأجنبية) من القيم الكلية للصادرات عن عام 2017.




النصيب النسبي للقيمة المضافة المولدة خارج الحدود
من القيم الكلية للصادرات عام 2017
(%)
الدول المتقدمة 32%
الاتحاد الأوروبى 38%
الولايات المتحدة 13%
اليابان 21%
البلاد النامية 28%
1- إفريقيا 14%
2- آسيا
• شرق وجنوب شرق آسيا
• جنوب آسيا
• غرب آسيا 31%
34%
13%
15%
3- أمريكا اللاتينية والكاريبى
• أمريكا الوسطى (المكسيك)
• الكاريبى
• أمريكا الجنوبية 20%
29%
13%
14%
4- الاقتصادات الانتقالية
• وللتذكرة: البلاد الأقل نمواً 13%
9%
(ملاحظة من الباحث) : إن نوعية الصادرات الأمريكية المكونة من التكنولوجيا العالية، الخدمية والرقمية إلى حد كبير، يجعل إنتاجها مركّزا حيث تتوفر هذه التكنولوجيا أى فى الداخل الأمريكى وبذلك يقل نصيب القيمة المضافة الأجنبية من إجمالى قيم صادراتها .

المصدر :
UNCTAD, World Investment Report 2018, Figure 1-15, p. 23 .


ولتوضيح أكثر، ننتقل من التعميم إلى التخصيص ، فيما يهمنا أكثر، مما يتعلق بالدول النامية ككل، و بجمهورية مصر العربية بالتحديد، بالإشارة إلى ال25 دولة نامية الأكثر تصديرا، ومن بينها مصر، من حيث معدل المشاركة فى القيمة المضافة العالمية (%) عن عام 2017 ، ومن حيث ترتيبها بين الدول المصدرة من العالم النامي .
تحتل سنغافورة المرتبة الأولى (76% وهى الدولة رقم 4) ، تليها هونج كونج الصين (73% وهى البلد رقم 2) ، ثم ماليزيا (64% وهى البلد رقم 10) ، الصين (62% وهى الدولة رقم 1) ، وبعدها على التوالى وبالترتيب التنازلى تأتى البلاد الآتية التى تكمل تعداد أكثر 25 دولة مصدرة بين البلاد النامية : الفيلبين (الدولة رقم 8) ، كوريا (رقم 3) ، جنوب إفريقيا (14) ، تركيا (12) ، تايوان (الدولة رقم 7) ، شيلى (17 ) ، المغرب (رقم 22) ، جمهورية مصر العربية (بنسبة مشاركة فى سلاسل القيمة العالمية 52%- حيث تقوم بتصدير مواد أولية وسلع زراعية وغذائية للخارج بنمط غالب للتكامل الخلفى (نحو الأدنى) وهى البلد رقم (21) بين البلاد النامية الخمسة وعشرين الأكثر تصديراً). ثم تايلند (الدولة رقم 8)-فيتنام (11) –اندونيسيا (13)-غانا (25)-بيرو (18) –الهند (الدولة رقم 5)- و المكسيك (6)- الباكستان (24)- البرازيل(9) وماكاو الصين (23) والأرجنتين (16) و كولومبيا (19) وبنجلاديش (الدولة رقم 20).
من هذا يتضح أن أعلى الدول النامية المصدرة من حيث معدل المشاركة في القيمة المضافة العالمية، هي إما البلاد الأعلى درجة على مقياس التنمية والتصنيع، أو المنتجة للمواد الأولية والوقودية التي تخضع لنوع من المشاركة الأجنبية في إنتاج الصادرات. و عموما تتبين العلاقة الارتباطية بين المشاركة في سلاسل القيمة المضافة العالمية وبين النمو الموجّه بالصادرات.

ثالثا
الشركات الكبرى العملاقة:
يثور التساؤل عن القوى الحاملة للتغيير فى الاقتصاد العالمى مما يسمّى "العولمة الجامحة" في مراحل سابقة، إلى العولمة "الانتقائية" أو المقيّدة حاليا، ومن الأنشطة الأولية و الأنشطة التصنيعية ذات الطابع التكنولوجي المتوسط إلى الأنشطة المرتبطة بالثورة التكنولوجية الرقمية، والدافعة من ثم إلى تعاظم المشاركة من مختلف المجموعات الدولية ومختلف الدول، كلٌّ حسب ظروفها، فى سلاسل القيمة المضافة العالمية.
إنها الشركات الكبرى أو العملاقة وتمثلها المائة شركة القائمة على رأس الفواعل الاقتصادية للدول الصناعية الأكثر تقدماً (فى أمريكا الشمالية وأوروبا واليابان) ولبعض الدول النامية المصنّعة حديثاً (فى شرق آسيا).
وفيما يلى بيان توضيحى لتوزيع الشركات المائة الكبرى حسب فئة النشاط الاقتصادى عام 2017 :
النشاط عدد الشركات
التعدين والبترول والتكرير 13
السيارات والطائرات 13
صناعة الأدوية والصيدلانيات 12
المنافع العامة utilities 9
تجارة الجملة والتجزئة 6
الأغذية والمشروبات والتبغ 8
شركات التكنولوجيا Tech 15
الاتصالات 7
الأنشطة الأخرى 13
الخدمات الأخرى 4
المجموع 100

