الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدارات تشادية -3-

إبراهيم الوراق

2019 / 8 / 25
سيرة ذاتية


مدارات تشادية
رقم 3
إلى صديقي تشادي، وهو كل من يحمل جنسية هذا البلد الجميل بتعدده وتنوعه.
في المقالات الأربعة التي كتبتها عن بلدي الثاني "تشاد الحبيبة"، ناقشت فيها الموضوع بنظرة استطيقة، تتغيى إظهار قيم الجمال في حقيقة هذا البلد الجميل بموقعه وموضعه، وإبراز أعراض علاقاته الطبيعية في دوائر تفاعله مع كل مكوناته الأنطلوجية، ومركباته البيولوجية، سواء في تشكله اللغوي والعرقي والقبلي، أو في تجسده الديني والفكري والفني، على اعتبارها قيما متسامية تتجاوز الإنسان في كثير من معانيها الكونية، وأبعادها الإنسانية، وتتعالى عليه في سمو ارتباطها بأصل قالبه المادي، وإطاره الروحي، وإن كان هو الجزء الأظهر على سطحها، والأبين من ملامحها، لأنها تنطلق مما هو عام في واقعها، لكي تصل إلى ما هو خاص في حقيقتها، وهو ما تتجلى به الظاهرة البشرية من خصائص تخصها في ذاتها، وتميزها عن غيرها، فلا يمكن معرفتها إلا من خلال تفسير ما فيها من الظواهر التي هي محل التفكير والوعي والكشف والتحليل.
ولهذا كان اهتمامي منصبا على إظهار ما في تشاد من مدارات جميلة الصورة والطبع والصيغة والإيحاء، يمكن لها أن تكون محل إغراء لمن أراد دراسة مكونات هذه الرقعة من تضاريس الكون، والبحث في خصوصياتها العقدية، وعلاقاتها الاجتماعية، ورموزها الثقافية، وصيروراتها التاريخية، لأن تركيز العدسة على مناطق الجمال الكاشف لحقيقته، وترسيخها على مظاهره في الطبيعة والإنسان والحياة والبساطة، يعني أخلاقيا، أنك وبمقتضى إتيقا تحكم مناهج رسم حدود المفاهيم، وطريقة توضيحها للقارئ، تقدم للذين يهتمون بالظواهر الفريدة أُنموذجا فذا، يحتاج إلى دراسة معمقة لكل تمثلاته وتجسداته، ويفتقر إلى آليات للمحافظة على مقوماته الذاتية، وعناصره الأساسية، أو يستلزم صيانتها بتجديد قواعد النظر إليها، وتحديد أدوات التفسير أو التأويل لها، لأنها تحمل في عمقها عوامل بقائها، وفواعل استقرارها، وحقائق استمرارها، إلا أنها بدافع من الدوافع التي فرضها الاحتكاك بين الثقافات الكونية، والاضطراب في الجو العام الذي ساد العلاقات الدولية، فقدت بعض الاهتمام بخاصياتها المحلية، والاعتناء بما يجعلها ظاهرة متفردة تستحق التقديس لفرادتها في الحاضر والمستقبل.
ومن هنا، فإن من بين الدوافع التي تجرنا إلى الاهتمام بروافد ثقافة هذا البلد، وضروب أنواعها، وما يختزنه فضاءها من عوالم مختلفة السمات، ومتعددة العلامات، هو ما نراه من تنوع الأوعية التي تشكل قاعدة نظامها الديني والفلسفي، إذ هي إلى جانب كونها تنتمي إلى القارة الأفريقية جغرافيا، فإنها أيضا لها اتصال بدول الجوار، وارتباط عرقي ولغوي وثقافي بها. وهذا ما يجعل انفتاحها على الأعراق والألسن والآداب أمرا لا محيد عنه، لأنها تعتبر همزة الوصل بين الدول المتحدثة باللغة العربية والمتحدثة باللغة الفرنسية داخل القارة السمراء، ونقطة التقاء بين الثقافات الأفريقية التي تتشابه في كثير من عناصرها الحيوية، وإن اختلفت أشكال التعبير عن مظاهرها في الصيرورة التاريخية، ومعالمها في التجارب البشرية، إذ لا نكاد نجد بعض هذه الاختلافات أو الفوارق بين مكوناتها المتغيرة، إلا ووجدنا السياق يتضمنها بالتطابق، أو بالاقتضاء، على اعتباره نسقا متكاملا، يحتوي كل المطلقات واليقينيات والثوابت والخصوصيات التي تنظم البنية الأفقية للفكر، وتتسع مدراتها لتشمل عموديا كل الاختلافات البنيوية في البنيات الاجتماعية المتبلورة تاريخيا بهذه المنطقة العجيبة الأمداء والأفياء.
