الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مجتمعاتنا .. وثقافة الموت

كريم عامر

2006 / 6 / 4
الغاء عقوبة الاعدام


جريمة بشعة ، هزت أرجاء المنطقة التى أقطن فيها ، حدثت عندما أقدم أحد الشباب من معتادى الإجرام وهو تحت تأثير المخدر على طعن شاب فى مقتبل عمره عدة طعنات فى أنحاء متفرقة من جسده أودت بحياته على الفور ، كرد فعل لرفضه دفع إتاوة مالية ، وعندما أفاق من سكره سارع بتسليم نفسه إلى الشرطة حتى لا يفتك به الأهالى .
وقعت أحداث هذه الجريمة العام الماضى ، وتكهن البعض إستنادا إلى حوادث مشابهة بأن الجانى سينال عقوبة بالسجن على إعتبار أن الجريمة سيتم توصيفها على أنها قتل عمد مع إنتفاء سبق الإصرار والترصد أو ضرب أفضى إلى الموت ، وأن الجانى كان غائبا عن وعيه لحظة إرتكابه للجريمة ، وسرت شائعات قوية مفادها أن شقيق المجنى عليه يخطط للأخذ بثأر أخيه من الجانى عقب إنتهاء مدة عقوبته فى حالة ما إذا عوقب بالسجن ، فى الوقت الذى أصيبت فيه الأم المكلومة بصدمة عصبية عندما فوجئت بالنهاية المأساوية التى لم تكن تتوقعها لولدها المتفوق فى دراسته والمقرب إلى قلبها .
ومرت الأيام والشهور ثقيلة على الجميع قبل أن يصدر الحكم مؤخرا بإعدام الجانى ، وفور صدوره عمت الفرحة المحيط العائلى للفقيد ، وسارعت الأم بتوزيع الحلوى والمشروبات على المارة فى الشارع إبتهاجا بصدور حكم الإعدام بحق قاتل ولدها ! .
* * * * *

تقشعر أبداننا رهبة وهلعا عندما نسمع عن جريمة بشعة كالتى سقت بعض تفاصيلها أعلاه ، خوفا من تكرار حدوثها مع شخص آخر قد يكون أنا أو أنت أو أحد أقاربنا أو معارفنا أو أصدقائنا ، ففى زمننا الموحش أصبح كل شىء قابل للحدوث معنا أو مع غيرنا .

ولكن مشاعر التعاطف الجياشة تجاه المجنى عليه وذويه ، ومشاعر الإشمئزاز والنفور مما أقدم عليه هذا المجرم ، يجب أن لا تحول بيننا وبين تحكيم عقولنا فى الأمر قبل أن نتسرع ونصدر أحكاما تقع خارج إطار صلاحياتنا .

المجرم إنسان مريض ....

معادلة لا أعتقد أن الكثيرين قد يختلفون معى حول دقتها مهما كانت خلفياتهم الدينية أو الثقافية ، فمن جهة ، لا أستطيع تجريد المجرم من هويته الإنسانية لمجرد أنه أقدم على قتل إنسان ، ومن جهة أخرى ، لن أكون منصفا إن قلت - فى أى حال - أنه إرتكب جريمته تلك فى وضع كان فيه سليما من جميع النواحى النفسية والعقلية والعاطفية والبدنية ، فالإنسان الطبيعى لا يمكنه أن يقدم على إرتكاب عمل ضد الطبيعة ، والإعتداء على الآخرين وإزهاق أرواحهم - على أى مستوى - هو بالضرورة تحد صارخ للطبيعة ، وبالتالى فإنه لا يصدر سوى عن إنسان غير طبيعى ، أى إنسان لديه خلل فى تركيبته النفسية أو العقلية أو العاطفية أو البدنية ، وهو ما يستلزم إخضاعه للعلاج وإعادة تأهيله إجتماعيا حتى يصبح عضوا نافعا فى مجتمعه .

فعندما يتسبب خلل طارىء فى شىء مادى ذو قيمة عالية فى إحداث خسائر مادية أو بشرية ، فأعتقد أن الذى يحدث عادة ، أو الذى ينبغى أن يحدث ، هو أن يتم إصلاح هذا الخلل وليس التخلص من هذا الشىء ، وإذا كان هذا منطقنا مع الجمادات ، فمن باب أولى أن يعامل الكائن البشرى المختل بالمثل ، بعلاجه وإعادة تأهيله بدلا من إختيار الحلول التى نتوهم أنها سهلة ونعجل بالتخلص منه ظنا أننا بذالك نريح أنفسنا منه ، وما الأمر فى حقيقته سوى أننا نجعل المشكلات الناجمة عن وجود هذا الشخص تتفاقم ويستفحل خطرها لأننا لم نواجهها كما يجب أن نفعل بعقلانية وتفهم ، وإنما سارعنا - سواء كنا أفرادا أم سلطة إجتماعية - إلى تغليب عواطفنا والسير فى الطريق الذى تقودنا إليه مغيبين عن الوعى تماما كما كان هذا الشاب لحظة إرتكابه لجريمته .

فما معنى أن يقدم شاب على قتل آخر لرفضه دفع مبلغ من المال كالحادثة التى نحن بصددها والتى نقرأ مثلها يوميا فى صفحات الحوادث ؟؟!.

وما معنى أن ينتوى الشقيق الغاضب لمصرع شقيقه التخلص من القاتل بدعوى الأخذ بالثأر ؟؟!.

وما مدلول تعبير الأم عن فرحتها بإعدام قاتل إبنها بتوزيع الحلوى والمشروبات ؟؟!.