المصدر :
UNCTAD, World Investment Report 2018, Table 1-8, p. 29 .


من هذا البيان يتضح أن شركات التكنولوجيا والاتصالات تستحوذ على 22 شركة من بين المائة شركة الكبرى، منها (15 شركة) فى قطاع التكنولوجيا Tech ، و(7 شركات) فى قطاع الاتصالات Telecom ؛ ويتكون من هذين النشاطين قطاع مركب يسمى فى كتابات عدة بقطاع "تكنولوجيا المعلومات والاتصالات" ICT . فكأنه القطاع الرائد فى الاقتصاد المدوّل بواسطة الشركات، نظراً لأنه يمثل الموجة الأكثر تقدماً فى الثورة الصناعية الرابعة ، موجة ما يسمى "الاقتصاد الرقمى" .
إن احتكار الاقتصاد الرقمى لدى (22 شركة فى العالم) يوضح لنا ما سبقت الإشارة إليه، من أن الاقتصاد العالمى سائر بوتيرة سريعة نحو مزيد من التكامل الإماجى داخل سلاسل القيمة المعولمة للشركات العملاقة، و بواسطة الدول الأكثر تقدماً وتصنيعاً. يقع هذا التقسيم بين دول مركزية (فى أوروبا وأمريكا الشمالية + اليابان)، يمكن أن تتغير أعدادها وطبيعة أنظمتها الداخلية، و بين "دول لا مركزية" تتفاوت مواقعها، وتقع على دوائر متتالية بعيدة بدرجات مختلفة عن المركز، أقربها الدائرة التى تمثلها الصين، ومن بعدها دائرة تقع عليها عدة نقاط : نقطة تمثل (روسيا و الهند و البرازيل RIB) ، ونقطة تمثل دولاً منها: كوريا الجنوبية وماليزيا والمكسيك والأرجنتين، ودائرة ثالثة أو رابعة و خامسة حتى تمسّ البلاد الأقل نمواً التى يتم إقصاؤها من سلاسل القيمة المضافة العالمية إلى ابعد حدّ ممكن، بما يعني استبعادها الكلّي أو شبه الكلّيّ من الاقتصاد الدولى تقريبِاً . وتأكيداً لذلك نسوق البيان التالى الممثل ل "بلدان الأصل" للشركات المائة الكبرى فى العالم:
"دول الأصل" للشركات المائة الكبرى في العالم
الدولة عدد الشركات
عام 2012 عام 2017
الولايات المتحدة 24 20
المملكة المتحدة 17 14
فرنسا 13 12
ألمانيا 9 11
اليابان 9 11
سويسرا 6 5
أيرلندا غير متاح 4
الدول المتقدمة الأخرى 22 23
البلاد النامية 7 8
الصين 3 4

المصدر :
UNCTAD, World Investment Report 2018, Table 1-8, p. 29 .

من ذلك يتضح أنه ليس فقط احتكار الشركات العملاقة للتكنولوجيا الرقمية فى العالم – تكنولوجيات المعلومات والاتصالات – و إنما هو أيضا احتكار على مستوى الدول التى تنتمى إليها الشركات، حيث تتغلب الشركات ذات الجنسية الأمريكية عما عداها (20 شركة من إجمالى المائة شركة عام 2017) تليها بقية الدول الصناعية السبعة (باستبعاد كندا وإيطاليا) : بريطانيا (14 شركة) ، فرنسا (12) ، ألمانيا (11) ، واليابان (11) . هذه الدول تملك معاً 68 شركة ، أى أكثر من الثلثين ، والثلث الباقى موزع بين دول متقدمة أخرى ، وبين الدول النامية وفى مقدمتها الصين.


