الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(17) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء غريب : حوار أجراه من ستوكهولم الأديب والتشكيلي صبري يوسف

أسماء غريب

2019 / 9 / 15
مقابلات و حوارات


صبري يوسف:
أهل السّلام هُم أصحاب التَّجلّيات الحلميّة بامتياز، كيف يُمكن تفسير هذا الأمر، وما معنى التّجلّي ولماذا يحدث؟!
*
د. أسماء غريب:

هذا له علاقة بمستويات الجسد الإنسانيّ السّبعة، وحينما أقول السّبعة فإنّي أعني بها الجسمَ الفيزيقيّ، والجسم الأثيري ثمَّ الجسم النُّورانيّ، وبعده الجسمَيْن العقليّ الأدنى والعقليّ الأعلى، ثمَّ الجسميْن الإشراقيّ والرّوحيّ، وقد يبدو لأوّل وهلة أنّ هذا التّركيب صعب على الفهم والاستيعاب، في حين أنّه لا وجود لجسم بدون آخر، وكلّ جسم له دور خاصّ داخل هذه المنظومة الجسديّة السُّباعيّة التّركيب، والوعي الإنسانيّ يعبّر عن نفسه من خلال هذه الأجسام كلّها، فحينما يحدثُ التَّعبير من خلال الجسد الإشراقيّ على سبيل المثال فإنّ الإنسان يكون مقيّداً بهذا المستوى فتظهرُ التّجلّياتُ الإشراقيّة بشكل طبيعيّ تلقائيّ وقد تمتدُّ إلى الوعي السّماوي فتصبح أكثر صفاء ونقاءً. والجسد الرُّوحيّ هو أساس الحقيقة الفرديّة، وهو فوق الزّمن والمكان: إنه الشّمس الإلهيّة.
وجسد الإنسان هو بُراقه، أو ناقتُه، أو ثعبانه أو عصاه الّتي بها يدخل إلى عوالم الملكوت الدَّاخليّة والَّتي بها تحدث الرّؤى والتَّجلّيات والفيوضات والجلاءات البصريّة والسّمعيّة. وكما ترى عزيزي القارئ فإنِّي استخدمتُ مصطلحات البُراق والنّاقة والثُّعبان والعصا لأذكِّر بإشراقات وأسفار الأنبياء. وأنت أيضاً لا تختلفُ ولا تقلُّ عنهم في شيءٍ، فإذا استطعتَ أن تستوعبَ مَرْكَبَاتِ جسدك وتكويناته الإشراقيّة، وعرفتَ كيف تدخل إلى سماواتك فإنّك لا شكّ ستدركُ معنى ما أنا بصدد البوح به الآن.
جسمكَ طائرتُكَ وعليك أن تكون قُبطاناً بارعاً، لتعرف كيف تستمع إليها وتعتني بها جيّداً. يجب أن تحبّه إذ بالمحبّة فقط يمكنك أن تحترم العالم الإنسانيّ بأكمله، ويمكنكَ أن تصل إلى أرقى المستويات الإشراقيّة الَّتي مازال العلم لا يعرفُ عنها شيئاً. طائرتُكَ هذه هي القالبُ الّذي يحتضنُ جسمَكَ الأثيريّ والّذي به تكوّنَ جسدُكَ الجُرميّ وهُو المُوزِّعُ للطّاقة الحيويّة الصّادرة عن الشّمس والمنتشرة في الوجود بأسره، والّتي تساعدُكَ على تلقّي المعارف والفيوضات الّتي تتجاوز العالم الأرضيّ، والّتي يلتقطُها الدّماغ على شكل اهتزازات ويخزّنُها في ذاكرته عبر موجات منها ما يتلاءَمُ مع حالة التّأمّل والصّفاء، ومنها ما يظهرُ في حالة اليقظة والنّشاط الذّهنيّ، ومنها ما تحدثُ في حالة النَّوم العميق، ومنها أيضاً ما تكونُ في حالة الأحلام. إنّ عقلكَ عزيزي القارئ مثل المذياع كلّما عرفتَ كيف تتحكّمُ في إبرته وتوجِّهُها نحو الموجة الصّحيحة فإنّك ستستقبلُ بدون شكّ الإرسالات الأبهى والأنقى، ربّما يزورك معلّمو الأزمنة الماضية، ربّما تلتقي بالأنبياء والعرفاء والأولياء، وإذا كان مذياعُكَ على قدرٍ عالٍ من الصّفاء ربّما تصلُ إلى ما لم يصل إليه أحد قبلك، هذا جسدك وذاك عقلك وأنت روح محلّقة في سماوات الملكوت الفسيحة، اشحذ همّتكَ إذن وطِرْ نحو الأعالي:
((بقلبي مذياعٌ لهُ دائرةٌ
تهتزُّ كُلّ آخر ليل عند قدميّ
وبُوقُه الحَلزونيُّ الأخضر
أعلّقـُه لـَحظة كلّ إرسال كالقـِرْط بأذنيّ
ومـَوْجاتُه تُحرّكُها كهْرباءُ الكونِ
كـَالبـَرق الأسْود وسطَ نونِ يديّ.
مذياعُ قلبي حكايتُه غريبة
ومَحطّاتُ إرْسَاله عجيبة
مذيعهُ واحدٌ، يـُسامِرُني كلّ ليلةٍ
بصَوتـِه الرّخيمِ إلى الرّابعة
يُحَدّثني عن الله الواحد الأحَدِ
عن الطّواويس المُطوّقة بالنّور
عن الغـِرْبان البيض والحُمر
عن دَوائر القـَهـْر والسـّتر والسّرّ والغُفرانِ
وأنا كغريبٍ يحملُ ببُطيْناتِ قلبه
وردةً من ياقوتٍ مُنْصهر
أهرُبُ وحيدةً بِدار إذاعتي
بعيداً بعيداً بعيداً
حيثُ أنْهار العَسل والنّبيذ واللّبن
أسمعُ وأسمعُ وأسمَعُ
لا أكـَلّ ولا أمـَلُّ
فمَا أعْذب صَوْتَ مُذيعي بلْ ما أشْجاه
كلّ ليْلة بأذكاره بألحانه وترانيمِه
يـُبْكيني يبْكيني يبكيني)).
///

صبري يوسف:
إذا مرضَ الإنسانُ، هل تتوقّفُ التّجلّيات؟ وهل يحرمُ المرضُ إنسانَ السّلام من التَّوغّل أكثر فأكثر في عوالم الملكوت البهيّة؟
*
د. أسماء غريب:

المرضُ باب من أبواب الولوج إلى عوالم الحكمة والسّلام، وهو ليس بذاك السّوء الَّذي يتصوّره الجميع، إنّه يلازم الإنسانَ في كلّ مراحل حياته، لأنّه لغةُ الجسد ورسائلُه الَّتي على رجل السّلام أن يعرفَ كيف يفكُّ رموزها، وهذا لن يتأتّى لهُ إلّا إذا استوعب جيّداً أنّه والكون شيء واحد لا ينفصلُ ولا يتجزّأُ.
