الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكي عن الناس مع فنجان قهوه

محمد برازي
(Mohamed Brazi)

2019 / 9 / 21
التربية والتعليم والبحث العلمي


كانت “أم طوني” تُجالس “كريمة” على شُرفة المنزل، تحتسيان القهوة وتتحادثان بأمور الحياة وفلسفاتها، حين مرّت جارتهما “سيدة” في الطريق. وكما يومضُ البرقُ في أفقٍ ويتألّق في آخر، هكذا صارت “سيدة” محور حديثِ جارتَيها، اللّتانِ فصّلتا أخبارها وفنّدتاها باحترافٍ مصري موصوف. وما هي ساعتان مضتا، حتّى غادرت “كريمة”، وحضرت مكانها “سيدة”. كانت تلكَ الأخيرة تحملُ في عبّها روايات “كريمة” وآخر أخبارها، فشلحتها فوق طاولةِ الحوار، وتداولتها مع نظيرتها، وتودّعتا بعد ساعتين مُضنيتين من المناقشات والمناوشات.
“من ثرثر معك ثرثرَ علَيك”
حكايةُ نساءِ شرفة “إم طوني” وإن كانت كاريكاتوريّةٍ بعضَ الشيء، تنقُلُ لنا واقعَ آفةٍ اجتماعيّة تجرُّ الكثيرين خلفها. وغالبًا ما لا يتداركُ خطورتها من يسقطُ فيها. هي النميمة، أي كثرةُ الكلامِ والثرثرة فيما يعنينا وما لا يعنينا. تطال العائلات والصداقات وأماكن العمل فتُثيرُ المتاعب وتتسبّب بالخلافات. ويعبّرُ سفرُ الأمثالِ عن ارتباط النميمة بالخصام كونها أصلهُ: “بعدمِ الحطَبِ تنطَفِئُ النَّارُ، وحيثُ لا نمَّامَ يهدأُ الخصَام” (أم 26، 20).
ولو كانت نوايا الثرثارينَ بالظاهر أو بالوعي حسنة، تنبعُ النميمة من شرورٍ دفينة ليست ظاهرة ولا واعية: أحيانًا من حسدٍ دفين، وفي أحيانٍ أخرى من فراغٍ نفسيٍّ ممكن، وفي أحيانٍ كثيرة من حاجةٍ لتحقيق الذات عبر إلقاء الضوء على هفوات الآخرين… وآلافُ الأسباب لا مجال لذكرها في مقطعٍ واحدٍ. وتتعدّدُ النتائج تعدُّدَ الأسباب، وهي بمُجملها سيّئة وإن تراوحت درجة ضررها في الثرثار وفي ضحيّته.
كثيرُ الحكمة قليلُ الكلام
من جالس النمّام نمّ معه، وبعدها صار هو ضحيّة النميمة. والحكمة هي في الابتعاد عن النمّامين وكثيري الكلام: “النمّام ينجّسُ نفسَهُ ومعاشرتَهُ مكروهة” (يش 21، 31). من أراد أن يُسالم الناس صان لسانه ولجمهُ عن شؤونهم. ويُلفتني أنّ من كان كثير التفكير، يكون عادةً قليل الكلام، فإذا ما تكلّم فاه بالحكمة.
لصون اللسان والتكلّم في الأمور السامية فقط، لا بدّ من وضعِ بعض المعايير لتمييز ما يُقال وما لا يُقال. في حديثٍ دار مع كاهنٍ صديقٍ، أخبرني أنّه يطرحُ على نفسه أسئلةً ثلاث قبل أن يُفصحَ عن أيّ خبرِ: “هل هو صحيح؟ هل هو نافعٌ؟ هل هو لطيف؟” وعلى الخبر، لكي يستحقّ التداول، أن يحمل الإجابة الإيجابيّة لتلك الأسئلة معًا. وإلّا فلا لزوم له.
وأذكُرُ حين كنتُ لا أزال تلميذًا في المدرسة، أن قال لنا يومًا ما أستاذُ الرياضيَات، أنّ كلّ حديثٍ ليس عن الله لا لزوم له. بالغ الأستاذ بعض الشيء، لكنّه فتح عينَيَّ إلى حقيقةٍ جوهريّةٍ وقفت خلف كلماته، أنّ كلّ ما نتحدّث به في شؤون هذه الأرض، يُهدّده الباطل واللّا معنى.
ختامًا، لا يغيبُ عنّا أنّ من سما إلى السماء سمت معه الكلمات، وارتفعت معه الموضوعات. ومن حطّ مستوى الكلام، حطّته موضوعاته وموضعته في الأرض. فإذا كانت فينا تجربةُ النميمة، فلنمتلئ من كلمة الله حتّى نصيرها، فلا نتحدّث إلّا بها.
إن كلمة تأديب كثر استعمالها في قاموس الآباء، وزاد سوء فهمها. فالتأديب ليس مجرد عقوبة. فما التأديب إذن؟ إنه توجيه وليس سيطرة؛ إقناع وليس قمع أو إكراه. وقد يشمل التأديب العقوبة أو التهديد بها، ولكن ليس الوحشية أو استعمال القوة. ويجب ألا يعني أبداً استخدام العقوبة البدنية، لأن هذا كما أرى علامة على الإفلاس الأخلاقي.
