الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عندما يتألم الأطفال

محمد برازي
(Mohamed Brazi)

2019 / 9 / 30
التربية والتعليم والبحث العلمي


عندما يتالم الطفل ويموت، فإن أكثر من سيتوجع قلبه من جراء ألم الطفل هو الأم. وقد شهدت هذا أنا شخصيا في حياتي. فقد توفت اختان لي عندما كانتا طفلتين رضيعتين، وبالرغم من أنني لم أراهما قط على قيد الحياة إلا أني لاحظت مدى ّ الألم الذي أصاب والدي من جراء مرضهما وموتهما، لاسيما أمي وقد فقدنا أنا وزوجتي حفيدة لنا وهي بعمر شهر واحد. كان لديها مرض يدعى متلازمة باتو أو تثلث الصبغي. وبالرغم من أنها لم تعش لمدة طويلة إلا أنها أثرت في آلاف النفوس وما زالت تؤثر في القلوب إلى يومنا هذا. وأحسن ما يوصف الشيء الذي اختبرناه والبركات التي حصلت وما تزال تحصل هي قصيدة كتبتها حفيدة أخرى لنا، فتقول:
بالرغم من قصر عمرها، لكن النور لم ينطفئ – فقد ذوبت جميع قلوبنا والآن صار بوسعنا أن نصرخ ونقول؛ انفتحت قلوبنا كليا لقبول رسالة الطفل، ٍ وهذه الرسالة هي: يسوع آت ثانية، آمين.
أن كل من كان بجانب طفل يحتضر عرف ما أقصده عندما أتحدث عن الصراع من أجل الحياة الذي يسري في كل نفس وجسد. وهذا الصراع ليس له علاقة باشتياق الوالدين إلى أن يعيش طفلهما: ولا حتى بانتظار الطفل نفسه وباشتياقه إلى التحرر من الألم. أن رغبة التشبث بالحياة موجودة في داخل كل شخص، لا في داخل الأطفال فقط. وهي موجودة حتى داخل العجزة. فقد يكونون واقفين على عتبة باب الآخرة، وعلى استعداد تام للرحيل، ويتضرعون إلى الله ليحررهم من شقائهم، لكن مع ذلك، عندما تأتي ساعتهم يبقى ترك الحياة أمر صعب.
يقف الله مع كل طفل يتألم. وغالبا ما تبدو هذه الحقيقة صعبة التصديق بل حتى لا يمكن صديقها بتاتا. فلماذا يتحمل طفلي عبء الألم؟ ولماذا نتحمل نحن عبء الألم؟ ولماذا يرزقنا الله بطفل نحبه ثم يأخذه منا ثانية؟ وكيف يمكن لحزننا وأسانا أن يفيد أو أن يكون له مغزى معين؟
وبالرغم من أنه لا يوجد من يقدر على إجابة أسئلة عميقة كهذه بشكل مقنع، إلا أننا نعلم أيضا بأنه لا يوجد أحد منا مستثنى من الآلام والمعاناة. فلو قبلنا بها حتى لو لم نكن نفهمها، لحصلنا على سلام ومعنى لها. وسوف يكون بوسعنا بالتأكيد أن نرى على الأقل أن الآلام والمعاناة تستطيع أن تلفت انتباهنا إلى الله وإلى إبداء الرحمة للآخرين.
ولدى الأطفال غالبا نزعة طبيعية على الإيمان أكثر من البالغين. لأنهم قريبون جدا من الله. فعندما نرى إيمان كهذا، فعلينا الانتباه لئلا نقف حجرة عثرة في طريقه، بل نقوم برعايته لكي يصبح أساسا يتصدى للزوابع التي قد يواجهها الطفل مستقبلا عندما يكبر. لقد كتب والدي هاينريش آرنولد الذي َ فقد طفلته التي كان عمرها مجرد ثلاثة أشهر من جراء مرض لا شفاء له، فقال:
إن الأطفال هم أقرب الناس إلى قلب يسوع المسيح الذي يشي إليهم ويريدنا أن نقتدي بهم. وأن الحقيقة التي تبين لنا أن الأطفال ينبغي عليهم خوض الألم والمعاناة هي حقيقة غريبة جدا. وكأن بها تقول أنهم يتحملون ذنب غيهم، أو أنهم يتألمون بسبب سقوط الخليقة كلها. ويبدو أنهم يدفعون ثمن الخطيئة فعلا – حتى لو كانت الخطيئة التي لم يشتركوا في اقترافها بعد.
وربما ترتبط آلام الأطفال بتلك الآلام العظيمة غي المسبوقة، ألا وهي آلام الله، أي آلام السيد المسيح في ٍ سبيل الخليقة الضالة. لذلك تحمل آلام الطفل معان عميقة في طياتها.
وفي عالمنا الحالي الذي يهدف إلى تجنب خوض الآلام بأي ثمن كان فيجب علينا أن لا ننسى أن المسيح افتدى العالم من خلال المعاناة والآلام. فلننظر إليها بهذا الأسلوب وهو أن الآلام يمكن لها أن تغينا ّ وتعمق إيماننا. في حين تجعلنا الآلام بدون وجود الإيمان متذمرين وتعساء، أما مع الإيمان فقد تخلصنا – حتى عندما يصعب تحملها.
قال يسوع المسيح: ودعا الجمع مع تلاميذه وقال لهم: من أراد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني. انجيل مرقس. فهذه الكلمات لم تكن موجهة إلى الناس الذين كانوا في زمانه فحسب بل أيضا إلينا اليوم. لذلك فكل فرد منا يشتاق إلى أن يتبع السيد المسيح يجب عليه أن يكون مستعدا لحمل العبء الذي يلقيه الله علينا.
ولما كان الصليب الذي يحمله الناس يختلف من شخص لآخر، فترانا نميل إلى النظر إلى صلبان الآخرين ونقارن نصيبنا مع نصيبهم. فنقول في نفسنا عن هذا وعن ذاك، يا له من شخص رياضي أو وسيم أو له طلاقة لسان أو موهوب، ونتساءل فيما إذا كان لديهم بالأساس صليب يحملونه. وبالتالي يجعلنا الحسد غي قنوعين.
من الواضح أن كل رجل وامرأة وطفل لديه عبء يحمله. وكان القديس بولس الرسول أيضا لديه ْ «شَوكَة ِفي الْجسد». وسأل الله ليزيلها، لكن أجابه الرب قائلا:
فقال لي: تكفيك نعمتي، لأن قوتي في الضعف تكمل. فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي، لكي تحل علي قوة المسيح. رساله كورنثوس الثانيه. فلو قبلنا هذه النعمة لتمكنا من تحمل أثقل حمل في الوجود. ويمكن له أن يصبح حتى مصدر بركة علينا بالرغم من أن هذا الكلام يبدو غريبا.
وفي يومنا الحالي الذي تتوفر فيه الفحوصات الطبية المتطورة لحالات الحمل قبل الولادة، فغالبا ما يجري اكتشاف الحالات غير الطبيعية لدى الجنين في مراحل مبكرة من فترة الحمل. ويفيد ذلك أحيانا في إنقاذ الحياة وذلك عن طريق إجراء عملية جراحية في الرحم أو عن طريق العلاج الطبيعي. إلا أننا نرى في الكثي من الحالات – إن لم يكن في معظمها –أن الأطباء ينصحون بعد تلك الفحوصات بالقيام بالإجهاض.
وحجتهم أن إجهاض الطفل غي الطبيعي أفضل حلّ لمصلحة الطفل والوالدين، ويشيون إلى أن إنجاب طفل كهذا عمل غي عادل وغي مسؤول أيضا، لأن الطفل سيلقي عبئا على المجتمع. غي أن الإجهاض عمل باطل دائما. لأن الله لديه مغزى في فكره لكل شخص – ولكل كائن بشري صغي يُحبل به. لذلك فأن كل طفل صغي يحمل رسالة معينة من الله مهما كانت حياته قصية، ومهما كانت درجة تحملنا له صعبة. بالإضافة إلى أنه يصعب على كل منا التكهن بماهية هذه الرسالة على نحو أكيد. وعلى الرغم من ذلك فإن الرسالة موجودة، لو مجرد نفتح قلوبنا لها
