الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كربلاء بين ذاكرة التاريخ وتأريخ الذاكرة

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2019 / 9 / 8
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


كربلاء بين ذاكرة التاريخ وتأريخ الذاكرة


لم يسجل التاريخ الديني والإنساني في ذاكرته حدثا محوريا وضع الإنسان أمام جدل فكري مثلما وضع كربلاء وشخوصها وأحداثها على محك الضمير الإنساني إلا في قضية السيد المسيح ع، فكلا القضيتين لهما بعد أخر وموضوعية مميزة في تناول ما حدث والنتائج المترتبة عليه، قد يكون للعواطف الإنسانية دورا هاما في ذلك من خلال صورة المظلومية أو من خلال قيمة الحدث ذاته وما جر من إرتددات عبرت حالة الزمان والمكان المعنيين بالقضية، في قضية نبي الله عيسى ع كان الحدث يمر عبر ظلم الإنسان لأخيه الإنسان لمجرد أن أراد المصلح النجاة للجنس البشري عبر رسالة خلاص ونجاة وترقي في القيم التي لا بد للبشر أن يستعينوا بها صوب الكمال البشري والإصلاح المجتمعي، فذهب عيسى قربانا لهذه المبادئ دون أن تذهب هذه المبادئ ذاتها كما خطط لها وترسخت من خلال عملية الأعتيال السياسي له، نجح أصحاب الطريق العنفي اللا سوي من تغيب النبي والرسول عن خارطة الوجود لكنهم أصطدموا بالفكرة ذاتها وبقي الصراع بين محور الحق والباطل أو الخير والشر محتدما حتى الساعة.
لا تختلف قضية الحسين ع عن قضية النبي عيسى ع ولم تترك التفاصيل الجزئية مجالا للتفاضل بينهما في قيمة ما أحدثت من أثر فكري ومعرفي ونفسي في الدرجة الأولى على طرفي المعادلة، فالقضية برمتها أغتيال سياسي بعنوان ديني كما يبدو لمن أطلع على شكلية القضية، بينما في جوهرها الحقيقي هي أغتيال قيم الحق والخير والفضيلة لصالح منهجية الذات المتضخمة المريضة والمفتتنة بوجودها المتزاحم خارج ما هو إنساني وطبيعي ومنطقي، لذا فما حدث في كربلاء عام 61 هجرية ليس حدثا مرهون لا بشخوصه ولا بالزمكان النوعي، بل كانت أهتزاز حقيقي في ضمير الإنسان كل الإنسان ليعيد حساباته في كل مرة وهو ما يزال يرى دم الفضيلة والإنسانية والحرية تتقاطر من بين يديه، من هنا نشأت تاريخية القضية على أنها فصلا داميا أذهب بنجاح الإنسان أن يكون عامل أصلاح وتوحد في سبيل المبادي العليا التي لا يختلف بشأنها أحد.
عندما تتحول تاريخية الحدث إلى إشكالية مختلف بشأنها وبشأن قيمة التجربة ونتائجها، تتحول القضية من محرك أجتماعي تاريخي رئيسي مهم يدفع بالمجتمعات لاستخراج مضمون التجربة وجعلها قيمة معرفية عقلية مساهمة في التطور إلى عامل تشتيت وتمزيق للمجتمع الإنساني، وبذلك يتحول التاريخ ذاته إلى أداة طيعة للأنا الإنسانية المريضة لتكمل مشروع أغتيال أخر أكبر من الحدث ومضامينه وتبدأ معه جولة أخرى من الصراع كأنما نحن في دوامة ضرورية التنازع وليس أمام ضرورية الإصلاح والتمدن ومراجعة الذات عما أرتكبته من خطيئة القتل ذاته، لهذا السبب نرى أن التفاعل مع القضية يأخذ بعدين أساسيين في الصراع بعد القيم وبعد المظلومية ووجوب تصحيح الخطأ، فنجد الصراع التاريخي تحول إلى صراع من نوع أخر صراع مصالح بشخوص رموزها وصراع بقاء من خلال الرموز ذاتها وخرج الإنسان الذي أرادته القيم أن يكون عنصر إيجابي طبيعي في حركته داخل المجتمع محملا بهزيمة أخرى حين عجز أن يوقف هذا الصراع في نقطة الأنحياز لوجوده المحض، وتحول لحطب جاهز للرمي به في أتون مجموعة من النزاعات العبثية بين من يريد للصراع أن يستمر وبين مؤيدي الإصلاح والاستفادة من التجربة ونتائجها.
