الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التجديد الإيتيقي بين هيدجر وليفيناس وريكور

زهير الخويلدي

2020 / 3 / 19
الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر


استهلال:
" تمنى الحياة الجيدة هو المستوى الأساسي للإيتيقا حيثما تتكون الذاكرة، تحت الأقوال، قبل الطور الوعظي للأخلاقية"1
تظل المسألة القيمية المحور الأبرز الذي تتحرك ضمنها التجربة الفلسفية في حلها وترحالها بين النقد والتأسيس وبين التفكيك وإعادة البناء بحكم المراوحة في تاريخ الفكر بين إنتاج المعنى حول وجود البشر في العالم وإضفاء القيمة حول الأشياء المادية التي تقبل الاستعمال والأشخاص الجديرين بنظرة الاحترام. إذا كانت المؤلفات العديدة التي تركها بول ريكور تحوز على حمولة هامة ومميزة من الفلسفة الأخلاقية المعاصرة فإن ذلك يعود إلى الأسئلة الجديدة التي طرحها ضمن إطار التفكير الخاص بالقيم والأنساق الإيتيقية ووفق أسلوب من المعالجة الإشكالية التي رفعت التحليل الفلسفي إلى درجة رفيعة من التدقيق. إذا مثلت المقاربة الأكسيولوجية واحدة من الانشغالات البارزة للفيلسوف الفرنسي بول ريكور إلى جانب المقاربات الأخرى المعرفية فلأنها سجلت حضورها في النصوص والمقالات التي كتبها والحوارات التي أجراها حول مسائل مغايرة للشيم الخلقية وضمن محاور بعيدة كل البعد عن التناولات القيمية والأحكام المعيارية. فإذا كانت النظرية الأخلاقية عند ريكور قد بذلت الجهد في سبيل توضيح الأسس التي ترتكز عليها الفلسفة الأخلاقية منذ أرسطو وهيجل بالمرور بالرواقية وسبينوزا وكانط وحفرت في شروط إمكان تطورها فإن ذلك قد يرجع إلى الحوارات المعلنة والمضمرة الذي أجرتها مع الأنطولوجيا الأساسية عند مارتن هيدجر والإيتيقا من حيث هي فلسفة أولى عند عامونيال ليفيناس والتي وصلت إلى حدود الاستيعاب والتجاوز. ماهو متعارف عليه عند مؤرخي الفلسفة المعاصرة أن هيدجر قد أوجد أنطولوجيا بلا أخلاق وأن ليفيناس قد شيد إيتيقا بلا أنطولوجيا وأن ريكور فكر في التمفصل بين الميتافيزيقا والأخلاق وأقر بالتكوثر الايتيقي وحاول تدارك ما فات مارتن هيدجر من أبحاث أنثربولوجية وما أهمله عمونيال ليفيناس من أبعاد أنطولوجية حول الذات. لكن هل يجوز الحديث عن حضور البعد القيمي في الأنطولوجيا الأصلية عند مارتن هيدجر بشكل ثاوي؟ وبأي معنى جعل ليفيناس من وجه الغير الأرضية التي يشيد عليها إيتيقا المسؤولية ومبدأ احترام الغيرية؟ وماهي الشروط الإيتيقية التي وفرها ريكور في سبيل إرساء حكمة عملية تجمع بين الغائية والواجبية؟ ما هو من منظور الفكر العملي وفي ميزان التعقل التطبيقي هو الابتعاد عن تأسيس النظرية الأخلاقية على المسلمات الميتافيزيقية والاعتبارات اللاهوتية والاقتراب من التجارب اليومية التي يعيشها الإنسان وطرق أبواب المشاكل التي يثرها التقدم العلمي والتكنولوجي والإنصات إلى العبر والدروس التي يقدمها التاريخ. فهل بالفعل تنصلت الانطولوجيا الأساسية التي شيدها مارتن هيدجر وبصورة قطعية من كل قول إيتيقي؟
1- معنى الإيتيقا الأصلية عند مارتن هيدجر:
" لقد شيّد هيدجر هذا المحظور عن طريق تحليله للوعي الأخلاقي في الوجود والزمان... )ورأى( أن التجربة الإيتيقية هي البنية الأساسية للحضور الإنساني "2
تصطدم كل محاولة ساعية إلى إظهار التفكير الإيتيقي عند هيدجر بمجموعة من الصعوبات والتحفظات:
- من جهة أولى التزام هيدجر بالنازية من الناحية الوظيفية وصمته المطبق عن سياسة المحتشدات والتعذيب والازدراء الموجه لليهود والشيوعيين وبدرجة أقل الهويات الملونة والشعوب المغلوبة.
- يمكن للمرء أن يشكك في وجود بعد إيتيقي في فكر هيدجر بالاستناد على الاتهام الذي وجهه نحو تدريس الإيتيقا وغياب الفلسفة الأخلاقية عن مؤلفاته ونفيه كل تأويل أخلاقي لتحليلية الدازاين.
- سيطرة القراءات العمياء على الدراسات الهيدجرية وتزايد الشروح المتسرعة التي راكمت أحكاما مسبقة تعتقد في غربة هيدجر عن الاهتمام الإيتيقي في ظل غياب قراءة متوازنة ومنصفة لفكره.
بيد أن هذه الصعوبات يمكن تذليلها وهذه التحفظات من المتاح الرد عليها إذا تم الانتباه إلى أن الفلسفة عبر تاريخها الطويل ما انفكت تصدر أحكاما وتصف وقائع وحتى عندما تنأى بنفسها عن الموقف الأخلاقي فإنها تفكر في ماهية الفعل ومعناه وتتدبر الموقع الذي يمكن على ضوئه أن تقوم باختيار المعايير والقيم3 . علاوة على ذلك لا يجوز إدانة هيدجر واعتباره قد قام بفعل غير أخلاقي عندما اشتغل على بناء الإنسان بالنظر إلى الموضع الذي يضفي فيه الوجود على حياته معنى ولا يبرر أيضا المنطق الذي تحرك ضمنه فكره أو التوجه الذي سار ضمنه نمط وجوده ، بتعلة افتقار فلسفته لنسق من المبادئ والأسس تحدد السلوك. والحق أن هيدجر يحوز على قدر من التقدير لذاته وللإنسانية عامة تسمح له باحترام الكرامة وتبجيل الحرية وممارسة التفكير ضمن حقل خلقي ما بعد إنسانوي ويجوز افتراض اشتغاله على إيتيقا أصلية مستترة. كما يمكن الانطلاق من أفكار هيدجر نفسه في الوجود والزمان4 عن الوجود في العالم والحضور والدازاين وكذلك درس حول الفرونوزيس في أوائل العشرينات من القرن الماضي وعزمه على العودة إلى أرسطو للتخلص من فلسفة الذات وأيضا رسالته عن النزعة الانسانوية التي دافع فيها بشدة على الحرية الإنسانية. كما يمكن الاستئناس بشروح وتأويلات تلامذته لفكره الأنطولوجي وخاصة غادامير وهانس جوناس وحنة أرندت وهابرماس وأبل وتفكيرهم في الوضععيات القصوى التي يعيشها الانسان مثل الموت والقلق واستنطاقهم لتجارب الصمت والشر والتقنية والفعل والإيتيتقا مابعد الحديثة عنده. فماهو المطلب الإيتيقي بصورة محددة الذي يسعى مارتن هيدجر لتحقيقه عن طريق الالتزام السياسي؟ ألا تمنع تفضيلاته للمصطلح "الوطني الاشتراكي" على الصعيد السياسي من قيام نظرة أخلاقية عند هيدجر؟ وأي نقطة يمكن للفكر أن يتوقف عندها لكي يُظهِرَ تصميمه على تطوير صامت لنوع من الإيتيقا الأصلية؟
من الممكن أن يكون المنعطفkehre الذي أحدثه مارتن هيدجر في مساره الفكري قد أفضى به إلى القيام بجملة من التطويرات الجذرية سمحت له بالمرور من الأنطولوجيا الأساسية إلى مضاعفة الدافع الإيتيقي. ومن الحري الاستئناس بالنصوص الهيدجرية وتثمين الأفكار القيمة التي تضمنتها رسالة عن الإنسانوية" على ضوء كتابه عن "كانط ومشكلة الميتافيزيقا" وبالعودة المتبصرة إلى كتابه العمدة "الوجود والزمان" 5. لقد أعلن هيدجر في "رسالة عن الإنسانوية"6 بقوة عن استئناف التفكير بشكل عميق في ميدان الفعل البشري ورصد التحولات الهائلة التي تعرض لها السلوك الإنساني على مستوى الدوافع والتوجهات والمقاصد واستنتج بأن الإنسان حينما يخوض غمار تجربة الفعل لا يعبر عن بعد جزئي من وجوده بل عن كينونته. في الواقع لا يراهن الإنسان من خلال الانخراط في الفعل على مصلحة نظرية أو تأملية بل يقوم بهدم كل تسليم بقدرة الذات على الحكم ذاتها بذاته وبالتخلص من كل مصلحة بما أن الدازاين ينساق تلقائيا ضمن لعبة الوجود. إن الفرق بين الوجود والموجود ليس فرقا بين حقيقتين ولا بين نوعين من وجود الموجود بل يتنزل ضمن واقعة الدازاين من حيث هي في حد ذاتها منفتحة على علاقة جوهرية ونشطة مع الفعل الخاص بوجودها. كما تتصف هذه العلاقة بين الدازاين والوجود بكونها علاقة معنى وبتعبير أكثر دقة إعطاء معنى لفعل الوجود، وبالتحديد إنتاج المعنى يتم عبر فعل الدازاين من خلال نداء الوجود وفعل الوجود من خلال تلبية الدازاين. في الواقع لا يرتبط فعل المعنى بالبعد النظري ولا بالتجربة التطبيقية بما أن المعرفة متوقفة على فهم الوجود من حيث هو معنى بحيث يتطابق إنتاج المعنى من جهة فعل المعنى مع الفعل من حيث هو معنى، ويكون الوجود هو فعل المعنى ولكن فعل المعنى ليس إنتاجا وإنما تصرف وقيادة وتوجيه عبر استكمال للوجود. عندما يقود المعنى الوجود وعندما يصبح الوجود تحت تصرف المعنى فإنه يكون بشكل أساسي فكرا ويصير الفكر فعلا أساسيا ولكن هذا لا يفضي إلى إعادة غلق الفعل على تطبيق النظري بشكل حصري7 . إذا كان هيدجر يرسم دائرة حول مفهوم الفعل ويعلي من قيمة فعالية مجردة وتجربة تأملية لا تكون نشطة إلا بالاستعارة وتتوزع بين المفكرين والشعراء فإن هذا الاستنتاج لا يتم إلا من خلال قراءة غير مدروسة. في الواقع، الفكر هو اسم الفعل وعنوانه الحقيقي لأن ما يوجد في الفعل هو المعنى والفكر منجم المعنى. وإذا لم يكن الشعر شكلا ممتازا من الفعل يتم تفضيله من الآخرين فإنه على الأقل يراهن على المعنى. زد على ذلك يظل الفعل من حيث الفكر موضوع رغبة الوجود وتكون الرغبة هي الحب من حيث هو سلطة. لا يرغب الوجود في الفكر إلا ليستكمل المعنى الذي يكونه ولذا يرغب في المعنى بوصفه فعله الخاص به. من هذا المنطلق يدل الوجود من حيث هو فعل في الوجود على الرغبة التي يسعى هذا الفعل نفسه لإتمامها من حيث هو معنى وبالتالي لا يوجد في البداية فعل خام وبعد ذلك رغبة في المعنى بل أن المعنى والفعل والإيتيقا ينبغي أن تأتي بعد ذلك عبر عطاء الوجود وجوده ومعنى الوجود ليس إلا الوجود بوصفه معنى. كما لا يمكن للمعنى المتصور على أنه دلالة تحيل على الوجود أن يكون معنى الوجود أو الوجود من حيث هو معنى ولا يوضع الوجود في تعارض مع الموجود أو أن يكون الوجود هو الأساس العميق للموجودات لأن العمق لا يحوز على أي معنى بل يصبح العمق هو الهاوية التي يغيب فيها كل معنى ويشير إلى اللاّمعنى. إن فعل الوجود من حيث هو دازاين يمثل رغبة، سلطة ومحبة للمعنى بينما المعطى هو عطاء الماهية من جهة أن الوجود هو الذي يجعل المعطى إضفاء للمعنى ويحول المعطى إلى موضوع للرغبة والمرغوب معطى ويمنح الدازاين القدرة على إنتاج المعنى وقول حقيقة الوجود أو يرفع الوجود إلى مستوى الكلام.
