الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(13) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء غريب : حوار أجراه من ستوكهولم الأديب والتشكيلي صبري يوسف

أسماء غريب

2019 / 8 / 31
مقابلات و حوارات


كيف للسّلام أن يحمل بين ثناياه الحرب أيضاً، هل يُمكنُك أن توضّحي هذه الفكرة الّتي وردت في جوابكِ السّابق؟
*
هذا له علاقة بما يُسمّى بقُطبيّة الأضداد، ولكي أبسّط لكَ الفكرةَ عزيزي القارئ فإنّي سأطرحُ عليكَ السّؤال التّالي على أن تجيبني عنهُ بسرعة وبدون تفكير. ((– هل أنت ميتٌ أمْ حيّ؟ / - حيّ طبعاً، وإلّا ما كنتُ هنا أتابعُ حوارَكِ هذا مع الأستاذ صبري يوسف)). جيّد جدّاً، اسمَعِ الآن جوابي أنا بشأنِ السّؤال ذاته:
((- نعم، أنتَ حيّ / - لا، أنت ميت / - نعم ولا، أنت حيّ وميّت / لا ونعم، أنت ميّت وحيّ)). أرأيتَ، إنّها كلّها أجوبة قد تبدو لك متشابهة ولكنّها في واقع الأمر مختلفة تماماً، وهي أشبه ما تكون بلعبة المكعّب السّحريّ، وهي جيّدة جدّاً، لمن يعتبرُ نفسَهُ مُفكّراً أو مثقّفاً، لأنّ عقله سيشعرُ حيالها ببعض الدّوار أو الصّداع والدّوخة. فأنا حينما أقولُ لكَ إنّك حيّ وميت، فإني أقصد أنّك حيّ وفي طريقك إلى الموت، أما إذا قلتُ لك إنّك حيّ تُرزقُ وكفى، فإنّ جوابي سيكون ناقصاً ومزَيَّفاً. نعم، أنتَ حيّ ولكنَّ الموت مختبئ وكامن فيك، هكذا هو السّلام في مقابل الحرب، إذ يمكن للإنسان أن يبلغ سلام الرّوح لكنّه لا يمكنُه أبداً أن يتغلّب على محفّزات الصّراع بداخله، لأنها جزء لا يتجزّأُ من تكوينة الرّوح، وهذا ما عبّر عنه الخالقُ عزّ وجلّ حينما قال في سورة البقرة / آيات 35-37: ((وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ، فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ، وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ، فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ))، ومن هنا تنبلجُ أسئلة جديدة أخرى من قبيل: كيف زلّ آدم وحوّاء وهما في دار السّلام؟ وهل يُعقلُ أنْ يكون الشَّيطانُ مقيماً معهُما وهُما في الجنّة؟! ومن تكون حوّاء هذه الّتي بسببها حدثَ الخروج من وداعة السّلام؟ الحقيقة هي أنْ لا شيءَ في الواقع اللّاهوتي الحقّ يدلّ على اسمها هذا اللّهمّ في بضعة نصوص من العهديْنِ القديم والجديد، وحتّى هناكَ إنّما وردَ اسمُها مشتقّاً من جذر الحياة، أو الكينونة الّتي تزرعُ الحياةَ في كلّ شيءٍ، ولها لونُ الاختمار والتَّحوّل والتَّطوّر الّذي غالبا ما يُرْمَزُ إليه بالغراب الأسودِ، ممّا يعني أنَّ الزّوجَة الّتي يعنيها اللهُ في القرآن إنّما هي شيءٌ آخر غير "حوّاء / المرأة" بمفهومها المتعارفِ عليه لدى النَّاس إلى اليوم، وأنّ الخطابَ الوارد في الآيات أعلاه إنّما هو موجّهٌ لآدم باعتباره ذكراً / رجلاً، وأنثى / امرأةً، وعليه تصبحُ في هذه الآية ملفوظة (آدم) المنحدرةِ صفتُها من الأدمة الضّاربة إلى السّمرة مرادفةً للقلب الذي يحملهُ آدم الذّكر، وآدم الأنثى، أيْ كلّ إنسان بغضّ النّظَرِ عن جنسه. وبهذا يصبحُ نصُّ الخطاب بعد التَّفكيك والتَّأويل: وقلنا يا قلبُ، اسكن أنت وزوجك النّفسُ جنّةَ الجسد، وكُلا من علوم الرّوح وفواكه المعاني والمعارف ما شئتمَا وما لذّ لكما لأنّني لم أحجبْها عنكُما، ولا تقربا هذه الشّجرة الّتي يقصدُ بها شجرةَ الحياة واللّذّة والشّهوة النّابتة في طين وتراب الجسد، لكنّهما لم يلتزما بالأمر، فأزلّهُما الشّيطان الّذي ما هو سوى قوى الوهْمِ المحجوبة عن إدراك المعاني، فكانتِ النّتيجة أن فاضَ هذا الجسد بالحياةِ الدّنيويّة والرّغبة والشّبق والاشتياق فكُشِفَ عنهما غطاء السّترِ والتصقَ القلبُ بزوجتهِ النّفس وأصبحَ ملازماً مُضاجعاً لهَا في كلّ وقتٍ وحينٍ، تتلبّسُهُ ويتلبّسُها، فطارتِ العلوم النُّورانيّة وانمحقَ الرّغدُ الرّوحيّ وحلّت محلّهُ علومُ الدُّنيا، ونزلَا معاً إلى العالم الجسماني، هيَ عدوّ لهُ وهو عدوٌّ لها، لأنّهُمَا أصبحا يقيمان في ضيق جسدٍ مادّيّ لا يسعهُمَا معاً ولا يحتملُ شراكتهُمَا في كلّ شيءٍ، وهي العداوة الَّتي لا تنقضي إلّا بالموت.
