الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تجليات أزمة التعليم في تونس

سميرة غانمي

2019 / 9 / 23
التربية والتعليم والبحث العلمي


ان ازمة التعليم في تونس ظاهرة وجلية لا ينكرها عاقل , بل يدركها عامة الناس على الرغم من ان تونس كانت بعيد الاستقلال سباقة في مجال التعليم مقارنة بالدول التي عانت مثلها ويلات الاستعمار و الاحتلال و حتى غيرها من الدول ذات الموارد المادية الهامة , فقد راهنت على التعليم كبوابة تواكب بها التطورات العالمية و تشير من خلالها لشؤون البلاد من خلال تكوين اطاراتها و هياكلها البشرية تكوينا ارسى دعائم الدول الحديثة ،فخصصت تمويلات هامة , للتعليم العمومي و انتشرت المدارس في اقاصي كل شبر في البلاد و كان للمدرس حظوة لما له من دور في بناء الوطن و نشر الوعي و الخروج من غياهب الجهل الا ان سياسات التراخي و التبعية الخارجية افقدت البلاد العديد من الجوانب الايجابية التي يمكن ان يبنى عليها التطور و التجديد و ذلك لغياب البعد الاستشرافي للازمات و التهيؤ للمتغيرات التي قد تدخل المجتمع في نفق مظلم, يعسر الخروج منه الا متى كانت الارادة جماعية و الفعل تشاركي البناء و فتح المجال امام حوار شامل وتم تشجيع الابحاث البيداغوجية و اخذت بعين الاعتبار اضافة الى الاستئناس بالتجارب الناجحة في الميدان التعليمي دون محاكاة لها فتلك النماذج التعليمية متجذرة في بيئتها الثقافية و الاجتماعية و الاقتصادية و تغير التقييمات العالمية وسيلة لمعرفة مستوى التعليم في الدول المشاركة .