تفعل قيادة المعنى في الوجود من حيث هو وجود فاعل بواسطة الدازاين وتجعل من الدازاين الوجود من حيث هو موضع رهان إنساني وتعتبر قيادة المعنى غير منفكة عن تحرير الإنسان في كرامته الإنسانية8 . إن الكرامة هي ما يوجد وراء كل قيمة متعيّنة وتكون في مستوى الفعل الذي لا يتحدد وفق أي معطى مسبق، أما الإنسانية فينبغي أن تقاس من خلال مقياس الفعل أو بواسطة الفعل نفسه من حيث هو مقياس مطلق. كما تبدو الإنسانية نفسها غير كافية بالنظر إلى كونها ترتكز على تأويل معطى بصورة متقدمة عن الموجود، أي التأويل الذي يقوم بتثبيت المعنى ويذكر التحديد المسيحي أو التحديد الماركسي أو التحديد الوضعاني.عندما يتم تثبيت المعنى يترتب عن ذلك تثبيت للدلالة وتفقد الإنسانية الدرب المؤدي لسؤال ما الإنسان؟ من حيث هو سؤال مطروح ليس على الماهية المحددة للإنسان وإنما على ماهو أصلي في الإنسان من حيث هو إنسان وبعبارة أخرى يستهدف استشكال الدازاين في تناهيها وتناهي الوجود بماهو رغبة فاعل المعنى. من هذا المنطلق اذا كانت الذاتية هيلا ما يتم اختراقها دون الرجوع إلى نفوذ متعال فإنه تشير بصورة غير واعية إلى حاجتها إلى أنطولوجيا فاعلة للمعنى دون أن تكون مستندة إلى دعائم أخلاقية كونية أو على الأقل نهاية التأسيس التيو-أنطولوجي.ليس هناك قيمة مطلقة ولا معيار محدد في السجل الأساسي الذي تفعل بمقتضاه الذات نفسها وتصنع بهذا مصيرها بكسبها ولا يتبقى لها سوى التذكير بأن حقيقة الوجود العيني هي الحدث بوصفه حدثان وتملك. إن الكرامة الخاصة بالإنسان عند احترامه للحياة من حيث هي معنى وللمعنى من حيث هو حياة هي التي لا ترهن نفسها لأي تقييم ذاتي وتكتفي بقبول ما يطرحه عليها الوجود في انفتاحه على فعل المعنى من مهام. ليس الإنسان ابن الله ولا غاية الطبيعة ولا ذات التاريخ وبعبارة أخرى لم يعد الإنسان، الذي لم يبق له معنى ولم يعد قادرا على إضفاء المعنى، ذلك الموجود الذي يطرح الوجود نفسه فيه بوصفه فاعل المعنى. والحق أن الإنسان لم يعد دال المعنى مثلما يكون الإنسان في الإنسانوية ولا مدلول ، ولم يعد يؤشر المفهوم بل يكتفي الإشارة إليه وتدشين المهمة وفتح الطريق نحو استهداف المعنى الذي يتكفل بقيادة الإنسان في كل تجاربه الوجودية. من هذا المنطلق يفيد الدازاين فعل معنى الوجود الذي يضطلع بمهام توجيه كل دلالة للإنسان في الإنسان. وبالتالي فإن الوجود من حيث هو معروض يقوم بتأهيل الدازاين من أجل حراسة الوجود لعبا وسخرية.
بيد أن هيدجر يستعمل كلمات الرعاية والحراسة والسهر دون الوقوع في المحمولات الدينية المرافقة لها ويضيف إليها الحفظ والصيانة لكل ما يصير انفتاحا ومخاطرة وينفي أن يكون الوحيد الذي تقاسم الكثير من الخطابات الأخلاقية التي تدعو إلى المحافظة على القيم وصيانة المعايير واحترام الشيم الاجتماعية.
إذا كانت الكرامة التامة يتم تحيينها عن طريق إلغاء كل حماية لها ودون تقديم ضمان فعلي للمعنى المعطى الخاص بها فإنه من الحري الدفاع عنها وحمايتها وإنقاذها من كل اعتداء أو مصادرة أو إلغاء بشري وما يصون الكرامة ويضمنها ليس الانغلاق والتجمد بل الانفتاح والتدفق الذي يتصف به الشعراء والمفكرين. كما يحوز المرء على الكرامة التامة عندما يتحمل المسؤولية المطلقة تجاه نفسه وتجاه العالم الذي يعيش فيه وهنا تكمن النقطة الأساسية التي ينطلق منها التفكير الجذري عندما يسعى بكل جهده إلى تشييد الإيتيقا. من جهة أخرى يشير هيدجر إلى إمكانية التلازم بين فعل المعنى الأصيل والأصل المحتمل للمعنى أو مع الانفتاح على العطاء والجود ويعمل على التفكير في الأصل من حيث هو أيتوس دون أن يمنح هذا الأصل وهم القيادة والتسيير ويتفادى محاولة تمثل الأيتوس ويتعامل مع الموجود الذي يظهر في الضياء المنبعث من الوجود. في الواقع الإنسان لا ينتج الموجود ولا ينتج نفسه أيضا وكرامته ليست متوقفة على التوجيه والتحكم والقيادة لأن هذه المهارات تجلب الهيبة والحضور والتألق بينما لا تؤدي إلى إعطاء الكرامة طالما أن الإنسان لا يقرر بل كل ذلك يظل من عمل قدر الوجود الذي يرى أن تحدث بعض الأشياء ويمتنع عن حدوث أشياء منتظرة. بهذا المعنى يكون الإنسان مسؤولا عن الوجود أو إن الدازاين تصير من خلال الإنسان موجودا مسؤولا عن الوجود في حد ذاته ولكن المسؤولية لا تستمد من معنى معطى إلى الوجود من فوق أو من الأعلى بل هي الاستجابة للنداء المرسل بصورة متلازمة وتقتضي فعل المعنى للكائن الإنساني في أحوال وجوده. إن تناهي الدازاين هو تناعي الوجود من حيث هو رغبة فاعلة للمعنى، وان التناهي لا يعني المحدودية التي تضع الإنسان على اتصال بقوة أخرى تكون قادرة على الاستيلاء على المعنى أو التخلص منه كليا، وإنما يشير إلى عدم ثبات في الدلالة لا يكون ناتجا عن عجز في تثبيتها بل حيازة قدرة تسمح لها بالانفتاح. علاوة على ذلك يعني التناهي لاإكتمال الفعل من حيث هو معنى وتشظي المعنى وليس المعنى الذي ينتجه توسط الحرمان، أي أن المعنى في حد ذاته هو علاقة الوجود بمعنى الإنسان بحيث يتجه نحو الوجود في الإنسان، ويجعل من الإنسان فاعل الوجود للمعنى وفاعل المعنى للوجود وبالتالي لا يختزل المرء في تثبيت معنى الوجود. كما يشير التناهي إلى إمساك الوجود عن إعطاء المعنى عبر طرح فعل المعنى بما هو جود الرغبة في الفعل. من حيث المبدأ، الإيتيقا التي تعلن عن نفسها في كتابات هيدجر لا تحيل البتة إلى شيء آخر عدى الوجود، ولا تفترض وجود قيمة متعالية تسبح فوق الوجود المتعين و لا تفرض معيار أو دلالة على الحياة اليومية. فإذا كانت الحياة اليومية تخلو من الرغبة في إنتاج المعنى فإن هذا المطلب لا يستلهم من سماء ومن سلطة متعالية بل يتم تشكليه وبلورته وانجازه في الوجود المتعين ويكون تجسيما فعليا للمطلب الخاص بالمعنى. إن يمنح الموجود في فعله الوجود لجملة من القيم والأنماط المثالية فإن ذلك لا يكون ممكنا إلا من خلال تلبية لمطلب أصلي ولا تتم عملية إضفاء المعنى إلا عن طريق فعل أصلي حيث تتعلق به المهمة الأصلية. لقد دافع هذا الفكر الهيدجري بشكل صارم على الاستحالة بإعادة تحريك الحداثة مع تقويمات محطمة لها. إن الإيتيقا التي تؤسس للالتزام وذلك من خلال الالتزام بالعدمية من حيث هي ذوبان عام للمعنى تعمل من جهة ثانية على ضبط انتكاسة العدمية عندما تقوم بتحيين حالة فعل المعنى كفعل صادر عن ماهية الوجود. كما تلتزم الإيتيقا أيضا بتحقيق ثيمة المسؤولية الكلية التي تشترك فيها الإخلاص تجاه المعنى وتجاه الوجود وبالتالي تحتل المسؤولية مكانة بارزة في الحقول التي تهم الإيتيقا بحيث يمكن تمثيلها للإيتيقا في حد ذاتها. إن الموجود المسؤول عن الوجود لا يتوجه بالعناية إلى ذاته فحسب من أجل أن يكون ذاته بصورة خاصة ولو فعل ذلك يسقط في الأناوحدية والأنانية بل يتضمن إمكانية بل وضرورة أن يكون مسؤولا عن غيره. كما يمكن ويجب لتعالي الوجود أن يعلن بوضوح عن نفسه من خلال الإيتيقا الأصلية éthique originelle ، وأن ينفي عن المعنى كل ربط بينه وبين الموجود ضمن دلالة متعالية تبعث على الإجلال من خارج ذاته. في الواقع يبدو المعنى من حيث هو المقتضى الذي تستوجبه التبليغ الذي يربطه بالإنسان وبالقواعد التي ترشده إلى الدروب التي تؤدي به إلى العيش في انسجام مع مصيره عن طريق تجريبه محنة الوجود بين الموجودات. إن هذا التبليغ ليس ضروريا بما أنه يجب فرضع بقوة القانون وبالتالي يختفي من الوجود بمجرد اختفاء القوة، وإنما هو بيان المعنى كما هو ومن حيث هو معنى الفعل وبعبارة فيها الكثير من اللبس: المعنى هو القانون. لقد كتب هيدجر عن كانط ما يلي: "احترام القانون هو في ذاته كشف عن ذاتي من حيث هي ذات فاعلة"، لكن "هذا