الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خرافة الحرية الرأسمالية (في عالمنا المعاصر)! (1)

طلال الربيعي

2019 / 9 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يعتبر الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد, ميلتون فريدمان, مؤسس ما يسمى مدرسة شيكاغو او المدرسة النيوليبرالية في الاقتصاد. ولذا يدعى فريدمان صبي شيكاغو واتباعه صبيان شيكاغو. والعديد في منطقتنا, احزابا او افرادا, يخلط بين الليبرالية والنيوليبرالية, وخصوصا عندما يجري الحديث عن الحريات وحقوق الانسان.

النيوليبرالية هي في الأساس شكل "أنقى" من الرأسمالية أو اقتصاد السوق الرأسمالي, حيث تم "تخفيفها" اجتماعيًا لعدة عقود تحت تأثير الكساد العظيم, في نهاية عشرينيات وبداية ثلاثينيات القرن الماضي وما تلاه من الحرب العالمية الثانية, في أوروبا في شكل "اقتصاد السوق الاجتماعي" وفي الولايات المتحدة في شكل "صفقة جديدة".

ولكن ليس للنيوليبرالية سوى القليل من القواسم المشتركة مع الليبرالية السياسية, وفي جانب حاسم, يمكن اعتبارها معارضة لها. تمثل الليبرالية السياسية أولوية الحريات السياسية والحقوق الأساسية على الحريات الاقتصادية الخالصة. الليبرالية الجديدة تعكس هذه العلاقة: الحريات الاقتصادية لها الأسبقية على كل شيء آخر: "إذا كان الاقتصاد في حالة جيدة، الكل بخير".

بينما, في الليبرالية السياسية تنشئ الدولة السوق وتنظمه, في النيوليبرالية من المفترض أن ينظم السوق تشكل المجتمع ككل. ليس الحرية والمساواة والإخاء, التي شكلت شعار الثورة الفرنسية, هي مبادئ النيوليبراليية, بل هي المنافسة وحرية الملكية. الدولة النيوليبرالية هي الدولة التي لا تتلاعب في السوق او تتدخل فيه دون داع ولا بد وأن "تنسحب من الاقتصاد": تقلص الدولة لصالح الملكية الخاصة!

وكمسألة اكاديمية-تاريخية ينبغي ذكرها وان كان ليس لها علاقة مباشرة بموضوعة المقالة هي ان رائد النيوليبرالية هو الاقتصادي النمساوي فريدريش أوغست فون هايك, الذي أسس "جمعية مونت بيلرين" (MPS) في عام 1947 من أجل نشر الأفكار النيوليبرالية في جميع أنحاء العالم.

الآثار التي تنطوي عليها السياسة النيوليبرالية تتضمن الامتيازات الضريبية للأثرياء, التخفيضات الاجتماعية, والخصخصة, التي تؤدي إلى نمو عدم المساواة وزعزعة التماسك الاجتماعي. في الولايات المتحدة اليوم, يكسب الرؤساء التنفيذيون في أكبر الشركات الأمريكية رواتب سنوية بمعدل 17.2 مليون دولار, أي ما يعادل 278 مرة ضعف راتب العامل العادي.
Top US bosses earn 278 times more than their employees
https://www.theguardian.com/us-news/2019/aug/14/ceo-worker-pay-gap
وفقدَ الحد الادنى للاجور الآن 40 في المئة من قوته الشرائية منذ عام 1968. مع الفقر تزداد الجريمة في الولايات المتحدة ارتفاعًا وتزايد عدد السجناء من 500000 في عام 1980 إلى أكثر من مليوني سجين اليوم. ينتهي "الحلم الأمريكي" لكل ثامن شاب ملون خلف "الستائر السويدية".