نعم، كلّ الكون فيك أيّها القارئ؛ الشّمسُ وقطرة المطر، القمر وذرّة الحجر، وإذا عرفت أنّ في القطرة يكمنُ سرُّ البحر، وفي الذرّة يكمنُ سرُّ الأرض، وأنّ في حركة الكون تكمنُ حركةُ عقلك فإنّك تصبح ولا شكّ عارفاً بأسرار الكون الكبرى الّتي يعدّ المرضُ إحداها. ولكي تعرف ما المرض، عليك أن تعرف ما الصّحّة الّتي هي تناغمٌ في الأفكار والوظائف الّتي يؤدّيها الجسدُ خلال حياته اليوميّة، واختلالُها يعني ظهورُ المرض، ويعني أنّه ثمّة شيء في حياتنا ليس على ما يرام ولا نقوم به على الوجه الأمثل. وعليه تصبحُ رسالة المرض الأولى هي التّنبيه إلى طريق السَّلامة والأمان. والمرض باعتباره أزمة فإنّهُ دائماً في حالة تطوّر يجب أن نعطيها الوقت الكافي لتكتمل حتّى يحدث الشّفاء. وعلى المريض أن يعي هذا جيّداً، ويتعلّم كيف يطرح على نفسه أسئلة من قبيل: لماذا مرضتُ، أين أخطأتُ، وأين الخلل؟ وعليه أن يعرف أيضاً أنّ الشَّفاء لا يتحقّقُ بمحاربة المرض بقدر ما يتحقّق بمصاحبتهِ والاستئناسِ به ليتحقّقَ الإنصاتُ إلى كلّ علامة وإشارة يرسلها إليك جسدُك المريض وعرضها بالتّالي على الطّبيب. لا بدّ أن يصل المريض إلى هذا المستوى من العمق لتحدثَ له الرّؤيا، فالأعراض المرضيّة تقول الكثير، وتوفّر للإنسان شروطَ التَّعلّم، خاصّة منها تلك الّتي تسمح له بالتَّعرّف على ظلّه، لأنّ كلّ المشاكل والاختلالات تكمن هناك، في هذه المنطقة المظلمة الَّتي تحتاج إلى وعيٍ قطبيّ كبير لا يتحقّق إلَّا بمغادرة فردوس الوحدة من أجل النُّزول إلى عوالم القطبيّة.
والعشقُ هو الدّواء الأوّل والأخير، لأنّه يفتح الحدود ويكسر الحواجز والعقبات. ومعظمُ الأمراض بما فيها السّرطان هي انتكاس في طاقة العشق، أو هي حبٌّ في الاتّجاه الخطأ، أو حبّ محمّلٌ بالأنا والغيرة والامتلاك لأنّه ينزلُ بصاحبه إلى درك الجسديّة ويجعلُ الأمراضَ تفرض قوانينَها فيه، ولو تأمّلتَ عزيزي القارئ فيما أقول ستجد أن العضو الّذي يحبّ، أيْ القلب، لا يتعرّض للسّرطان إلّا في حالات نادرة جدّاً جدّاً، تذكّر قصّة النَّبيّ أيوب مثلاً، أكل المرضُ كلّ جسده إلّا قلبه ولسانه. ولكي يتحقّقَ لك العشقُ وبالتَّالي الشَّفاء عليك أن تكون واعياً راضياً بكلّ ما هو موجود لتتّحد بالوجود، وتذكّر أنّ كلّ رفضٍ لما تراه مرضاً هو تجلٍّ خالصٌ للأنا، في حين يأتي الشّفاء مع كلّ نعَم تقولها للحياة بكلّ ما تملك من قوّة. تذكّر أيضاً أنّ هذا الكمال والقبول الّذي أحدّثك عنه لا يُمكن أن يتحقّق إلّا على مستوى الوعي وليس على مستوى المادّة. والمرضُ لا يحدُّ من وقوع التَّجلّيات وإنّما يُعمّقُها في كثير من الأحيان، لأنّه هو نفسه لغة تُخْبِرُ رَجُلَ السّلام بآخر تطوّرات جسده وإلى أين هو ماضٍ، وما مدى عُمق سفره أم لا، وتقول له أيضاً إنّ السّفر بحدِّ ذاته أهمّ من الطّريق نفسه:
((وقلتَ: إنّي اختَرْتُكِ لِي
فابتسمتُ خاشعةً خاضعةً
وقلتُ: إنّي لكَ، متَى وأنّى شئتَ ذلكَ
يا مولاي
قلتَ: الثّمنُ باهظٌ جدّاً
فهل تصبرين؟
قلتُ: وهل سأكونُ أفضل من جدّي محمّد
وأخِي يوسف وأبي أيّوب؟
قلتَ: عليكِ أنْ تمرضِي وتموتي ثمّ تقومي
هذا هو الثّمن!
*
سمعتُ كلامكَ فارتبكتُ وقلتُ باكيةً:
ليس بالشّيء الهيّن أبداً
أن أمرضَ ثمّ أموت
يا مولاي
قلتَ: مرضُكِ عرفانيّ
وموتُكِ وقيامتُكِ كذلكَ
فلا تخشيْ شيئاً يا صغيرتي
ستدورُ بكِ الأرضُ
ويُغمى عليكِ مرّةً في كلّ شهر
وسيأتي الأبدالُ لزيارتكِ
في عيادتك العرفانيّة الفضّيّة
ومِن بعدهِمُ الأماكنُ والجبالُ
والكواكبُ والنّجومُ.