الاحترام هو احترام للمعطى، القانون الأخلاقي، الذي يمنح العقل ذاته من حيث هو عقل حر". لعل الشغل الذي يهم هيدجر هو بلوغ النقطة التي تنفكك عندها الذاتية الكانطية عن كل التزام بالتأسيس الذاتي بواسطة ذاتها نفسها ومن خلال التمثل والدلالة وتثبت أنها فاعلة عبر عرضها المعنى غير المعطى. ماهو إيتيقي هنا في هذا المستوى من التحليل ليس ماهو ناتج عن توزيع الاختصاصات التي عملت على تمييز نظام الدلالات الأخلاقية (القيم) ونظام الدلالات المعرفية (المنطقية) والدلالات الطبيعية (الفيزيائية). كما لا يمكن للاختصاصات أن تفتك مكانها وتتحول إلى أنظمة دلالة إلا بعد قيامها بإنتاج فعل المعنى من حيث هو كذلك،على الرغم من أن المعنى يتقدم على كل تقسيم إلى فروع ويوجد قبل ميلاد التخصصات وتجزئة الواحد إلى القطاعات ويكون كذلك ليسمح بالتبليغ مثلما تكون قيادة الوجود سابقة على كل تحدد للدلالات. في الواقع من المفترض أن يتم التفكير في الأيتوس من حيث هو إقامة والنظر إلى الإقامة على أنها هذا الهُنا بصفه انفتاح، أنها قيادة وتوجيه للموجود الذي يوجد هنا لكن يستمد وجوده في الانفتاح على الهناك أكثر منها استمرارية. إن الفكر الذي ينصب حول هذه القيادة يسمى إيتيقا أصلية بما أنه يفكر في الأيتوس من حيث هو قيادة وفق حقيقة الوجود ، ولكن هذا الفكر هو فكر أساسي أكثر من أن يكون مجرد أنطولوجيا : انه لا يفكر الموجود في وجوده بل يفكر في حقيقة الوجود ، ولذا أشار هيدجر في الوجود والزمان الفقرة عدد151 بأنه أنطولوجيا أساسية. كما يبدو من الجلي إذن أن فكر الوجود لا يتضمن فقط إيتيقا وإنما أكثر من ذلك يحتوي إيتيقا أكثر راديكالية.لذا الإيتيقا الأصلية هي الاسم الأكثر دلالة على الأنطولوجيا الأساسية لكونها تعبر عن الأكثر الأساسية فيها. لكن لا يمكننا إضافة الإشارة الأولى إلى الإشارة الثانية دون الوقوع في خطر فقدان الأساسي إعتباره، كما أن الأيتوس لا يملك خارجا ولا يفرض شيئا مضافا إلى الوجود ولا يمنح قواعد القدوم لكل من هب ودب. إذا كانت كل تسمية تدعي وجود فلسفة أخلاقية فإنها قد استنتجت من تسمية أولى تسلم بوجود فلسفة أولى، ولذلك يحبذ هيدجر عبارة فكر الوجود ويعتبر الوجود يكون بما الموجود لا يعني شيئا دون قيادة الوجود. المفارقة أن فكر الوجود لا يدل لا على ايتيقا ولا على أنطولوجيا لا على نظرية ولا على عملية، كما أن هذا الفكر ليس نتيجة ولا يمنح معايير ولا قيما ولا يقوم بالتسيير بل يكتفي بالتوجيه نحو فكر التسيير عامة دون الانضباط إلى معايير ودون الرغبة في تحقيق غائية ودون استهداف مقاصد بل يشكل الكرامة نفسها وذلك من خلال حيازة فعل إنتاج المعنى المتعلق بالوجود بصفة عامة والوجود على وجه خاص للذات. إذا تحرر الفكر من حيث هو إيتيقا أصلية من القواعد الجزئية والمسلمات الذاتية التي يمكن عدها وحسابها فإنه يبيح بشكل فعلي أي لا يرى مانعا على الأقل للكائن البشري في مستوى وجوده اليومي إمكانية الفعل. من هذا المنطلق لا يمكن للكرامة أن تكون إلا على صورة التناهي ولا يدل التناهي إلا على شرط الوجود الذي يشكل فيه المعنى العمق والحقيقة من حيث هو فعل المعنى ولا يدل اللاّتناهي إلا على شرط الوجود الذي يشكل فيه المعنى نتيجة ومحصلة تم إنتاجها وتحصيها عن طريق وصل الذات بذاتها المتحققة في اللاّمعنى وعبره. في الواقع يُحمل الوجود على عدة معان ويُطلق كذلك على اللاّمعنى وكل المعاني التي يتم حيازتها أو قبولها أو اختيارها أو إبداعها لا يمكن أن تكون في حجم وقيمة المعنى الفريد للمسؤولية . غير أن ملامسة معنى المسؤولية لا يعني استهلاك دلالته بل عرضه للعموم وطرحه للنقاش بوصفه التوجيه الذي يدفع الفكر. ما يلفت النظر أن الاعتماد على معنى المسؤولية بوصفه علامة دالة على التسيير والتوجيه والقيادة للفعل البشري يفضي إلى التعثر والإخفاق بالنظر إلى الاختراق الذي يتعرض له في ديمومة موضوعه، لكن هذا العطب لا يعود إلى إخفاق في التسيير ولا في طريقة التفلسف في الإخفاق بل إلى الفجوة بين الفكر والفعل. بطبيعة الحال الفعل المطلق هو فكر ولكنه تبقى بينه وبين المعنى فجوة مطلقة ، أما الفكر فهو ليس البلورة التمثيلية أو استدلالية للتسيير بالنسبة إلى الذات وإنما هو بالأساس الكائن الملتزم في هذا الوجود المَدِين. لقد أشار هيدجر في الوجود والزمان الى كيفية حدوث الوجود من حيث هو نداء الضمير وكيف يخلق هذا النداء الوجود المَدِين. ليس الدين في هذا المقام إثما ولا مديونية وإنما هو مسند للأنا أكون أي المسؤولية التي يتحمل فيها الأنا أكون عمق سلبيته أي عمق وجودانيته وكذلك مسؤوليته عن عطاء الوجود كماهو. من هذا المنطلق يكون النداء أو العطاء هو في حد ذاته فعلا مسلطا على الذات مثل عملية تحويل الخاصية السلبية التي تكمن في الشعر إلى العمل وأيضا مثل إسناد المسؤولية إلى المجهول وتحميلها لذات معزولة. والحق أن الوجود غير الشخصي هو ممتنع الوجود وأن ماهو موجود فعليا هو الوجود الشخصي للدازاين وأن المسؤولية لا محل لها من الإعراب وليس لها مقاما إيتيقيا إلا إذا كانت مع الآخرين ومن أجلهم. كما أن الفكر في المعنى الذي تشير اليه الإيتيقا الأصلية هو اختبار وتحقق من هذه المسؤولية المطلقة للمعنى. لكن هل الإيتيقا الأصلية هي نزعة صوفية غير معلنة من هيدجر أم أنها جمالية الكينونة؟
في هذا السياق يرفض جان لوك نانسي9 صلة الإيتيقا الأصلية بالنزعة التصوفية لأن التصوف هو الفكر الذي يسقط رغباته ويخفي ضعفه في مجال متعال عن حقله الدلالي بينما الفكر يختبر علاقة العادي مع المقدس وغير الخالص بالخالص. بعد ذلك يربط الإيتيقا بسمو الإستيطيقا ويبرر ذلك بأن فكر الوجود لا يختبر الإحساس الرائع بالكرامة الذي لا نظير له وإنما يفعل في الوجود من خلال تذوق الخليط المتشكل من اللذة والألم. غني عن البيان أن فكر الوجود يعمل على عرض التفصل بين الوجود وفعل المعنى في ظل غياب المفهوم والعاطفة ويجعل من الأيتوس الأصلي تأليفا بين القبلي الوجوداني للمفهوم والعاطفة الانفعالية بصفة عامة. بيد أن فكر الوجود حينما يرفض أن يكون مجرد موضوع للفكر ويتحول إلى انشغال به من خلال انفتاحه على فعل المعنى ولعبه مع الوجود يفضي الطريق نحو إمكانية الشر لما يقوم بإعدام الوجود بماهو وجود ويمنح العطاء نفسه من حيث هو إمكانية تبليغ وفعل للمعنى لكي يتحول إلى إمكانية عدم قبول العطاء ذاته. في الواقع لا يتعلق الأمر بالخبث البشري وتورطه في ارتكاب الجرائم في مواجهة سخاء الوجود وكرمه وجوده وعطائه بل إن هذا السخاء نفسه يمنح إمكانية العدم في ماهية الوجود ، بل إن الإمكانيتين المتعارضتين هما مختلفتين فحسب ويمكن أن ننعتهما بالشر والخير ، وهذا يسمح بالقول بأن الشر ممكن مثل الغضب الذي يندفع إلى الوجود من خلال كوة العدم التي تطل عليه والتي تنفتح على إمكانية اللاّمعنى التي تنبعث منها. لكن كيف يتم التمييز بين عدم الذي يطل على الوجود ويسمه والعدم الذي يسمح بإمكانية فعل اللاّمعنى؟
