الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفلسفة كأسلوب حياة[4]: محبّة الحكمة

إبراهيم جركس

2019 / 9 / 4
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الفلسفة كأسلوب حياة[4]: محبّة الحكمة
====================

((الأشياء لها أسبابها، حتى أنماط معينة من الجلالة لها لحظات سُمُو وهبوط، لكنّ الحكمة لها أفضلية: أنها أبدية)) [بالتازار غراسيان]
مع تعمّقك أكثر في الموضوع، ستجد الكثير من الأسباب لدراسة، وقراءة الفلسفة وممارستها خلال حياتك. فالفلسفة، كطريقة في التفكير، واسلوب في الحياة، تجمع ثلاثة مهارات عقلية ضرورية جداً لكل شخصٍ فينا علينا امتلاكها في العصر الحديث. الفلسفة أيضاً تتضمّن على الحكمة.-
أولاً سنشرح هذه المهارات الثلاثة، ثم سنتكلّم قليلاً عن الحكمة _وبالأخص ماهيتها ومدى أهميتها.

# المهارات الثلاث في الفلسفة
---------------------------------
الفلسفة هي، بكل بساطة، طريقة في التفكير. وبالأصح، إنها حزمة من أساليب التفكير, إنها مجموعة من الأدوات العقلية. وهذه الحقيقة مرتبطة مباشرة بالسؤال عن كيفية دراستنا للفلسفة. إنها ليست فقط لإذهال وإدهاش أصدقائنا بنباهتنا وبلاغتنا، ونربك زملائنا بعمقنا، أو نزعج أفراد عائلتنا بأسئلة قد تبدو مجنونة. نحن ندرس الفلسفة بسبب المهارات العقلية التي تتضمّنها وتدمجها في حياتنا بالإضافة إلى الرؤى والأبعاد الجديدة التي تمنحنا إياها.
خلال سنتي الأولى بالجامعة، كلية الآداب: قسم الدراسات الاجتماعية والفلسفية، كان لزاماً على كل طالب أن يدرس عدة مواد تتعلق ببدايات الفلسفة ومفاهيمها المفتاحية وأبرز مفكريها، وكانت لدينا مادة أساسية ننفرد نحن وحدنا _طلاب الدراسات الفلسفية_ بها، وهي مادة (أصول أو أسس البحث العلمي)، ثم انتشرت هذه المادة واعتُمِدَت في جميع الكليات والأقسام تقريباً. لماذا على طلاب الدراسات اللغوية والدراسات التربوية أو الاقتصادية دراسة مادة فلسفية كهذه؟... إنها الفلسفة: أمّ العلوم.
بنفس الشكل، ما حاجة مدير عام مثلاً لكي يخصّص بعض الوقت لدراسة الفلسفة؟... ولماذا يسعى طبيب مثلاً بتخصيص وقتاً من وقته لقراءة الكتب الفلسفية؟ لماذا على الأهل تربية أولادهم على محبة الفلسفة وقراءة الكتب والروايات الفلسفية؟ ما الرابط بين كل هذه الأمور؟ ما النتيجة التي ستنتج من هذه العملية؟ التالي سيقدّم لكن بعض الإجابات.

أولاً: شلل بدون تحليل
---------------------
إنّ الفلسفة كطريقة في التفكير وكأسلوب في الحياة تصقل قدرتنا على تحليل المشكلات المعقدة. إنها تساعدنا على فكّ العقد العقلية وحلّها. تعلّمنا طريق الوصول إلى لُبّ القضية. وتوضّح لنا كيفية إزالة المشكلات المحيطة بنا والتغلغل في جوهر المسألة: ما الشيء المهم حقاً؟ ما هي القضية المحورية في النهاية؟ وكيف يمكنني تفكيك هذه المشكلة إلى أسئلة أكثر قابلية للاستيعاب والبحث فيها؟
التحليل مهارة نحتاجها في كل مكانٍ في الحياة. المحامون يحللون الادعاءات المعقدة ويصنّفون القضايا. الأطباء يحللون الأعراض. والمحققون الجنائيون يحللون الأدلة ويبحثون عن الأنماط فيها. رجال الأعمال يصنّفون أجزاء الصفقات المعقدة. ويحاول الأهل فكّ المسائل المتشابكة التي تربك العائلة وتزعج أفرادها. إنّ مهارة التحليل والتفكيك هامة جداً وضرورية في كل ناحية من نواحي الحياة. عملية التحليل سائدة جداً وشائعة في طرق التفكير الفلسفية لدرجة أنّ الاتجاه الرئيسي لفكر القرن العشرين يُعرَف باسم الفلسفة التحليلية بسبب تركيزه على أهمية هذه المهارة ومركزيتها. ولكن كل سبل التفكير الأصيلة والجيدة تتضمّن عمليات تحليل دقيقة.
في نهاية المطاف، تعلّمنا الفلسفة كيفية تحليل حياتنا: من نحن؟ ماذا نريد حقاً؟ ما الهدف من الحياة؟ ما الذي يجعلنا سعداء؟ كيف نساهم في هذا العالم؟ ماهي مَلَكاتنا العُليا وماهي مواهبنا؟ كيف نستفيد من الوقت بأفضل شكل ممكن؟
في أعقاب التحليل الفلسفي لسؤال إنساني كبير والتعلم من بعض أعظم المفكرين في التاريخ عن كيفية معالجة القضايا المعقدة، يمكننا أن نتعلّم كيف نكون محللين أفضل لأنفسنا وأكثر مقدرةً على التحليل في جوانب أخرى من حياتنا. الأن، لا أقصد هنا أنّ التحليل باعتباره أهم مَلَكة ومهارة عقلية عند الإنسان أو أن التحليل الفاسفي له أهمية قصوى في حياة الإنسان. إنه ليس كذلك. التحليل مهم وحيوي. فنحن كائنات مشلولة تقريباً من عدة نواح في الحياة إذا لم نتمكن من تحليل الظروف التي نحيط بنا بشكل مناسب، والفرص التي تواجهنا.
((الإنسان ليس أكثر من مجرد قشّة. أضعف ما في الطبيعة، لكنه قشّة مفكّرة)) [بليز باسكال]

