الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأملات في السياسة البريطانية عشية الخروج (4/3)

منذر علي

2020 / 4 / 5
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


قدمنا عرضاً في الحلقة السابقة عن الصعوبات الماثلة أمام الحكومة البريطانية اليمينية الجديدة، وعن البدائل التي من المرجح أنْ تتخذها الحكومة لتجاوز تلك المعضلات. وبالتالي فأنَّ السؤال المنطقي المنبثق عن هذا العرض هو: إلى أي مدى يمكن لتلك الصعوبات أنْ تعيق توجه الحكومة الجديدة، وإلى أي مدى يمكن لتلك للبدائل أنْ تكون ناجعة وتشكل الأساس لتجاوز تلك المعضلات. ثمة شقين للمسألة:

الشق الأول، يتصل بالأوضاع الداخلية في بريطانيا ذاتها، وهي اليوم مؤثثة للقوى اليمينية التي تحظى بالأغلبية في البرلمان. و بالتالي، يمكنها بالاستناد على ذلك أنْ تُمرر الكثير من السياسيات المتصلة بالأوضاع الداخلية السياسية والاقتصادية والضريبة والاجتماعية والهجرة الداخلية والخارجية، وبما يعزز من هيمنة الطبقة الرأسمالية ونظامها السياسي. غير أنَّ مثل هذه الحالة السياسية القائمة التي نتجت ، بالأساس، عن النجاح الساحق لحزب المحافظين على حزب العمال وقوى اليسار البريطاني والقوى الليبرالية في 12 ديسمبر من العام المنصرم ، ليس من المرجح أنْ تستمر لفترة طويلة دون معارضة قوية من القوى السياسية والاجتماعية والنقابية، العمالية والطلابية، ذات المطالب الحقوقية المشروعة و المناهضة لليمين المتطرف.

وعلى الرغم من أنَّ الحكومة البريطانية قامت بتقديم بعض المساعدات العاجلة للقطاع الصحي ، عقب تولي بوريس جونسون ، إلاَّ أنَّ تلك المساعدات ، كما يرى بعض المراقبين، كانت نوعاً من الطُعم ، واعترافاً بالذنب ، Mea culpa، من الحكومة الحالية جراء سياستها التقشفية السابقة ، ومحاولة ماكرة لتسهيل الجرعات السياسية والاقتصادية القادمة والمؤلمة. لذلك نراها شرعت منذ اليوم الأول بتطبيق سياستها اليمينية القاسية ، مثل لتوجه لتمويل الأنفاق العام من خلال زيادة الضرائب على الطبقة الوسطى ، ورفع أسعار الرحلات بالسكك الحديدية، بنسبة 2.7% ، و التوجه لرفع ضريبة المجالس البلدية بنسبة 4% ، و إلغاء تراخيص التلفاز المجاني لمن هم فوق 75 عاماً ،وهؤلاء يُقدر عددهم بحوالي سبعة ملايين نسمة من مجموع سكان المملكة المتحدة الذين يصل عددهم وفقاً لآخر التقديرات إلى حوالي 66.4 مليون نسمة. كما سيتم تثبيت التقاعد عند سن 66 عاماً بدلاً من 65 عاماً ، كما كان قائماً إلى وقت قريب، ولكنه سيكون قابلاً للزيادة إلى 68 عاماً في المستقبل غير البعيد. وعلى صعيد آخر ، ستقفل أبواب بريطانيا ، بشكل خاص، في وجه العمالة غير الماهرة ، Unskilled labour،وغير المتحدثين باللغة الانجليزية، Non-English speakers.
وفي هذا الإطار أيضاً هناك الترحيل الجماعي العنصري الوحشي التي تكشفت للناس أولى بوادره بمحاولة ترحيل مجموعة من المنحدرين من منطقة البحر الكاريبي منذ اليوم الأول لتبوء بوريس جونسون رئاسة الوزراء وغير ذلك من السياسيات اليمينية الخانقة ضد الطبقة العاملة والفئات المهمشة والأقليات العرقية. ولا بد أن تكون هناك ردود أفعال اجتماعية وسياسية واسعة إزاء هذه السياسات اليمينية المُدمرة. غير أنَّ الإحساس بوجع تلك السياسيات الضارة، ومن ثم الرد الشعبي عليها، سيحتاج إلى بعض الوقت لكي يظهر ويتجلى بشكل سياسي ملموس.

من جانب آخر، لقد بدأت تظهر بعض المؤشرات على الصعوبات التي من شأنها أن تواجه الحكومة البريطانية ، منها دعوة الحزب الوطني الاسكتلندي لأجراء استفتاء بشأن انفصال اسكتلندا عن المملكة المتحدة ، وصعود قوى اليسار مثل ، شين فين، Sinn Féin ، الجناح السياسي للجيش الجمهوري الأيرلندي ، وعدد من الأحزاب اليسارية الصغيرة الأخرى، في الانتخابات البرلمانية في شمال أيرلندا في 8 فبراير الجاري . وهذه الأحزاب تسعى بقوة للوحدة مع جمهورية أيرلندا، المنضوية في الاتحاد الأوربي.

وربما تتحرك الأوضاع في بريطانيا باتجاهات مختلفة في نهاية العام الحالي ، وهي الفترة التي تصادف نهاية المرحلة الانتقالية للخروج من الاتحاد الأوربي ، و مدى نجاح أو فشل بوريس جونسون في عمل صفقة جديدة ، New Deal ، مربحة مع الاتحاد الأوربي. وكذا عقب نتائج الانتخابات الأمريكية في الخريف المُقبل ، وما إذا كانت ستسفر عن انتخاب شخصية ديمقراطية ذات توجهات ليبرالية أو يسارية مثل بيرني ساندرز ،Bernie Sanders، أم ستبقيَ على دونالد تراب، Donald Trump ، بتوجهاته السياسية العنصرية المُرعبة.