وإذا كان السياق التاريخي محددا لكثير من الأدوار التي لعبتها هذه المنطقة في الصراعات الدولية، والتحولات التي عرفتها السياسة العالمية، فإن نظرتنا ستتجه تبعا لاهتماماتنا الثقافية إلى بعض الإضمارات المقدرة في سياقها النفسي (سيكولوجي)، والاجتماعي (سوسيولوجي)، لأن هدفنا من هذه المقالات التي لم نخضع فيها لمنهج أكاديمي محدد، نعتمد عليه في طرح الإشكالات عن بنائها اللغوي والبياني، وتحليلها ومناقشتها عن طريق تجلي فلسفتها في الواقع البشري، هو إبراز كثير من القناعات الذهنية التي تبني مقاييس البرهان في القضايا المعروضة علينا في سياق علاقة ذواتنا بمحيطنا الخارجي، على اعتباره حجة عقلية، نحكم بها على ما هو كامل، وما هو متكامل، وما يقبل الإضافة، وما لا يقبلها، لأن جوهر الاختلاف غالبا يقع في هذه الجزئيات الدقيقة التي تكمن في خفائها مناطات اتصالها وانقطاعها، لكونها تعتبر أساسا لبناء حدود المفاهيم، ومناطق احتكاكها مع غيرها، وامتزاجها في دائرة كلياتها، وهي ما نسميه بالنسق المؤسس على نظام خاص في كل مرتبة من مراتب الشهود والحضور الإنساني، إذ نرى بعضا لا يطيقون أن يميزوا في عمليات الإدراك بين ما هو ثابت، وما هو متغير، أو بين ما يقبل الوصل وما يقبل الفصل، لأن التمييز بين هذه المراتب ضروري في عملية بناء سياق معرفي، يمكننا من دخول الكونية، والانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى في التفكير والتنظير.
وإذا كنا قد تحدثنا في مقالاتنا عن الحضارة كمصطلح يحتمل التأويل بديلا عن التفسير، نظرا لاختلاف آليات استقصاء مظاهرها، واستبيان معالمها، لأنها إما نماذج عينية مشتركة، يمكن القياس عليها، أي أنها واقع يمكن تمثله وظهوره، وإما قضايا معرفية، يُحكم بموجبها على المظاهر بالسلب، أو الإيجاب، أي أنها مجموعة مفاهيم تأسس بها الحقائق على مستواها الموضوعي، وقلنا: هل الحضارة أفعال.؟ أم أقوال.؟، فإننا نعني تحديد تلك المفاهيم التي لها صلة بالحضارة، كالتقدم في مقابل التخلف، والتمدن في مقابل التبدي، أو التوحش إذا كنا نعني به الشراسة والخشونة في مقابل الطراوة والنعومة، وعليه يحمل قول المتنبي:
كأوْجُهِ البَدَوِيّاتِ الرّعَابيبِ ما أوْجُهُ الحَضَرِ المُسْتَحسَناتُ بهِ
وَفي البِداوَةِ حُسنٌ غيرُ مَجلوبِ حُسْنُ الحِضارَةِ مَجلُوبٌ بتَطْرِيَةٍ
هذا إلى جانب فصلنا للحضارة عن البداوة بما تمثله كل واحدة من درجة الوعي الذاتي، والالتزام الأخلاقي، والشعور بالهوية، لأن الحضارة إذا كانت تعني لصوقَها بمعنى التقدم والتطور والازدهار والرقي، فإن البداوة لا تعني بمفهوم المخالفة لزومَها للتخلف والتباطؤ والفتور والتقهقر، إذ التقدم مرتبط بمدى قرب الإنسان من الإحساس بأنه يتجاوز خشونة الحياة لنعومتها، وعسرها لرخائها، وتقاعسها لتحمسها، وفتورها لنشاطها، بينما التخلف (في اعتبار من يجعله من أضداد التقدم) يعني الاستغناء بما هو موجود في الماضي من علاقات مع الكون والطبيعة والحياة والإنسان، والتشبث بأشكالها، والانكفاء على أنماطها، وعدم تجاوز العقل لمظاهرها في التفكير والعيش والسلوك والحياة والطبائع المشتركة.