والحمد لله. لقد حصلت أنا وإخوتي على مثل هذا الاهتمام من قبل والدينا طوال فترة نشأتنا. وكانت النتيجة علاقة تقوم على المحبة والثقة، استمرت دون انقطاع حتى نهاية أيام حياتهما. وكانت هذه العلاقة بطبيعة الحال قائمة على العديد من المبادئ التقليدية، بما في ذلك تعنيفنا بصخب وإلى درجات غير معقولة أحياناً (خاصة إذا قمنا بالرد على أمنا)، فنشعر بالخجل لفترة طويلة بعد ذلك، متأكدين أن الجيران قد سمعوا كل كلمة.
كانت الشتائم والسخرية تُعتبر من الخطايا الكبيرة في بيتنا. وكنا نحن مثل بقية الأولاد والبنات نسخر أحيانا من الكبار، خاصة إذا كان لديهم أوصاف تثير الانتباه و حتى لو لم يكن هؤلاء الناس (ضحايانا) يعرفون أيّ شيء عن هزؤنا المتحذلق بهم وحيلنا التي جازت عليهم التي كنا نقوم بها من وراء ظهورهم إلا أنّ أهلنا لم يروا وجود أي داعٍ للمزح بهذه الطريقة. فكانا لهما أنف شديد الحساسية لأي تصرفات فظّة متى ما حدثت ولم يسمحا بها على الإطلاق.
ومع ذلك لم يكن غضبهم يستمر لفترة طويلة، حتى ولو كان الأمر يستحق العقاب، وغالبا ما كان يتم التغاضي عن ذلك مقابل عناق لمرة واحدة. وحدث مرة عندما كنت في الثامنة أو التاسعة من عمري أنني أغضبت أبي لدرجة أنه هددني بالضرب. وعندما توقعت الضربة الأولى، رفعت بصري إليه، وقلت له قبل أن أعرف ماذا أنا فاعل: "بابا، أنا آسف حقا. افعل ما تشاء... ولكني أعرف أنك ما زلت تحبني". ولدهشتي الكبيرة، انحنى أبي إليّ ووضع ذراعه حولي، وقال لي بلطف وحنان من أعماق قلبه: "محمد، أنا أسامحك". فقد جرده اعتذاري بصورة كاملة من كل غضب. وأصبحت أدرك بعد هذا الحادث إلى أي مدى كان أبي يحبني. وبقي ذلك الحادث حيا في ذهني، وعلمني درسا لن أنساه أبدا في حياتي. درسا استخلصته وطبقته في التعامل مع أولادي لسنوات بعد ذلك. لذا، لا تخاف من أن تأدّب ابنك، ولكن في اللحظة التي تشعر فيها أنه أخذ يتأسف لذلك، فلابد أن تسامحه كليّاً على الفور.
كم سيكون الحال مختلفا، لو كان كل منا على استعداد ليبدي مثل هذا اللطف، ليس باحتضان أبنائنا وبناتنا فقط، وإنما بالدفاع عن الأولاد في كل مكان أيضاً! لكن واقع الحال يقول إننا نقوم بتربية جيل من الأطفال الذين لا نحبهم بل حتى نخاف منهم. وتبدو مظاهر ذلك في كل مكان، في حضر التجول ليلا للشباب في أحياء المدن الكبرى، وإلى تجريم الأولاد لأفعال صغيرة، مثل الكتابة والرش على الجدران، ووضع الحراس المسلحين ورجال الشرطة في المدارس، وأكثر مدعاة للقلق من كل ذلك، هو الارتفاع الصاروخي لمعدل حجز الشباب في السجون.
من الواضح أن دراسة وافية لمثل هذا الموضوع الكبير هي أوسع بكثير من هذا المقال، وكذلك النقاش حول العديد من القضايا الأخرى التي تحتاج إلى معالجة مستقلة. فقبل كل شيء، لماذا مثلا، يواجه هذا العدد الكبير من الشباب الموجودين خلف القضبان مشاكل في داخل الصفوف؟ وما هي العقبات التي كانت تسد الطريق أمام تطور نموهم السليم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما ردود الفعل في إيران عن سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز


.. الولايات المتحدة: معركة سياسية على الحدود




.. تذكرة عودة- فوكوفار 1991


.. انتخابات تشريعية في الهند تستمر على مدى 6 أسابيع




.. مشاهد مروعة للدمار الذي أحدثته الفيضانات من الخليج الى باكست