يبدو أن التمييز بين عدم الوجود ووجود العدم حسب هيدجر ليس له معنى ولا فائدة ترجى من ورائه وذلك لأن كل تحديد للشر يوقع في التسلل كل ضرورة للتفكير في إمكانية الشر بما هي مسؤولية إزاء الوجود. هكذا يلتقي التسيير الإيتيقي الأصلي مع قانونه الخاص، مع ناموس الإقامة أي صيانة الوجود واستيفائه وذلك من خلال حفظ واستبقاء الأمر المقضي الصادر عن الوجود المتمثل في ضرورة وجودانية الكائن. بهذا المعنى ينبغي أن يبدي المرء ترحابه وفعله الحسن حينما يتحمل مسؤولية وجوده وأن يتمسك جيدا بمسؤوليته في إتمام تلك العملية وفعل المعنى دون تحفظ ويجب أن يفهم ذاته من خلال التفاني في تحمل تلك المسؤولية. إن الكلام هو الرداء الذي يتقمصه الفعل المفكر حينما يكف عن حمل نظام القواعد إلى مقام اللغة والقواعد هي مجموعة دلالات تظل في المتناول وعلى سبيل المثال يمكن أن يتم التلفظ باحترام الحياة ولكن هذا لا يعني فعل المعنى من خلال الحياة أو عن طريق احترامها وبالتالي فإن الرداء في اللغة هو فعل المعنى. كما لا يمكن اعتبار صرامة التفكير والانتباه الحاذق إلى القول واقتصاد الكلمات من القواعد الأخلاقية وكذلك يفترض استبعاد التأويلات التي تعتبر تلبية النداء نوع من الرغبة في حيازة النية الطيبة والوعي الأخلاقي. بطبيعة الحال لا يمكن استعمال هذه القواعد اللغوية في قياس إيتيقية الخطاب وذلك بغية تفادي رقابة شرطة الأسلوب والخلط بين الأخلاق وإيتيقا الكلام المحمول والتركيز على قاعدة قياس الكلام على صلتها بفعل المعنى. لقد حمل الوجود نفسه إلى مقام الكلام يعني جعل الكلام نفسه يضفي المعنى على الوجود ويفتح الدرب الذي يمنح الحدث بالقدوم وفعل إنتاج المعنى ، ويكون الكلام تمرين المسؤولية الأصلية ويشير إلى أسئلة لا تدل على أجوبة وتشير قيادة المعنى في أفعال الكلام إلى تناهي الوجود حيث يمر الإنسان بلا حدود بالإنسان. لكن كيف كان التلقي الفرنسي للأنطولوجيا الأساسية التي شيدها هيدجر عند جان بول سارتر؟ والى أي مدى تمثل فيلسوف الالتزام الإيتيقا الأصلية المستترة؟
لقد عمل التاريخ على تكذيب مفهوم الإنسانية بعد صعود الامبريالية الاستعمارية واشتعال الحروب الكونية وترتب عن ذلك تخلي الوعي الفلسفي عن التعلق بغائية طبيعية ينبغي على كل كائن بشري أن يرجع اليها وصرف النظر عن الطموح الذي ظل يراوده بإمكانية بلوغ الطبيعة البشرية في أسمى تجلياتها الأخلاقية. في الواقع لا يمكن أن يتصور الإنسان على أنه ملاك خال من العيوب ومعصوم من كل الأخطاء ولكنه فوق مرتبة الحيوان ولا يرض بالحياة الغريزية ويتبع العقل وأفعاله إرادية وهو قادر على دفع المضرة وجلب المنفعة. يبدو من الضروري أن نفكر في مستقبل الإنسانية دون الإحالة إلى مرجعية قيمية متعالية ورؤية أخلاقية غيبية وسلم قيمي قبلي والاعتماد فحسب على القوى الطبيعية والإرادة الذاتية للإنسان في انجاز مصيره. في هذا السياق يقترح سارتر الوجودية من حيث هي نزعة إنسانية مختلفة ويرفض تأسيسها على الإيمان الديني ويشكك في وجود طبيعة بشرية كونية ويقترح الانطلاق من الشرط الإنسان الذي يسبق فيه الوجود الماهية ويسعى إلى بناء أخلاق الحرية والمسؤولية بنقده الحتمية الاجتماعية ودفاعه على الفردية الفاعلة. في الواقع لا يوجد أي تعريف للإنسان يسمح بتحديد القيم التي يمكن أن تتحكم في أفعاله وتزعم تنظيم حياته بصورة مشروعة بل يوجد فرق أساسي بين الإنسان بماهو كائن الحرية والكائنات الطبيعية الخاضعة للضرورة. إن الإنسان في البداية هو مشروع يعاش بطريقة ذاتية بدل أن يكون مجرد موجود تتحكم فيه الحتميات وبأكثر دقة يولد الإنسان لاشيء ، لا يملك أي شيء وإنما يساوي العدم وإنما بفعله وحريته يصنع من حياته المشروع الذي يريده لنفسه دون تدخل لأي كان في كيفية بلورته لأحوال وجوده ومستقبل حياته. من حيث المنطلق يوجد الإنسان أولا ويندرج في العالم ثانيا ويلتقي بالآخر في مرحلة ثالثة ويتم التعرف عليه ضمن شبكة العلاقات التي يشيدها بإرادته ووفق اختياراته ولكنه يقدر على تغيير هذه الوضعية جذريا ويصير حرا. علاوة على ذلك لا يمكن تعريف الإنسان تعريفا ماهويا لأن الشرط البشري هو الكونية الوحيدة التي ينخرط فيها الفرد فعليا ويقوم بتسجيل انتمائه إلى وضعية تاريخية لا تقبل الاختزال وينطلق منها للتعبير عن قدرته على الفعل. لكن أن يفعل المرء بصورة مستقلة يتحكم أثناءها في قراراته فإن ذلك يقتضي استثمار ملكاته في التفكير والحكم ضمن الوضعية التاريخية والظرف السياسي والمناخ الثقافي والموقع الاجتماعي الذي يوجد فيه. كما لا يوجد مشروع مسبق يعمل الإنسان على تحقيقه ولا يوجد مخطط قبلي ينبغي عليه إتباعه وإنما هو حر ومحكوم بالدفاع عن حريته باستعمال حريته واختياراته فقط هي التي تؤدي به للوقوع في جملة القيود والمحددات وإذا أراد إعطاء معنى لحياته فهو مطالب بتحقيق إنسانيته بتجسيمه طموحاته وبلوغ غاياته. على هذا الأساس تتطلب الحرية الإنسانية من المرء أن يتحمل مسؤوليته كاملة تجاه نفسه وتجاه الإنسانية جمعاء في السراء والضراء وأن يلتزم أثناء اختياراتها باحترام الكونية وتجسيمها في أفعاله وأن يحقق الإمكانية الإنسانية. من هذا المنطلق تتضمن أخلاق الحرية في ذاته شعورا بالمسؤولية يشير بصورة صريحة إلى فكرة الكرامة البشرية وتتخلص في أن الالتزام لا يكون فقط تجاه الذات بل تجاه كل إنسان لما فيه من قيمة إنسانية وكرامة وأن تحمل المسؤولية يمر من الاضطلاع بها من أجل النفس إلى الاضطلاع بها في سبيل حرية الآخرين. بطبيعة الحال أن يشعر الإنسان بقيمة الكرامة التي يمتع بها بالمقارنة مع الأشياء المادية التي تحوز على ثمن يدل على أن ضرورة أن يتوقف عن التنازل عن حريته بوصفها أساس وجوده وأن يوجه أفعاله نحو احترام حريته. على هذا النحو تسمح فكرة الكرامة الإنسانية بالتفكير في مسألة سوء النية التي تجعل الإنسان يقبل بالمذلة والاهانة ويسقط في النفاق والكذب على الذات والتظاهر ويتنصل من المسؤولية ويتنازل عن حريته في سبيل المحافظة على حياته ويبرر الوقوع في العبودية ومعاملة الآخرين له كشيء وموضوع من خلال النظرة والمعاملة. كما تظهر اللاإنسانية في التمييز العنصري والاستغلال الاقتصادي والتوظيف السياسي والتجريب العلمي حينما يتم اختزال الكائن البشري في طبيعة أثنية وفي هوية جنسية وطائفة دينية وفي طبقة اجتماعية. من جهة أخرى يقوم جيل دولوز في منطق المعنى عن أهمية الاعتزاز بالكرامة بالنسبة إلى الإنسان وعدم اختزاله في طبيعة أو معاملته كشيء مادي أو كرقم رياضي في دفتر حسابات كما تتصرف البيروقراطية الإدارية:" إما أن تكون الأخلاق بلا معنى، وإما هذا هو الذي تريد أن تقوله ولا تملك أي شيء آخر لكي تقوله،فلا نكون فاقدي الكرامة أمام ما يحدث لنا"، أي من العيب أن يكون المرء دون مستوى ما يحدث للإنسانية من عار وفضيحة وإرهاب واعتداءات وظلم وتنكيل وانتقام وتنصل من كل المشاعر النبيلة والمبادئ الأصيلة. إن الإنسانية عند سارتر لا تعني نوعا ولا طبيعة كونية بل تتميز بالحرية التي لا تخضع للتوجيه الأخلاقي ولا تترك أي سلطة خارجية تتحكم في وجودنا وإنما يتم استعمالها في سبيل الارتقاء بالمنزلة الإنسانية. لكن كيف تصرفت الفلسفة الأخلاقية مع الجرائم الفظيعة التي وقع ارتكبها في حق مبدأ الإنسانية في الحقبة المعاصرة والتي ارتبطت ويا للأسف بشعارات التدخل الإنساني ومنح حقوق الشعوب في تقرير مصيرها؟ وكيف ساهم هيدجر دون أن يدري في قيام الفلسفة الإيتيقية عند عمونيال ليفيناس واكتشافه لمسألة الغيرية؟
2-الإيتيقا من حيث هي فلسفة أولى عند ليفيناس:
" الايتيتقا تكون قبل الأنطولوجيا. الايتيتقا هي أكثر أنطولوجية من الأنطولوجيا ، وأكثر روعة منها"10
لقد مثل ليفيناس (1906-1995) وجها ساطعا في سماء الفلسفة الفرنسية في القرن العشرين بالرغم من أصوله الروسة اليهودية وتأثره بالفيلسوف اليهودي الألماني أودمنود هوسرل الذي ناقش حوله في سترازبورغ أطروحة دكتورا حول نظرية الحدس في الفنومينولوجيا بالانطلاق من تأويل البحوث المنطقية في قسمها السادس ، وبعد ذلك لم يستبعد تعلقه بنظريات مارتن هيدجر وجان بول سارتر. على الرغم من المساعدة التي قدمها له الأستاذ جان فال للتدريس في السوربون فإن الكتاب الذي ساهم في شهرته على الصعيد الداخلي أولا والعالمي ثانيا هو الكلية واللانهائي الذي ألفه عام 1961 ولم تعترف به الجامعة إلا ثلاثة سنوات قبل تقاعده عام1973.
في الواقع،لا يمكن إدراج ليفيناس ضمن سلسلة فلاسفة الأخلاق الفرنسيين بالرغم من أن المبحث الأول في فلسفته هو الإيتيقا وذلك بحكم المصادر الفنومينولوجية لتفكيره وبسبب استبداله الأنطولوجيا والميتافيزيقا بالإيتيقا. لقد جعل من وجه الغير الظاهرة الأولى وبالأحرى التجربة التأسيسية للفلسفة الفنومينولوجية ولكن ليفيناس لم يتصور الوجه على أنه وجه واحد بعينه وإنما يذكر بأن الأمر يتعلق بوجه الآخر في العموم والإطلاق. كما أن تجربة الوجه لوجه ليست موعد للتحابب والتوادد بل هي أمر أخلاقي ومعطى إنساني. بهذا المعنى إن كل نزاع مع الغير لا يمكن إدراكه إلا على قاعدة حضور الغير بالنسبة إلى الأنا ذاته وما يتضمنه هذا الحضور من مسؤولية يتحملها الأنا تجاه الغير ومسؤولية الغير إزاء الأنا الذي يلتقي به وجها لوجه. لقد آمن ليفيناس بأن ماهية التجربة الإنسانية هي ملقاة على قارعة الطريق وأن كل أمر واقع يتفرع عنها، وانطلق من موضوع الكلام لكي يثمن فعل القولLe -dir-e على المضمون المقيلle dit ويبرر ذلك بأن فعل القول هو الكلام الحي بوصفه قول للغير، بينما مضمون المقيل ليس سوى المحتوى الكوني للرسالة. إن الكلية عند ليفيناس هي النسق والعقل الكلياني الذي ينسب بالخطأ الى هيجل، أما اللانهائي فهو الكسر والاختراق والاستراحة والأرق وحضور بصورة عاجلة لأمر متعال في ذواتنا على هيئة نظام وترتيب ويمثل تعال الأخر والله في ذات الوقت بالنظر إلى أن الآخر يظل دائما وأبدا آخر. بناء على ذلك ان اللانهائي ليس البتة نفيا للنهائي وإنما هو ذاتية الذات من وراء القصدية . كما أن الذاتية ليست تقية باطنية بما أن الوعي ينثني على ذاته في كل امتحان من أجل الوعي وبما أن أخلاق الوعي الباطني تحتاج إلى نقد بالنظر إلى سقوطه في فخاخ النفاق. على هذا النحو تعيش الذاتية توترا في اتجاه الآخر ولكنها ما تلبث أن تعمل على استقبال هذا الآخر وتلقي عليه التحية وتقوم بالترحيب به وذلك لكونها تتحدد بواسطة الخارجية. أما اللانهائي فهو شكل الآخر من حيث هو آخر حيث الظهور يتلاعب بتناهي العقلانية التي حددها كانط. فالآخر لا يستطيع أن يدخل في أطر المطابق أي لا يمكن إدراجه ضمن المساحة الخاصة بمقولات الذهن. والآية على ذلك أن خارجية هي مضافة إلى المَقوَلة وأن حرية الذات وفكرها هي من تبعات ظهور الغير وتنتج عن انفصاله الجذري وأخذه بعين الاعتبار عدم إمكانية إرجاعه واختزاله إلى عدد من المقولات. على هذا الأساس تعارض فلسفة ليفيناس سعي سبينوزا إلى جعل فلسفته تستهدف كل من الحكمة والغبطة بواسطة التراتبية وتجميع التنوع في وحدة نسقية شاملة وتصغي إلى درس أنبياء اليهودية وفلسفة الوجود عند كيركغارد وتقترح تحليلات معمقة للحساسية بغية إعادة تشكيل للذات من جديد أمام حضور الغير. إن نكتة الإشكال عند ليفيناس تتمثل في تحول الذات إلى رهينة عند الآخر بما أن الأنا يتضمن هذا الآخر11 . علاوة على أن الذاتية المقتلعة هي بالأساس ذاتية عطوبة وهشة بما أنها منفعلة ومعذبة في ذات الوقت. في الواقع ليست العطوبية إمكانية المعاناة والعذاب والتألم بل هي بالخصوص معاناة الأبرياء التي هي بالنسبة إلى الوعي الإنذار الأكثر حدة بأن ينتقل إلى منظور الآخر ويتحمل مسؤولية كل الشر الحاضر في العالم. بناء على ذلك لا تتمثل المسؤولية في الإحساس بالذنب بل التصريح على الشرف والإقرار بالكرامة الإنسانية. من هذا المنظور تتحول العطوبية إلى إمكانية للاستمتاع ويصبح العناق ردا فنومينولوجيا معكوسا على الاهانة والجرح والطعنة ويتم تشييد فنومينولوجيا المحبة بالاعتماد على تجاوز لاإجتماعية الشهوة وتلاشي العناق بسبب وجود آخر كجسد شهواني وحنون إلى انتظار الثراء في الزمن التام والحلم بالأبدية السعيدة. يترتب على ذلك أن " الحكمة التي يطمح إليها التفكير الجديد والحياة التي تعبر عليها لا تتوقف على معانقة الكون. لقد صرح المرء، بعد أن شجب الجميع الزهد الفكري للمخبر، أن مغزى الدلالات أو العقلانية قد بنيت أيضا بوصفها المعرفة أي الهدف الشامل – المتضمن – لخارجية معينة"12 . لقد ترك ليفيناس فلسفة مضادة للميتافيزيقا تصف نفسها بأنها إعادة تأويل إيتيقي للميتافيزيقا وتحصل على معناها بالمراهنة على العلاقات الايتيقية بين الذات والغير من خلال تشييد علاقات بينذاتية وبيشخصية إنسانية . لقد أصبحت الفنومينولوجيا إيتيقا تصرح بأولوية الروحي والغير على الذات وتقطع مع كل محاولة تتجاوز للايتيقا. يصرح في هذا الموضوع" يرحب الوعي الأخلاقي بالغير... تبدأ الأخلاق عندما تحس الحرية بأنها اعتباطية وعنيفة بدل أن تسوغ ذاتها بواسطة ذاتها"13 . هكذا يعتمد الفكر الفلسفي عند عامونيال ليفيناس على مصدرين متميزين: الفنومينولوجيا المنحدرة من هوسرل وهيدجر من جهة وما كتبه الرواة من التوراة وتم الاحتفاظ به ونصوص التراث العبراني من جهة أخرى. فإذا كان كتاب نظرية الحدس في فنومينولوجيا هوسرل قد مثل مدخلا مهما في فرنسا للتعرف على الفلسفة الفنومينولوجية فإن كتاب ليفيناس الضياع l’évasion سبق في زمن نشره بعامين روايات ساتر الشهيرة عن الغثيان والعبث والعدم واعتبر محاولة في الوصف الفنومينولوجي للقلق وتجربة تمرد تقوم بها الذات ضد حدثية الوجود الملقى به في العالم وتبحث من خلالها على تأكيد حريتها وتحمل مسؤولية اختياراتها. لقد دفعت أحداث الحرب العالمية الثانية وتجربة السجن التي عاشها عند الألمان وتعرضه للرعب النازي إلى توجيه فكره الفلسفي نحو منعطف غير معهود في الدراسات الفكرية التي سبقته وطرق باب الإيتيقا ومنح أولوية مطلقة للقيم الإنسانية وخاصة الكرامة والتقدير والعدالة والحرية والحقوق والرفق والتعايش. والحق أن سنة 1947 تعتبر الفترة الزمنية التي اشتغل فيها على تحليل الحالات المقيدة التي تنتهي بالنفسية البشرية إلى الشعور بالإضناء والإرهاق والتعب نتيجة السجن وتصف وضع البشري للذات بأنه ممزق وفاقد للقيمة والاعتبار ويكاد يكون موجودا.