قلتُ: ربّما تقصدُ أنّني أنا هذه العيادةُ العرفانيّة
وأنّكَ أنتَ الطَّبيبُ فيها والجرّاح؟!
قلتَ: نعم
عيادتُكِ كهفُكِ
وعليكِ أن تنامي فيه كالفتية السّبعة
قلتُ: ومن أين لي بالكلبِ الوفيّ
يؤنسُني ويحرسُ كهفي؟
قلتَ: كلبكِ بداخلكِ
لكنّه سينامُ هو الآخر مثلكِ
لا خيار في ذلكَ
فهو نفسُكِ الباسطةِ ذراعيْها بالوصيد
قلتُ: لِأمْرَضْ إذن ولأمُتْ
ما دمتَ قدْ شئتَ لي ذلك
يا مولاي.
*
وفعلا مرضتُ
ودخلتُ الكهفَ ونمتُ فيه
ثلاثة قرون أو ربّما أكثر
وباتتِ الشَّمسُ تزورني
وتُقَلّبني ذاتَ اليمين وذات الشِّمال
وبقيتُ هكذا غائبةً
وروحي تبكي بدلَ الدّمع دماً
إلى أنْ زارني الصّقرُ الحديديُّ الأكبر
فاستيقظتُ وقلتُ لهُ:
ما بالك تذكّرْتنِي بعد كلّ هذه القرون والأعوام؟
قال: جئتُ لآخذَ قلبَكِ
فغرسَ منقارَهُ في صدري
وانتزعَ قلبي
وطار بهِ إلى الجحيمِ
هناك حيث توجد سدرةُ المختارين
منْ أهل العشقِ والمحبّة
نعم يا صاحبي،
لقد علّقَ الصَّقرُ قلبي في السّدرة
وتركهُ لثلاثة قرون أخرى إلى أنْ استوى ونضجَ
وأصبحَ كحبّةٍ من التّين المجفّف
ثمَّ عاد إليّ
وفصلَ رأسي عن جسدِي
ولحمِي عن عظمْي
ثمَّ طارَ وتركنِي
وجاءتِ الرّيحُ الذَّهبيّةُ من بعدِهِ
فأخذتْ عظامي ونثرتها
على أربعِ جهات
وفوق خمسةِ جبال
كلّ هذا وأنا أسمعُ وأرى
*
نعم يا صاحبي،
كلّ هذا وأنا أسمعُ وأرى
دون أن أنبس ببنت شفة
إلى أنْ زارني البدرُ الأحمرُ
فجمَعَ شملي
وأعادَ إليّ قلبي
وقال لي قبلَ أن يغادرني:
اخرجي الآن من كهفكِ
فقد أصبحتِ كما أردتُ لكِ.
ومنذ ذلك اليوم
وأنا لا أعرفُ ما الّذي أصبحتُهُ حقّاً:
عارفةً؟ ربّما
طبيبةً؟ ربّما
لا أعرفُ شيئاً صدّقوني،
سوى أنَّني ذاكَ الاسمَ الّذي جمعَ كلّ الأسماء)).