وماذا نستشف من مطالبة بعض أهالى الغرقى فى عبارة " السلام 98 " بإعدام مالك العبارة بحجة القصاص لذويهم الذين لقوا حتفهم فيها ؟؟!.

وما معنى أن يعلن البعض شماتته فى مرض رئيس وزراء إسرائيل السابق ويتمنى له الموت فى أقرب فرصة بدعوى أنه تسبب فى مقتل الآلاف من العرب فى الحروب التى خاضتها إسرائيل معهم ؟؟! .

وما معنى أن يهاجم شاب مسلم رواد كنيسة قبطية فى يوم عيدهم ويقتل واحدا منهم لأنهم يخالفونه فى المعتقد الدينى ؟؟! .

ومالذى الذى يمكننا أن نتلمسه فى دعاء بعض الخطباء على المنابر يوم الجمعة على من يخالفونهم فى التوجه الفكرى أو العقائدى : " اللهم كسِّر أقلامهم ، وأخرس السنتهم ، ويتم أطفالهم ، وعقم أرحام نسائهم " ؟؟!.

وما معنى أن يطلب أحد الكتاب الذين يعيشون فى الخارج من أقباط مصر الذين تظاهر بعضهم إحتجاجا على مقتل أحدهم أمام إحدى كنائس الإسكندرية بالرد على جريمة القتل تلك بقوله : " يضربون كنيسة.. اضربوا مسجداً.. يقتلون منكم خمسة اقتلوا منهم عشرة " ؟؟! .

وما مدلول الفتوى الدموية التى أصدرها مفتى الديار المصرية مطالبا بتصفية المتطرفين الإسلاميين جسديا ؟؟! .

بل الأهم من كل ذالك ، حيث أن كل ما سبق قد نعده تصرفات فردية غير مسئولة ، ما معنى أن تكون هناك نصوصا قانونية يحكم بموجبها على بعض الأشخاص بإزهاق أرواحهم تحت دعاوى القصاص أو إقامة الحدود أو عقوبة الخيانة العظمى ؟؟! .

إنها الهمجية فى أبشع تجلياتها عندما يتحول المجتمع بأفراده وسلطته إلى جلادين وحفارى قبور ! .

فمالفرق بين من تعلن فرحتها لمصرع ولدها أثناء تنفيذه لعملية إنتحارية ضد مدنيين أبرياء عُزَّل مطلقة زغاريدها الهيستيرية ، وبين من تقوم بتوزيع الحلوى والمشروبات إبتهاجا لمقتل إنسان ينقصه التأهيل الإجتماعى ؟! .

إننى أدرك جيدا كم هو مؤلم وفظيع ومأساوى أن أجد أحد أصدقائى أو المقربين منى صريعا دون ذنب أو جريرة سوى أن مجرما أو إرهابيا إعترض طريقه ، بنفس القدر الذى أدرك به فظاعة أن يدفعنى موقف كهذا للتردى فى هاوية لم يبلغها المجرم نفسه حال إرتكابه لجريمته بالإعلان عن فرحتى وإبتهاجى لأن عشماويا ينتظره فى غرفة الإعدام .

فالحزن والتألم مشاعر إنسانية صرفة ، ولكن المبالغة فيهما لدرجة تحويلهما إلى رغبة عمياء فى الإنتقام والثأر لا يمكن أن أعتبرها سوى إستعارة لسلوكيات حيوانية صرفة تجعل المجتمع ككل فى حاجة هو الآخر إلى إعادة تأهيل .

فإصدار حكم بإعدام شخص ما ، يعد إعترافا ضمنيا من السلطة الإجتماعية بفشلها فى حل مشكلة هذا الشخص ، ليس هذا لأن مشكلته بلا حل ، بل لأن السلطة الإجتماعية لا تفكر سوى فى الحلول السهلة التى تتوهم أن مفعولها سريع وأنها ستريحها من عناء الإهتمام بتأهيل هذا الإنسان المجرم ، دون أن تدرى أنها بذالك تعقد الأمور عليها أكثر إلى جانب أنها تعطى لنفسها حقا لا يدخل فى إطار صلاحياتها ، فكما أن المجتمع لا يهب الإنسان حق الحياة ، فبالتالى ليس من حق أفراده أو سلطته الإجتماعية أن تسلبه إياها ، وإن فعلت ذالك تحت أى ذريعة أو حجة ، فإن ذالك يعد إنتهاكا لحق لصيق بالإنسان هو حق الحياة ، الأمر الذى يوجب علينا أن نفكر فى طريقة نعيد بها تأهيل هذا المجتمع بشكل كامل ، ليدرك أن إزهاق الأرواح أمر تختص به الطبيعة التى وهبت الحياة للإنسان ، وبالتالى فإن ذالك لا يدخل ضمن صلاحيات أحد غيرها ، حتى وإن كانت السلطة الإجتماعية ، التى وجدت فى الأساس لتنظيم علاقات الأفراد بعضهم ببعض داخل المجتمع ، وليس للتخلص منهم وإعدامهم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طلاب الجامعة الأمريكية في القاهرة يتظاهرون بأسلوبهم لدعم غزة


.. إعلام فرنسي: اعتقال مقتحم القنصلية الإيرانية في باريس




.. إعلام فرنسي: اعتقال الرجل المتحصن داخل القنصلية الإيرانية في


.. فيتو أميركي ضد مشروع قرار منح دولة فلسطين العضوية الكاملة في




.. بن غفير: عقوبة الإعدام للمخربين هي الحل الأمثل لمشكلة اكتظاظ