وعلى هذا، فإن القضية المُشكلة في الاعتبار الحقيقي، ليست في اختفاء نمط وظهور نمط آخر في الاستعمال العام الذي يكاد يشبه البدهي من التصورات الذهنية، بل يعني ما تساير به كل واحدة منهما حدوثَ المتغيرات التي تنجلي عنها نواميسُ الصيرورة في محضني الزمان والمكان، فتكون ظاهرة في حقيقتها، وواضحة في معناها، وسواء في ذلك التبدي كنمط للتأخر، أو التحضر كنمط للتقدم، لأن البداوة ولو انحصرت في مدارها الطبيعي، أي البادية كفضاء جغرافي شاسع المرامي، تتفاعل ميكانيكيا مع العوامل المساعدة في بقائها، والمساهمة في استقرارها. وإلا، فإنها لو كانت جامدة لا حراك لدورتها التفاعلية، ستنتهي دورة الحياة في فواعلها النفسية والاجتماعية، وإذ ذاك لن يبقى لها أثر في الكون. لكنها بما فيها من دينامية فاعلة، تحتفظ على نظامها في الصيرورة، وتتفاعل معه في حدودها مقوماتها الذاتية، لئلا يتجاوزها الزمن بقوانينه المتعالية، فتموت وتزول من الوجود. وهكذا الحضارة أيضا قد تعتريها عوامل التأخر، فتتباطئ عن مجاراة السياق، ثم تكون متخلفة بمقدار زمن التحول من نمط إلى نمط في المظاهر العامة والخاصة، لاسيما إذا ربطنا الحضارة بمعناها الإنساني، ووصلناها بالرقي الأخلاقي، وجعلناها تدل على معنى المدنية كإطار جامع لكل الأدبيات الأخلاقية والقانونية والاجتماعية التي يبنى من تركيم تجاربها مفهوم النهضة والتفوق والسباق والمضي إلى الأمام، إذ ما تضيفه إلى الإنسان من سمو النفس، وعلو الهمة، وقوة الفعل، وعظمة الإنجاز، هو ما يجعله يتفاعل مع منظومتها في ماهية حياته، ويتجاوب مع فلسفتها في حركته الاجتماعية.
وإلا، فإن الحضارة إذا لم تحقق ذلك العوز الداخلي، والعطش الباطني، لن تكون سببا في سكونه، ودافعا إلى طمأنينته، بل تهدم كل عناصر وجوده بتطرفها عن المعنى الفطري للحياة الهادئة، وتنسف كل قواعد تفكيره في بناء علاقات سليمة مع جسده وروحه الخالدة، ليكون بعيدا عن الأمل الذي نظن أن وجود هذا الرصيد من الماديات المغرية، يدفع به إلى التحقق والوجود الظاهري، إذ طرأ علينا في واقعنا الفاقد للسعادة الإنسانية، نظرا للخلط الحاصل بين نمطي الحضارة؛ كتقدم مادي (حضارة الأفعال)، أو كتقدم معنوي (حضارة الأقوال)، أن نسمع عن الغربيين الذين يعيشون في مهد هذه المدنية الفارهة، أنهم يتخلون عن بلدانهم المتقدمة مدنيا وصناعيا، ليعيشوا في الأدغال البعيدة عن اضطراب الحضارة، واهتزازاتها التي تحدث الاكتئاب والانتحار والموت الفجائي، إذ ما يمكن أن يجمع بين الحضارة والبداوة في البعد البشري، هو ما تدل عليه من معاني الإنسان، كذات عاقلة وواعية، لها حق الإدراك والفهم والتأويل، وحرية الاختيار بين الأحوال والأقوال والأفعال، لأن تجسيد ذلك في حياته الفاعلة وفق مؤثرات مادية ومعنوية، وحضوره الحقيقي في كل ما يبنيه من معان ترصد طبيعته وهويته الذاتية، هو الذي يمنحه القدرة على الشعور بماهية الكيان، والإدراك لكنهه في الأحاسيس والعواطف والمشاعر والاتجاهات والاختيارات، والوعي بدوره ووظيفته وحقيقته في المكانة الاجتماعية، وإلى جانب ذلك، يعلمه كيف يندمج مع غيره في إطار القيم الإنسانية المشتركة، والتفاعل معه في كل ما يحقق الذات الجماعية، والانسجام فيما يوطد لعلاقات التساكن والتعايش والتسامح.