القضية الثانية
توجهات الاستثمار الأجنبي المباشر
تتصدر استثمارات تكنولوجيا المعلومات و الاتصالات تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر من -و إلي- مختلف الدول في العالم. و نلاحظ هنا أنه من ضمْن قائمة الشركات المائة الكبرى ل "الأنكتاد" عن عام 2015 ، نجد عشْر شركات هي: " ألفابيت " التابعة لـ شركة " جوجل "، و شركة آبل ، وهون هي Hon Hai (مقرها الرئيسي في تايوان)، وإتش بيPackard HP Hewlett (الولايات المتحدة) ، أي بي إمIBM ، و ميكرو سوفت ، أوراكل ، سامسونج ، SAP (ألمانيا) و أخيراُ شركة " سوني " (اليابان). و رغم قلة العدد نسبيا، إلا أن هناك تزايداً ملحوظاً عبر الزمن لشركات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فقد حققت الشركات المذكورة زيادة عددية ملحوظة من أربع شركات فقط عام 2010 الي عشر شركات في 2015 ، اى بأكثر من الضعف خلال خمس سنوات. هذه الشركات العشرة قد قادت النمو للاستثمار العالمي في القطاع الرقمي، وفي مقدمتها الشركات الأمريكية الستة : جوجل وآبل و إتش بي و أي بي أم وميكروسوفت و أوراكل.
و إن الشركات الكبرى بما فيها شركات التكنولوجيا حققت زيادة في العمالة بنسبة 5%سنوياً خلال الأعوام الخمسة 2011-2016 وهي زيادة ضئيلة نسبياً ولكنها تعتبر معقولة في ضوء ظاهرة " التدمير البناء لفرص العمل" بفعل الثورة الرقمية: حيث يتم القضاء علي مهن تقليدية بأكملها وتسريح العمالة غير الماهرة ونصف الماهرة، بينما يتم خلق فرص عمل جديدة بمعدلات تقل أو تساوى أو تزيد عن معدل الاستغناء عن العمالة، حسب الظروف المتباينة للاقتصادات والقطاعات.
وكما يذكر " تقرير الاستثمار العالمي 2017" 1 فإن شركات التكنولوجيا بالذات تزداد لديْها الأهمية النسبية للمبيعات في الأسواق الخارجية إلي إجمالي المبيعات، وذلك بالمقارنة مع الأهمية النسبية لتملك الأصول في الخارج ضمن الهيكل الكلي لملكية الأصول للشركة. ويُعبَّر عن ذلك بمعامل "خفة الأصول الأجنبية" (الأصول المملوكة خارج الحدود) Foreign assets lightness ratio. وتتأكد هذه الحقيقة في حالة شركات تكنولوجيا المعلومات التي تعمل بطبيعتها في بيئة افتراضية خالصة تقل معها الروابط العينية المباشرة مع الأسواق، وغالباً ما تقتصر الأصول الملموسة لديها علي مكاتب الشركات ومراكز البيانات. وفي المقابل، تتصف شركات الاتصالات بارتفاع الوزن النسبي للأصول.

بناءً علي ما سبق، تتحدد أهم الدلالات تجاه الاستثمار الأجنبي المباشر في المجال الرقمي، المعلوماتي والاتصالي، بالنسبة للبلدان المضيفة او المرشحة لاستضافة الاستثمارات الأجنبية المباشرة، أو الراغبة في ذلك، مثل جمهورية مصر العربية، في ضرورة إدراك الخلفيات الكامنة وراء اتخاذ الشركات العملاقة لقرار الاستثمار الخارجي، وذلك من النواحي التالية:
ا- توفر البنية الرقمية الفعالة بالمعني الشامل للبنية الرقمية، وليس فقط بالمعنى الضيق السائد لدى العديد من حكومات البلاد النامية، و المتمثل فيما يسمّى النطاق العريض والسرعة العالية لنقل البيانات عبر الإنترنت Broad band, High speed على امتداد المساحة الجغرافية للبلاد.
2- توفر الأنشطة المحلية للبحث والتطوير والابتكار و كافة الأصول غير الملموسة بالكمّ والكيْف المناسبيْن، ، والتي تمثل بيئة داعمة لأعمال الشركات الكبرى التي تقوم بالاستثمار خارج حدود بلادها.
3-وجود "قطاع أعمال" محلّي قادر علي تحقيق علاقات الربط الأمامي والخلفي مع فروع الشركات الأجنبية ذات العمق الرقمي بما في ذلك الأعمال الصغيرة والمتوسطة المركزة علي استحداث ابتكارات المنتجات وعمليات الإنتاج.