///

صبري يوسف:
ما رأيكِ بما ترينه على السّاحة من فوضى وعلاقات مخلخلة بين البشر، وبين الدُّول والدَّولة الواحدة مع مواطنيها، كيف يمكن والحالة هذه أن نعالجَ كل هذه الخلخلات في العلاقات بين الدُّول والأفراد؟
*
د. أسماء غريب:

كلّ هذا يحدثُ بسبب عدم إدراك الإنسان لليوم حالةَ الوعي الرّوحيّ الحقّ. إذا تأمّلتَ واقعَ الإنسانيّةِ في زمننا المعاصر، ستجدُ أنّه لا يوجد فرد واحد قادر على الغوص حقيقة في عالمه الدّاخليّ، إلّا من رحم ربّي طبعاً! ربّما قد يحدثُ أن تسمعَ مثلاً أنّه في مكان ما من الأرض، قد تمّ تكريمُ أكبر متسلّق لجبال الألب أو الهملايا، أو أكبر غوّاص للبحار أو أكبر عدّاء للمسافات الطَّويلة، لكنّك لن تسمع أبداً عن تكريمٍ لأكبر غوّاص في بحار الرّوح أو عدّاءٍ في صحاري الجسد الدّاخليّة، هؤلاء يا صاحبي لا يكرّمُهُم أحد، إنّما يُنْعتون بالمجانين والمهلوسين، وفي كثير من الحالات يوسمون بالسّحرة والمشعوذين؛ وتاريخُ الأنبياء مليء بمثل هذه القصص الّتي تؤرّخ لما تعرّضوا له من اضطهاد ومحن، فقط لأنّهم قفزوا قفزة نوعيّة كبيرة في عالم الرّوح والعُلوم اللّدنيّة.
عالمنا عجيب وغريبٌ حقّاً، انظر إلى الأطفال من حولنا مثلاً، ستجدهم في حالة يرثى لها، ما إن يصل أحدُهم الرّابعةَ من عمرهِ حتّى يزجّ به أهلُه في روضة الأطفال ليجدَ نفسَه محروماً فجأة من حنان أمّه وحضنها الدَّافئ ووسط أطفال يصرخون باستمرار، أو يضربون بعضهم بعضاً، أو ينطقون بالكلام الفاحش، ووسط معلّمات يتعاملن معه وفقاً للحالة الاقتصاديّة لوالديْه، ويا لعظيم حظّه إذا كان ابنَ أسرة ثرّيّة! وهكذا منذ سنّ مبكرة يفتحُ الطّفلُ عينيْه على هشاشة العدالة وقسوة الظّلم. ثمَّ بعد ذلك يبلغُ السّادسةَ من عمره ويُزجّ به مرّة أخرى في المدارس الابتدائيّة وهناك تستمرّ قصص الحيف والخوف والغباء، وبعدها تأتي المدارس الثّانوية ثمّ الجامعات الّتي يتخرّج فيها وهو لا يعرفُ شيئاً عن الحياة بتاتاً، وحينما يغادر جدرانَها يجدُ نفسَه فارغاً من كلّ شيء.
كلّ النّظام التَّعليمي في معظم دول العالم هو جريمة ممنهجة تُرْتكَبُ في حقّ الطّلبة منذ البداية: إنّهم مجبرون على كلّ شيء:
- مجبرون على أن يتعرفّوا في المقرّرات البدائيّة على الإلياذة مثلاً بكلّ ما فيها من حروب وغضب وعنف؛
- مجبرون على أن يعرفوا من هو الإسكندر المقدوني الفاتح العظيم الّذي جاب الأرض طولاً وعرضاً يُشعلُها بالحروب؛
- مجبرون على أن يعرفوا أيضاً من هو جنكيز خان وكذا نابليون بونابارت وإيفان الرّهيب، وتكتملُ اللَّوحةُ الدّامية وتصل الذّروة حينما يفتحون صفحات المقرّر في مادّة التَّاريخ، فيجدونها تتحدَّث عن الحرب العالميّة الأولى والثَّانية، ثمَّ عن الفتوحات والحروب الدِّينيّة الكبرى!