لقد أصبحت سلطة الأغنياء والشركات في الدولة النيوليبرالية عظيمة لدرجة أنهم نجحوا في تحويل الديمقراطية, بمفهومها الليبرالي, الى سلوك نفعي لصالح الشركات ورجالات المال والاعمال. ويتخذ السياسيون أهم القرارات لصالح الأقلية. وهذا بدوره يؤدي إلى ابتعاد الكثير من الناس عن السياسة ("الضجر السياسي") وانتشار مشاعر واسعة النطاق بالعجز, وكذلك تفاقم الشعور بالوحدة.
The age of loneliness is killing us
https://www.theguardian.com/commentisfree/2014/oct/14/age-of-loneliness-killing-us

من خلال تراجع دور الدولة, كان من المفترض أن تسمح النيوليبرالية بالازدهار الذاتي والإبداع. وبدلاً من ذلك, قدمت سلطوية شبه مخصخصة أكثر قمعية من النظام الذي حلت محله.
Neoliberalism – the ideology at the root of all our problems
(النيوليبرالية - الأيديولوجية التي هي جذر كل مشاكلنا)
https://www.theguardian.com/books/2016/apr
/15/neoliberalism-ideology-problem-george-monbiot

والجهات الفاعلة الرئيسية هي الحكومات في جميع البلدان تقريبًا التي طبقت بشكل متزايد برامج النيوليبرالية على مدار العشرين عامًا الماضية. وفي الوقت نفسه, تُستخدم المنظمات الدولية وهياكل الدولة العليا لدفع الإصلاحات التي لا تحظى بشعبية ("الصدمات") في البرلمانات والسكان-صدمة غزو العراق سهلت تمرير دستوره وقوانين بريمر النيوليبرالية.
On the Anniversary of the Shock and Awe Bombing of Iraq
https://www.globalresearch.ca/anniversary-shock-awe-bombing-iraq-imperial-blowback-america/5672169

وذلك بالإضافة إلى "الثالوث غير المقدس!" المكون من البنك الدولي وصندوق النقد (IMF) ومنظمة التجارة العالمية (WTO). واللعبة هذه تعمل بشكل جيد, لا سيما في الاتحاد الأوروبي. ما هو مناقض لرأي الأغلبية في الداخل يمكن فرضه من خلال بروكسل ويكون "إلزاميا". وتشمل الجهات الفاعلة الأخرى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية, التي تشكو بانتظام من نظام المعاشات التقاعدية "السخي!؟" في النمسا، أو المجلس الألماني للخبراء الاقتصاديين, الذي تعكس توصياته الاتجاه العام للتحول الاقتصادي النيوليبرالي. أخيرًا, هناك محتويات نيوليبرالية بشكل متزايد في برامج الأحزاب الرئيسية: تبقى القليل من "الاشتراكية" او الاقل منه في برامج الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية او التعاليم الاجتماعية المسيحية في سياسة الأحزاب المحافظة.

وقد تبنت قطاعات واسعة من السكان خيارات ومعتقدات نيوليبرالية ("يجب مكافأة النتجين المتفوقين", "الاقتصاد جيد, كلنا بخير," "القدرة التنافسية هي شرط أساسي لازدهارنا"), ويساهم الجميع او ما يقرب في "الهيمنة النيوليبرالية": الأغلبية تؤيد ما يفيد الأقلية. في الوقت الحالي النيوليبرالية هي "النموذج" السائد: نظام القيم والحجج التي تتمتع بالسيادة في الخطاب العام. وقد حضرتُ بدافع الفضول قبل ايام فعالية امريكية (ترامبية) تسعى الى تسويق الحلم الامريكي نيوليبراليا باحالة الثقافة الى بضاعة للأغتناء واكتناز المال فقط: تكف الثقافة في ان تكون مصدرا لمزيد من المعرفة والابداع والاشباع الروحي للحاجات. والرئيس الامريكي ترامب نفسه يقول انه يفضل الغير مثقفين وغير المتعلمين والذين يشكلون هم قاعدته الانتخابية الرئيسية. على المثقفين الخضوع لمنطق السوق كي يحتفظوا بوجودهم كبشر وكمثقفين او اكاديميين-وان كان هؤلاء يشكلون في الحقيقة الاطروحة المناقضة للثقافة الحقة او للاكاديميا كابداع حر. النيوليبرالية تزيد بذلك من الفقر الروحي للبشر ومن اغترابهم رأسماليا, كما يتجلى ذلك في زيادة معدلات الجريمة وتعاطي المخدرات او تعاظم معدلات الانتحار. والمؤسسات الدينية, التي يفترض واجبها تعزيز القيم الروحية, تصبح هي الاخرى اشبه بمؤسسات تجارية-كومبرادورية في عالم الاطراف حسب ثنائية الحداثة البائدة, بحيث تشكل بضاعتها ليس فقط الدين, كخطاب نظري او لاهوتي, وانما ايضا, ولربما هو الاهم, طقوسه, كما يتجسد الآن في تعاظم وميلودرامية طقوس عاشوراء في العراق. وهذا التعاظم والميلودرامية يشكل تجسيدا واضحا لاكتساح المد الفكري النيوليبرالي لمجاميع هائلة من البشر وكأنه وباء يتسرب الى دواخلهم عبر العقل الباطن الجمعي, العقل الباطن الرأسمالي على حد تعبير المحلل والطبيب النفسي جاك لُاكان. الدين يفقد بالكامل وظيفته الروحية, المفترضة نظريا على الاقل, ويصبح عبدا لرأس المال.
وبذلك يصبح الدين, كمؤسسة, صنوا للسياسة (بمفهوم الامير الماكيافيلي) او بالعكس. والنتيجة هو خراب الاثنين معا, خراب المجتمع وانحطاطه, انتصار العقل الجماعي والشمولي وما ينتج عنه من تراجع مريع في الحريات الفردية. وقمع الحريات الفردية لا يحتاج في العادة الى عصا غليضة, بل ان الجزرة و, اذا اقتبسنا مصطلح مؤرخ الفكر واختصاصي السايكوباثولوجي ميشيل فوكو وآخرين, السلطة الناعمة, تكونان كافية عادة في اغلب الاحوال.
Soft power: what it is, why it’s important, and the conditions for its effective us
https://www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/2158379X.2011.557886?scroll=top&needAccess=true&journalCode=rpow21

