الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لا حوار ولا تفاوض مع العالم القديم

اسماعيل شاكر الرفاعي

2019 / 12 / 7
ملف: الحراك الجماهيري والثوري في العالم العربي، موقف ودور القوى اليسارية والديمقراطية


لا تجلس الثورة الى الطاولات ، وتضع ساقاً على ساق ، وتنتظر ان يقدم لها ولدان مخلدون كانهم اللؤلؤ المنثور : اطباقاً من الكوكاكولا والبيبسي والمياه المعدنية . الثورة بركان : تراكمت في داخله ما يكفي من التحولات التي لا بد وان تحمله على الانفجار . وحين تثور البراكين فانها لا تنتظر ما تقوله جغرافية المكان : انها تكتسح وتعيد في اكتساحها تشكيل طوبغرافيته . وهكذا هي الثورات الاجتماعية : انها البركان الاجتماعي الذي تراكمت في داخله الكثير من سيئات السلطة ودفعته الى الانفجار ، للانعطاف بالمجتمعات من عالم مكبوت كئيب معتم الى عالم حر ساطع النور والاضاءة .

الثورة فعل مستمر من التدمير المتواصل لبنية العالم القديم : المادية والثقافية ، ولا تتوقف حتى يكتمل بين يديها كودها القانوني ( دستورها ) الذي يجسد رؤيتها للكون والحياة ولدور ووظيفة الانسان في هذه الحياة .
ما وظيفة الانسان في هـذه الحياة ؟
هذا هو السؤال الذي يجب بالضرورة ان يجيب عليه دستور الثورة ، فبالاجابة على هذا السؤال تتحقق الشفافية المغيبة من قبل اولئك الذين كتبوا دستوراً بأصابع مرتجفة ، خائفة من دخول العالم الحديث وولوج اكوانه ومجراته ، فجاء مليئاً بالتناقضات ، بسبب من منهج الوصاية على الناس ورفض هذا المنهج لحرية الناس التي هي الشرط الضروري لتقدم المجتمعات . وللتغطية على منهج الوصاية هذا حاولوا التوفيق بين معطيات العالم القديم الفكرية والاخلاقية وبين معطيات العالم الحديث العقلية والعلمية ، وهم في هذا التوفيق او بالاحرى التلفيق يشبهون اسلافهم من فلاسفة الاسلام الذين حاواوا التوفيق بين النقل والعقل ، فلم ينجزوا اثراً فكرياً يذكر بل ارتد عليهم النقل واحرق كتبهم وطردهم من القضاء وكفرهم . لقد تقابلت في كتابة الدستور مجموعات حزبية متناحرة طائفياً وقومياً ، ضيعت في هذا التناحر السلطة العليا التي لا تعلو عليها سلطة في العصر الحديث : سلطة الشعب حين لم يضعوا في صدارة مواد الدستور مادة : الشعب مصدر السلطات ، ووضعوا بدلاً من ذلك مادتين متضاربيتن في الدلالة ومتناقضتين في غايتيهما التشريعيتين ، ففي المادة الثانية نقرأ : “ ا . لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام “ ، وفي ب نقرأ : “ لا يجوز سن قانون يتعارض مع مباديء الديمقراطية “ ، ونتيجة هذه المصادرة على حرية الشعب في تشريع وسن القوانين التي يراها ضرورية لرفعته وتقدمه ، لم يسن اي قانون لصالح الشعب ، وعاد الجعفري يحكم بثياب حيدر العبادي ، وعاد نوري المالكي يحكم بثياب عادل عبد المهدي . ولكي يتم قطع الطريق على عودة وانبعاث الجلادين والطغاة يتم التركيز في