التحليل مهارة عقلية حيوية. ويجب استخدامها بشكل مناسب ودقيق. هنالك ظاهرة نعروفة جيداً تسمى شلل التحليل، تنشأ عندما يقف التفكير عائقاً أمام الفعل_ أو أمام الشعور. يمكن للإنسان أن يحلّل العلاقة مع الموت. والحياة غير المفحوصة قد لا تستحق أن تعاش، كما بيّنّا سابقاً، لكنّ الحياة غير المعاشة غير جدرة بأن تُفحَصَ قطعاً. لا ينبغي أن يقطع التفكير الطريق على الفعل أو الشعور، فالتفكير بالكاد يلعب دور الموجّه لأفعالنا. جميع الأمور والأشياء الجيدة قد يُساء استخدامها. وقطعاً التفكير المنطقي العقلاني التحليلي يمكن أن يُساء استخدامه. فالأمر عائدٌ لكل واحدٍ منّا أن يستخدمه بالطريقة التي يجدها مناسبة.
النقطة التي أودّ التركيز عليها هنا هي أنّه كلمّا بات المرء أكفأ في تحليل المشاكل والمسائل المعقدة، كلّما أصبح أفضل في حلّها وإيجاد الحلول لها. التحليل هو المهارة التي تصقلها الفلسفة. وهي مهارة نكتسبها طوال حياتنا. والجقيقة الفعلية حول التفكير والفعل هي أنّنا _إذا اكتسبنا مَلَكَة التفكير النقدي وصقلناها_ أصبحنا أكثر قدرة على عيش حياة ممتلئة وخالية من أعراض شلل التفكير التي قد تصيبنا في مواجهة صعوبات الحياة. الفطنة التحليلية أو البداهة التفكيكية، في أفضل حالاتها، هي تحرّر وانعتاق.