نحو استراتيجية للاستثمار في التطور الرقمي Digital development ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار عند حساب المنافع المحتملة والأعباء المتوقعة للاستثمارات الأجنبية في البلدان المضيفة، كلٌّ من الأثر الإيجابي والسلبي علي المنشآت المحلية. الفرص والمنافع علي الجانب الايجابي تتولد من تجزئة سلاسل القيمة الي مهام منفصلة، بحيث توجد "وحدات أعمال" مستقلة نسبياً لبناء المنتج النهائي، و يُفضَّل نقلها عينياً أو تعهيد خدماتها " اللاملموسة " الي منتجين متعاقدين من الخارج في مواقع جغرافية متعددة عبر البحار.
أما الأعباء والتحديات فتنشأ عن تحول البلد المعنى، الصغير نسبيا في الغالب، إلي "ملحق" للمنتجين الكبار في الخارج، وهذه حالة بلدان ومناطق مثل سنغافورة وهونج كونج و "ماكاو الصينية"، أو تنشأ عن تكوّن جيوب داخل البلاد، ملحقة بمراكز الشركات و مقراتها، وهذه هي الحالة في أغلب الدول المضيفة ذات التوسع في الأعمال المكمّلة لسلاسل القيمة من خلال " تعاقدات الباطن " السلعية و "التعهيدات" الخدمية.
وفي حالة البلاد النامية – مثل مصر –فإنه من المحتمل إلي حد كبير أن تؤدى أنشطة الاستثمار الرقمية للشركات الكبرى داخل البلاد، الي إعادة بناء نموذج " الاقتصاد المزدوج "حيث يوجد قطاعان : قطاع اكثر تطوراً ومرتبط مباشرة سلسلة القيمة الأجنبية ، وقطاع أقل تطوراً موجّه لسدّ الاحتياجات المحلية .
ويمكن للبلاد النامية المعنيّة – مثل مصر – أن تتحوط لذلك عن طريق الاستفادة من ظاهرة " الخدْمنة المتسارعة " Accelerated servicification وذلك باستخدام آليات القطاع المتطور رقمياً، لتنمية القطاعات والأنشطة التقليدية في الريف والحضر.



القضية الثالثة
"توجهات سياسات مقترحة" في البلاد النامية تجاه الاستثمار المحلي والأجنبي
مع إشارة إلى مصر

أولاً : إعادة التركيز علي عوامل الطلب علي منتجات القطاع التصنيعي Manufacturing
وهنا نشير الي الاستعراض الفكرى الموجز الذي أجراه " اليونيدو" –منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية – في التقرير السنوى لعام 2018 حول التنمية الصناعية ، والمعنون " الطلب من أجل الصناعة التحويلية : دفع التنمية الصناعية الاحتوائية المستدامة" 1.
وقد تبين من تجارب الدول الآسيوية حديثة التصنيع في تطبيق "نموذج النمو المدفوع بالتصدير الصناعي للسلع الرخيصة ذات المكوّن الأجري المنخفض"، أن الصادرات الصناعية لهذه الدول أصبحت مع الوقت تتقاسم بعض العيوب مع الصادرات الأولية، مع انخفاض المرونات الدّخْلية الأجنبية للطلب علي المنتجات المصنعة علي الدرجات الدنيا والوسطى من سلم التطور التكنولوجي. لذلك تحول الفكر الاقتصادى من الدعوة الي إعمال " استراتيجية النمو الموجه للتصدير" عموماً الي التدقيق في تطبيق هذه الاستراتيجية التى اتسمت بضيق قاعدة التركيب الهيكلي .
من هنا تمت الدعوة مجدداً، من قبل بعض علماء الاقتصاد الدولي المبرّزين، إلي مراجعة هيكل الانتاج والتصدير الصناعي من منظور إعادة توجيه عملية " التحول الهيكلي" ليتم بين الفروع الصناعية inter-branch بل وفي داخل الفروع نفسها intra- branch وذلك بالانتقال من تصنيع وتصدير المنتجات كثيفة العمل والموارد الي المنتجات كثيفة العلم والتكنولوجيا . و كلما ارتفعت درجة الكثافة التكنولوجية والتعقد التركيبي للقطاع التصنيعي، كلما تحسن الموقف التنافسي في الأسواق الدولية
1 .
بهذا تناولنا أهمية وضع استراتيجية انتقائية للاستثمار الأجنبي والمحلي مدفوعة بعوامل الطلب العالمي والمحلي، بالتطبيق علي الصناعة التحويلية. وفيما يلي نشير الي عوامل العرض .
ثانيا: إعادة هيكلة عوامل العرض بالتركيز علي الابتكار
بالتزامن مع عملية الاستجابة لشرائح مناسبة من الطلب العالمي، فإنه ينبغي إعادة هيكلة العرض ليستجيب جهاز الانتاج استجابة مرنة لشرائح متنامية من الطلب المحلي عن طريق الابتكارات المدعومة بالتعليم العالي والبحث والتطوير وتسجيل الاختراعات. ويمكن في هذا المجال تطبيق ما يسمي " الابتكار العكسي " ويقصد به مجموعة التكنولوجيات والمنتجات وعمليات الانتاج التي يتم توليدها ابتدءاً للسوق المحلية ، ثم مع التحسين المتواصل يتم استخدامها بعد ذلك من قبل منشآت الدول المتقدمة، ليس فقط فيما يتعلق بالمنتجات و العمليات البسيطة ولكن المعقدة والمكلفة أيضا . ويذكر تقرير "الأنكتاد" عن "التجارة والتنمية 2018" في هذا الصدد: (إن بعض الشركات المحلية في عدد من الدول النامية الكبيرة تبني استراتيجية لتدويل الانتاج والاستثمار قائمة بصفة أولية علي الاستجابة للطلب المحلي النامي ثم تحاول من بعد ذلك التغلغل في شرائح الدخل الدنيا في أسواق الدول المتقدمة أنفُسها ، صغيرة كانت أسواقها أو كبيرة .. و إن مثل هذه الابتكارات العكسية تعتمد بصورة متزايدة علي تحاليل البيانات الكبيرة والتكنولوجيات الرقمية الأخرى ) 1.

