الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية (السوارية) ح7 _2

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2019 / 8 / 23
الادب والفن


السوارية والشعر .... والشعراء
أرتبط الشعر بالعشق كما أرتبط بالحزن وكلاهما مرتبط بالأرض بالإنسان بالماء بالحاجة إلى وسيلة تؤمن للعاشق والحزين وأحيانا الذي يشعر بالوحدة صدى في جدران القلوب، الشعر عند أهل السوارية ليس ترفا ولا مظهر من مظاهر التعبير عن حالة الوجدان، إنه غموس الروح كما يقول الشاعر عبد السادة يرحمه الله، فبرغم من كونه رجل دين أكبر من كونه عطار وشاعر إلا أن المفردة الشعرية عنده تسترسل بمزاج دائم منفتح على الآه والإيه، مع كل حركة هناك بيت من الشعر مع الأطفال مع الحديثات مع النساء مع الكبار كان أبو حميد شاعرنا يطلق الآه من صمصام القلب المنثور حبا وعشقا رغم بلوغه السبعين من العمر.
أكاد أجزم أن العشق دواء في مجتمع لا تجد بين كل شاعر وشاعر إلا شاعر ثالث ولكن ما لا يقبله البعض أن يقول أنه كذلك، الشعر في السوارية طريقة حياة ولغة تواصل عميقة في قدرتها على خلق الصورة التي يريدها الفرد لتصل أما بأجمل صورة أو بأدق معنى أو يستر خلفها معنى أخر وهو ما يسمى هنا بالـ (الحسجة)، السواريوين ملوك الحسجة بلا منازع والموال والزهيري والأبوذيه والدارمي مدارس من فن التعبير عن شخصية حساسة تتفاعل مع همها وتنفعل به، قد يكون لوجود الماء والخضراء والطين والظلم والفقر وأحيانا الحاجة إلى ردم الهوة بين الواقع والحلم دور في نشأة الشعر وشيوعه على الألسن.
في بيت جدي الغالب يتعاطى الشعر خاصة الدارمي والأبوذيه حاضرا في الحديث في المزاح في لمناسبات في كل شيء، عندما توفت جدتي لأمي عام 1967 وكنت لصيقا بها ومرافقا حيث حلت وأرتحلت تفاجأت بما خرج من ألسن النساء من شعر، ثلاثة أيام متواصلة من الحزن الشعري ومن الشعر الحزين لم ينفذ الرصيد ولم تتكرر الكلمات ولا الصور، وحتى فترة طويلة كنت أسمع النواح في البيت بشكل شعر تلقائي لا يحتاج لتصحيح أو ضبط للقافية والوزن، إنها سليقة سليمة تنفعل مع الحدث وتعبر عنه وكأن أمهاتنا حفظن دواوين من الشعر على ظهر قلب.....
ليس كل الشعر حزن ولا كل الشعر غزل بل الغالب مما سمعت أجده أو أريد له أن يكون حكمة وفلسفة وازنة تؤدي دورها الأخلاقي والفكري... سمعت من جدي أول بيت دارمي أحفظه وقصته ترن في أذني حين قص علي ما حصل مع أحد من أقاربه وكيف دارت الأيام به، كان الرجل معتاد على انتظار ضيوف كل عام مضيفا لهم على أن يصحبهم في زيارة الأربعين إلى كربلاء مشيا على الأقدام ويتكفل بكل شيء لحين العودة، بلغ به الأمر في أحدى سنوات الفقر أن يبيع حتى مستلزمات الطبخ من أواني نحاسية وقدور و (سلبجة) وأبريق ليطعم ضيوفه ومستصحبهم معه لأداء الزيارة.
في العام اللاحق لم يبقى لديه ما يبيعه أو ينفق لأجل ما أعتاد عليه فأستدان مبلغا من المال على أمل أن لا تنقطع عنه (العادة) فتكون نهاية قصته، حل الضيوف وكان كريما معهم كما في السابق وعندما حل موعد السفر أعتذر منهم وأخبرهم بأنه مريض وأنه يعتذر من صاحب الزيارة، أبى الضيوف أن يغادروا دونه لكن إصراره على عدم الذهاب وتحججه بالمرض أقنعهم أخيرا أن يذهبوا لوحدهم، كادت الدموع تتطافر من عينيه لكنه جلد وأستجلد وأستجمع شتات روحه حتى مضوا بعيدا عنهم، فحمل رايته التي يحملها كل عام وزوجته وعياله ينظرون إليه بأسى فقال بيته المشهور .... (جان الهوى بالراس وأشراعي عالي.... جنت أول اليمشون كمت أمشي تالي).
من شعراء السوارية سيد محمود ال سيد نوماس تلك الشخصية الظريفة والتي تميزت بعطاءها الثر في الشعر الغزلي، كان محمود شاعرا مرهفا بحس جميل وعشق لا ينتهي لكل ما يحمل معنى الجمال، بالرغم من العاهة الجسدية التي ولد عليه لكنه عوض هذا كله بعشقه للكلمة والغزل الذي لا يدانيه في القوة شاعر أخر، لقد عوض الحرمان كله بعاطفة جياشة وكلمات قل نظيرها تخرج من روح أمنت الحب بلا حدود، كان ملاذا للعشاق والمخزن الذي يكتال منه (الحبجيه)....