في التقييم الدولي ( بيزا ) لسنة 2015 لمهارات التلاميذ و اقتداراتهم في القراءة و العلوم و الرياضيات ، النتائج ضعيفة و الاداء متدني للتلاميذ التونسيين في جميع المهارات . فقد كشفت عن اختلافات في المستوى , سجلت افضل العروض في الجنوب الشرقي الحضري و اسوا النتائج في الجنوب الغربي الريفي . و على الرغم من انتقادات لحقت مثل هذه التقييمات العالمية الا انها يمكن تكون بمثابة المنبه الى بعض العلل و النقائص في مستوى الأنظمة التعليمية و تساعد اصحاب القرار على توجيه سياساتهم التعليمية وتقيس مدى الانصاف و العدالة و تكافؤ الفرص بين المتعلمين و تبين مدى فاعلية النظم التعليمية و قدرتها على اعداد الشباب لمواكبة المتغيرات المجتمعية و العالمية .
كما اننا لسنا في حاجة الى مثل هذه التقارير الدولية لتثبت ان تعليمنا في ازمة خانقة فلنا في الواقع خير دليل و اجل برهان , فعدد العاطلين عن العمل من اصحاب الشهائد يزداد يوما بعد يوم ومنذ ما يقارب عقدين وهو ما يثبت ان مسالك تعليمهم و تكوينهم لا تتوائم مع الخصوصيات المجتمعية ولا يواكب التطورات العالمية و متطلبات سوق الشغل , اذ بدت البرامج التعليمية في علاقة تنافر مع الواقع فعوضا عن مواكبته و العمل على حل مشكلاته كانت جزءا من الازمة المعقدة فالبرامج تقليدية قائمة على التلقين , مثقلة بكم هائل من الدروس النظرية بعيدة عن تلك التي تثير العقول وتفتح الباب امام الابداع و تفجير الطاقات الكامنة و المؤدية الى الانخراط في العمل البناء , كأن جل محتوياتها خرجت من دائرة الزمن وأفلتت من حاضرها و مستقبلها لتظل حبيسة خيارات تحتاج عميق النظر .
وليس ادل على الازمة من تلك الفضاءات المدرسية الكئيبة التي التحفت بجلباب الماضي ,فامست بلا تجديد و لا اضافات تستحق الذكر و لا الفخر فكم من جدار يتهدم ,و كم من سقف يسقط , و كم من ضحية لامراض وبائية نتيجة انعدام الماء الصالح للشرب و افتقار الوحدات الصحية لوسائل الصحة و السلامة , ناهيك عن قاعات الدرس التي تفتقد غالبا الى العدد الكافي للكراسي و الطاولات ّ,فيهدر الوقت في البحث عنها خارجا قبل بدء الدرس كما تفتقر اغلب المؤسسات التعليمية للوسائل العملية الضرورية لانجاز الدرس من اوراق الطباعة , و الحبر ,الطباشير و ادوات و مخابر العلوم و الفزياء .
واذا تتبعنا ابرز مظاهر الازمة , يمكن ان نتحدث عن " المجانية " التي فقدت مصداقيتها في ظرف اجتماعي خطير و مستوى معيشي متدن للغالبية الساحقة من ابناء الشعب التونسي. لدى الدول الناجحة تعليميا و على اصعدة اخرى تعني المجانية تقريبا كل شيء , مجانية الموصلات و الاكل و الادوات المدرسية , فهل توفر ذلك لتلاميذ ..و الاجابة ان مجانيتنا نسبة غير تامة .
فماذا وفرت الدولة للطبقة المحرومة و لابنائها الذين يقطعون عديد الكيلومترات للذهاب الى المدرسة و كم من حالات للانقطاع المدرسي و التسرب ينتج عن ذلك ؟
ان الظرف الاقتصادي و الاجتماعي جعل المصاريف و التكاليف الدراسية في تتام مستمر مما تسبب في عجز غالبية العائلات و شعورها بالظيم و الحيف .فأثمان الكتب تضاعفت و معاليم التسجيل ارتفعت اضافة الى غلاء الاسعار في كل مناهج الحياة .
و قد يتداخل السبب و المظهر و النتيجة اذا ركزنا النظر على التلاميذ كعنصر اساسي في العملية التربوية , فننظر اليه من زاوية اجتماعية , نفسية وبيداغوجية ففي كثير من الحالات داخل الاوساط المدرسية و نعني هنا المدارس الريفية خاصة ، يجد التلميذ نفسه داخل الفصل مع قلة من التلاميذ قد تختلف مستوياتهم , هل يمكن ان تستقيم العملية التعليمية في هذا الوضع .. وهل بامكان المدرس ان يدرس مثلا تلاميذ الاولى و الثانية معا و هل يمكن القول ان الدولة انصفت هؤلاء ؟
ويحيلنا ذلك الى الوضع المعاكس , ففي داخل الاقسام المكتظة التي يفوق احيانا عدد التلاميذ الثلاثين يعسر على المدرس ان ينجز مهمته في افضل الظروف , فهؤلاء سيكونون مختلفين من حيث الاستعدادات الذهنية , و مستويات التملك و الفهم ويختلفون من حيث الظروف الاجتماعية و النفسية التي لا يمكن التغاضي عن اهميتها و دورها في المسار التعليمي للتلميذ.
و كم فئة ممن يعانون صعوبات التعلم على تنوعها , هي فئات مظلومة , تركت تواجه مصيرها الصعب بمفردها تجتر عائلاتها مرارة التيه و البحث عن حلول و كثيرا ما يكايدون المصاريف داخل عيادات خاصة ينهج اغلبها نهج الاستغلال و المتاجرة بآلامهم.
و كم غاب الدعم النفسي و الاجتماعي و البيداغوجي فعسرت على المربي مهمته و وجد نفسه بين ان يتقدم بالفئة الاوفر ذكاء أوان يغير النسق على وتيرة الفئة الثانية و في كلتا الحالتين هناك متضرر , هضم حقه في تعليم جيد يراعي امكاناته المعرفية و استعداداته الذهنية . وعليه وجب ارساء خطة واضحة و جدية للتعامل مع من يعانون مشاكل التعلم و صعوباته , فخطة مدرس دائم لهذه الفئة اصبح ضرورة ملحة نظرا لارتفاع عدد هؤلاء الاطفال ......وكثير من هذه المشاكل و الصعوبات تعود الى ما تلقاه الطفل في سن ما قبل المدرسة , داخل العائلة او داخل الفضاءت التربوية الاخرى كرياض الاطفال م المحاضن الكتاتيب , فهل كانت مراقبة الدولة كافية لهذه الفضاءات المتنوعة و التي كان بعضها عشوائيا ؟
و قد أشير في تقرير لليونسيف ان بلادنا تحتاج الى مزيد بذل الجهود في هذا المجال.
فهل تحقق المنشود في مرحلة ما قيل الدراسة الاجبارية ؟
فمرحلة ما قبل المدرسة لابد ان تعمل على التنشئة الاجتماعية المتوازنة للطفل و تكسيه مهارة التواصل و التكيف مع المحيط و تعرفه على القيم التي تنظم الحيلة ضمن المجموعة .
هل يمكن في ظل المتغيرات الخطيرة على جل الاصعدة ان تقوم المدرسة بدورها في تربية النشئ كدعم لدور الاسرة و اسنادا له.؟
و الاجابة تقتضي اثرها من الواقع , فما نراه اليوم من الظواهر السلوكية السلبية و الخطيرة يدق ناقوس الخطر و ينبه الى ما نعيشه , فالازمة اخلاقية بالاساس متطورة شيئا فشيئا , تتعارض فيها المفاهيم القيمية مع ما نلمحه في حين .
فهل طرحت ظاهرة التنمر داخل اوساطنا المدرسية خاصة في المراحل الاولى طرحا عميقا وضحت فيه الاسباب و الاشكال و النتائج؟