ثانياً: مهارة التقييم
-------------------
الفلسفة تدربنا على التحليل. كما أنها تدرّبنا على تقييم الآراء المتضاربة والأفكار المتناقضة والمزاعم مختلفة.
هل يمتلك البشر إرادة حرّة، أم أنّ أفعالنا وتصرّفاتنا مقرّرة مسبقاً بالوراثة والبيئة؟... هل الله موجود، أن غير موجود؟... هل يبقى الناس بعد موت أجسادهم، أم حُكِمَ علينا بالموت والفناء الشخصي اعتماداً على وظائفنا الجسدية؟... هل للحياة معنى حقيقي وهدف فعلي، أم أنّ كل مانفعله ونقوم به لا يتضمّن أي معنى أو غاية؟... هل نحن مركزيّون ومهمّون في هذا الكون، ام أنّنا مجرد كائنات تافهة لاقيمة لنا نعيش على ذرّة غبار في نقطة ماء معلّقة على فرو أرنب محشور داخل قبّعة ساحر كوني في محيط كوني شاسع بارد وغير مبالٍ فينا؟
غالباً ما تواجهنا خلال حياتنا بآراء وأفكار متناقضة ومزاعم متضاربة وافتراضات بديلة علينا تقييمها واختيار الأفضل بينها: هل علينا السعي لتمويل أفضل لزيادة نوعية منتجنا، أم أنّ عليما التركيز على تقوية إعلاناتنا وتوسيعها؟ جماعة من الموظفين يرون أنّه ينبغي علينا تطوير وتحسين منتجاتنا، بينما فريق آخر يقترح أنّ الإعلان المناسب وتحسين الإعلانات الممتازة أمر ضروري. جماعة من علماء النفس يرون أنّ الأطفال بحاجة لمزيد من الحرية. في حين أنّ جماعة أخرى تزعم أنّهم يحتاجون لتأديب ورسم حدود لازمة لهم. كيف تقيّم وتثمّن هذه المزاعم المتضاربة؟
الفلسفة تدرّب العقل على فنّ التقييم.
ما كل مايلبع ذهباً. يمكن للوقائع والمظاهر أن تكون مختلفة. نحن نعيش اليوم في عالم من الإدمان، المبالغة، والإغراق. وبات كهف أفلاطون أكبو وأعمق بكثير ممّا كان عليه. الأوهام تسيطر على العالم. وكل شخص لديه شيء ما يريد بيعه، كما أنّنا نُقصَف في كل يوم بآلاف المزاعم والآراء التي يجب أن نكون قادرين على تقييمها وتثمينها. في عالم من الآراء ووجهات النظر المتضاربة التي تسعى للقبول والتبنّي، كيف لنا أن نفصل الثمين عن الغَثّ، كيف نميّز بين الغزال والمعزاة، الجواهر عن الحجارة؟ الحَذَر واجب. ونحن بحاجة للبصيرة والفطنة. والبصيرة _التقييم، الفطنة_ هي أيضاً مهارة تدرّبنا عليها الفلسفة وتصقلها فينا.
كما يقول أوفيد ((أحكام البشر غير معصومة)).
في مجال الفلسفة نحن نقيّم وجهة نظر أو رأي او فكرة معينة باحثين عن دليل يجعلنا نعتقد أنّ ظاياً منها حقيقي. نحن نقيّم كيف رأي معين يتطابق وينسجم مع معتقداتنا التي بنيناها على أسس منطقية ونعتقد بأنها صحيحة ومتسقة مع بعضها.
===============================
عند تقييم رأي أو وجهة نظر أو موقف فلسفي معين، كما نقيّم أي عرض عمل، علينا أن نسأل ثلاثة أسئلة رئيسية في غاية الأهمية، ويمكن تسميتها السينات الثلاثة:
_السين الأول: هل هي مترابطة منطقياً؟ هل تتشابك وتترابك المكونات المختلفة للموقف الفلسفي معاً بشكل منطقي؟ هل لها معنى؟ هل هي متّسقة داخلياً؟
_السين الثاني: هل هي متضاربة؟ هل تترابط مع كل معتقداتك وتتفق معها، أم أنها مليئة بالفجوات والنقاط العمياء؟ هل تتخللها نقاط متضاربة وغير متسقة مع ما تعتقده من آراء؟ هل هي مقنعة كما يجب؟
_السين الثالث: هل هي صحيحة؟ لا يكفي ان يكون الموقف الفلسفي مترابط منطقياً ومُتّسق، فالدليل يجب أن يشير إليها باعتباره المنافس الصحيح للحقيقة. التوافق ضروري جداً، والترابط مهم جداً أيضاً. ولكن الصحّة وحدها تمنحنا ما نحتاجه بالكامل. إنّ أي رأي متّسق داخلياً يكون شاملاً، ولكنه لا يفيدنا كثيراً بطريقة علمية.
هذه هي السينات الثلاثة التي تقوم عليها عملية التقييم: الترابط، والاتساق، والصحة. الموقف الفلسفي يشبه كثيراً خطة العمل، قد يكون صحيحاً ومناسباً بقدر ما تتوافق وتتسق عناصره وصحتها. يمكن لأي رأي أن يكون صحيحاً، ضمن حدود، بدون أن يكون متّسق داخلياً. هذا التقييم قد يخبرك أنّ الرأي بحاجة إلى تطوير وتحسين أكثر، قد يكون صحيحاً بمبادئه العامة وخطوطه العريضة، في هذه الحالة، فإنه يحتاج إلى إعادة تأهيل منطقية قبل القبول بها ككل. يجب علينا التحقق من السينات الثلاثة وتحديدها في وضع يمكّن من من تقييمها بشكلٍ حاسم. مع وضع هذا المفهوم بعين الاعتبار، يمكننا تحسين مهاراتنا في التقييم بشكلٍ كبير من خلال استجواباتنا الفلسفية لأي موقف فلسفي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تصعيد إسرائيل في شمال قطاع غزة هو الأعنف منذ إعلان خفض القوا


.. طفل فلسطيني برفح يعبر عن سعادته بعد تناوله -ساندويتش شاورما-




.. السيناتور ساندرز: نحن متواطئون فيما يحدث في غزة والحرب ليست


.. البنتاغون: لدينا بعض المخاوف بشأن مختلف مسارات الخطط الإسرائ




.. تظاهرة مؤيدة لفلسطين في بروكلين للمطالبة بوقف تسليح إسرائيل