الدساتير الحديثة على دور ووظيفة الانسان في الحياة ضمن اطار الدولة التي يحمل جنسيتها ، لا ابعد من ذلك . الدساتير التي تتحدث عن دور ووظيفة الانسان خارج حدود دولته المعروفة هي دساتير دينية وطائفية ، وهي لا تحاول التكتم على ذلك بل تذكر ذلك صراحة في اول مواد الدستور ، كما هو الحال في جميع الدساتير العربية التي تتصدرها عبارة : الاسلام دين الدولة الرسمي ، لكي تصبح وظيفة الدولة ومعها المواطن افناء الذات ، هذه المرة من اجل خرافة الفرقة الناجية وما تلاها من حروب اهلية ما زالت مستمرة ، والتخلي عن مقولة العصر المركزية : الانتاجية ، وعما يتطلبه الارتقاء بحياة الناس من انتاج للارتفاع بمستوى نمط عيشهم .
فالثورة حركة مستمرة من افعال الخلق والابداع ، تتغذى على تدمير ما كان العالم القديم يحتفي بوجوده من رجال ورموز ومؤسسات، خالقة على انقاضها ومبدعة مؤسسات جديدة : وهذا هو قانون الثورات الاول : تحطيم بنى العالم القديم وايجاد بنى جديدة لا مجال لوجودها الا بتدمير اشكال العالم القديم ، والشكل الارأس من هذه الاشكال هو شكل : بنية الدولة التي قامت الثورة ـ البركان ضدها . لقد فشلت الفيدرالية في ان تكون الوعاء الصالح للعلاقة بين القوميات التي تتشارك في سكن المكان الواحد ، فالازمة مستمرة بين اقليم كردستان وبين بغداد ، ونحن لا نعرف بالضبط نوع الصفقات التي كان يعقدها كل رئيس وزراء جديد مع الاحزاب الكردية الحاكمة لتمنحه اصوات برلمانييها : فالتحالف الكردستاني لا يمنح اصواته للمرشح لرئاسة الوزراء الا بشروط ، ولذا فان من الضروري للثوار ان لا يتفاوضوا مع الاحزاب الكردستانية الحاكمة التي تملكت عوائلها اقليم كردستان ، فهذه الاحزاب هي جزء من العالم القديم الذي يجب نسفه بديناميت ثورة الشباب والشابات الكرديات ، وايجاد منافذ للحوار معهم حول شكل العلاقة الارقى بين المركز والاقليم ، والوقوف الى جانب الشباب الكردي ودعم اختيارهم للشكل الذي يرونه يحقق حريتهم السياسية وكرامتهم الانسانية والتوقف التام عن فرض شكل العلاقة عليهم كما كانت تفعل الحكومات السابقة . كما فشلت صيغة اللامركزية في علاقة المركز بالمحافظات التي انتجت محافظين ومجالس محافظات يقتسمون مخصصات محافظاتهم المالية مع رئاسة الوزراء ، وفشلت صيغة التمثيل النيابي التي لم تنتج سوى ثنائية السادة والعبيد : سادة من الامتيازات والرواتب والطلبات التي لا تنتهي وعبيد هم عوام الناس الذين لم يحصلوا حتى على ما يديم وجودهم الفيزيقي . ان انتاج صيغة تمثيلية اخرى هي واحدة من مهام الثوار بعد ان فشلت صيغة التمثيل التي جاء بها المحتل الاجنبي لمرتين : مرة مع الاحتلال البريطاني قبل مائة عام لم تنتج سوى نمط الانتاج لاقطاعي وطبقة جديدة على العراقيين هي : الاقطاع ، واخرى مع الاستعمار الامريكي لم تنتج سوى حرب آهلية وسوى استشراء العداء الطائفي وانتشار خرافة الفرقة الناجية والفساد .