في هذا السياق أطلق ليفيناس عبارة ثمةil ya عالم وثمة إنسان وثمة أشياء على حالة الإعياء التي يتصف بها الكائن وجذّر هذه الفكر في كتاب "الكلية واللانهائي" الذي نشره عام 1961 وتأمل فيه ظاهرة الحرب والتي كان قد وصفها باعتبارها حالة عادية لإنسانية تعيش وسط تغيرات مستمرة تسببت فيها مواجهة بين أشكال من الوعي الباحث عن البقاء تسعى إلى إماطة اللثام عن الحقيقة التي تخص الكينونة في حد ذاتها. بيد أن تعويله على تحليلات هيجل قد قادته إلى الاستنتاج بأن ظاهرة الحرب ليست مجعولة من أجل تحقيق مطالب الأخلاق الفردية وإنما تقصد بالأساس تمتين العلاقات بين المجموعات ومنح الحقوق للفئات الهشة. إن الأزمة التي عصفت بالمكانة المرموقة التي كانت تحتلها الأخلاق لم تكن مرتبطة على الأقل بالصراع الذي يجري داخل الإنسان بين قوى الشر وقوى الخير بل ناتجة عن سعي الواقع لاحتواء الحقيقة البشرية وانحدار حرية الذات إلى مجرد وهم في المخيلة بفعل ضغط المجتمع وسلطة السياسة وتحولات التاريخ. إذا كانت الفلسفة الغربية قد تعودت على وضع الحقيقة على ذمة النسق الكلي وليس ضمن الأجزاء التي يتكون منها فإن الذات الفردية تقع في دائرة الاتهام وتستسلم للضرورة التي تحمها سواء التاريخ أو العقل. لقد عاند ليفيناس فكرة الكلية التي أشار بها إلى الوجود كما جاء في الفلسفة التقليدية وكما ضم مجموع العناصر الجزئية وضايف الفكر المدمج في داخله كل المعارف وقام بعملية تأليفية كبرى للمقولات14 . كما يعارض ليفيناس بين رؤية الوجود من خلال علاقة المحايثة مع فكر مطروح بشكل مطلق ضمن كلية غير قابلة للتجاوز وعلاقة الذات الإيتيقية مع التعالي الذي يوجد خارج نسق الفكر المموضع. هذا التعالي يخص وجه الغير مثلما ينكشف للأنا في غيريته المطلقة، أي يوجد خارج كل سياق وفي علاقة إيتيقية مع الغير، بحيث تكون مسؤولية الأنا تجاه الغير لامشروطة وتتخطى كل الشروط الواقعية التي يمكن أن تقيد حريته. بطبيعة الحال لا ينبغي أن يتم التعامل مع الوجه في معناه التجريبي ولا يتعلق الأمر بتحديد الفزيونوميا الخاصة به وهو لا يشير إلى مجرد استعارة عن الحقيقة الجسمانية وإنما فيما وراءها يعني مجرد الحدثية المحضة للغير في ضعفه وتناهيه واضمحلاله وفنائه وفي محض معرضه والطلب الصامت الذي يرسله من خلال حضوره أمام الذات. إن ما يكشف عنه الوجه إنما حقيقة الغير في إنسانيته المحضة فيما وراء كل الأدوار الاجتماعية التي يمكن أن يقوم بها. إن المقابلة مع الغير في ماهيتها الأكثر عمقا يتم إنتاجها في الكشف عن وجهه الذي يتعالى على النسق المغلق للكلية حيث يتم قراءة كل صلة عبر المعرفة أو بالسلطة. علاوة على أن مفهوم اللانهائي الذي يوقعه ليفيناس يفيد تعالي العلاقة الإيتيقية بين الذات والغير عبر انكشاف الوجه، كما أن غيرية الغير مثلما تنكشف في العلاقة الإيتيقية تظهر في الآن نفسه في موضع خارجي بصورة جذرية عن المقصد المموضع الذي يتم استكماله في النسق الكلي مع وضع نفسها موضع وصف بشكل مستمر داخل قواعد الخطاب الفلسفي. إن الإيتيقا عند ليفيناس لا تشكل ميدانا جانبيا ، ولا تنفصل عن التفكير النظري ، وإنما على العكس من ذلك تشكل العلاقة مع الغير الأفق الأول للفلسفة التأملية، بما أن كل فلسفة تصير خطابا ، ولا يوجد خطاب إلا في صيغة فحوى مرسلة بطريقة ضمنية إلى شخص آخر. من هذا المنظور تستمد كل معرفة، بما في ذلك المعرفة العلمية، إمكانياتها من الموقف الإيتيقي الأولي، ولا تكون الغيرية الجذرية للغير في العلاقة الإيتيقية علاقة تبادلية بحيث يرد الأنا الجميل للآخر الطيب. بهذا المعنى تصلح العلاقة التبادلية في الحياة الاقتصادية التي تخضع لقاعدة الفائدة المشتركة وبعيدة كل بعد عن العلاقة الإيتيقية أين الأنا يضحي بنفسه من أجل الغير ويتصف بفضائل الحلم والجود والإيثار. لقد أصبح الغير حسب ليفيناس من مشمولات الذات قبل كل اعتراف بالدين تجاهه ومن الأمور التي تهتم بها بشكل استثنائي وتتحمل مسؤولية كاملة إزاءه بصورة مستقلة عن كل تقصير تم تسجيله فيما يخصه. لقد استقى ليفيناس علاقة الواجب إزاء الغير من التوراة والتراث العبراني ولكنه لا يصرح بوجود نفوذ للنصوص المقدسة على تصوراتها للإنسان وللكون ولكنه يعترف بأنه يأخذ ذلك بالقوة الفلسفية اللازمة. إن المصادر الدينية والتفكير الفلسفي يشكلان نظامين من المعرفة والوجود منفصلين ، ولكن المنزلة الابستيمولوجية للتوراة ليست مختلفة عن تلك التي تحوز عليها الفلسفة الإغريقية بالرغم من أنهما يمثلان روحانيتين متميزتين تعبر كل واحدة عن نمطين نوعيين من الإنساني، فإذا كانت الفلسفة الإغريقية تعير الاهتمام بالنظرية ومثال المعرفة فإن التراث العبراني يقيم الدليل على التجاور بين الاجتماعي والحواري. بعد ذلك بدّل ليفيناس عام 1974 أسلوبه في التفلسف في كتابه "الوجود مغايرا أو فيما وراء الماهية" وذلك باستناده على الباطنية المطلقة للإنسان تماشيا مع مطلب إيتيقي يقر بأهمية حضور فكرة اللانهائي فيه، لقد تضمن هذا البعد الجديد الذي انفتح عليه الفكر الفلسفي تجذيرا قصوويا للمواضيع التي كان قد طرحها في كتاب "الكلية واللانهائي" وطورها في المؤلفات التالية له وللمصطلحين المركزيين عن الذاتية والغيرية. لقد تم تعريف الأنا على أنه ماهية تطرح ذاتها بذاتها وتتعرف على نفسها في متعة العالم. وتم التعامل مع الانفتاح على الآخر على أنه قطيعة مع الأنانية الأولية التي يشعر بها وتمنعه من الالتقاء بغيره من الناس. لكن ليفيناس ينفي أن توصف الذاتية بعبارات ايجابية ويرفض أيضا أن تكون ماهية موجودة في ذاتها ولذاتها قبل أن تشرع في الالتفات نحو الغير والانفتاح عليه والالتقاء به بالتواصل والتفاعل الممكن معه. تبدو الذاتية ،بصورة بدئية وقبل كل تعريف للذات بالذات، على أنها استجابة للغير والتزام بطلب الآخر وخضوع للنداء الذي وجهه لها. هذه المسؤولية هي قبلية بالنسبة إلى الآخر وتنتمي إلى حساسية أصلية وتجعل الذاتية تتحول ضمن نظام إيتيقي معين إلى مجرد انفعالية ومجرد استعراض صامت أمام الغير. والحق أن هذه الانفعالية لا تمثل موقفا نفسانيا وإنما هي مقولة ونمط وجود الذاتية ويعتبرها ليفيناس مرادفة للعطوبية تجاه الغير، وتظهر بسبب الصدمة التي يلحقها حضور الغير بهوية الأنا عندما تحوله الحساسية الأصلية تجاه القريب إلى رهينة له وتجعله يتخلص من هويته ويضع نفسه في مكان الآخر ويقدم نفسه بديلا عنه. من خلال مفارقة التحول هذه وبواسطة هذا الاستبدال لا يكون الأنا ذاته سوى عبر الوجود من أجل الغير. وبالتالي ثمة في فكرة الآخر التي ظهرت في كتاب "الكلية والتناهي" معضلة أصلية تتمثل في ما يلي: لو تم تعريف وجه الغير بأنه غيرية جذرية، وخارجية مطلقة بالمقارنة مع النسق الإدراكي حيث يعود الأنا دائما إلى نفسه، فإن الفعل الوحيد لظهوره يعيد إدماجه ضمن أفق الوعي القصدي ومن ثمة يلغي غيريته. إن هذه الغيرية ترمز إلى الغياب وتظل دائما مهددة بالحاضر وذلك نتيجة عدم اكتراثها بموضوع الإدراك، ولكي يتم تعريفها دون الوقوع في السلبية المحضة فإنه من المفروض الكف عن معاملة الغير بوصفه آخر بالنظر إلى استحالة اختزال تعاليه وهذا الابتعاد الذي يصيب بالدوار لكل ما يتعذر قوله بألفاظ الحاضر. لقد استعمل ليفيناس الضمير المتكلم المفرد في صيغة الغائب أو المبني للمجهول للإشارة إلى هذا الذي ليس هنا ولتسمية هذا الغياب المطلق الذي يمثل البعد التكويني للغيرية الغائبة والتي تم تغيبها منذ البدء. في الواقع لا يمكن الحديث عن الماضي عندما يتم التطرق إلى هذا التغييب الذي يظل غائبا في إشارة إلى الغيرية وبهذا المعنى لا تنكشف الغيرية للذاتية إلا من خلال هذا المعطى الذي مضى ولم يبق منه سوى الأثر. إن أثر الآخر هو كل ما يتبقى من الآخر بالنسبة إلى الذات عند غيابه خاصة عندما يتعذر عليها إدراكه وبما أنه يتلاشى إلى ما وراء الوجه ويصير خارجية مطلقة وانفصالا تاما. ليس الأثر حسب ليفيناس نتيجة لاحقة لسبب سابق مثلما يكون الدخان بالنسبة إلى النار وإنما هو علامة مخصوصة جدا ، بما أنه لا يحيل إلى أي دلالة ايجابية بل يفضي فحسب إلى غياب معين. إن أثر الآخر ، في معناه الأكثر إطلاقية ، يتضمن تلميحا إلى أثر الله الذي يتعذر عليه البتة أن يكون هنا وكما قال إكسود: إن الله لا ينكشف إلا بواسطة أثره. من هذا المنظور يمكن تصور إن الغيرية المطلقة الغير على أنها غياب وتوقع تطابق أثر الله في الإنسان. لقد عوضت الايتيقا من حيث هي فلسفة أولى عند فيلسوف الوجه والغيرية عمونيال ليفيناس المنزلة التي كانت تحتلها الميتافيزيقا عند المعلم الأول أرسطو وعلم البدء عند أدموند هوسرل والأنطولوجيا الأساسية عند مارتن هيدجر، ولكن هل تتمكن من اثبات جدارتها بالريادة وتحافظ على مكانتها مع بول ريكور؟ وماهي المناحي الاتيقية للفلسفة الأنثربولوجية عنده؟ والى مدى بقي وفيا للعمل الكبير الذي أنجزه جان نابرت وتيودور أدرنو في جمع مجموعة من الأفكار حول الحياة الإنسانية المهدورة والمهددة من الآخرية؟