في عرف السوارية لا يستحق لقب شاعر إلا من كان نظمه ليس مرتبطا بواقعة أو حدث وإلا لكان كل أهلها شعراء، النساء خاصة لديهن قدرة غريبة في أجتراح الصورة الشعرية والغالب فيها الحزن الدامي، الحزن الذي يفطر القلوب بجسامة الألم أو الحنين وقليلا ما نسمع شعر غزلي أو مرتبط بقصة حب، كثيرة جدا أعداد الشاعرات بل يمكن القول أن لا امرأة غير شاعرة في السوارية، كمية الألم التي يعيشها المجتمع والظلم والفقر والحاجة جعلت طرق التعبير الطبيعية لا تستجيب لمشاعرها المرهفة، فأنتدبن النواح والأنين على أنفسهن تعبيرا عن الإحباط والخذلان والفشل الذي وجدن بيه بلا ذنب ولا جريرة، إنها السوارية مدينة الألف شاعر وشاعرة.
في بلد الماء والطين والشجن السومري حيث لا ثقافة تعلوا ثقافة العشق الأبدي للماء لا تركن إلى الوجوه لتعرف ماهيتها، بل أستمع دوما إلى لسان القلب وصوت الضمير، فهما من يحكيان للوجود ماذا يعني أن تكون شاعرا لتخرج حشرجات الروح كلمات وليست ككل الكلمات (أكع للكاع وأتوجه وأنهض ... جار الزمان وياي رضني الدهر رض)، صوت الألم مؤلم ولكن من لسان شاعر أو شاعرة نغمة جميلة تستصرخ الضمير وتعلن للقاصي والداني أن ما في القلب ليس له أن يموت أما أن يولد جميلا أو نتجمل بحمل الآه عسى أن يجعل الله بعد ذلك أمرا.
فلاح أل راهي شاب في أوائل العشرينات عرفته عن قرب فاق الشعراء في نظم الشعر بفنون نادرة من النظم، فكتب القصيدة التي كل حروفها متشابه أو جعل من ما يكتب معرضا للأبداع خارج سياقات ما ان شائعا حتى كتب دون غيره الموال الفتلاوي ليكون رائدا به دون أن يشاركه أحد حتى في التفكير بهذا الشكل المعقد من الشعر ((يامن زفيرك عطر وشتم اله شمساك
بالروح وامسك عن الماي وهوه شمساك
رب العلى شصبحك وبنوره الك شمساك
وآنه ثدي ناكه الك لا ما عجز دري
لجدامك انثر ذهب لزمردي ودري
والخلك لو ما درت احجي لهم دري
اتغيب شمس السمه وتسطع علي شمساك
هذه انته آية حسن جن كوكب دري))...
تميز الشعر الشعبي بالسوارية بالصورة المرموزه عالية الدقة في الوصف خالية من الأطناب والتطويل الممل، شفافة وكأنها كوكب دري واضحة في مقاصدها لتصل سريعا للقلب دون أن تخدش أذن السامع بمفردة ثقيلة أو صورة مشوشة، هذا حال كل شعراء المشخاب والسوارية منذ أن عرفت أن الشعر رسالة إلى القلوب بلا تكليف ولا أصطناع متعجرف....
لا من ذهب صورك ربك يخي لا مسه
غبشة صبح مستجن خيط النده لامسه
ما جاسه واهس غوه لا مر عليه لا مسه
مكنون در من درر ربك علينه بدر
لا خطا منه يصح لا ذنب منه بدر
لا عاذل البي عرف لا تلكه مثله بدر
لا هوه مكسر شمس لا هو صبح لا مسه
لا نجم يلمع ضوه لا هوه فلقة بدر.....
رد عليه شاعر شاب أخر من أطراف السوارية في مساجلة لا تخلو من تنافس على تسخير الكلمة في محراب الجمال، إنها لعنة الشعر أو هبة الشعر التي وزعها الله فرضا على الناس فوق نعمة الماء والطين، مدينة مثل السوارية تتألم من ظلم الأقربين لكنها لا تصرخ من الألم بل تقطر شعرا لؤلؤا وزبرجدا وياقوت منظوم كيف لها أن تستكين، ومنذ أن صدح وللشيخ (منذر آل فرعون) بهذه الأهزوجه متحديا قوات الأحتلال البريطاني للعراق وصعودا لتعبر عن ضمير شعب وإرادة مظلوم لا يفقه من خطر الموت إلا الأستئناس بالكرامة وعزة النفس....
((ما تنداس ثايتنه وحدنه
مبارد ما تحت بينه وحدنه
نشك أشكوك ونخيط وحدنه))
( شك ما يتخيط شكينه )....
لم يترك الحال والظلم للرجال مكانة وحيدة لا في الشعر ولا في التحريض على الثورة على المحتل الأجنبي، فكانت بنت السوارية مع كل ما تحمل من عنفوان الشرف والغيرة تصدح لتلهب مشاعر الرجال بشعر لا يمكن أن يكون إلا سلاحا ماضيا أشد فتكا من الدان ونار الطوب.... فها هي احدى بنات "آل فتلة " تهتف مخاطبة ومحرضة زعيمها عبدالواحد آل سكر :
ثار التفـﮚ وسمع اندابه ودخانته مثل الضبابه
نخوا وين فكاك الطلابة يواحد ويا راعي المهابة
يماضي ولا ينشد اصوابه يصنديد ياوﮜفة اصحابه
يسيل الذي حدر سحابه....
السوارية بالمختصر أكبر من ديوان شعر وأكثر من معلقات تعلق على نخيلها الباسق، إنها سليلة أجداد علموا الناس أن للكلمة قيمة وأن الشعر رسالة جمال تزين وجه الحياة في أشد مراراتها، تغني وتتغنى وتقول ما لا يقوله من لا يعرف أن الماء بأنفعلاتها وهو يجري كبطون حيات هو المعلم الأول الذي نطق شعرا وقال الشعر نطقا فكان كمن جلب روح الشمس ليغمسها في ماء الفرات يتوضأ بها ويطهر النفس من كل ما يعتريها من عيوب وشوائب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة