الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفلسفة كأسلوب حياة[3]: قوّة المعتقد

إبراهيم جركس

2019 / 9 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


بادئ ذي بدء، اسمحوا لي أن أورد هنا درساً هاماً تعلّمته عن دور الاعتقاد والإيمان في حياتنا. إنّه يستعرض حاجتنا الملحّة إلى دراسة الفلسفة وإتقان فن التفلسف بصورة استثنائية.
كنت قد شاهدتُ فيلماً عن رجل لطالما أراد أن يمتلك شوّاية غاز، كان ذلك النوع من الشّوّايات التي تحتوي عبوة غاز تحتها، لكن لطالما حذّره الجيران والأصدقاء من مخاطر غاز البروبان، فهو سريع الاشتعال حَدّ الانفجار. وقالوا أنّ مجرّد استنشاقه أمرٌ في غاية الخطورة، فهو غازٌ عالي السُّمّية أيضاً. وقال أنّه يذكر أنّه قرأ في مكانٍ ما أنه في حالته الطبيعية غاز عديم الرائحة، لكنّ المصافي تضيف إلى رائحة زائدة حتى يتيسّر للمستهلك تميييز أي حالة تسريب للغاز وتجنّب وقوع أي حوادث محتملة.
في يومٍ من الأيام، وفي عيد الأب بالتحديد، اتفقت العائلة على شراء الشّوّاية وإهدائها إلى الأب، بينما تكفّل هو بإقامة جميع المناسبات وسهرات الشواء على حسابه الخاص.
بعد عدّة أيام من التوصية جاءت سيارة نقل صغيرة تحمل الشّواية وأنزلها عمال النقل من السيارة ليتمّ تجميعها في الحديقة الخلفية، وبعد أن انتهوا من تجميعها، وضعوا اسطوانة الغاز في مكان بعيد عن الشّوّاية دون أن يوصلوها بها. أخبره عمّال التوصل أنّه عليه هو بنفسه وصل العبوة بالشوّاية عندما يريد استخدامها، وشرحوا له أنّه كان عليهم نقلها بصورة منفصلة، فافترض الرجل أنّهم كان يفترض بهم نقلها لوحدها توخيًا للسلامة، لأنّ الغاز سريع الاشتعال وسام.
وبعد أن رحل عمّال التوصل قرّر الرجل توصيل العبوة بنفسه، ففتح جميع كتيّبات والاستخدام ومخطّطات التركيب وشرع في عمله. كان يحاول وصل أنابيب بخراطيم، وتجريب المفاتيح واختبارها الواحد تلو الآخر، وبدأ يشعر بعسر في التنفس. كان يمارس عملية التوصيل في الخارج حتى لا يتأثر أهل بيته بالغاز، لكن الواضح أنّ تأثير الغاز كان ثقيلاَ جداً وقوياً ليقاومه، وكان يشعر بثقله داخل رئتيه وتأثيره على دماغه. كانت عائلته تراقبه بشيء من الريبة والخوف. لم يستطع احتمال تأثير الغاز على جسده، فكان يبتعد تارةً عن الشّوّاية يأخذ أنفاساً عميقة ثمّ يعود لمتابعة عمله بإرهاق. كرّر ذلك عدّة مرّات حتى ظَنّ أنّه أوصل الأنابيب والخراطيم ببعضها بشكل مناسب، ولكن عندما حاول إشعال رأس الشّوّاية لم يحدث شيء، لم تشعل أي نار. فتفحّص مجدداً من جميع التوصيلات والمفاتيح، إلا أنّ شعوره بالثقل في رأسه مازال لم يفارقه، حتى أنّ شعوره بالغثيان ازداد شدّة.
فقرّر الاتصال بالشركة المصنعة واستدعاء فريق التركيبات، وعندما وصل الفريق حاول أن شرح لهم كل ما فعله، وكان قد استنشق الكثير من البروبان عند هذه النقطة، كان يشعر بالدوران وبأنّه سينهار. كان يشعر بالتشويش والارتباط، كان ذلك تأثير الغاز السام لاشك.
((من أين أتيت بالغاز؟ هل ملأتَ العبوة؟)) سأله رئيس الفريق.
((ما الذي يعنيه؟ الشواية اشتريتها للتو، وقد وصلتني حالاً، وقال لي مسؤول التوصل أنّها جاهزة للعمل))
((آه، كلامه صحيح تماماً، باستثناء الغاز. نحن نبيع العبوة فقط مع الشواية، لكنها تأتي فارغة. عليك أن الذهاب إلى اي محطة محروقات، أو مركز للبيع وتعبئتها بنفسك. لهذا السبب لم تعمل الشوّاية. العبوة فارغة سيدي))
حسناً، لا أستطيع وصف شعور الرجل الآن، لكن بالتأكيد انتباه شعور طاغٍ بالغباء. كان يختنق جرّاء اعتقاد خاطئ وليس بسبب الغاز. كان يعاني من أعراض جسدية شبيهة بالاختناق بسبب فكرة موجودة في رأسه. كان يشعر بأنّه يشمّ رائحة الغاز. وشعر بالدوخة والدوران. شعر بالمرض والإعياء. ولكن لم يحتج شفاؤه من أعراضه سوى تحديث صغير لمعلوماته، أنّ الغاز غير موجود، وعاد كل شيء لطبيعته. جسدياً على الأقل. أمّا عقلياً، فكان مصدوماً وميّتا بالتأكيد. أمّا زوجته وأطفاله فكادوا أن يقلبوا على ظهورهم من شدّة الضحك. هذه حكاية ذلك الشخص.
قد يموت الناس بسبب مخيّلتهم فقط.
أتريدون مثالاً آخر عن قوة الاعتقاد وتأثير الأفكار الذهنية على أجسادكم وحالاتكم النفسية؟ حسناً، تخيّلوا معي التالي: تخيلوا أنّ أمامكم الآن صحناً فيه شرائح من الليمون الحامضة مرشوش فوقها قليلاً من الملح ومسحوق السُّمّاق، تخيل عزيزي القارئ أن تمسك بإحدى هذه الشرحات الرطبة المملّحة وتلعقها بلسانك ثم تلتهمها بفمك لتشعر بطعم الحموضة يجتاح فمك وكانك كله... هل سال لعابكم الآن؟!!!
هل عرفتم الآن تأثير الفكرة عليكم!!!
بصفتي فيلسوفاً ناشئاً، تعلّمت شيئاً في غاية الأهمية بشأن قوّة معتقداتنا، ومخيّلتنا، وتأثيرها علينا، وكذلك بشأن الافتراضات الخفية التي يمكن أن تسيطر على تفكيرنا وتتحكم فيه. العقل في الحققة شيء قوي للغاية، والمعتقدات الخاطئة يمكن أن يكون لها تأثير كبير علينا.
أنا شخصياً أخاف كثيراً من أفكاري وإيحاءاتها، ودوماً أتذكر القول ((لاتتركوني وحيداً مع أفكاري، فأنا أخافها جداً... أخاف أن تؤذيني))