والحاكم المدني للعراق بعد الاحتلال, بول بريمر, هو التلميذ الروحي للاقتصادي ميلتون فريدمان.

وبرغم كل التغييرات التي حدثت عالميا في السنوات الخمسين الماضية, حافظت الكلاسيكيات على مكانها بشكل مدهش. ما زال كتاب ميلتون فريدمان "الرأسمالية والحرية" وكتاب فريدريخ هايك "الطريق إلى القنانة" معروضين في مكتبة بريتبارت الإلكترونية- بريتبارت معروف بشبكته في المواقع المحافظة التي تجذب ملايين القراء كل يوم وهو من اتباع اكثر الاجنحة محافظة في الحزب الجمهوري الامريكي والمسمى عادة Tea Party
Righteous Indignation: Excuse Me While I Save the World
https://www.amazon.com/Righteous-Indignation-Excuse-While-World/dp/0446572829

ويخبر احد اهم اتباع فريدمان, راش ليمبو, جمهوره أن "كتاب ميلتون فريدمان, "الرأسمالية والحرية", يجب أن يكون الكتاب المقدس للشباب, أو أي شخص آخر يحاول فهم الرأسمالية والأسواق الحرة".
Milton Friedman Schools Phil Donahue (and Barack Obama) on Capitalism and Greed
https://www.rushlimbaugh.com/daily/2012/07/31/milton_friedman_schools_phil_donahue_and_barack_obama_on_capitalism_and_greed/

والامثلة لا تعد ولا تحصى. تشارلي كيرك, مؤسس Turning Point USA (منظمة امريكية يمينية غير ربحية)، يحتفي يهايك وفريدمان في كتابه
Time for a Turning Point: Setting a Course Toward Free Markets and-limit-ed Government for Future Generations
https://books.google.at/books?id=838mDQAAQBAJ&pg=PR9&lpg=PR9&dq=%22charlie+kirk%22+hayek&source=bl&ots=hjaSVsCx0z&sig=ACfU3U2yMFrmTxjf-po9kE9iIr9x2sROaw&hl=en&sa=X&re------------dir------------_esc=y#v=onepage&q=%22charlie%20kirk%22%20hayek&f=false
بينما يعتبر بن شابيرو فريدمان أيقونة المحافظين في المجلة الوطنية.
America Needs Virtue before Prosperity
https://www.nationalreview.com/2019/01/tucker-carlson-populism-america-needs-virtue-before-prosperity/