المشكلة الرئيسية والإشكالية الكبرى تكمن في تحويل التاريخ وقضيته إلى تفرعات تفرغ القضية من محتواها وتجير ماهيتها إلى تاريخانية مفرطة في تزوير الحدث، وتشويهها بأستخدام الرموز كأدوات للصراع بعيدا عن أصل القضية ولبها الجوهري، فلا أنصار السيد المسيح ع نجحوا في تقديم جوهر القضية على أن الشر والباطل لا يمكنه أن يهزم الحق والخير حتى بتغيب صانع الحث وفاعله، ولا حتى أعداءه أستطاعوا أن يبرروا بعقلانية ما حدث ويراجعوا الموقف الذي أدى بالنهاية إلى خسارة الإنسان نفسه، في قضية كربلاء الموقف مشابه وقد يكون منطبقا تماما في الوصف والنتيجة والغاية منه، فمن كان مؤمنا بما حدث ومستجيبا له وقع في ذات الخطأ وأبدل القضية التي جاء بها الحسين ع وأستشهد من أجلها وتقديمها على أنها ثورة من أجل الإنسان لتجاوز الخطأ التاريخي، وحولوها إلى تابو بديل عن الدين الرسالة وتقديم الحدث بظاهره الفوقي على الفاعل ومبررات الثورة وعلات الإصلاح التي أرادها من كل ذلك، في حين بقي أعداء الحسين بين نارين نار الهروب للأمام بمجمل الحدث ومحاولة الدفاع عن الظالم ولو بتزوير تاريخي مقيت، ونار الشعور بالذنب والرغبة في إصلاح ما كان ولو بموقف محايد بينهما وقد مضى التاريخ بعيدا عن ذلك.
هنا جاء دور تاريخ الذاكرة تاريخ الرأي وليس تأريخ الحقيقة التي كانت أساس الصراع وجذوته بالأساس، فكل ما نتلقاه الآن عن القضيتين هو فعل الذاكرة التي صنعها المؤرخون بدون أمانه وبدون حس بالمسؤولية أمام أبطال الحدث، هذا الفعل وإن كان جزء من أدوات الصراع ولكنه المسؤول الأول عن تشويه القضية وتغير مسارات النتيجة وكلا الطرفين ساهم بجزء مهم منها، لا أنصار الحق كانوا حياديين في صنع الذاكرة وتاريخها ولا الخصوم قدموا رواية الحدث كما هي حتى يضعوا الإنسان أمام الحقيقة، ومن باب الدفاع عن القضيتين تولدت لدينا ذاكرة تاريخية مشوهة خالية من طعمها ولا يمكنها أن تتواصل مع نتائج التجربة التاريخية وتنميتها بأتجاه الإصلاح ومراجعة ما حدث وإدانة المجرم الحقيقي فيها.
إن إفراغ قضية كربلاء من محتواها التحرري الثوري وجعلها في دائرة العامل النفسي العاطفي بعيدا عن أسبابها ومسبباتها والروح التي أتقدت فيها لأجل الإنسان ساهم بشكل كبير في ضياع معالم تاريخية الحدث، وتغيبا لفعل الفاعل الذي أجج روح التحدي للباطل ومواجهته بكل الأسلحة الفكرية والمنطقية، سواء ما كان منها ما هو أخلاقي إنساني طبيعي أو ما هو إيماني وجداني متعلق بإرادة السماء العليا والقيم النبيلة المرافقة لهذه الإرادة، لقد ضيع محبوا الحسين قضيتهم بوعي أو بلا قصد أحيانا ثورتهم ومنهجهم لصالح الانخراط بصراع جانبي، صراع ما بين هويات خاصة طارئة أعتباطية ذات أهداف سياسية خالصة وبين تمسكهم بنصرة الحق والامتثال لنداء كربلاء، ( ما خرجت أطرا ولا بطرا وإنما خرجت لإصلاح أمة جدي رسول الله) هذا المحتوى الإنساني الذي يعيد تجميع الأمة على هدف وباتجاه غاية الإصلاح والإرشاد إلى جعلها قضية وجدانية خالصة، وتحول الهدف إلى ما يشبه الدعوة إلى تقسيم الأمة وتجزئتها وترسيخ منطق الباطل على منطق الحق، هدف كربلاء كان أمة الإسلام دون عنوان أخر تحول بالنتيجة إلى هدف أخر هو هدف التفرد والانعزال، دون أن يبذل محبوا الحسين على الأقل جهدهم من أجل التوحيد والوحدة الإيمانية، محاطين القضية بهالة من تقديس المظلومية والتقوقع خلفها وبدل جعل ثقافة رفض الظلم لكل الإنسانية إلى تقديس المظلوم والنوح والبكاء العاجز عن إحداث التغيير المطلوب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نور الغندور ترقص لتفادي سو?ال هشام حداد ????


.. قادة تونس والجزائر وليبيا يتفقون على العمل معا لمكافحة مخاطر




.. بعد قرن.. إعادة إحياء التراث الأولمبي الفرنسي • فرانس 24


.. الجيش الإسرائيلي يكثف ضرباته على أرجاء قطاع غزة ويوقع مزيدا




.. سوناك: المملكة المتحدة أكبر قوة عسكرية في أوروبا وثاني أكبر