لماذا كلّ هذا العنف؟ التَّاريخ يصوّر السّفّاحين كأبطال عظماء. والجغرافيا تقسّمُ العالَمَ إلى دويلات السَّيطرةُ فيها للأقوى. وكتُب الأدب تُخدّر العقول بأفكار بالية أكل عليها الدّهر وشرب، وكتبُ التَّربية الدّينيّة تضجُّ بالفتاوى الدّامية الَّتي تكفّرُ الآخرَ وتقصيه. لماذا كلُّ هذا إذن؟ وما الّذي تنتظرونه من شباب يقضون زهرة عمرهم في تلقّي هذه النّفايات، سوى أن تجدونهم بين ليلة وضحاها يفجّرون أنفسَهم في كلّ مكانٍ؟
لقد فقد الشَّبابُ براءتهم بسبب فساد الأنظمة التَّعليميّة، والثَّمن باهظ جدّاً، مجتمعات غارقة في التَّخلّف والعنف والدّمويّة، ولا حلّ سوى إعادة ترتيب الأوراق والأفكار، ونسف المنظومات البالية من الأعماق. ولتتذكّرْ عزيزي القارئ أنّ العقل الإنسانيّ اليوم هو بحاجة شديدة إلى وقفة تأمّليّة عميقة جدّاً من أجل الدّخول إلى حضرة الصّمت والإنصات إلى الأشياء من الدّاخل، ويكفي الإنسانيّة جنوناً وتيهاً وعطشاً وموتاً ما بعده موت. والحال أنّك مازلتَ تسألني للّحظة عن السَّبب الّذي جعل الإنسانَ يصلُ إلى هذه الدَّرجة من الحضيض والوحل، دعني أروِ لكَ حكاية "الملك والشّاعر" لأقرّبَ لكَ الصّورة أكثر:
((كان يا ما كان في قديم الزَّمان ملكٌ عظيمُ الجاه والسّلطان، وكان يعيش معه في مملكته شاعرٌ مجنون عُرف بشِعره الَّذي يسلبُ الألباب ويسحرُ القلوب، وشاءتِ الأقدارُ ذات يوم أن فتَح الملكُ أصقاعاً جديدةً وضمّها إلى مملكته، فسمعَ الشّاعرُ بالأمر ونظَم في هذا الانتصار قصائد بديعة ثمَّ ذهبَ بها إلى الملك ليقرأها بين يديه في قصره الكبير، وبينما كان السّلطانُ مأخوذاً بعذوبة الشِّعر إذا بفكرة عجيبة تلمعُ في ذهن الشّاعر، حتّى أن هذا الأخير قال على إثرها مخاطباً الملكَ مباشرة:
- لا بدّ لهذا الانتصار والفتح من هديّة عظيمة تليق بمقامك يا مولاي؛
ابتسم الملك وقال:
- قصائدُك لي اليوم أعظم هدية
- لا أقصد هذا يا مولاي، وإنّما أنتَ تستحقُّ منّي أكثر من هذه القصائد. نعم، أنت تستحقُّ أن تلبس لباس الآلهة!
- وهل يوجد في الأرض كلّها اليوم لباس أشدّ فخامة من لباسي أيّها الشّاعر؟ أم أنّه حَضَرَتْكَ نوبةٌ من نوبات جنونكَ بين يديّ الآن؟
- لا يا مولاي: هناك لباس لا يرتديه سوى الآلهة، وبما أنّك وصلتَ إلى مصافّهم، فأنت أحقُّ اليوم بلباسهم منهم.
- وكيف السَّبيل إلى هذا اللّباس؟
- اترك الأمر عليّ وأنا في غضون ستّة أشهر سأحضره لك.
- إيّاك من الشّطحات الجنونيّة في بلاطي، وإلَّا أمرتُ بقتلك.
- أبداً، أنا لا أشطح، إنّما سيحتاج الأمر فقط إلى بعضٍ من الملايين الذَّهبية من خزينتك الكريمة، سأعطيها كمقابل لشراء اللِّباس من الآلهة.
- لك هذه الملايين، ما دمتَ تقول إنّك الوحيد في المملكة من يستطيع التَّواصل مع الآلهة، وإنّهم هُم من يوحون لك بهذا الشّعر الخلّاب الّذي جعل منك أعظم شاعر في كافّة الأقطار.
خرج الشّاعرُ وخلفَه حشد من الحرّاس أرسلهُم الملكُ ليحرسوا الشّاعرَ طيلة السّتة أشهر مخافة أن يهرب بالمال ولا يُحضِر لباسَ الآلهة المزعوم.
ومرّت الأشهُر السّتّة دون أن يغادر الشّاعر المملكة، وفي اليوم الموعود خرج من بيته وبين يديه صندوق صغير اتَّجه به إلى القصر مباشرة. وحينما وقف باشّاً ومبتهجاً بين يدي الملك قال:
- لقد أحضرتُ لك لباس الآلهة. يا إلهي ما أجمله وما أبهاه!