وحقا، ذهب المفكرون والباحثون مذاهب مختلفة في تحديد معنى البداوة والحضارة، وانتحوا مساقات متعددة تشكلت معها مجموعة من النظريات المهتمة بدراسة المفهومين، وتحليل خصوصياتهما، وما يلتف حولهما من المعاني التابعة لهما لزوما، أو اقتضاء، (كالبادية والريف والمدينة والمصر والبلد والإقليم والناحية...) وسواء في ذلك الدراسات الموضوعية التي تحاول أن تصل في نتائجها إلى بنية الأصل الكوني للجنس البشري، ودلالة وظيفتها على الوحدة المشتركة بين كل الظواهر الإنسانية، للتمييز بين ما هو موجود بشكل مستقر في الضرورة الوجودية الطبيعية، وبين ما هو موجود بشكل متغير في الحقيقة الوضعية الصناعية، أو تلك التي تتبنى خلفية إيديولوجية استبطانية، تتحكم فيها عقلية كولونيالية استعمارية، تريد أن تؤسس من خلالها لمعنى التقدم الغربي والمسيحي في مقابل التخلف العربي والإسلامي. لكن، ومهما كان هذا الاختلاف شاسعا بين الدارسين والباحثين في هذه المواضيع المتداخلة بين علوم شتى، نظرا لاختلاف المناظر والمجاهر التي تنظر كل فئة من خلالها إلى مداخل الموضوع ومخارجه، فإن ما يجمعها بآلية التجميع في السياق الذي نتحدث عنه، هو ما نراه من نقاش مرتبط براهنية تداولها في الفضاء العام، لاسيما في مواقع التواصل الاجتماعي، ويمثله تياران اثنان:
الأول محافظ راديكالي، يريد أن يبقي على القديم ككيان متسام في سياقه، ويرى كل ما هو جديد ووافد ومستورد، وفيه نفحة الحضارة، ونسمة الحداثة، أمر غريبا، يجب الابتعاد عنه، ومحاربته لئلا يشوب هوية الذات شيء مما يعطل جاهزيتها للفعل والاستقامة على صلاحه، ومهما كان ذلك من الوسائل التي لا تمس جوهر الإنسان، ولا متعقدات دينه، ولا مقومات تاريخه. فهو على هذا يصر على أن لا يتفاعل مع ما يخال أنه يصرفه عن تلك النُّمط التقليدية، ويصده عن ظلالها الوارفة، لأنه يرى في عمق ذلك الماضي معنى الاستمرار الأبدي في الكون الأزلي، وفاعلية الحركة التي تترابط كل مكوناتها وقواها وعوالمها وشروطها وظروفها في وحدة متعالية المبدأ والغاية، إذ تدل على الارتباط بالدين والعقيدة والتراث والتاريخ والأرض المشتركة. وذلك ما يصيرها تكتسي أهمية التقديس، وتتصف بالمثالية التي لا يمكن لها أن تستجيب لأي إغراء خارجي؛ أي أن هذه الوحدة متكاملة في بنيتها ووظيفتها، ولا يمكن الإضافة إليها، أو الزيادة عليها.
