الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن العلمانية والدين والسياسة

مصدق الحبيب

2006 / 7 / 1
ملف - 1 تموز 2006 - العلاقة المتبادلة بين العلمانية والدولة والدين والمجتمع


العَـلمانية (بفتح العين) ( secularity) ليست مبدأ سياسيا، انما هي موقف فلسفي اولا، ومنهج عملي لاستيعاب وتفهم شؤون الناس في حيواتهم اليومية، ثانيا. والمفهوم يعني حالة تحليل وتفسير اوضاع المجتمع بمعزل عن التأويلات الروحية، وبمنأى عن الطروحات الدوغمائية ، او الافكار المستندة الى التشريعات الدينية والوصايا الفقهية. أي انه يشير الى المنهج الدنيوي غير اللاهوتي او الكهنوي او السماوي او المقدس في التفكير وتحديد معاني الاشياء وتقدير قيمتها وترتيب اولوياتها. وينطلق من قاعدة انسانية،لاإلهية؛ و دنيوية،لاأخروية ؛ ومادية، لاروحية! في مسعى للقيام بالواجبات والمهام المدنية، ليس بالمعنى الحضري المتعلق بحياة المدينة، بل بما يخص المواطنة وفحواها الحقيقي وثيق الصلة بشؤون المواطنين . وهكذا فإن الجوهر الحقيقي للعلمانية يقضي بضرورة ان تكون كل سلوكيات الانسان واتجاهاته مستندة على ترسيخ الاعتبارات المستقاة من الحياة الدنيا، والغاء كافة الاعتبارات التي تعوّل على الحياة الاخرة. واذا شاء لموقف العلمانية ان يتركز ويتعمق ويشيع ضمن جماعة معينة او حزب سياسي فانه سيتحول الى معتقد او مذهب (secularism ). اما اذا قامت السلطة السياسية الحاكمة بتبني هذا المذهب وتطبيقه رسميا ودستوريا كمنهج لادارة شؤون الدولة وامور مواطنيها فسيكون لدينا نظاما علمانيا ( secular system ). على ان اهم مايميز سياسة النظام العلماني هو تطبيق مبدا " فصل الدين عن الدولة" الذي يعتبر العمود الفقري الذي يستقيم به المنهج العلماني.

وكان مفهوم العلمانية قد ورد لاول مرة في كتاب "العلمانية الانكليزية" لمؤلفه جورج جيكب هوليوك المنشور عام 1846، والذي صرح فيه هوليوك بأن العلمانية عبارة عن موقف ومبدأ للواجب الانساني يرتكز على اعمدة ثلاثة هي:
1) ان الوسائل المادية ، بالدرجة الاساس، هي التي تضمن تحسين حياة الانسان وتطوير نوعيتها ، ولايكفي الاعتماد على الاعتقادات الروحية وحدها في انتشال الانسان من براثن بؤس الحياة وفاقتها وقسوتها وويلاتها.
2) ان العلوم وتطورها هي السبيل الاول الكفوء لانقاذ الانسان واعانته في كفاحه الدائم في الحياة ومؤازرته في مسيرته نحو الافضل، وهي بهذا تشكل البديل الاكثر منطقية وعقلانية من الاعتماد على "العناية الالهية".
3) ان عمل الخير يجب ان يكون واجبا انسانيا يمليه الضمير وتفرزه القناعة، ولا يفترض فيه ان يكون ناجما عن الخوف من عقاب الله او لغرض زيادة رصيد الحسنات للفوز بالجنة.

