الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عنصريةُ اليد اليسرى!

فاطمة ناعوت

2019 / 9 / 8
حقوق الانسان


يوم 13 أغسطس، ذكرى رحيل أبي المتصوّف الجميل، وأيضًا "اليوم العالمي لمستخدمي اليد اليسرى". وتحيّرتُ: هل أكتبُ عن العظيم الذي غرسَ فيَّ قيمَ المحبة والعدل والتسامح حتى مع الخصوم، أم أكتبُ عن طائفة تمثّل 7٪ من البشرية، شاء الچينوم أن أنتمي إليها؟ وتعلمون، حين تتعدّدُ البدائلُ نتحيَّرُ، ونميلُ أحيانًا إلى "الثالث المرفوع” هربًا من "معضلة الاختيار". وبالفعل، مرَّ اليومُ دون أن أكتب عن هذا أو ذاك.
لكن مصادفةً حدثت بالأمس عدّلت قراري. في أحد المولات، استوقفتني سيدةٌ أنيقةٌ وصافحتني بمودةٍ، ثم نادت ابنتها الواقفة مع رفيقاتها على مقربة. وما أن شاهدتني الصبيةُ حتى ركضت نحوي بلهفة وعانقتني قائلةً إنها تحبُّ مقالاتي وتحتفظ ببعض كتبي وإنني مَثَلُها الأعلى. ثم لمعت عيناها فجأة وهتفت: (وكمان أنا فرحانة إني "شولة" زيك. الأول كنت متضايقة. بس لما عرفت إنك شولة بقيت فخورة إني باشبهك في حاجة!) سألتُها: (وليه زعلانة إنك شولة؟) قالت: (حاجات كتير مش متصممة علشانا. المقص، ساعة اليد، الحاجز الإلكتروني في المترو، الجيتار، البيانو، الماوس، القلم الحبر، شريط القياس، مقاعد المحاضرات، بندقية الرماية، فتاحة المعلبات، الفتيس، سوستة البنطلون، ووو. بينسونا لما بيخترعوا!) شعرتُ أن القدر يحرّك أقلامنا. وعدتُ جميلةَ العسراوات "مروة" بالكتابة عن "العُسْر"، وشرح السبب العلمي الذي جعلها وجعلني وقليلين في العالم، نستخدم اليسرى، عكس معظم البشر.
يُطلقُ علينا الأمريكان في العامية southpaw، (مِخْلَب الجنوب). لأن ملاعبَ البيسبول تُصمَّم باتجاه الشرق لكيلا تؤذي أشعةُ الغروب عيونَ اللاعبين. ولكن اللاعب الأعسر، يقذف الكرة نحو الجنوب. ويقول العِلمُ إن چين LRRTM1، هو المسؤول عن العَسَر، لأنه يُنشِّط فصَّ المخ الأيمن، المتحكّم في نصف الجسد الأيسر. وهذا الفصُّ المُبدع هو ماكينة الخيال واللغة والرياضيات والفنون. لهذا نجد كثيرين من العُسْر، فنانين وأدباء وفيزيائيين.
ولكي لا تشعر "مروة" بالعُزلة، أخبرُها أن رائعين مثل: “آينشتين، أرسطو، بيتهوڤن، نيتشه، نابليون، الإسكندر الأكبر، تشرشل، غاندي، نيوتن، ماري كوري، داڤنشي، مايكل-آنجلو، بيكاسو، كاسترو، مارادونا، ميسّي، الأمير وليم، توم كروز، آرم سترونج، بيل جيتس، ومعظم رؤساء أمريكا، وغيرهم، من العُسر. ولذلك لا عجب أن تُعلن منظمة Mensa، التي تضمُّ أذكياء العالم، أن معظم العُسر ذوو نسب ذكاء مرتفعة.
ومثلما اِشتُقَّت مفردةُ "أعسَر" من "العُسْر"، نقيض "اليُسْر"، نجد في الإنجليزية مترادفات الأعسر left-handed، تحمل دلالاتٍ سلبيةً. منها sinistral المشتقة من الجِذر sin (خطيئة)، كأنما الأشول خطّاءٌ! وفي العبرية، وبعض اللغات السامية واللهجات القديمة لبلاد ما بين النهرين، كانت "اليدُ" ترمز للقوة والسيادة، وبالتالي ترمز "اليدُ اليسرى" لسلطة الاعتقال الغاشمة، وكذلك سوء الطالع والنحس، ومسٌّ من غضب الآلهة! كذلك في عديد اللغات الأوروبية، مثل الإنجليزية والهولندية والألمانية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية؛ نجد مفردة "يمين" right لا تحملُ وحسب معنى السَّواء والصَّلاح والصِّحة (عكس الخطأ)، بل أيضًا معنى "الحق والعدالة”. وتاريخيًّا، أنْ تكون "أيمنَ" فذلك يعني أنك ماهرٌ. لأن الجذر اللاتيني dexter يعني "أيمن" ويعني "ماهر" في آن. وفي الأيرلندية deas تعني "يمين" وتعني: "لطيف" أو "جميل". وفي المقابل كلمة gauche بالفرنسية تعني "يسار" وتعني "أخرق". والأمر ذاته في الهولندية والبرتغالية: (له يدان يُسراوان) يعني أنه (أبْلَه). وفي الإنجليزية: ( ذو قدمين يسراوين) يعني فاشل في الرقص. والحقُّ أنني وقعتُ على ما لا يُحصى من تعبيرات لليد اليسرى، في لغات أوروبا وجنوب آسيا، تصبُّ جميعها في النهر السلبيّ! وبالطبع لا ننسى المُحمّل السياسيّ في كلمتيْ: (اليمين، اليسار).
وهكذا يا جميلتي "مروة"؛ مآساتُنا ليست فقط مع الأدوات "العنصرية" التي نعاني عند استخدامها، ولكن لدينا أزمة تاريخية مع المُحمّل المعرفي السيء لمستخدمي اليد اليسرى، فنحن بالفعل "غلابة"!
أما أنت يا أبي، أيها العظيمُ يا رحمكَ اللهُ، فأقولُ لكَ إنني دفعتُ الثمنَ الباهظَ مقابلَ المبادئ التي علمتنيها في طفولتي. فأنْ تُحبَّ "جميعَ" الناس، يعني أنْ يحاربَكَ "معظمُ" الناس! ومع هذا "الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن”.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعتقالات في حرم جامعة كولومبيا خلال احتجاج طلابي مؤيد للفلسط


.. ردود فعل غاضبة للفلسطينيين تجاه الفيتو الأمريكي ضد العضوية ا




.. مخاوف إسرائيلية من مغبة صدور أوامر اعتقال من محكمة العدل الد


.. أهالي الأسرى الإسرائيليين لدى -حماس- يغلقون طريقاً سريعاً في




.. غضب عربي بعد -الفيتو- الأميركي ضد العضوية الكاملة لفلسطين با