والثاني متمرد على الأنساق القديمة، ومتجاوز لأسسها ونظمها، ويريد أن يهدم ماهيتها، وينسف وظيفتها، ويزيلها من واقعها، على اعتبارها عوائق ذهنية في طريق التحديث، وقواطع فكرية في سبيل التطوير، لكي يحدث انقلابا في كل بنيات الحياة المعقدة، وعناصرها في المعتقدات والأخلاقيات والسلوكات والاتجاهات العامة، ويتحول مما هو عتيق وتقليدي إلى ما هو جديد وحداثي، لأنه يشهد ما وصلت إليه الحضارة المتفوقة برفاهها المادي، وسلوكها المدني، فأراد أن ينقل تلك التجربة إلى وطنه الذي يراه متخلفا عن الركب الحضاري، ولو لم يهيئ لولادة ذلك ما يقتضيه السياق من ضرورة وجود الشرط النفسي والديني والثقافي والاجتماعي والتاريخي، والوعاء الزمني الذي يمكِّن الظاهرة من انبثاقها بجميع مؤهلاتها وكفاءاتها الذاتية والموضوعية في الواقع الفعلي والحقيقي، لكي يحدث ذلك التنقل الذي يرجو من خلاله أن يحس بوفرة "أنا" ذاته المتضخمة أمام ضرورات الحياة، ومتطلباتها الكثيرة، وإكراهاتها الجسيمة، إذ لا يمكن لذلك التطور أن يحصل طفرة، ولا أن يحدث مصادفة، وإنما هو مرتبط بصيرورة تاريخية، لا بد من الاستجابة لشروطها الطبيعية، وظروفها الزمكانية، ليتم ذلك التغيير المراد من عملية التحول من نمط إلى نمط آخر، والترحل مما هو متباعد إلى ما هو متقارب في عملية إيجاد الصيرورة القابلة للاستمرار، والبحث عن آفاقها الممتدة من الحاضر إلى المستقبل.
ولعل هذا الرأي الذي ألمحنا إليه، يميل إلى القول بأن كل حضارة تموت حين تستهلك قواها، ثم تأتي بعدها حضارة أخرى لا صلة لها بها، لتخلفها وتعانق فضاءها في التجربة، فتكون حاضرة بفعلها وقوتها، ثم تستمر حتى تصاب بضعفها وهوانها، ثم تزول بظهور غيرها على أنقاضها، أو ببروزها في مكان آخر تواترت عليه الدوافع القاضية بضرورة وجود حضارة أخرى بين أحضانه المهيأة للولادة الطبيعية. لكن، ومهما قلنا بهذه النظرية التي تنفي وجود ترابط بين الحضارات المتتالية والمتعاقبة، أو قلنا بأن الحضارة نتاج طبيعي لمجموعة من التحولات والتراكمات والتفاعلات التي تعرفها البادية في صيرورة بحثها عن النمط المتقدم في السيرة النفسية، والسلوكات الاجتماعية، والحاجات الحياتية، والضرورات المعيشية؛ أي أن كل حضارة كانت في بدايتها بداوة، ثم انتهت في ديناميتها إلى بناء كيان مادي متحرك، تمثله المدنية، على اعتبارها زبدة للسياقات المتنامية فيما بين البادية والريف، فإن الحضارة تزول بزوال ما تتصف به من حرية الإنسان في خياراته، ورخاء العيش وسهولة موارده، ووجود فرص للتعايش السلمي بين الافراد بلا اعتداء على الحدود المشتركة، أو تجاوز للمعطيات التاريخية في التمدين والتقنين.
وإذا كان لهذين التيارين سياقان معروفان في التاريخ البشري، فإن ما حدث بينهما من تحارب وتقاتل على المواقع الاستراتيجية التي يأمل الإنسان أن يستولي على مواردها ومصادرها الناعمة، ويحتفظ على مكانتها في واقعه الذي يعيش تحت ضرورة احتياجاته والتزاماته، لم يكن إلا رغبة في بناء نمط خاص من أنماط الحياة التي يسعى إلى احترامها وتقديرها، وتأسيس مظاهر عامة تدل عليها من حيث خصوصية عناصرها المادية، وملامحها الخارجية، لأن هيئة بنيتها، وملامح شكلها، هي التي تؤهلها إلى أن تكون محلا للوصف بصفات القرب أو البعد من ذا، أو ذاك، إذ الحضارة تعني في بعض حقائقها ما تتسم به من معاني الجدة، أو الجديد، وهكذا البداوة، تعني الاتصاف بالقدم، أو القديم، وكل واحد منهما يلازمه هذا الوصف في ماهية كينونته، وهوية صيرورته، على اعتبار ميول الحضارة إلى كل ما هو جديد البناء، واكتفاء البداوة بما هو عتيق الوصف، لأن حقيقة التشبث بالقديم، ما هو في بعده السيكولوحي، إلا تحصين بالهوية الجماعية التي تعني الوجود الحقيقي في مفاهيم البادية، على اعتبارها تحقق وحدة الانتماء إلى جغرافية تشكل حيزها الترابي، وتمثل مهد عيشها الذي تسوده عادات وتقاليد وأعراف معينة، وتحكمه قيم دينية مطلقة، يتوسط في فهمها ومعرفتها نواب عن السماء، يشكلون سلطة متعالية ومقدسة، تقوم بتنزيل الأحكام على الوقائع المختلفة، وتدبيرها بما يستوجبه واجب الردع والزجر والقهر والسلطة المعنوية. وعلى عكس البادية التي ربطت الوجود بالأرض، وبأنساق العلاقات الدائرة في محيطها مع الذات، أو مع الغير، ربطت الحضارة الوجود بالمجتمع كظاهرة ثقافية واجتماعية متفردة للتنظيم البشري، ولطرائق الاستفادة من المصالح والمنافع والاحتياجات المشتركة، تتحدد فيها مفاهيم المعرفة والسلطة في إطار سياق تداولي، يمكن الكل من المشاركة فيه بطرق دستورية وقانونية.