# صورة كهف أفلاطون
------------------------
كان لأفلاطون تصوّر لايُنسى عن المعتقدات والأوهام الخاطئة التي نعاني منها كثيراً. وكتب يقول أنّنا جميعاً نشبه أشخاصاً يعيشون داخل كهف، مقيّدين بالسلاسل ووجوهنا تواجه جداراً تتحرّك عليها ظلال نعتقد أنها الواقع، وأنها أشياء حقيقية.
إنّ تصوّر أفلاطون للكهف أمرٌ معقّد فعلاً، تخيّل أنه خلفنا في هذا الكهف، توجد نار تلقي ظلالها على الجدار الذي أمامنا، وأمام هذه النار، خلفنا، تتحرك أشياء لترتسم منها ظلال سوداء تتحرّك على الجدار كالأشباح. هكذا يكون الأمر حتى تحرّر أحدنا ويكسر الأغلال ويرى وضعنا على حقيقته، فيهرب من الكهف، ليخرج خارجه إلى نور الشمس. في البداية، سيُصاب بالعمى جرّاء نور الشمس القوي الباهر، ذلك القرص الذي لاتمثّل النار المشتعلة داخل الكهف سوى نسخة معيوبة وفقيرة عنه. ولكن بعد ذلك تبدأ عيناه بالتعوّد وضبط الرؤية وإدراك الأشاء الحقيقية، حيوانات، صخور، أشجار، وكائنات. وبعد أن يميّز الفرق بين العالم الخارج وعالم الظلال الخافتة والأشياء المعوبة والناقصة في الكهف، فإنّه يعود مرةً أخرى إلى الكهف لإقناع زملائه بكسر القيود والصعور معه إلى نور العالم الخارجي الواقعي.