حينما أتحدّث إذن عن هذه العداوة، فإنّي أعني الصّراع المضطرمة نيرانُه في الجسد الإنسانيّ الّذي لا ينتهي إلّا بالموت؟ لكن أيّ موت أعني؟ ذاك الّذي وصفتُه في أولّ جواب افتتحتُ به هذا الحوار.
لأجل هذا أقول إنّك لو تلقي نظرةً لتتأمّل ما حولك فإنّك ستجدُ الصّراعَ كامناً حتّى في تلك الوردة الّتي تطالعها بوجهٍ باسمٍ كلّما فتحتَ نافذة غرفتكَ: ألا تُغلِّفُ الأشواكُ ساقَها؟!
سأسوقُ لكَ مثالاً آخر الآن وأَطْلُبُ منك أن تخرج إلى حديقة بيتكَ: خُذْ منها حجراً صغيراً، أمسكْهُ بيدِكَ، سوف تلاحظ أنّ ثمّة جزءٌ منه لا يُمكنُ لبصركَ وعقلكَ أن يحيطان بهِ. وهذا هو ما أقصدهُ بقصور العقل عن إدراك الكلّيات، وهو لأجل هذا يكتفي بالاستنتاجات والافتراضات. لكنّكَ إذا تجاوزتَ مرحلةَ القصور هذه وتخلّيتَ عن كلّ ما تشعر به منْ دوخة الرّأس وأنت في طريقكَ إلى فهم قطبيّة الوجود حتّى الأعماق فإنّ كلّ السّحب ستنجلي وستتدفّقُ بقلبكَ الحقائقُ وتتوهّجُ الرّؤيةُ بعين البصيرة لا العقل. انظر مثلاً إلى رقصة الدّراويش، ستراها في ظاهرها دوران ودوار مستمرّيْن، لكنّك إذا ما تجاوزتَ الرّقص ودخلت إلى العمق فإنّك سترى الدّرويش ريشة تحلّق في سماء الحقيقة. هذه هي شمسُ الحُكماء الّتي يمكنكَ أن ترى بها في كلّ أنثى ذكر وفي كلّ ذكر أنثى، قطبيّة ما بعدها قطبيّة! وهذا هو ما أسميتُه في الجزء الأوّل من هذا الحوار ببناء الفراغ. هذا الفراغ الّذي يقود إلى حالة السّلام الحقّ حيث لا يوجدُ سوى الصّمتِ المُطلَق، لأنّه لم تعُد هناك أيّة رغبة تنتظرُ التّحقيقَ أو الوصول إليها، ولا وجود لأيّ مكان ولا زمان ولا طريق ولا صراع، إنّكَ الآن حالة من الرّضا الخالص والطّمأنينة الكاملة.
تذكّر إذن أنّ هذا لا يمكنُ أن يحدث إلّا حينما يتبخّرُ التّفكير باعتباره المكوّنُ الأساس للأنا، والأنا كما يعلمُ الجميع لا تكفُّ عن الطّلب المستمرّ، إنّها أكبر متسوّل وشحّاذ في الوجود، إنّها تستعطي بإلحاح ولا تعلمُ أنّها كلّما طلبتْ شيئاً وُهِبَ لهَا وبين طيّاته نقيضُه، لذا تجدُها أيضاً في بكاء لا ينقطعُ!
أنتَ إذن يا صاحبي متسوّلٌ بَكّاءٌ باستمرار:
تطلبُ الحياةَ فتُوهَبُ لكَ ومعها الموت فتبكي؛
تطلبُ الشّبابَ فيوهبُ لكَ ومعهُ الشّيخوخة فتبكي؛
تطلبُ الجمال فيوهبُ لكَ ومعه القبح فتبكي؛
تطلبُ النّجاح فيوهبُ لكَ ومعه الفشل فتبكي؛
تطلبُ الصّحة فتوهَبُ لكَ ومعها المرضُ فتبكي؛
تطلبُ الوردَ فيوهبُ لكَ ومعه الشّوكُ فتبكي.
فما الّذي ستفعلهُ بدموعك المتدفّقة باستمرارٍ يا هذا، وأنت تعلمُ أنّه ما منْ شيء تطلبُه إلّا وسيأتي مُحمّلاً بنقيضه؟! إنّها فلسفة الصّراع الّذي لا ينتهي إلَّا بعد أن يتحقّقَ لكَ الفراغُ الَّذي أشرتُ إليه قبل لحظات، حينها فقط سيمكنُكَ أن تقولَ إنّكَ قد دخلتَ إلى محراب الإيمان الحقّ، لا الاعتقاد ولا العقيدة، وإنّما الإيمان الصّافي الزّلال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان: متى تنتهي الحرب المنسية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. الولايات المتحدة: ما الذي يجري في الجامعات الأمريكية؟ • فران




.. بلينكن في الصين: قائمة التوترات من تايوان إلى -تيك توك-


.. انسحاب إيراني من سوريا.. لعبة خيانة أم تمويه؟ | #التاسعة




.. هل تنجح أميركا بلجم التقارب الصيني الروسي؟ | #التاسعة