وقد تنبهنا صديقي و زوجته على هذه الحقيقة عندما رزقت ابنتهم بطفلة خامسة في عام ُ 2013 . فقد ولِدت الطفلة ستيفاني وهي مصابة بمرض يدعى متلازمة باتو أو تثلث الصبغي. وقد تشوه وجهها الصغي ِ بشفة مشقوقة. ولم تعش سوى شهر واحد، لكننا سرعان ما أحببناها خلال ذلك الشهر، وسرعان ما رأؤوا فيها جمالا أسمى بكثي من الكمال الجسدي: إنه سلام الله السامي ّ الذي كانت تشعه إلى جميع الذين كانوا حول مهدها. ولما وافاها أجلها، بكوا وبكاء، بالرغم من أنهم كانوا يعملون بأنها سوف لن تعيش، إلا أنها كانت بمثابة ملاك في وسطهم، وجلبت لهم رسالة سماوية تعدت الوصف.
عندما يكتشف الوالدان أن مولودهما الجديد معاق فيُعتبر ذلك أمرا مقلقا للغاية طبعا. وغالبا ما يلوم الآباء أنفسهم، أو يتساءلون عن السيئة التي يمكن أن يكونوا قد اقترفوها ليستحقوا عاقبة كهذه. وبالرغم من أن هذه الأفكار تبدو لنا طبيعية، إلا أننا يجب أن لا نفسح لها أي مجال. وإنما بالأحرى ينبغي علينا أن نسعى إلى رؤية ّ الموقف من زاوية أعمق وأسمى – كبركة تحل علينا التي تقرب بعضنا إلى بعض وتقربنا أكثر إلى الله.
فعندما التقى يسوع وتلاميذه مع رجل أعمى منذ مولده، ُ سأله تلاميذه: «يا معلِّم ، من أخطأَ َّ ؟ أهذا الرجلُ أم والداه، حتى ُولِد أعمى؟ فأجاب يَ ُ سوع َّ : لا هذا الرجلُ أخطَأَ ُ ولا والداه َّ . ولكنهُ ولِد أعمى حتّى تَظهر قُدرةُ الله َ وهي تَعملُ فيه». الإنجيل، يوحنا ). وتنطبق هذه الحالة على ستيفاني بالتأكيد. فجاءنا تشوهها الجسدي من عند الله ليكشف عن أعماله الجبارة. والتحدي الذي أمامنا هو فيما إذا نقبل بمثل هذه الكشوفات الإلهية أو لا نقبلها، وفيما إذا نرحب بها أو لا نرحب بها.
ولا يرى الكثي من الآباء أن أطفالهم المعاقين هم عطية إلهية فكثيا ما نراهم غي صبورين وغي متسامحين أو بالعكس مفرطين في العناية بهم. ففي نظرهم، أن الطفل المعاق يدنّس كرامة الأسرة. ويعتبرونه خيبة أمل ويشعرون بالخزي العار. أما الجيان والأقارب والأصدقاء فتراهم يزيدون الطين بلّة من خلال الكلام غي الحساس الذي يقولونه، وهكذا يفعل قسم من الأطباء والأخصائيين بالعلاج الطبيعي عندما يقترحون على الأهل بأنه من المستحسن أن ينتقل الطفل من المدرسة ليداوم في مؤسسة تربوية خاصة.
كم ستختلف الأمور لو كانت نظرتنا إلى الأطفال المعاقين على أنهم عطايا إلهية وليسوا عبئا! فعندما رزق الله أسرة صديقة لنا بطفل معاق بمرض متلازمة داون ( المغولية) في عام 1967م، ابتهج الأهل – ونحن أيضا. فقد كان لدى طفلتهما
لويسا خلل صحي في القلب، لكنها عاشت عمرها كله (29سنة) بكامل ملئها. فقد كانت تشع بالفرح والحيوية أينما ذهبت، وكانت تؤثر في نفوس الناس المتكلفين والمتحذرين بطبعها الصريح وضحكتها التي تنتشر كالبرق إلى جميع الذين من حولها. وعادة ما كانت تقول لأصدقائها وأسرتها وعندما كانت تحتضر أيضا، «أنا أفكر بالحياة.»