# الفيلسوف هو ذلك الهارب من الكهف
----------------------------------------
ذلك الرجل الذي تمكّن من الهروب من كهف الأوهام الذي يرى أفلاطون أنّنا نقبع فيه هو "الفيلسوف"، هو ذاك الذي بيننا الذي يدرك أنّنا جميعاً نعيش حياةً من الأوهام والصور الزائفة، وأنّنا محبوسين بفعل ظلال وقيود ليست من صنعنا نحن. وعندما يعود إلى الكهف بقصّته الغريبة غير القابلة للتصديق عن عوالم أخرى وحقائق خارجية، سيثني عليه البعض، وسيسخر منه الغالبية العظمى، هذا إذا لم ينكّلوا به. نحن لدينا طريقة عجيبة للتآلف مع أوهامنا ووقائعنا المزيفة. لهذا نحن نشعر بأدنى تهديد قد يجلبه علينا أي غريب مع قصص وروايات غريبة عن عوالم أخرى. لكنّ الفيلسوف الحقيقي سيبذل قصارى جهده لتحرير أكبر عددٍ من الناس المساجين، عاتِقاً إياهم ليتمكّنوا من إدراك عوالم أوسع وأكثر تنويراً من تلك الكامنة وراء الظلال المزيفة.
هذا تصوّر أكثر حيّ للمهمة القصوى للفلسفة. فهدفها هو تحريرنا من الأوهام ومساعدتنا على فهم أوسع الوقائع القصوى.
ما هي الأوهام التي تعيشون في ظلها الآن؟ ما هي الأشياء التي تقيّمونها والتي تفتقر إلى الأهمية التي تنسبونها لها؟ ما الشيء الذي تتجاهلونه وهو أغلى الأشياء قيمة؟ ما هي الافتراضات التي تطلقونها عن حياتكم والتي قد تكون قائمة على المظاهر فقط وليس الحقائق؟ أغلب الناس مقيّدون بكافة أنواع القيود. وهدف الفلسفة يتمثّل في مساعدتها لنا لتحطيم تلك الأغلال، وقد أحسَنَت فعلاً.
في الحقيقة لنا ليس لدينا خيار حول أن تكون لنا فلسفة أم لا، سواءً أردنا أن نكون فلاسفة أو لا. فنحن نتصرّف في النهاية طبقاً لفلسفة معينة لنا في الحياة، بغضّ النظر عن كونها فلسفة معيوبة أو ناقصة. إنّ اختياراتنا تتأرجح بين الفلسفة السيئة التي امتصّتها عقولنا من أوساطنا الثقافية المحيطة بنا وتحيّزات زماننا، أو الفلسفة الجيدة القائمة على التفكير النقدي والتساؤل الريبي والشك تجاه كل ما يحيط بنا.
قد نكون مفكّرين سطحيين أو فلاسفة عميقين. لكنّ الجودة تأتي مع الرعاية فقط. لذلك، التفكير الدقيق والمتأني يجعل الفلسفة أفضل وأكثر فعالية. هل فلسفتك في الحياة تقيّدك أو تحرّرك؟ هنا سأحاول تبديد بعض الخرافات والسمات الرائجة في زماننا عن الفلسفة والخروج من كهف افتراضاتنا الخاطئة. نحن نسعى وراء التنوير الفلسفي، والانعتاق والتحرّر.
أول يومٍ في حاتكم يجب أن يبدأ وينتهي في كهف أفلاطون.

#تنويه أخير:
يعتقد أغلب الناس أنّ أفلاطون هو المنبع الأصلي لكل الفلسفة الغربية.
((من أفلاطون تأتي جميع الأشياء التي كتبها ولازال يناقشها رجال الفكر)) [رالف والدو إيمرسون]
((التوصف الأكثر أماناً للتراث الفلسفي الأوروبي هو أنه يتألف من سلسلة من الحواشي والهوامش التي ترجع إلى أفلاطون)) [ألفريد نورث وايتهيد]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ينهي الرد المنسوب لإسرائيل في إيران خطر المواجهة الشاملة؟


.. ما الرسائل التي أرادت إسرائيل توجيهها من خلال هجومها على إير




.. بين -الصبر الإستراتيجي- و-الردع المباشر-.. هل ترد إيران على


.. دائرة التصعيد تتسع.. ضربة إسرائيلية داخل إيران -رداً على الر




.. مراسل الجزيرة: الشرطة الفرنسية تفرض طوقا أمنيا في محيط القنص