و قد عرفت هذه الظاهرة بانها شكل من اشكال الاساءة و الايذاء من قبل فرد او مجموعة نحو فرد او اكثر و تقع شريحة ضعيفة ضخية التسلط و الاستقواء و العنف الجسدي او النفسي و قد تفطنت الدول المتقدمة الى مثل هذه الظواهر و اخذت في ابحاثها لمعرفة اسبابه و طرق علاجه , و توفير الاحاطة النفسية و قد تشمل المسيء و الضحية معا .
فكثير من هؤلاء تسوء حالاتهم النفسية و تقل دراجاتهم العلمية و قد تنتابهم فكرة الانتحار اذا تفاقم الامر وقد اولى الباحث [ دان الويس النرويجي] لهذه الظاهرة عناية لما لها من تاثيرات وخيمة على الاطفال . فالتغيرات التي حدثت في المجتمعات لها تاثير على الجانب الاخلاقي و القيمي كاختلال العلاقات الاسرية و تاثير الاعلام و الوسائل التكنولوجية الحديثة ادى كل ذلك الى ظهور عديد الافات و المشاكل التي تعد اهم شواغل عالمنا المعاصر نذكر من ذلك العنف , الادمان بانواعه و العزوف عن الدراسة و خاصة في صفوف تلاميذ الاعدادي و الثانوي و ينسب متفاوتة داخل المؤسسات التربوية.
و هكذا فان الاهتمام بالجانب النفسي و دعم البعد القيمي و الاخلاقي و الاحاطة الاجتماعية في صفوف الناشئة ضرورة ملحة ولن يكون ذلك الا بمؤطرين مختصين ولجان اصغاء حقيقية و فاعلة. ان المدرس مهما كانت كفاءته و حماسته بهدف اقدار التلاميذ على جملة من المهارات سيجد صعوبة في اداء مهمته ذلك انه يتعامل مع تلاميذ ياتي غالبيتهم الى الفصول مثقلين بهموم المرحلة و تاثيراتها يحملون اعباء حياة اجتماعية و اسرية قد لا تكون مشجعة على التعليم في ظروف جيدة .
فالاستاذ مثلا غالبا ما يعيش هو الاخر ضغطا نفسيا و هو يتعامل مع فئة المراهقين و هي فئة لها خصوصياتها فاضحى في مازق لا يحسد عليه . اضافة الى ما يعيشه من وضع مترد .فاصبحنا نتحدث عن مرب سلط عليه العنف بانواعه . يعيش كغالبية ابناء الشعب وضعا معيشيا صعبا و معرض اكثر من غيره الى الجلطات و نسبة الوفيات في صفوف الاساتذة مرتفعة فليس اقسى من مشهد جثمان استاذ مسجى على الطاولة في القاعة فمشقة المهنة باتت واضحة للعيان في ظل اوضاع متردية و تحولات عميقة .
ان القيمة الاعتبارية للمربى تراجعت فلم يعد المدرس محل تبجيل و احترام كما في العقود الماضية داخل مجتمع فهم الانفتاح و الحرية فهما خاطئا و قد كان لبعض وسائل الاعلام و خاصة بعض القنوات الفضائية تاثير جلي على ذوق الناشئة و توجيه اختياراتهم وخلق مودة بين التلميذ و الولي و المدرس فكم من برنامج تلفزي و كم من مقطع مسرحي اتخذ للتندر و التهكم على من يعتبرون اخر الحصون و اعتاها ضد الجهل و التخريب و الخراب لا احد ينكر ما لقيته .فئة المدرسين من نكران وحجود عكس ما يتمتع به نظراؤهم في الدول المتقدمة و في تلك التي بلغت شاناعظيما في المجال التعليمي من تبجيل و توفير فكان راتب المدرس في اعلى سلم التاجير و ذلك حفظا لكرامته و تكريما له على دوره الهام الذي انيط بعهدته ، ذلك أن القيام بمهمة التدريس أصبحت في حاجة الى مناخ الاستقرار و الارتياح النفسي و المادي .

فقد انتشرت في السنوات الاخيرة حملات تبرع و تضامن في صفوف المدرسين لمجابهة تكاليف العلاج من الامراض و لاحظنا تهافتا على الدروس الخصوصية ليس عشقا في ساعات عمل اضافية مضنية بل اضطرارا امام غلاء فاحش و ارتفاع مشط للاسعار.
فهل وفرنا جميع الظروف الملائمة للمدرس : معرفيا , بيداغوجيا و ماديا لكي يكون عنصرا مبدعا, باحثا, و منوعا في طرائق التعليم..هل يمكن للتعليم بخصوصياته الراهنة ان يكون انسانا مبدعا , خلاقا , وسعيدا في ظل المتغيرات المتسارعة..؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ساعدت كوريا الشمالية إيران بهجومها الأخير على إسرائيل؟ |


.. مسلسل يكشف كيفية تورط شاب إسباني في اعتداءات قطارات مدريد في




.. واشنطن تؤكد إرسال صواريخ -أتاكمس- بعيدة المدى لأوكرانيا


.. ماكرون يدعو إلى أوروبا مستقلة أمنيا ودبلوماسيا




.. من غزة| 6 أيام في حصار الشفاء