وفقًا للفيلسوف جون ستيوارت ميل, المبدأ الأساسي للحرية هو "الهدف الوحيد الذي يمكن من خلاله ممارسة السلطة بحق أي فرد في مجتمع متحضر, ضد إرادته, هو منع إلحاق الأذى بالآخرين". وصف الفيلسوف أشعيا برلين, الذي يعتبره البعض اكبر عقل عرفه القرن العشرين, هذه الفكرة باسم "الحرية السلبية", أو التحرر من الإكراه من قبل الآخرين. اقترح برلين أيضًا "حرية إيجابية" - حرية القيام بأشياء مختلفة, بدلاً من التحرر من خيارات الآخرين. بدلاً من السؤال, "ما هي مراكز القوى التي تتحكم بي", تسأل الحرية الإيجابية, "ما الذي يمكنني أن أفعله بفرص العالم وموارده؟"
Four essays on liberty
https://books.google.at/books/about/Four_essays_on_liberty.html?id=0EYvAAAAYAAJ&re------------dir------------_esc=y
يتبع

















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - انت من اكبر احرار العالم!
طلال الربيعي ( 2019 / 9 / 13 - 06:56 )
تعليق
Alan Goran
من الفيسبوك
لا ادري لماذا تعتقد اني خائف! خائف من ماذا؟ اما بخصوص رأسمالية ونيوليبرالية روسيا فيمكنك قراءة المادة هذه و مصادرها.
Globalization and Post-Soviet Capitalism: Internalizing Neoliberalism in Russia
https://link.springer.com/chapter/10.1057/9780230524439_13

ولا افهم ما المصقود بالحرية عندك! فاذا كنت لا تحسن الكتابة والتعبير عن نفسك فما الضرورة لكتابة تعليق يحمل من الجهل قدر ما يحمله من الفظاظة!
ويبدو ان الحرية بالنسبة لك هي الحرية في الفظاظة والوقاحة, فاذا كان هذا هو تعريفك للحرية فانت من اكبر احرار العالم!!


2 - إعرف عدوك !
فؤاد النمري ( 2019 / 10 / 7 - 07:26 )
يتابع طلال الربيعي قراءة مقالاتي باهتمام زائد من باب معرفة العدو
مشكلة طلال وهو الطبيب النفساني لا يميز بين الصديق والعدو
طلال لا يعاديني إلا لأنه يدافع عن الماركسية الصحيحة ويرى في كتاباتي تحريفاً للماركسية
ليس لي سوى أن أقدر منه مثل هذا الحرص على الماركسية
لكن مثل هذا الحرص يبتغي منك أن تكون ملماً بالماركسية وبأبسط قواعها على الأقل

أنا يا طلال لا أرى فيك عدوا فالفقر في علم الماركسية شائع حتى بين قادة الأحزاب الشيوعية
أنت طبيب ولا يجوز أن تفوت مداركك حقائق أولية في الماركسية
الخصيصة الأولى والأساسية في النظام الرأسمالي هو تحقيقه لفائض الإنتاج الذي يستوجب تصديره للخارج كيلا يموت النظام غرقاً في فائض إنتاجه كما في دورة الكساد التي اكتشفها ماركس

آخر قلاع الرأسمالية هي الولايات المتحدة
الولايات المتحدة اليوم لا تنتج ما يسد احتياجات شعبها ولذلك يعجز ميزانها التجاري بحوالي 700 مليار دولار سنوياً
وهو ما يعني أن نظام الإنتاج فيها لا يحقق فائض القيمة الذي يستدعي وحده الصراع الطبقي
العلوم الماركسية تحكم بأن مثل هذا النظام لا يمكن أن يكون نظاماً رأسمالياً
سترد علي بالسباب والشتائم وهو لا يليق

اخر الافلام

.. المحكمة العليا تنظر في حصانة ترامب الرئاسية في مواجهة التهم


.. مطالب دولية لإسرائيل بتقديم توضيحات بشأن المقابر الجماعية ال




.. تصعيد كبير ونوعي في العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل|


.. الولايات المتحدة تدعو إسرائيل لتقديم معلومات بشأن المقابر ال




.. صحيفة الإندبندنت: تحذيرات من استخدام إسرائيل للرصيف العائم س