الرهانات الإيتيقية للهرمينوطيقا عند بول ريكور:
"هذه النواة هي في ذات الوقت أخلاقية وتخيلية وهذا هو اللب الملموس للحضارة"16
لقد طوّر بول ريكور في كتاب "عين الذات غيرا" الفلسفة الأخلاقية المناسبة لعصرنا من خلال تناول المسألة الفلسفية التي تطرحها الهوية الإنسانية عبر التاريخ الجدلي للعلاقة بين الذاتية والآخرية وبين الأنا والآخر. لقد بقي الهاجس الذي حركه عن طريق فلسفة الإرادة يتمثل في الانتقال من الإنسان المذنب إلى الإنسان القادر ومن الكوجيتو الجريح والمهان من طرف السلطة والمجتمع إلى الشخص السيد على ذاته والمتحكم في قراره والمتحمل مسؤولية أفعاله وتبعاتها. في الواقع ليس المطلوب حسب رؤية ريكور أن يعود الفكر الفلسفي الأخلاقي17 إلى أرسطو فقط من أجل الاعتصام بالحكمة العملية التي وضعها تتمة ومجال تطبيق للحكمة النظرية والالتزام بأخلاق الفضيلة التي اعتبرها الخير الأسمى للكائن الهادف إلى الحياة السعيدة وإنما التوجه نحو خلق القيم بالنظر إلى التحولات وبناء المشروع القيمي للمرء. على نفس المنوال يتعذر علي المرء الاكتفاء بالتزهد في تحقيق اللذة ودفع ما يسبب الآلام كما فعل أبيقور والاقتصار على الإحساس الأخلاقي من خلال إثارة أهواء الطبيعة البشرية نحو إتباع النافع والابتعاد عن الضار كما كان الأمر مع هيوم والانهماك في تنمية الفرح حسب سبينوزا وتلبية نداء الواجب حسب كانط. لقد حدثت الكثير من المستجدات والمتغيرات على الصعيد العلمي التقني وفي المستوى الاجتماعي ناتجة عن تحولات جذرية تعرضت لها بنية الواقع الاجتماعي في الحقبة المعاصرة لم تقدر النظريات الأخلاقية التي تنحدر من التقاليد الموروثة ومن الحداثة والتنوير عن تعييرها وشرعنتها بل وصلت لمنحدر خطر أعلن فيه نيتشه عن العدمية ونصح هيدجر بالتخلي عن الأكسيولوجيا. لعل أبرز البدائل الممكنة عن هذا التشاؤم هو مقترح إيتيقا الحد الأدنى التي تعزف عن حكم القيمة وتضع مكانها حكم المصلحة الواقعية وقد وقع الاصطلاح على تسميتها بالايتيقا المستقبلية أو أخلاق المستقبل. فكيف يتم تحقيق المصالحة بين الإيتيقا والحرية؟ لماذا يتم الاشتراط تدشين تجربة حوارية تجريها الذات مع الآخرين بكل الصيغ والمواقع؟
لا يجوز اختزال الإيتيقا إلى جملة من الأوامر والنواهي ولا يمكن ردها إلى عدة معايير وقوانين، لهذا أعاد ريكور تعريف المقصد الإيتيقي بأنه استهداف الحياة الجيدة مع الغير ومن أجله في مؤسسات عادلة، فالحياة الخيرة، الحياة الحقيقية ، الحياة الجيدة هي المكون الأول والأساسي للحياة الإيتيقية للكائن البشري، وتعود إلى العناية بالذات وتقدير الذات. لكن، على المقصد الإيتيقي أن يأخذ بعين الاعتبار وجود الآخر: المطلب الأول هو أن يستهدف الحياة الجيدة مع الآخر ومن أجله وهو ما سماه بول ريكور مبدأ المواساة sollicitude ويتكون من الإيثار والعناية والتدبير والاهتمام والتعاطف والتعاون والتعايش والمساعدة.هكذا يظل تقدير الآخر متعلقا بتقدير الأنا: "لا يمكنني أن أقدر أنا ذاتي من غير أن أقدر غيري من حيث هو ذاتي عينها"18 . فأنا عرفت الآخر من حيث هو نظير لي يشبهني ويجاروني ويحاورني ويتبادل معي العديد من الأشياء ولكن كل هذا غير كاف ومن اللازم أن يتنزل فعلنا الأخلاقي ضمن مؤسسات قائمة الذات في السابق والتي تتكفل بمنح إرادة الحياة المشتركة في جماعات تاريخية بنيتها الرمزية ومعناها الوجودي. على المقصد الإيتيقي إذن أن يتنزل ضمن مؤسسات عدالة حتى يجعل الفعل البشري أخلاقيا. اللافت للنظر أن تحليلات بول ريكور حول الهوية السردية التي تضع معا الاستمرار في زمن الطبع والاستغراق في الإمساك بالذات تحوز على ضمنيات إيتيقية تظهر من خلال أمثلة ثنائية الوعد والوفاء وتتجلى بصورة واضحة في إمكانية بقاء المرء نفسه وإمساكه بذاته وتحمله مسؤولية وجوده على الرغم من تغير الزمن التاريخي الذي ينتمي إليه وحدوث تغييرات على الذات من خلال حضورها في العالم. لكن ماذا يمكن أن نسند من خاصية أخلاقية لكائن بشري لم يعد كما كان بحكم تغيره عبر الزمن وتحوله الذاتي من الوحدة إلى الكثرة ومن الآنية إلى الغيرية ومن الخصوصية إلى الكونية؟
لقد وضع ريكور ملامح أساسية لما سماه الإيتيقا الصغرى والتي جعلها تعيد بلورة مفهوم المسؤولية ضمن إطار مفهوم الحكمة العملية التي تحرص على التأليف بين الحذر – التعقل- حسب أرسطو و الأخلاق – الواجب – حسب كانط والأخلاق المتعينة والملموسة – الشيم الاجتماعية والموضوعية- حسب هيجل19 . من هذا المنطلق الإيتيقي يشترط على المرء لكي يكون "مسؤولا اليوم يعني، بطريقة تظل قابلة للتدقيق، أن تقبل بأن تكون مستمرا بالنسبة للواحد اليوم وما كنت قد قمت بفعله البارحة وما ستقوم بفعله غد"20 . لقد قام ريكور بالتفريق عن طريق التجميع بين الإيتيقا التي تتحدد بصورة غائية بواسطة استهداف الحياة الجيدة مع الآخرين ومن أجلهم في مؤسسات عادلة21 من جهة والأخلاق التي كان كانط قد أشار إلى بعدها الأمري الواجبي وأصبغ عليها ميزة الإلزام من جهة ثانية ولكنه في مرحلة ثالثة ألغى القطيعة التي أحدثتها الشكلانية الكانطية وحاول التقريب بين التراث الغائي واللّذي الذي يتمحور حول مفهوم السعادة والتصور الواجبي للأخلاق الذي جعله يتحرك وفق معيار التكامل وتصور قاعدته الذهبية على النحو التالي: "لا تفعل مع قريبك ما ترفض أن يفعله بك 22 وبعبارة أخرى أكثر آدابية :" أحب لغيرك ما تحب لنفسك". مثلما يبدو للعيان يشير مفهوم المؤسسات العادلة الذي ذكره بول ريكور عند تحديده لمفهوم الإيتيقا إلى أن مقصد الحياة الجيدة يتضمن بعدا سياسيا وبالتالي تكون علاقات الذات مع الغير من وجهة نظر الحكمة العملية مضبوطة بواسطة العناية والمساعدة والمواساة والتكافل التي يقدمها الكائن إلى ذوي القربى منه.بهذا المعنى ينتقل بول ريكور من التطرق إلى العلاقات البيذاتية إلى تأصيل أخلاقي وسياسي للعلاقات البيشخصية والبيثقافية والبيدينية التي تعتمد على المقابلة الحية والتلاقي وجها لوجه والعيش السوي ضمن مؤسسات عادلة. فماهي الإضافة التي قدمها ريكور للتفكير الإيتيقي السابق؟
خاتمة:
"الطرق الجديدة للسكن في العالم والتواجد تمثل الجوهر أو النواة الايتيتقية الميثية لحياة الشعب. إن كل جماعة تاريخية لها بهذا المعنى خصوصية وهي قدرة على الخلق متصلة بتراث وذاكرة وبتجذر عتيق"23
يعاني العالم المعاصر من فراغ أكسيولوجي ناتج عن عدمية قيمية تجلت بوضوح في فقدان المعيار، ولقد أثر ذلك بشكل كبير على سلوك البشر وردود أفعالهم. إذ على الرغم من حيازتهم على ملكة النطق التي تتيح لهم استعمال اللسان من أجل الحوار والتواصل واستخدام ذكاء العقل في التغلب على المصاعب إلا أنهم سقطوا في الرعونة والصفاقة ومارسوا الأذية تجاه بعضهم البعض مما يدل على همجية مستحكمة. كما انتشرت في الحياة اليومية جملة من المعالم التي تفسد الوجود البشري وتعطل الاجتماع المدني وتتمثل في عدم الالتزام بالواجب وغياب الضمير والتقليل من الاحترام والتقصير في تحمل المسؤولية وغلبة الشر على الخير وسطوة الضار على النافع والتخوف من إحراز الحرية والتفويت في الحقوق وامتهان الكرامة. فما سبب هذا الانحطاط الأخلاقي؟ هل يعود ذلك إلى حرتقة bricolage على الصعيد النظرية أم إلى هشاشةfaillibilité في مستوى التطبيق؟ وكيف يمكن تخطي هذه المصاعب والمؤثرات السلبية وبناء تصورات تقدر على تجاوز هذا المطب؟ وبماذا يتم إيجاد أخلاق كونية؟ والى أي مدى تتواءم المبادئ الأخلاقية الكلية مع الوقائع المادية الجزئية؟ أليس من المفروض التفكير في الأخلاق بين الوحدة والكثرة؟ لماذا عمل التفكير الفلسفي على الانتقال من الأخلاق إلى الإيتيقا؟ ما الفرق بينهما؟ وهل تم الاستبدال ووقع التخلي بشكل لا رجعة فيه عن الأخلاق؟ ألا يمكن أن تتواجد معا إيتيقا الحياة الجيدة مع أخلاق العزو ؟ ماذا لو تم تطعيم هذه الجرعة القيمية بآداب المناظرة وأخلاق الضيافة وإيتيقات المهنة والبيئة والفعل؟ لكن كيف تخطى ريكور مشكل التباين بين قيمتي العدالة والمساواة في النظم الأخلاقية والسياسية الغربية؟