لكن هذا النسف المستمر لبنى العالم القديم لا ينجح ان لم يقترن بثورة ثقافية تفكك المفاهيم التي قامت عليها بنية الدولة القديمة وما ضمت من مؤسسات ، اذ ان لكل مؤسسة اليات اشتغال : وجميع اليات اشتغال مؤسسات الدولة القديمة تنتمي بوضوح للعالم القديم الذي مضى على وجوده ١٤٠٠ سنة : انها اليات قهر واستبداد واحتقار لحياة الانسان ، لم تنجز هذه الاليات خدمة حقيقية ذات مردود ايجابي في حقول التعليم والصحة والكهرباء ، وهذا ناتج عن احتقار فلسفة الدولة للحياة وحث الناس على العمل الطقوسي المتواصل من اجل الاخرة .


الثورة فعل مستمر في التدمير ، وحين تفاوض الثورة : فانها في الطريق الى الانتحار : تفقد الثورات دائماً في الموافقة على خطوة التفاوض نصف كينونتها ، والنصف الثاني من وجودها يعيد تشكيله العالم القديم الذي شرعت بالتفاوض معه .

قيادة الثورة في العراق جيل كامل من الشباب المولودين في سنوات حصار التسعينيات ، او عند اعتاب نهاية الدولة الوطنية القومية ذات المقولات التي يلح مضمونها على : المركزية الشديدة ، وعلى تماثل افراد الامة الشديد وعدم تمايزهم طبقياً وسياسياً وقومياً ولغوياً وثقافياً ، فهم نسخة طبق الاصل من خالق واحد ، نفخ فيهم حب الوطن ، وما يتطلبه هذا الحب من تضحية ، ونفخ فيهم كره ذواتهم الفردية وما يشجع عليه هذا الكره من التضحية بالذات على مذبح الفكرة القومية : حيث مجد الامة المتخيلة يفوق نشوة تلبية الحاجات الفردية ، وحيث عزة وكرامة الوطن لا تتحقق الا عبر تنازل افراد الوطن عن تلبية طلبات اجسادهم البيولوجية والغرائزية من اجل تحقيق الحلم القومي الذي يعيش بسعادة في ذهن الزعيم . لقد زرعت هذه الانظمة تعارضاً عظيماً بين وجود الوطن وبين تحقق ذوات الافراد وتكامل شخصياتهم ، وسوقت في خطابها السياسي بان العمل من اجل النهوض بالمجتمعات يعني تراجع قوة الوطن ، واضمحلال شخصية الزعيم . لم يعش الجيل الذي فجر الثورة في العراق هذه المصادرة القاسية للحريات الفردية ، وعاش بدلاً منها على رؤيتين متناقضتين : ١ ـ الرؤية الطائفية التي طرحتها الاحزاب الاسلامية الحاكمة بديلاً عن مفاهيم الوطن والامة والشعب ، حيث العلاقة والتفاعل مع الوجود الطائفي خارج حدود الوطن يسمو على العلاقة التفاعلية مع ابناء الوطن في الداخل ٢ ـ الرؤية الديمقراطية التي رفض وعيه تقبلها نتيجة الممارسة البدوية والحزبية والطائفية والعشائرية التي جسدت الديمقراطية امامه كخراب شامل خال من الانجاز الاقتصادي والخدمي . ولكن ( بدأ يدرك بان الديمقراطية لا تعني ديمقراطية الاحزاب التي بنت امبراطوريات مالية نتيجة اختلاس المال العام ، انها شيء يعني الانجاز والشفافية وقد ساعدته قراءاته الخارجية ودروس الجامعة ) استشراء الفساد والفوارق الطبقية الصارخة التي عدها نتيجة للنظام البرلماني ، وشظف العيش وصعوبته ، ووسائل التواصل الاجتماعي المكتظة بالنقد والسخرية ، وربما دروس الجامعة وقراءاته الخارجية ، والموجة الثانية من الثورات العربية في السودان والجزائر ولبنان ساعدته على بلوغ وعي اخر مناقض في رؤيته لكيفية ادارة الشأن العام : اي ان هذا الجيل كفر بالديمقراطية التمثيلية التي تعيد انتاج اليات نهب المال العام كل اربع سنوات ، واعادة انتاج الخراب والبطالة والعجز عن الانجاز فلم تعد الديمقراطية في ذهنه سوى ديمقراطية : العجزة والفاسديين واللاوطنيين ، فليس من الضروري لحياته وجود هذا الجهاز الذي لا يملك غير ان يشرع لنفسه من القوانين ما جعلته يستهلك من الوارد القومي حصة الاسد . من هذه الزاوية يمكن تفسير سرعة حلول الشعارات السياسية محل الشعارات المطلبية، وتحول الحراك الجماهيري الى ثورة . . لقد وعى الثوار الشباب بان الشعار المطلبي لكي يتحقق يستلزم مفاوضات مع السلطة السياسية ، ومهما طالت هذه المفاوضات فان السلطة الظالمة ومنهجها القائم على صناعة ارستقراطية مرفهة لن تحقق لهم شيئاً من طلباتهم . ولهذا كان شعارهم الاخير بعد استقالة رئيس الحكومة رفض التفاوض ودعوا الى استقالة البرلمان وكل الهيئات والمفوضيات المستقلة .

يطرح هذا الجيل على نفسه مهمة صعبة لا نغالي اذا قلنا بانها تاريخية : فهو برفضه للنظام السياسي البرلماني يرفض كل زعامة وكل ايدولوجية ، اذ من المعروف ان النظام البرلماني اسسته ارستقراطية ملاك الاراضي الواسعة في بريطانيا ، الذين نازعوا الملَك سلطاته المطلقة ونجحوا في الاستحواذ عليها تدريجياً ابتداءً بالوثيقة العظمى ١٢١٥ ، لكن لثورات العالمية الشهيرة كالفرنسية ١٧٨٩ والروسية ١٩١٧ ، لم تمنح مندوبيها في البداية تمثيلاً دائماً وطويلاً ، وكانوا معرضين للاقالة في اي لحظة . النظام البرلماني الذي استعارته البرجوازية لاحقا من الارستقراطية البريطانية ، ساعدها على بلورة مصالحها وبالتالي على تأكيذ ذاتها كوجود مستقل وفاعل في التاريخ عبر سلسلة طويلة من التشريعات ، ثم عممته عالمياً في الحروب الاستعمارية وما تلاها . ثورة الشباب العراقي وهي ترفض النظام البرلماني : تستطيع ابداع برلمانها الخاص الذي يؤمه مندوبيها ، من غير ان ينفصل عنها بجملة من الامتيازات التي كانت ضرورية للبرجوازية الاوربية لكي تفرض سيطرتها الطبقية على المجتمع برمته ، فما الضرورة التي تدفع بالشباب العراقي الى تكوين جهاز منفصل مرة اخرى يرفل اعضاؤه بنعيم الجنة لمدة اربع سنوات ، غير خاضعين فيها لاية رقابة ؟