فالعلمانية، اذن، تسعى الى ان تكون جميع القرارات المتعلقة بإدارة شؤون الحياة معتمدة على الاسس الموضوعية والتسبيبات المنطقية والاعتبارات الاخلاقية، وعلى ان لاتكون مستندة على الاعتبارات الدينية والتفسيرات الغيبية. لذا فهي بهذا تدعو الى فصل الشؤون الدينية عن شؤون الادارة والحكم والتشريع والقضاء. ولايعني ذلك على الاطلاق انها ترفض الدين اوتتنكرله او تقلل من قيمته واهميته، الامر الذي يميزها بوضوح عن الالحاد والزندقة والتجديف. كما ان مناقشة شؤون الخلق والكون والوجود لاتقع في نطاق منهجها، مما يجعلها مختلفة عن "البانثية"، بإعتبارها مذهب وحدة الوجود الذي لايفرق بين الله والطبيعة، كما يجعلها مختلفة ايضا عن معتقد "الاكنوستية" او مايسمى بمذهب اللاادرية الذي يعلن بموجبه اللاادريون بانهم لايستطيعون ان يثبتوا او يلغوا وجود الله او يفسروا اصل الوجود وتطور الكون. كان هوليوك قد اكد بشكل خاص على ان ليس من شأن العلمانية ان تهتم بمناقشة وجود الله وشرعية الاديان، ولامن شأنها ان تتدخل في امور الايمان والعبادة، وهي بالتأكيد لا تناصب العداء للمؤمنين او تشن الحرب عليهم، ولاتدعو مطلقا للنكاية بالمقدسات، بل انها على العكس من ذلك تطالب بتطبيق حرية الاديان والمذاهب والمعتقدات بشكلها الامثل، وتريد للمؤسسات الدينية ودور العبادة ان تكون المعاقل السامية التي تضطلع بمهامها الروحية النبيلة. وقد كان هذا الموقف مؤشرا لمفترق الطرق الذي ادى الى انشقاق حركة العلمانية على نفسها، حيث تزعم تشارلز برادلو الجناح الذي يدعو الى محاربة الاتجاهات الدينية وينكر عليها اهميتها. وكان برادلو قد صرح امام الجمهور في سجال عام جرى بينه وبين هوليوك عام 1870 قائلا: "اني اعترف بإنه ليس كل العلمانيين ملحدين، ولكن من وجهة نظري الشخصية ارى إن النتيجة المنطقية لقبول العلمانية تحتم على المرء ان يكون ملحدا اولا".

من الحقائق المعروفة عبرالتجارب العالمية الكثيرة هي ان هناك العديد من رجال السياسة والقادة والتكنوقراط المتخصصين في ادارة الدولة وتشريع القوانين، والمعروفين بكونهم رجال مؤمنون وملتزمون بأديانهم لكنهم لايخلطون بين واجباتهم الدينية والمدنية. وبالمقابل فإن ثمة العديد من رجال الدين والمتدينين الحقيقيين المنصفين الذين يؤمنون بصحة منهج العلمانية ويدعون الى تطبيقه، لادراكهم بانه المنهج الذي يكفل احترام الدين ويصونه من الابتذال عن طريق ابقائه على صورته النقية المقدسة التي تعنى بعلاقة الخالق بالمخلوق، بعيدا عن رخص ونفاق السياسة وابتذال اساليبها. وتشير العديد من التجارب ايضا بان الذين يرفضون العلمانية بشدة ويعملون على تشويه وجهها والذين يشنون الحروب الشعواء على كل ماله علاقة بها هم الجهلة والمتعصبون والمتطرفون وادعياء الدين والمتلبسون بحلته زورا. على ان العلمانية غالبا ماتكون نتيجة طبيعية للتطور الحضاري والاجتماعي وارتقاء الثقافة العامة الى مستويات عليا تمكن الاغلبية من تقدير الاختلافات بين الناس وشيوع روح التسامح والتعاون والمسؤولية المشتركة والضمير الحي. وعلى العكس من ذلك فهي نادرا ماتكون نتيجة لفرض سياسة معينة او تطبيق دستور جديد. والتجارب العالمية العديدة تشير الى حقيقة نجاح وازدهار المنهج العلماني كلما كان منبثقا من الارادة الجمعية للشعوب، كما انها تصبح منبرا للصراع وسببا في الانشقاق والتطاحن اذا ما أصرت القوى الحاكمة على زجها عنوة كمنهج لبرامجها السياسية.

