الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
إشكالية الهوية المصرية.
طارق حجي
(Tarek Heggy)
2020 / 2 / 5
الادب والفن
كثيراً ما يُدْمَغ المثقفَ أو المفكرَ المصريّ باللا-وطنية إذا كان ناقداً لأفكارٍ مثل فكرة "الأمة الإسلامية" أَو فكرة "الأمة العربية" أو إن لم تكن "القضيةُ الفلسطينية" تتربعَ "على رأسِ" إهتماماته أو لاتدخل "ضمن" أَولوياته. يحدث هذا حتى إذا كان صاحبُ هذه الآراءِ ذا مصداقية معرفية وثقافية وفكرية مقدرةً دولياً ومن جهاتٍ هى الأرقي فى عالمنا المعاصر. ومن عورات الحياة الثقافية فى مصر اليوم أن مثقفين كثر لا يؤمنون بمفهومين مثل مفهومي "الأمة الإسلامية" و "الأمة العربية" ، ويؤمنون فى المقابل ب "الأمة المصرية" التى تدخل أبعادٌ مصريةٌ قديمةٌ وأبعادٌ قبطيةٌ و إسلاميةٌ وعربيةٌ وإفريقيةٌ ضمن عناصرِ كينونتِها ، ولكنها تبقي ذات "هوية" خاصة هى الهوية المصرية ، وأن الأبعاد المذكورة لا تجعلها منضويةً ضمن هويات هذه الأبعاد وبالذات الإسلامية والعربية. ولكن السواد الأعظم من هؤلاء المثقفين المصريين الذين لا يؤمنون بمفهوم الأمة الإسلامية و بمفهوم الأمة العربية يكتفون بالتعبير عن رأيهم هذا شفوياً فى دوائرٍ شخصيةٍ وضيقةٍ ، ولكنهم لا يعبّرون عن آراءهم هذه فى كتاباتهم أو أحاديثهم الإذاعية أو التلڤزيونية ، بل أن بعضهم قد لا يكتفى بالصمت المريب بل ويعبرون عن آراءٍ مائعةٍ لا تشي بحقيقةِ أفكارِهم. وهذه نتيجة طبيعية لعدة أجيال من "المثقفين الموظفين" والذين لا يتصور أن تكون عندهم مساحات الحرية التى كانت متوفرة لمفكرين ومفكرين أمثال أحمد لطفي السيد وعبدالعزيز فهمي وطه حسين ومحمد حسين هيكل وعباس العقاد وسلامة موسي وجيلهم. وهذا "الواقع" له إنعكاسات مؤثرة جداً على عدةِ مجالاتٍ هى مجالات التعليم والإعلام والثقافة والخطاب الديني والتى لها تأثيراتها الواسعة جداً على "العقلِ الجمعيّ المصريّ". ومن غير الصواب أن يظن المهتمُ بهذا الموضوعِ أنه (أي هذا الموضوع) يمثل ظاهرةً جديدة نسبياً. فتاريخُ مِصْرَ منذ 1798 أيٍّ منذ الحملة الفرنسية يشهد على وجودِ هذه الإشكاليةِ. فخلال السنوات من 1798 حتى اليوم أي طيلةِ 222 سنة كان العقلُ الجمعي المصري هدفَ (وغايةَ) صراعٍ لم يتوقف لحظةً بين ماضويين يروجون لإنتماءِ مِصْرَ للهويةِ الإسلاميةِ وتنويريين يروجون لأفكار تبناها قبلهم مفكرون كبار مثل أحمد لطفي السيد و طه حسين وأدباء مثل توفيق الحكيم و نجيب محفوظ ، وهى أفكار تلخصها كلمتان لأحمد لطفي السيد وهى أن " مِصْرَ مصريةٌ". وهو توجه لا يُعادي ولا يُخاصم الأبعادَ الإسلامية والعربية للهويةِ المصرية ولكنه توجه ينظر لتلك الأبعادِ كبعضِ فسيفيساء الهويةِ المصريةِ. ومن عجائب الأمور أن "الهويةَ العربية" التى بدأت كفكرةٍ علمانيةٍ على يدِ مثقفين سوريين منذ عدةِ عقودٍ كنقيضٍ وعكسٍ لفكرةِ الهويةِ الإسلاميةِ العثمانيةِ ، لم تستمر مستقلةً و علمانيةً إلاَّ لبضعةِ عقودٍ ، صارت بعدها "ذيلاً" للهويةِ الإسلاميةِ. ومن المهم للغايةِ أن أتطرقُ هنا لما حدث فى مِصْرَ سنة 1907 لكونه يعكس بمنتهي الوضوح حقيقة إشكاليةِ الهويةِ أو لحقيقةِ صراعِ الهويةِ فى مِصْرَ. ففى سنة 1907 تم تأسيس كيانين سياسيين هما "الحزب الوطني" و "حزب الأمة". أما الأولُ فكان هدفه هو إنهاء الإحتلال البريطاني وعودة مِصْرَ للحضن العثماني ، أيّ كجزءٍ من "الأمةِ الإسلاميةِ". وأما الثاني (حزب الأمة) فكان هدفُه إستقلال مِصْرَ عن بريطانيا والدولة العثمانية مع ترويجٍ قويّ لفكرة "مصرية مِصْرَ". أما الحزب الوطني فكان مؤسسُه هو مصطفى كامل الذى كان مقرباً جداً من حاكم مِصْرَ وقتها الخديو عباس حلمي الثاني الذى حكم مِصْرَ منذ 1892 لحين قيام بريطانيا بعزلِه مع إندلاعِ الحربِ العالميةِ الأولى سنة 1914. ومعلومٌ أن أفكارَ مصطفي كامل و أفكارَ خليفته محمد فريد كانت متماهيةً مع إنضواءِ مِصْرَ فى كيانِ الدولةِ العثمانية. ومعلومٌ أيضاً أن أحمد لطفي السيد وقياداتِ حزبِه (حزب الأمة) هم علمانيون يؤمنون بأن "مِصْرَ مصرية". ويكفي أن أُذكر بأن كبيرهم وهو أحمد لطفي السيد هو مترجم أرسطو وأن أقرب رموز حزب الأمة له هو عبدالعزيز فهمي مترجم مدونة جوستنيان (أساس القوانين الفرنسية التى قدمها ناپليون وأصبحت بعد عقود "أساس النظام القانوني المصري" منذ 1883. وجليٌ أن حدوثَ هذا فى سنة 1907 هو تجسيدٌ حيّ لصراع الهوية فى مِصْرَ. وقد تعرض العقلُ الجمعي المصري لعدة "هزات" ذات دوافعٍ سياسيةٍ صرف. فبعد قرابةِ قرن ونصف القرن من شعورِ هذا العقل بأن إنتماءَه الأول هو لكونِه مجتمعاً من مجتمعات البحر الأبيض المتوسط ، إذا به منذ أكثر قليلاً من ستين سنة ، يتلقي ما يمكن وصفه بالتوجيه شبه العسكري بأنه "قلبُ الأمةِ العربية" ! وفجأة سُخرت برامجُ التعليم ووسائل الإعلام والبرامج الثقافية التى توجهها الدولةُ لإقناعِه بهذه المفردات الجديدة "قلب الأمة العربية" ، وهو الذى كان قبل عقود بعيداً عن المناخِ الذى أفرز (على يد مسيحيين سوريين) التوجه العربي والذى كان فى بدايته علمانياً صرفاً. وبعد عقدٍ ونصفِ عقدٍ ، غيّرت "جوقةُ الأبواق" التى كانت تقول للعقل الجمعي المصريّ أنه ليس فقط عربياً بل إنه قلبُ العروبة النابض ، غيّرت نشيدها ، وشرعت فى ترديد نغمة جديدة جد مختلفة ! فمنذ بداية سبعينات القرن الماضي أخذ رئيسُ مِصْرَ ومعه جوقةُ النظامِ وأبواقه يقولون للمصريين أنه "رئيسٌ مسلمٌ لدولةِ مسلمة" ! وأخذ إعلامُ الدولة يلقبه ب "الرئيسِ المؤمن" ! وإذا بالدولةِ الجارةِ التى كانت "قلب الوهابية النابض" تشارك الرئيس المؤمن فى الإنقلاب العقلي الكبير أي الإنقلاب الذى تجسد فى خلع رداء العروبة وإتداء رداء الإسلام. ومن الأدوات التى قدمتها الدولةُ المنعوتة ب "قلب الوهابية النابض" لمشروع الرئيس المصري المؤمن يومئذ "فيلقاً من الدعاةِ" الذين كانوا وراء الإسراعِ فى عمليةِ أسلمةِ المجتمعِ المصري. وكان إرتداءُ ملايين النساء المصريات لحجابِ الرأسِ "علامة إنتصار" لهذه العمليةِ ، كما قال أحدُ أبرز قادة جماعة الإخوان (عصام العريان) خلال سنة حكم الإخوان لمصر (2013/2012). ورغم أن "الرئيس المؤمن" كان هو من أخرج الإخوان من سجون مِصْرَ وفتح لهم أبوابَ النقابات والمؤسسات التعليمية ، فقد إغتال إسلاميون تخرجوا من مدرسة الإخوان الرئيسَ المؤمن يوم 6 أكتوبر 1981 فى إشارةٍ شديدةِ الوضوح لعاقبةِ أي إئتلافٍ مع أي تنظيم من تنظيماتِ الإسلامِ السياسي. فملّاكُ الحقيقة المطلقة لا يمكن أن يكون أي تحالف مرحلي أو مناخ ديموقراطي بالنسبة لهم غير "وسيلة" ل "غاية" هى توليهم بل وإنفرادهم بالحكم لتطبيق ما يعلو فوق كل القوانين البشرية أي "الشريعة". والخلاصةُ أن "العقلَ الجمعي المصري" تعرضَ خلال ال 222 سنة الماضية ل "عبث" به فيما يتعلق بهويته ، وهو عبث كانت تحركه خلال العقود السبعة الأخيرة دوافع سياسية صرف. والحقيقة أن أفضل ما قيل عن "هوية مِصْرَ" هو ما كتبه العظيم طه حسين فى كتابه "مستقبل الثقافة فى مِصْرَ " الذى صدر سنة 1938. وخلاصة ما قاله طه حسين هو أننا إذا نحينا الأغراض والدوافع والأهواء السياسية والدينية ، وعوّلنا فقط على البحث التاريخي والثقافي ، فإننا ليس أمامنا إلاّّ أن نُسلم بأن "هويةً مِصْرَ" هى ثمرة "تاريخ مِصْرَ" و "جغرافية مِصْرَ". والإثنان (التاريخ والجغرافيا) يقولان أن فسيفساء الهوية المصرية بها ما هو مصري قديم وما هو قبطي وما هو إسلامي وما هو عربي ، ولكن فى بوتقةٍ من الحتمية الجغرافية. بمعني أن كل تلك "الأبعاد" تحكمها حقيقة مادية هى موقع مِصْرَ الجغرافي كمجتمع بحر-أبيض-متوسطي. وهو ما ترجمته مقولةُ "مصر مصرية" كُتب هذا المقال مابين الساعة الواحدة والساعة الثالثة من بعد ظهر يوم 5 فبراير 2020.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. المخرج عادل احمد يحيي يروى تفاصيل فيلمه أبو جودى
.. فنان مغربي يجسد واقع أطفال غزة عبر الرسم بالظل
.. مفهوم الثقافة الألمانية من وجهة نظر يسري نصر الله | #معكم_من
.. الفيلم الفلسطيني حالة عشق أفضل فيلم وثائقي طويل بالقاهرة الس
.. دخل الربيع يضحك يفوز بجائزة الاتحاد الدولي للنقاد من القاهرة