يتكون برلمان الثورة من جميع الثائرين ، ولكن لضخامة العدد يتم ابداع اليات تمثيلهم في البرلمان عبر مندوبين متطوعين لا امتياز لهم غير امتياز نقلهم لما قرر ناخبوهم تشريعه ، واي تقاعس عن اداء هذا الدور يؤدي بهم الى العزل السريع من قبل ناخبيهم من الثوار

هذا الجيل لا يمكن نسبته الى مدينة بعينها او مجموعة مدن ، انه جيل جميع مدن العراق وقراه على اختلاف ديانة او قومية ساكنيها . وهو جيل لا تلعب العاصمة لديه ، كما في الماضي ، دوراً محورياً حاسماً ، كما لو ان الامر يتعلق بانقلاب عسكري . بغداد احدى مدن الثورة ولا امتياز لثوارها من دون ثوار المدن والقرى الاخرى ، وقد يقرر الثوار نقل العاصمة الى مدينة اخرى اذا اضطرتهم ظروف العمل الثوري الى ذلك ، فلا قدسية لمكان بعينه في وعيهم . هذا جيل قرر المضي باتخاذ قراراته من غير انتظار الاوامر الهابطة عليه من مركز او زعيم او دين او ايدلوجية ما . انها اللامركزية بأجلى أشكالها ومضامينها الانسانية والمساواتية : لا فرق بين القرية والمدينة في اتخاذ القرار ، ولا فرق بين مركز المحافظة والقضاء والناحية ، ولا بين البصرة وبغداد ، بين الناصرية والنجف : بين ثوار المدن التي لم تتحرك بعد ، وبين جميع الثوار السابقين على اختلاف مدنهم وقراهم . هذا جيل تعلم كيف يحاور سلطة اقتلعته من جذوره والقت به على قارعة الطرق : لا عمل ، لا مأوى ، بلا ملابس او ما يسد الرمق من غذاء ، فاستراتيجيته في المقاومة هي مجموعة التاكتيات النضالية التي فرضها عليه اتجاه السلطة نحو تصفية وجوده بالرصاص الحي ، فقابلها بشعار تصفية وجودها نفسه . فما قاله يوماً مقتدى الصدر وتخوف من تنفيذه : اصبح شعار هذا الجيل الثائر : فحلمه الكبير بامتلاك وطن لن يتحقق الا بتطبيق شعار : شلع قلع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - فلاسفة الحضارة الإسلامية
طاهر مرزوق ( 2019 / 12 / 7 - 21:32 )
الأستاذ/إسماعيل شاكر الرفاعى
تحية وسلام,
مقالك يتسق بالموضوعية والصدق مع واقعية التاريخ الحقيقى الذى يتم تزييفه بأستمرارمنسفة جانب مدعى الثقافة والأديان.
أعجبتنى عبارتك عن فشل الفلاسفة المسلمين فى التلفيق بين العقل والنقل، هل يعنى ذلك فشلهم أيضاً فى صنع فلسفة إسلامية؟ لأن الفلسفة ليست خاصة ولا من إنتاج الأديان؟
وهل يعنى ذلك أن التلفيق شمل وجود فلاسفة مسلمين صنعوا حضارة إسلامية كما يشاع؟
مع خالص الشكر

اخر الافلام

.. الشرطة الفرنسية توقف رجلاً هدد بتفجير نفسه في القنصلية الإير


.. نتنياهو يرفع صوته ضد وزيرة الخارجية الألمانية




.. مراسلنا: دمار كبير في موقع عسكري تابع لفصائل مسلحة في منطقة


.. إيران تقلل من شأن الهجوم الذي تعرضت له وتتجاهل الإشارة لمسؤو




.. أصوات انفجارات في محافظة بابل العراقية وسط تقارير عن هجوم بط