لقد صار الأطفال من أمثالها غي مرغوب فيهم اليوم. والحق يقال هو أن مسؤولية تربية طفل معاق قد تبدو أكبر من طاقة أية أسرة لتتحملها لوحدها، وسوف يحتاج الآباء إلى دعم في بعض الأحيان حتى لو كانوا من أقوى الآباء، وينبغي أن لا يشعروا بالذنب عندما يطلبون أو يستلمون مساعدة من الآخرين. ويجب علينا من الذين ليس لديهم طفل كهذا ولا يواجهون مشقة التعامل معه ومع تربيته أن نقدم لهم دعما عمليا للعائلات التي فيها طفل معاق متى ما استطعنا، وذلك عن طريق فتح بيوتنا للطفل لقضاء أمسية وليلة عندنا أو لقضاء عطلة نهاية الأسبوع لكي نعطي الوالدين فرصة ليتاحوا ويستجمعوا قواهم ثانية.
ومن السهل أن نفهم سبب معاملة الأهالي لهؤلاء الأطفال معاملة متميزة عن الآخرين، وذلك بسبب الاحتياجات الخاصة لهم. فكثيا ما يقبل الوالدان بكل نزوة يطلبونها ويمشون على هوى ّ الأطفال، وبالتالي يخربونهم. فتدليع مثل هؤلاء الأطفال مضرة كبية لهم، لأنه سوف يؤثر على حياتهم ومستقبلهم كله – بما فيه نموهم البدني والعقلي، واستقلاليتهم النفسية (أي التحلي بشخصية مستقلة سليمة غي مكبّلة بالعواطف البشرية.
يحتاج جميع الأولاد إلى دفء لمسات الحنان والمحبة، وربما يحتاج الأولاد المعاقين حتى إلى أكثر من ذلك بالمقارنة مع غيهم، لكن يجب أن لا نعامل الأولاد المعاقين كالأطفال الرضع وذلك بأن نحضنهم ونقبّلهم ونغمرهم بالهدايا طوال الوقت، بل يجب علينا أن نحثّ ّ هم ونشجعهم على استخدام طاقاتهم إلى أقصى حد، ونعاملهم معاملة عادية على قدر الإمكان. ولا نريد القول من هذا أننا يجب ّ أن ندفعهم لمجرد التظاهر بأنهم يؤدون شيئا ما، ولا أن نحملهم بمسؤوليات أكبر من طاقتهم. إلا أننا نرى أن التوقعات الحازمة من جانب أولياء الأمور تؤدي إلى أمور مذهلة حقا. وبكوني قسيسا، فقد رأيت في مرات عديدة كيف يمكن للنهج التربوي المتفائل أن يساعد الأطفال المقعدين على القدرة على التنقل والاستقلالية والاعتداد بالنفس.
وما أسهل علينا أن نتساءل لماذا يولد شخص معاق عقليا أو بدنيا والذي بعده يولد في تمام الصحة. لكننا يجب علينا أن نثق بأن كل ما يحدث في الحياة لديه مغزى سواء كان سهلا أو صعبا. فيجب ّ علينا أن نؤمن بأن الله قادر على أن يحول أي عذاب أو بلاء إلى بركة لو قبلنا بتواضع كل ما يرسله إلينا. ونعلم بأن السيد المسيح يأتينا بهيئة شخص غريب أو شحاذ أو ملاك، كما قال هو في الإنجيل، لكن لماذا نستبعد أن يأتينا أيضا بهيئة طفل معاق؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الكونغرس الأمريكي يقر مشروع قانون مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا


.. لازاريني: آمل أن تحصل المجموعة الأخيرة من المانحين على الثقة




.. المبعوث الأمريكي للقضايا الإنسانية في الشرق الأوسط: على إسرا


.. آرسنال يطارد لقب الدوري الإنجليزي الممتاز الذي غاب عن خزائنه




.. استمرار أعمال الإنقاذ والإجلاء في -غوانغدونغ- الصينية