لقد أفضت العودة إلى فكر جان رولز إلى مناقشة التصور الإجرائي لاستعارة حجاب الجهل بالاستعانة بفكر حنة أرندت والتفطن إلى افتراض هذه النظرية معنى للعدالة تتفهم مسبقا دلالة العادل وغير العادل. على هذا الأساس انتبه ريكور تحت تأثير أرندت الهوة الفاصلة بين السلطة والهيمنة، فالسلطة لا توجد إلا في صورة إرادة الحياة والفعل المشترك ضمن جماعة تاريخية تعيد تشكيل هويتها عبر السرد والصفح. أما العدالة فهي ترنو إلى وضع علاقات الهيمنة بين الحكام والمحكومين تحت رقابة السلطة بالاشتراك. إن هذا التصور الريكوري للسلطة السياسية هو الذي تختص بها الديمقراطية من حيث هي نظام سياسي يترك الصراعات السياسية مفتوحة وقابلة للتفاوض والنقاش العمومي ويظل ممكنا التفاهم والتوافق والتسويات بشأنها طالما ظل الفاعلون وبقيت القوى المتنافسة تحترم قواعد اللعبة وتخضع لحوكمة متعارف عليها.
"الايتيقا هي تمني حياة مستكملة تحت علامات الأفعال الحسنة بالتمني"24 وتجمع بين الرغبة والانسانية. علاوة على ذلك لا تشير تعددية الآراء التي تضمنتها حرية التعبير في الفضاء العمومي إلى عطب في الحياة السياسية ولا تمثل ظاهرة عرضية وأزمة مرضية عابرة وإنما تعبر عن طابع غير قابل للحسم والبت حول الخير العام. وبالتالي " ليس ثمة نهاية للنقاش السياسي طالما أنه يظل دون قرار"25 . فما الفائدة من الاستنجاد بالفلسفة الإيتيقية؟ هل تصلح الشأن العمومي وتتدارك سوء الحوكمة السياسية؟
الإحالات والهوامش:

[1] Ricœur Paul, soi-même comme un autre, édition du seuil, 1990, réédition collection Points, 2015, p240.
[2] Didier Moreau, Heidegger et la question de l’éthique : la construction d’un interdit, in Rencontres avec Heidegger, Volume 14, numéro 2, -print-emps, URI : id.erudit.org/iderudit/801261ar https://doi.org/10.7202/801261ar
[3] Dictionnaire d’éthique et de philosophie morale, Heidegger Martin, sous la -dir-ection de Monique Canto-sperber, 2° édition corrigée PUF, Paris, 1997,pp645-646
[4] Heidegger Martin, Etre et Temps, traduction J.Vesin, Edition Gallimard, Paris, 1986.
[5] Voir Martin Heidegger, L Être et le temps. Traduction française par Jacques Auxenfants . Les Classiques des sciences sociales 2019, 552 p.
[6] Voir Heidegger Martin, lettre sur l’humanisme, 1948, traduction française de R. Munier, édition Aubier, 1963.3° édition 1983.
[7] Voir Heidegger Martin, Etre et Temps, traduit par J. Martineau, édition Hors commerce Authentica, 1985.
[8] Voir Heidegger Martin, Kant et le problème de la métaphysique, traduit par A. Waelhens et W. Biemel, édition Gallimard, Paris, 1953.
[9] Nancy J-L, la décision d’existence, Une pensée finie, edition Galilée, Paris, 1990.
[10] Levinas Emmanuel, De dieu qui vient à l’idée, édition Vrin, Paris, 1982,p143.
[11] Voir Maxime Plante, les ressources phénoménologiques de l’éthique lévinassienne, in Revue philosophique de Louvain, Tome113, N°04, Novembre 2015, p599.618.
[12] Levinas Emmanuel, Altérité et transcendance, édition Fata Morgana, livre de poche, biblio essais, Paris, 1995, p104.
[13] Levinas (Emmanuel), Totalité et infini, essai sur l’extériorité, le livre de poche, coll. « Biblio essais », Paris, 1990.p83.
[14] Voir Levinas Emmanuel, Totalité et infini, édition Marinus Nijhoff , 1971.
[15] Levinas Emmanuel, l’éthique comme philosophie première, actes du colloque de Cerisy-la-salle, 23 aout -2 septembre 1986, Sous la -dir-ection Jean Greisch et Jacques Rolland, édition du cerf, Paris, 1993.
[16] Ricœur Paul , lectures 1, autour du politique, édition du Seuil, paris,1991.p246.
[17] Ricœur Paul , « Ethique et morale », in Revue de l’intuitu catholique de Paris, N3°4 ,Avril-juin,1990,p132.
[18] Ricœur Paul , Soi-même comme un autre, op.cit.p332 .
[19] Ricœur Paul , Soi-même comme un autre, op.cit. p337.
[20] Ricœur Paul , Soi-même comme un autre, op.cit. p342.
[21] Ricœur Paul , Soi-même comme un autre, op.cit. p202.
[22] Ricœur Paul , Soi-même comme un autre, op.cit. p255.
[23] Ricœur Paul , lectures 1, autour du politique, op.cit..p246.
[24] Ricœur Paul , lectures 2, la contrée des philosophes, édition du seuil, Paris, 1992.p204.
[25] Ricœur Paul , Soi-même comme un autre, op.cit. p300.


المصادر والمراجع:
Heidegger Martin, Etre et Temps, traduction J.Vesin, Edition Gallimard, Paris, 1986.
Heidegger Martin, Etre et Temps, traduit par E. Martineau, édition Hors commerce Authentica, 1985, une nouvelle traduction, 2019. 356pages.
Heidegger Martin, lettre sur l’humanisme, 1948, traduction française de R. Munier, édition Aubier, 1963.3° édition 1983.
Heidegger Martin, Kant et le problème de la métaphysique, traduit par A. Waelhens et W. Biemel, édition Gallimard, Paris, 1953.
Didier Moreau, Heidegger et la question de l’éthique : la construction d’un interdit, in Rencontres avec Heidegger, Volume 14, numéro 2, -print-emps, URI : id.erudit.org/iderudit/801261ar https://doi.org/10.7202/801261ar
Nancy J-L, la décision d’existence, Une pensée finie, édition Galilée, Paris, 1990.
Levinas Emmanuel, Totalité et infini, édition Martinus Nijhoff , 1971.
Levinas (Emmanuel), Totalité et infini, essai sur l’extériorité, le livre de poche, coll. « Biblio essais », Paris, 1990.
Levinas Emmanuel, Altérité et transcendance, édition Fata Morgana, livre de poche, biblio essais, Paris, 1995, p104.
Levinas Emmanuel, De dieu qui vient à l’idée, édition Vrin, Paris, 1982,
Levinas Emmanuel, l’éthique comme philosophie première, actes du colloque de Cerisy-la-salle, 23 aout -2 septembre 1986, Sous la -dir-ection Jean Greisch et Jacques Rolland, édition du cerf, Paris, 1993.
Ricœur Paul , lectures 1, autour du politique, édition du Seuil, paris,1991.
Ricœur Paul , lectures 2, la contrée des philosophes, édition du seuil, Paris, 1992.
Ricœur Paul , Soi-même comme un autre, édition du seuil, 1990, réédition collection Points, 2015 .
Dictionnaire d’éthique et de philosophie morale, Heidegger Martin, sous la -dir-ection de Monique Canto-sperber, 2° édition corrigée PUF, Paris, 1997. Revue de l’intuitu catholique de Paris, N3°4 ,Avril-juin,1990,
ليفيناس (عمونيال) ، الزمن والآخر، ترجمة منذر عياشي، دار نينوى، دمشق، سورية، 2015،

كاتب فلسفي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عودة جزئية للعمل بمستشفى الأمل في غزة بعد اقتحامه وإتلاف محت


.. دول أوروبية تدرس شراء أسلحة من أسواق خارجية لدعم أوكرانيا




.. البنتاغون: لن نتردد في الدفاع عن إسرائيل وسنعمل على حماية قو


.. شهداء بينهم أطفال بقصف إسرائيلي استهدف نازحين شرق مدينة رفح




.. عقوبة على العقوبات.. إجراءات بجعبة أوروبا تنتظر إيران بعد ال