ثمّ انحنى وفتح الصّندوقَ الصّغير وأخرج منه اللباس وهو يصيح من شدّة الفرح:
- يا لبريقه يا مولاي، إنّهُ لا يليق إلّا بك.
بهت الملك وقال:
- هل جننتَ أيّها الشاعر المهووس. إنَّني لا أرى أيّ لباس، ولا أرى هذا البريق واللّمعان؟ أين هو؟
- إنّه أمامك يا مولاي، لكن عليكَ أن تتذكّر أنّه لا يستطيعُ أن يرى لباسَ الآلهة إلّا من عنده اليقينُ التّامُّ بأنّه ابنَ أبيه الشَّرعيّ، وليس ابنَ أمّه فقط.
صعقَ الملكُ من جواب الشّاعر، ثمَّ فكّر قليلاً وهو ينظرُ إلى الصّندوق الصَّغير وقال فجأة:
- يا لجمال هذا اللّون الأخضر البرّاق، ما رأيتُ قطّ لباساً أشدّ أناقة ولا بذخاً من لباس الآلهة هذا!
نظر إليه الشّاعرُ بمكر وقال:
- عليك أن تخلعَ لباسك وترتديه إذن، هكذا فقط تصبحُ إلهاً جديداً بين النّاس.
اضطرب الملكُ واحتار فيما عليه القيام بهِ حقيقة، ثمَّ قرّرَ في الختام أن يخلع لباسه القديم ويرتدي هذا اللّباس الجديد وسط هتافات الحاشية والجمهور وجميعهم يقولون: يا لجمال لباس الآلهة الجديد ويا لبداعته! وكيف لا يقولون هذا وكلّ واحد فيهم مثل الملك يخشى ألّا يُنسبَ إلى أبيه الشرعيّ ولادةً وأصلاً!
وفي اللّحظة التي لبس فيها الملكُ بدلته الجديدة التي لا يراها أحد، صاح الشاعرُ وقال:
- الآن وقد ارتديتَ بدلتك الرّسميّة الجديدة، عليك أن تخرج إلى مدن مملكتك وتطوف بها كي يراك الجميعُ ويبايعونك إلهاً جديداً.
امتعض الملكُ من طلب الشّاعر أمام الجميع لكنّه خوفاً من أن يُنعت بالابن غير الشَّرعيّ لأبيه، فيَسْحَبَ منه الشّعبُ المُلكَ، خرج إلى المدن وبدأ يطوف بها والجميع يهتفون: يالجمال لباس الآلهة هذا ويا لبداعته! إلّا طفلاً واحداً، كان مع أبيه وسط الحشود الغفيرة قال فجأة:
- أبي إنّ الملكَ عاريٌ تماماً كما ولدته أمّه، إنَّني لا أرى عليه أيّ لباس.
صعق الوالدُ من ملاحظة ابنه ثمَّ رفعَ يدهُ وضربه على رأسه قائلاً:
- هل جننتَ يا ولد نحن جميعاً نرى لباس الآلهة على الملك، إنّك مازلتَ صغيراً وليس عندك تجربة في هذه الأمور. الآن اسكتْ ولا تُعِدْ ما قلتَه أمام أحد. هل فهمت؟
صمت الولدُ والدّمع في عينيْه والحيرة تلجمه، فقد كان المسكين هو الوحيد الّذي رأى الملكَ على حقيقته ولم يستطِعْ أن يستوعبَ كيف أن الجميع ينكرون الأمر، ولا كيف أنّ الملكَ قبِلَ على نفسه هذه المهزلة المُشينة!)).