الشق الثاني ، و هو يتصل بالأوضاع الخارجية، و لكن هذا الجانب له أبعاد متعددة، فهو يتشابك، بشكل معقد، مع أوربا ، ومع الدول لأنجلو-سكسونية ، ومع العالم الثالث، بما في ذلك العالم العربي، ويمكن عرض هذه الأبعاد المتشابكة على النحو التالي:

1. البعد الأول ، سيكون على الحكومة البريطانية أنْ تدفع " فاتورة الطلاق" ، Brexit divorce bill ، من الاتحاد الأوربي ، مبلغاً وقدره 33 مليار جنيه إسترليني. وهذا المبلغ قد يزيد قليلاً أو ينقص قليلاً ، ولكن لا مرد له. ومن جانب آخر سيكون على الحكومة أنْ تصل قبل نهاية نوفمبر 2020 ، إلى نوع من الاتفاقيات التجارية ، Trade agreement ، التي من شأنها أن تتيح لبريطانيا مواصلة تجارتها بشكل مريح مع الاتحاد الأوربي، وأعني دون أن يترتب على الخروج منه أضرار فادحة. ، وهذا أمر قابل للنجاح كما هو قابل للفشل. فالأمر مرهون، أولاً وأخيراً، بطبيعة الحوار بين الطرفين المتحاورينK و نوعية العلاقات المُستقبلية المأمولة لكل منهما ، وقدرة كل طرف على فرض شروطه.

2. البعد الثاني ، سيكون على بريطانيا أنْ تقيم علاقات اقتصادية متينة مع الدول الغربية الصناعية الأخرى ، وخاصة تلك تتقاسم معها اعتبارات عرقية وثقافية ولغوية ، مثل الولايات المتحدة وكندة وأستراليا و نيوزيلندا ، بغية تعويض ما يمكن أنْ ينتج عن خروجها من الإتحاد الأوربي. وقد تنجح بريطانيا جزئياً فقط على هذا المستوى لأنَّ هذه الدول، البعيدة جغرافياً عن بريطانيا ، والمتباعدة عن بعضها البعض ، والموزعة في قارات مختلفة ، ستتحرك في ظل مناخ الاقتصاد المعولم ، Globalized economy ، وفقاً لمصالحها الاقتصادية والسياسية المتشابكة مع كل دول العالم الصناعي وغير الصناعي، و لن تقترب من بريطانيا لمجرد أن ثمة ارتباطات تاريخية و اعتبارات عرقية أو ثقافية ، كما يتوهم بوريس جونسون ودونالد ترامب ، وقوى اليمين في بريطانيا وفي تلك البلدان. وبالتالي قد لا تتمكن بريطانيا، عبر علاقاتها مع تلك البلدان، من تعويض كل الإضرار التي يمكن أنْ تنجم عن خروجها من الاتحاد الأوربي الملاصق لها جغرافياً.

3. البعد الثالث ، سيكون على الحكومة البريطانية أنْ تقيم علاقات اقتصادية متينة مع مُستعمراتها السابقة ، في آسيا وأفريقيا ، وهنا قد تنجح بريطانيا أيضاً جزئياً ، وخاصة مع دول الخليج العربية ، ومع بعض الدول الفقيرة، المضحوك عليها في تَيْنِكَ القارتين البائستين . وأقول جزئياً لأنَّ الكثير من الدول الكبرى في تينك القارتين لم تعد محسوبة على دول الدول العالم الثالث التي دُمرت خلال الحرب العالمية الثانية كاليابان بين 1939- 1945 ، أو كوريا الجنوبية بين 1950-1953 ، أو تلك الدول التي نالت الاستقلال عن بريطانيا أو البرتغال أو أسبانيا أو غيرها ، عقب الحرب العالمية الثانية أو قبل ذلك . فالهند وإيران وتركيا وجنوب أفريقيا والصين والبرازيل والأرجنتين وتشلي غدت دولاً ناهضة ، وأقامت علاقات اقتصادية مع كثير من دول العالم، وهي تسعى اليوم لتحقيق علاقات متكافئة، ليست قائمة على الدونية ،inferiority، مع جميع دول العالم ، بما في ذلك بريطانيا.

إذن ، ليست هناك ضمانات يقينية أن تتوفر لبريطانيا بدائل سهلة، تعوضها عن الخروج من الاتحاد الأوروبي، خاصة في ظل التنافس الاقتصادي الدولي الشديد ، وبروز قوى اقتصادية وعسكرية وسياسية صاعدة على المسرح الدولي ، مثل اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية واستراليا وكندا وروسيا والصين والهند والبرازيل ، التي تسعى هي الأخرى بحماس منقطع النظير للهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية على النطاق الدولي.
وللحديث بقية....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تحشد قواتها .. ومخاوف من اجتياح رفح |#غرفة_الأخبار


.. تساؤلات حول ما سيحمله الدور التركي كوسيط مستجد في مفاوضات وق




.. بعد تصعيد حزب الله غير المسبوق عبر الحدود.. هل يعمد الحزب لش


.. وزير المالية الإسرائيلي: أتمنى العمل على تعزيز المستوطنات في




.. سائح هولندي يرصد فرس نهر يتجول بأريحية في أحد شوارع جنوب أفر