الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(11) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء غريب : حوار أجراه من ستوكهولم الأديب والتشكيلي صبري يوسف

أسماء غريب

2019 / 8 / 23
مقابلات و حوارات


ما هي أكثر المشارب في طفولتكِ الّتي ساهمت أن تجنحي نحو السَّلام والصَّفاء والتَّأمُّل؟!
*

طفولةُ الإنسانِ هي سلامُه الحقّ، والأطفال هُم سادة السّلام بدون منازع ولمثلهم خُلِقَ الملكوت، وطفولتي هيَ كنزي الّذي حاولتُ بكلّ ما أملكُ من بصيرة وتبصُّرٍ أن أحافظ عليه من الشّيخوخة، وقد انتبهتُ لأهمّيّة هذا الأمر منذ سنوات حياتي الأولى، حينما كنتُ أجلس لساعات طوال أحدّق في لوحات فنّيّة تُجَسِّدُ صورا لملائكة في غاية البهاء والجمال، لدرجة أنّني كنتُ أتجاوز بقلبي الصَّغير بُعْدَيِ المكانِ والزّمان لأدخُلَ في زمان الفنّان ومكانه ساعةَ رسمه للوحاته تلك، وفي كثير من الأحيان كان يحدثُ أن أخترقَ كلّ تفاصيل اللَّوحة الدّقيقة بما فيها من أزهار ووديان وفراشات، وشموس ساطعة، لأُصبحَ أنا أيضاً جزءاً لا يتجزّأُ من اللّوحات: آآآهٍ، يا إلهي كم كنتُ أشعر بسعادةٍ عارمة وأنا أحلّقُ مع ملائكة الفنّ في سماوات حبلى بالنّور والوهج! تجاربُ كثيرة غيرَ هذه كنتُ أعيشُها وأدخلُ بها إلى واحةِ الفَرَح والمحبّة والسّلام، لكنّني بدأتُ أكبُر شيئاً فشيئاً، وكبُرَ معِي وعيي بأنَّ الإنسانَ، كلّ إنسان، هُو مكلّف بحمايةِ هذه البراءة من الضّياع والاستنزاف.
هنا يكمنُ الاختبارُ الحقُّ، وكيف لا والإنسانُ يأتي إلى الدّنيا طفلاً وما إن يبدأ في النّموِّ حتّى يُصبِحَ عندهُ الاستعدادُ الكاملُ لأن يفقدَ براءَتَهُ هذه ويخسَرَ نفسه من أجل أن يشتري العالمَ من حوله كما تُشتَرى أيّةُ لعبة أو دمية. أقول هذا، لأنّ هناك العديد مِنَ النّاس مَنْ عندهم جوع أسوَد للدّنيا، ونهَمٌ رهيب للحصول على كلّ شيء بما فيه الشّهرةُ والنُّجوميّة، وكثيراً ما يحدثُ أنّه حينما يبلغُ إنسان ما إلى تحقيق ما كان يصبو إليه من أحلام فارهة، يكتشفُ أخيراً أنّ العالمَ كلّه قد خدعَهُ وسخر منهُ، وأنّ ثمن هذا الدّرس كان باهظاً جدّاً: فقدانُ براءةِ الرّوح وطفولتها!
لا أحد يعلم أنّ الأطفال حينما يأتون إلى هذا العالم يجلبون معهم الكثير من البركَة، والحكمة والرّحمة، والكثيرَ من صمت القلب وهناءة البال، لا أحدَ يُدركُ أنّ فقدان الطّفولة يعني قسوة انهيار ذاك النّجاح الّذي يُصبح بدون معنى ولا مذاق!
حينما يحينُ وقتُ الرّحيل لن تأخذ معكَ النّجاح أبداً، ولا الألقابَ ولا السّلطة، ولا الشّهرة، كلّ هذا سترميه هُنا، في محطّة الحياة. ألا تعلمُ يا صاحبي أنّ الحياة كلّها محطّة سفر، وأنّك لحظةَ الانتظار قد يكون عندكَ حقّاً كلّ شيء، لكن حينما يأتي القطارُ أو الحافلة أو الطّائرة، فإنّكَ ستذهبُ بدون قاعة الدّنيا وبهرجَتِها، وستحملُ فقط معكَ نقاوتك الّتي بها أتيتَ: تخيّل معي لو يأتي القطارُ ويجدُكَ قد ضيّعتَ براءتك ونقاءك، بمَاذا ستعود إذن أيّها الغرير: يا للحسرة، خسارة ما بعدها خسارة!
ما تُحَقِّقُهُ في هذه الدّنيا ليس أنتَ، وإنّما هو أنَاكَ، وهناك فرق كبير بين الأنا والهويّة، الأنا مرتبطة بالمُكتسبات وهي هوية مُزَيَّفة تتشبّتُ أنتَ بها كبديل عن هويّتكَ الحقيقيّة المقيمة دائماً في المستقبل، في زمن الملكوت، لكن والحال أنّك مرتبط بالماضي فكيف سترحلُ إلى تلك الدّار؟ الماضي يا صاحبي زمنٌ حامض، لأنّه لا يمدّكَ سوى بالتّجارب والذّكريات الّتي تجعل منك إنساناً مثقّفاً، في الوقت الّذي كلّ ما ينبغي عليكَ أن تفعله هو أن تكون إنساناً واضحاً، صافياً، أيْ طفلاً إلى أبعد الحدود:
((بالأمْسِ حينما تسرْبَلَ اللَّيلُ بـِرداءِ الخُزامى
ألقى الملكُ فوقَ سريري بسبعة أساورَ منْ نورٍ
ثمّ قال وهو يرفعُ ستارَ الفجر بغرفتي:
"لا تعودي إليّ يا صغيرتي إلّا وأنت طفلة".
قلتُ: "كيف السّبيل وقد اشتعلَ رأسي شيباً
يا سيّدي؟"
قال: "ابني لي ببيتكِ مقاماً
وأسْمِيهِ مقام الطّفولة"
قلتُ: "وهل هناك في الدّنيا مقامٌ يليق بهيبتكَ
وجَلالكَ يا سيدي؟"
قال: "نعم، قلبُكِ
وقلبُ كل محبّ يا صغيرتي
أضرمي النّار فيه
وأحرقي كلّ ما عَلقَ بداخله
من عَنَاكِبِ الشّيخوخة
عندها فقط ستعودُ إليكِ طفولتكِ
وأعودُ أتربعُ مَلِكاً وحبيباً فوق قلبكِ")).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس تواصلت مع دولتين على الأقل بالمنطقة حول انتقال قادتها ا


.. وسائل إعلام أميركية ترجح قيام إسرائيل بقصف -قاعدة كالسو- الت




.. من يقف خلف انفجار قاعدة كالسو العسكرية في بابل؟


.. إسرائيل والولايات المتحدة تنفيان أي علاقة لهما بانفجار بابل




.. مراسل العربية: غارة إسرائيلية على عيتا الشعب جنوبي لبنان