ومن هنا، فإن الصراع بين التيارين المتعارضين في سياق فهم بنيات العقل البدوي والحضري، يعني التجاذب والتقاطع حول الحدود المفاهيمية التي تؤسس لمعنى البداوة والحضارة، إذ لا يتأتى مثلا للعَلمانية التي هي بمعنى فصل الدين عن الدولة، أن تكون سياقا سائدا على التشكلات البشرية في البادية، ولا مناطا يتحقق به الوجود المعنوي بين مهادها الطبيعية، لأن بنيتها المرتبط فيها أعلى هرمها بقاعدته التحتية؛ عن طريق الاختيار للقائد بصفات فوقية متعالية في مبدئها على واقعها الوضعي، استوجبت قاعدة التوريث في كثير من التجارب التي استأثرت بزمام السلطة، واحتكرتها للشوكة والعصبية الخلدونية، إذ لا يسمح بالفصل بين وحدة معاني الديني والتاريخي والسياسي في عقيدة البدوي، ولا بالقطع بينها في تجربته البشرية، على اعتبار السياق الديني هو الذي يتحكم في مركبها الجمعي، وهو الذي يفصل بين المطلق والمقيد فيها، وهو الأساس في جمع الشمل بين أفراد القبيلة، ورص الصفوف بينها، واتحاد الكلمة حول المقصد العام في الغاية، أي أن هذا الخلط بين المعاني الدينية والتاريخية والسياسية في وحدة مغلقة، لا يوفر الفرصة لتجاوز الأسس التي تصل الحياة البدوية بمجتمعها القبلي، فتنحاز إلى صور التجارب الفردية، ووسائلها في بناء علاقتها مع الوجود والكون والطبيعة، لأن عصب الالتفاف حول القبيلة التي هي مظهر محايث للبادية، هو ما تتصف به السلطة من قوة العقيدة الدينية والسياسية، إلا إذا نظرنا إلى بعض التجارب البشرية، وهي قليلة في سياقنا التاريخي، مارست الديمقراطية في اختيار رأس الهرم، كتجربة "إكودار" (الحصون) بجنوب المملكة المغربية، وهي وإن كانت متسمة بالدين في تجربته الفردية والجماعية، فإنها وإلى جانب ذلك، وكما ذكر المؤرخون، كانت شبيهة بالعلمانية الحديثة، كتوجه فلسفي يفصل العلاقة بين المقدس والمدنس. بينما يمكن للعلمانية أن تسود في المجتمعات المتمدنة، وتتفاعل مع كل الأنساق المكونة للتركيبة البشرية والاجتماعية، لأن المقدس فيها هو جوهر الإنسان، وعنصره الحيوي في ضرورة قيام حقيقتها الوجودية؛ أي أن المطلق فيها هو حرية الإنسان التي لا تمس بحرية الآخر، ومن خلال هذه الحرية التي لم تكن نتيجة اختيار طبيعي فقط، بل كانت نتيجة المقاومة والنضال من أجل تحرير المواقع من هيمنة المستبدين باسم الدين، أو العرق، أو اللغة، أو غيرها، يمكن له أن يكون كما يريد في خصوصياته وميولاته الذاتية، لكن بشرط أن لا يتعارض مع الاختيارات الجماعية التي تنص عليها القوانين المنظمة للعلاقة فيما بين الأفراد والمجتمع والدولة.