هناك العديد من القضايا اليومية التي يمكن التعامل معها، بصفتيها الادارية والعملية، اما من وجهة النظر الدينية اوالعلمانية، والتي قد تتحول مسألة مناقشتها الى صراع حام بين المهتمين بها، خاصة اذا كانت من ضمن القضايا الحساسة التي تستلزم وضع قانون معين او رسم سياسة محددة لتنظيمها وبرمجة عملها. ولنأخذ على سبيل المثال قضية تدريس مادة الدين لطلاب المدارس. فمن المعروف بان الغالبية العظمى من الناس المؤمنين بأديانهم في اي مكان في الارض يرغبون في ان تقوم مدارس اطفالهم بتدريس اصول تلك الاديان كدرس نظامي مثل بقية الدروس، واذا اخذنا بلدا متعدد الاديان كالولايات المتحدة مثلا التي تضم بين مواطنيها المسلم والمسيحي واليهودي والصابئي والهندوسي والسيخي والبوذي وممن ينتمي الى عشرات الاديان الاخرى، كما انها تضم الملحدين الذين لادين لهم وكذلك غير الآبهين بالدين. فهل يمكن من الناحية العملية ان تقر وزارة التربية تدريس كل هذه الاديان نزولا عند رغبة المواطنين؟ وهل يمكن من الناحية السياسية ومن وجهة نظر الحقوق المدنية ان تفرض الوزارة تدريس المادة لدين واحد ضاربة عرض الحائط اديان المواطنين الاخرى؟ هنا تأتي ضرورة تطبيق المنهج العلماني الذي يسمح بطرح الفكرة التالية: ان الغرض الاساسي للمدارس هو توفير التعليم في العلوم والاداب والفنون والفلسفة بشكل متساو ومتكافئ لجميع الطلاب، اما الدين الذي تختلف فيه انتماءات الطلاب فسيكون من الافضل تدريسه داخل البيت وفي دور العبادة والجمعيات والمؤسسات الاخرى على اختلاف انواعها وانتماءاتها. ويصبح هذا الاتجاه اكثر منطقية واوفر عدالة اذا كنا نتحدث عن المدارس العامة التي تمولها الدولة اما من الثروات الوطنية او من الضرائب وفي كلا الحالين فالتمويل سيأتي من جيوب الجميع، وبالتالي فليس من العدل ان تسخر تلك الانفاقات لاغراض خدمة فئة ما دون اخرى . وهذا مايتيح الفرصة ايضا للمتحمسين لتدريس الدين ان يسجلوا اطفالهم في المدارس الخاصة التي تؤسسها مللهم وطوائفهم . وبهذا الاجراء المنطقي والعملي تحل العدالة وينتهي الصراع ويشيع الاحترام فيما بين الناس ويتعالى التقدير المتبادل لاختلافاتهم، ويرتفع شأن اديانهم في عيونهم وفي عيون غيرهم ، وبذلك سيتسنى للمدارس ان تنصرف الى التركيز على مهامها الاساسية في توفير المناهج الرصينة واشاعة الاجواء الامينة التي تصون حقوق الجميع.
ولنا في العراق تأريخ طويل من النظم السياسية العلمانية التي تعود بداياتها الى نهاية السيطرة العثمانية، كما ان للشعب العراقي الميل الطبيعي العفوي للثقافة العلمانية والاستعداد الشعبي العام لرفض تسلط الدين، يساهم في ذلك طبيعة بلدنا المتميز بتعدد القوميات والاديان والمذاهب والاتجاهات السياسية التي عاشت مع بعضها عبر السنين في كنف المحبة والتآخي والاحترام. ولم تشهد الساحة العراقية من قبل الصراع والتطاحن والضغينة التي تشهدها اليوم، مما يجعلنا ان نمني النفس بأن الواقع المرير المؤلم الذي نشهده اليوم ماهو الا غيمة عابرة ستنجلي مع الايام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيقاد شعلة دورة الألعاب الأولمبية بباريس 2024 في أولمبيا الق


.. الدوري الإنكليزي: بـ-سوبر هاتريك-.. كول بالمر يقود تشيلسي لس




.. الصين: ما الحل لمواجهة شيخوخة المجتمع؟ • فرانس 24 / FRANCE 2


.. إسرائيل تدرس -الأهداف المحتملة- للرد على الهجمات الإيرانية




.. سلاح الجو الأردني ينفذ تحليقًا استطلاعياً في أجواء المملكة م