ثالثا: تنظيم اتفاقات وعقود الاستثمار الأجنبى المباشر
بالإضافة إلى القيام بسن تشريعات للاستثمار ذات طابع تفاضلى، بحيث تقوم بتقديم حوافز إيجابية للتوسع فى مجالات معينة ذات أولوية من وجهة نظر الرؤية التنموية الشاملة ، والتقييد المبرمج فى مجالات أخرى لا تتمتع بالأفضلية؛ فإن مختلف الدول تدخل فى اتفاقات ثنائية ومتعددة الأطراف، فى إطار "مناطق التجارة الحرة" و "التكامل الاقليمى" عموماً ، تتضمن قواعد ناظمة لتدفق الاستثمارات من وإلى البلد المعنى .
ونشير فى هذا المجال إلى أهمية ما يلى من توجهات مقترحة:
1- العمل على اجتذاب الاستثمارات فى المجالات التى تؤدى إلى نقل التكنولوجيا المتقدمة باستخدام الذكاء الاصطناعى والروبوتات وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، بما يساعد على الإرتقاء على سلاسل القيمة عن طريق زيادة المحتوى الرقمى فى مراحل الإنتاج المختلفة .
ويتطلب ذلك النص فى الاتفاقات التجارية والعقود الاستثمارية على تشجيع الآثار الانتشارية للتكنولوجيا المنقولة من خلال تأسيس المشروعات المشتركة و عقد اتفاقات الترخيص.

2- التحوّط ضد الممارسات التقييدية للشركات العالمية الكبرى فيما يتعلق بحماية وحجب الأسرار التجارية و "أسرار الصنعة"، بما قد يغلّ أيدى الحكومات الوطنية عن استخدام السياسات الموجهة لتعزيز انتقال التكنولوجيا.
1 .
3- التحوط فى مواجهة بعض أنماط الاستثمار الأجنبى القادمة من بعض الدول النامية الكبيرة التى يفترض أن تؤدى استثماراتها (جنوب-جنوب) إلى تسريع وتعميق عملية التحول الهيكلى والتنموى فى البلدان المضيفة. فقد دلت المؤشرات المتوفرة لدى عدد من المنظمات الدولية المعنيّة مثلاً إلى أن نمط الاستثمار الصينى فى كل قارتيْ افريقيا وأمريكا اللاتينية يميل إلى جلب الموارد الطبيعية والمواد الأولية و مصادر الطاقة، و ليس إلى المجالات التصنيعية والخدمية المتطورة 2 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا نعرف عن انفجارات أصفهان حتى الآن؟


.. دوي انفجارات في إيران والإعلام الأمريكي يتحدث عن ضربة إسرائي




.. الهند: نحو مليار ناخب وأكثر من مليون مركز اقتراع.. انتخابات


.. غموض يكتنف طبيعة الرد الإسرائيلي على إيران




.. شرطة نيويورك تقتحم حرم جامعة كولومبيا وتعتقل طلابا محتجين عل