وإذا كانت الحرية الفردية المطلقة مظهرا من مظاهر المدنية بكل توجهاتها العلمانية والليبرالية، فإننا نجدها مقيدة في البادية بكلية الالتزام بالأعراف والعادات والتقاليد التي نشأت في إطار جغرافي مشترك بنوازع الملكية العامة، هو الذي تستوطنه القبيلة كمظهر من مظاهر البادية كما قلنا، لأن التقري والتوطن بمكان معين، لا يعني أن الإنسان قد تجاوز نسق البداوة في وحدتها الدينية والاجتماعية والسياسية، لكي يدخل إلى عوالم ما قبل المدنية؛ أي أن مظاهر الاستيطان بمكان، لا يعني تجاوز السياق، أو التخلي عنه للتمدن والتحضر، إذ يمكن أن يتجه بنا هذا النظر إلى تلمس مظاهر البداوة (من الناحية السيكولوجية) في جفاء المدينة وغلظتها وقسوتها، لاسيما بعد أن فقدنا المركزية التي كانت تحتلها النخبة الحاكمة والعالمة والصانعة والمتاجرة، إذ تجاوزنا ذلك في اعتمادنا على نسق لامركزية هيكلة التنظيمات والتربيات الإدراية، والمواقع الخدماتية، وصرنا مع تطور علم الاجتماع الحضري نتحدث عن خاصية المدن الهامشية التي تتورم بطريقة سرطانية على أطراف المدينة بعد نزوح الأسر من القرى والأرياف التي شحت مواردها بفعل طبيعي، أو صناعي، وحملها لقناعات معتقداتها، وطرق عيشها، ووسائل مواصلاتها، واستقدام كل ممتلكاتها العينية إلى تلك البنايات العشوائية التي تحولت بفعل الزمن ودورة تياره إلى قلب المدينة ومركزها، واحتياج المدن إلى إعادة تهيئها، وتوسيع مداراتها، وانفتاحها على فضاءاتها، لكي تتوازن مع حجم السكان، وعدد الأفراد، وطبيعة الكثافة السكانية، ونسبة النمو الديمغرافي، إذ يستحيل في ذلك الهجين أن نعرف معنى الصفوة، ومعنى المدينة في جمالها المعهود منها، بل صارت المدينة كعالم مقلوب كما قال بيير بورديوو.
وهكذا، فإن التمييز بين هذه المفاهيم الذي ألمحنا إليه في إحدى هذه المقالات، يعني أننا يجب علينا إذا قلنا الحضارة، أن نقابلها بالبداوة، لأنهما نمطان سلوكيان يتحكمان في مظهر الليونة والخشونة التي تميز صورة البدوي عن صورة الحضري، وسياقان معرفيان يتسم فيهما البدوي بالشدة والشراسة، والحضري بالرفق والمرونة، وإن كنا لا نميل إلى التعميم في هذا المعنى، لأن الخشونة أو الشدة والشراسة، إذا كانت تعني الجفاء والجهامة والفظاظة والشكاسة، فإن ذلك له ارتباط بطبع الإنسان وسماته النفسية، وصفاته الاجتماعية، أي أنه مرتبط بمحاضن ولادته ونشأته، وظروف حياته التي كانت دوافُعها صانعة لصيرورته وحيويته، وقد يشترك فيها البدوي والحضري، وربما قد يتجاوز فيها الحضري البدوي بنسب عالية، لأن مهاد البادية، وشساعة مجالها الجغرافي، وتعدد مواردها الطبيعية، يمنح الإنسان انشراحا وانطلاقا وانزياحا، قد لا يجده الحضري في البيوت التي صارت من شدة ضيقها تئن بالهجران والحرمان، بل الأغرب أن ذلك موجود في المدينة التي أفرغها الإنسان من صوت الإله، لكي تنطق بصوت الآلة العجماء. وإن كنا نقصد بتلك الخشونة اكتفاء أهل البادية بما تنتجه من طعام وشراب ولباس وغيرها، وهو في الغالب بَدائي لا يتمتع بالبذاخة والرفاهية، فإن لذلك ملحظا من الصواب، إذ جرت العادة على أن يختلف أهل البادية عن أهل المدينة في كثير من مناحي الحياة المعيشة، سواء في العادات كالأكل، أو في التقاليد كاللباس، أو في غيرها مما تظهر عليه غضارة الحياة الحضرية. ولذا نقابل بين أهل البادية وأهل المدينة في المظاهر الخارجية، لأن الحضارة لا علاقة لها بالأرض، بل علاقتها بالإنسان الذي هو جوهر فريد في الكائنات الحية، إذ حين نخلط بين المفاهيم المتفقة في حيثات، والمختلفة في حيثيات، نحدث خشونة حقيقية في عقل الإنسان، وشتاتا في حقول تجربته المعرفية التي تتضمن مدى التزام سلوكاته بالقيم الإنسانية. وذلك ما حاولته القوى الاستعمارية حين أرادت فرض سيطرتها على الدول الفقيرة بدعوى أنها مجتمعات بربرية ومتوحشة، فاستحابت أراضيها بحجة أنهم يحملون مدنيتهم إلى هذه البلدان المتخلفة، ورسالتهم الأخلاقية إلى هذه المجتمعات التي يحكمها سياق قبلي غير متطور، ولا قابل للتحديث.