ما أريد أن أقوله عزيزي القارئ من خلال هذه القصّة هُو إنّ العقلَ البشري إذا تمّ حشوُه بأفكار مسبقة اتّفَقَ عليها الجميع فلا يمكن زحزحتها منه وقد يتطلّبُ الأمرُ المئات من السِّنين ليتخلّصَ من قناعاته الَّتي جعلها الجميعُ قانوناً وحجّةً وبرهاناً، والشّأن نفسه بالنّسبة للتربية الخاطئة التي يتلقّاها الأبناء في المدارس والجامعات عبر مقرّرات وكتب وموادّ تقتل فيه الإبداع والذّكاء وتعلّمُه كيف يصبح مجرّد ببغاء يفكّر بعقل غيره لا بعقله هو. وليس هذا فحسب، صحيح أنّ الأطفال عندهم القدرة على رؤية الحقيقة لكنّهم حينما يكبرون يتغيّرون تماماً ويصبحون مثل آبائهم أو ربّما أكثر في الجهل والتَّعنّت. طفل صغير يمكنه أن يقول لك بكلّ بساطة وعفوية أمام تمثال يُجَسِّدُ وجهَ قدّيس ما أو نبيّ أو إله، إنّ الأمرَ كلّه مجرّد حجر يتمسّحُ به النّاسُ بدون أدنى فائدة، لكنّه حينما يكبرُ ستجدهُ يرسمُ علامة الصَّليب مثلاً أمام هذا الحجر، أو يذهب للصلاة والتَّبرّك بضريح وليّ ما حسب العقيدة الّتي ينتمي إليها. وسيجدُ كلَّ النّاس يوافقونه الأمرَ ولا أحد منهم سيرى في التّمثال ولا في الضّريح مجرّد حجارة لا نفع ولا ضرر يرجى من ورائها. لأنّهم جميعاً كما ملك الأقصوصة يخافون من شيء ما: الملكُ يخاف من أن ينسب إلى غير أبيه، والنّاس يخافون من النّار والجحيم. وطالما الأمرُ هكذا فلا فائدة ترجى من هذا العالم: أيْ طالما أنّ النّاس يتحرّكون بدافع الخوف من الجحيم والطّمع في الجنة، فلا فائدة منهم ترجى أبداً، ومازال الجميع عند نقطة الصّفر، ومازالت العقول أشدّ قسوة من الحجارة وربَّما أكثر. تحجّرُ العقل أمر خطير، وهو لهذا -أيْ العقلُ- أصبحَ لقمة سائغة للإيديولوجيَّات المختلفة تلعبُ به وتُشَكّله كما تشاء، والضَّحية طبعا هو الإنسان.
تذكّر عزيزي القارئ أنّك حينما ستجد عملاً بعد أن تكون قد تخرّجت في الجامعات "العظيمة جدّاً"، سوف يُجبرُكَ المجتمع على الزّواج، لأنّ الجميع يقومون بهذا، وعليكَ أنتَ أن تفعل مثلهم، ثمّ تنجبُ الأطفالَ وأنت الَّذي لمْ تتمتّع قطُّ بطفولتكَ، ثمّ عليك أن تربّيهم وتعيد فيهم إنتاج ما تلقّيته في المدارس والحياة، وحينما ستصلُ إلى الخمسين من عمرك، سيداهُمُك سؤال كبير: ما معنى هذه الحياة وما الهدف منها؟!
في السّتّين ستصبح أكثر تأمّلاً لحياتك الّتي سرقَها منك الجميعُ دون أن تشعر بذلك، وبعد أن تستوعبَ حجمَ الجرائم الّتي ارتُكِبَتْ في حقّك باسم المجتمع والدّين والثّقافة والسِّياسة، وحجمَ الخيبات والخسارات الّتي تراكمت بين يديك، تستيقظُ فجأةً من سباتك العميق، وبعد أن يتحقّق لك هذا تكون قدمُكَ على حافّة مثواك الأخير والملائكة من حولك يهلّلون ويكبّرون ولسان حالهم يقول: أهلاً بكَ أيّها التّعيس.
يا للخسارة العظيمة، حياتُك نكتة سخيفة جدّاً، ولا تُضحكُ حتّى سُكارى أرخص خمّارة في العالم!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قبل عمليتها البرية المحتملة في رفح: إسرائيل تحشد وحدتين إضاف


.. -بيتزا المنسف- تثير سجالا بين الأردنيين




.. أحدها ملطخ بدماء.. خيول عسكرية تعدو طليقة بدون فرسان في وسط


.. سفينة التجسس بهشاد كلمة السر لهجمات الحوثيين في البحر الأحمر




.. صراع شامل بين إسرائيل وحزب الله على الأبواب.. من يملك مفاتيح