ومن هنا، نقول حين نتحدث عن الصفات العامة التي تميز كل نوع في الوحدات والتكتلات البشرية: إن التبدي يقابله التحضر. لكن، إذا تحدثنا عن المعاني المرتبطة بالسياق التاريخي في بعده المادي، نقول: إن التبدي يقابله التمدن، لكون كل واحد منهما يعيش وفق صيرورة حياتية معينة. وإذا تحدثنا عن المعاني المتصلة بالسياق الأنطولوجي، نقول: إن التبدي يقابله التحضر، لأننا نريد المعنى المعرفي المتعالي؛ أي الصيرورة في نطاقها الوجودي. ولهذا تشكلت عندنا مجموعة مفاهيم مختلفة المعاني، وإن بدت لنا متحدة في محتواها وفحواها وجدواها. أولها: البداوة في مقابل الحضارة. وثانيها: التبدي في مقابل التحضر، والتمدن. وثالثها: البادية في مقابل المدينة. ورابعها: الريف في مقابل المدينة. وخامسها: القرية في مقابل المدينة، لأن هذه المعاني تشترك فيما بينها من حيثية دلالتها على المعنى المقصود في السياق، ولكن يختلف تعريفها لاختلاف مواطنها ومواضعها في التركيب الوجودي والإنساني، إلا أن المعنى العام الذي ينظر إليه في كل هذه المعاني، ويرصد في جماع حقائقها المعتبرة، هو ما يلي: أولا: الارتحال المنسوب إلى البادية التي هي عبارة عن فياف وبرار يسكنها البدو الرحل، وهو ممتدة وساشعة على رقعة كبير ة من جغرافية الكون. وثانيا: الاستقرار، وهو مرتبط بالبادية والقرية والريف والمدينة، على اعتبارها محلا للقرار والمقام والاستيطان، إلا أنها تختلف من حيث الكتافة والقلة في عدد الأنسام بينها. وثالثا: التطور البيولوجي للتداول المعرفي لهذه المعاني، وهو مرتبط بجميع المفاهيم التي ذكرناها، لكونها متصلة بعوامل تتجاوزها، وهي ما يحدث في الطبيعة من تفاعلات وتقابلات، إذ لا وجود لشيء ساكن يعيش الكمون إلا فيما يبدو لنا من ظاهره، لكنه في عمقه يتحرك بحركته التي تساير نغمة الصوت الأزلي في الكون الطبيعي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تقارير عن ضربة إسرائيلية ضد إيران وغموض حول التفاصيل | الأخب


.. إيران وإسرائيل .. توتر ثم تصعيد-محسوب- • فرانس 24 / FRANCE 2




.. بعد هجوم أصفهان: هل انتهت جولة -المواجهة المباشرة- الحالية ب


.. لحظة الهجوم الإسرائيلي داخل إيران.. فيديو يظهر ما حدث قرب قا




.. نار بين #إيران و #إسرائيل..فهل تزود #واشنطن إسرائيل بالقنبلة