الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أزمة كورونا والعالم اليوم

ياسين الحاج صالح

2020 / 4 / 28
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


مقابلة في وكالة الأنباء الأسبانية، أسئلة خافيير مارتن

1/ بدایة، لقد استطاعت الأزمة الصحیة التي سببھا جائحة فیروس كورونا إیقاف العالم بأكمله، بما في ذلك الإحتجاجات التي شھدتھا كل من لبنان، الجزائر وتشیلي. كونكم أحد منظري الحراك الشعبي السوري لماذا فشلت ھذه الأزمة في إخماد الحروب المندلعة في الیمن، لیبیا أو سوریا؟
لأن القوى والسلطات التي تتحكم بهذه البلدان أخطر عليها من فيروس كورونا. بشار الأسد يرى نفسه ونظامه أهم من سورية، ومن سكانها ومدنها وتاريخها وثقافتها وعقائدها... ومقتل نصف مليون أو مليون من السوريين وتهجير فوق ست ملايين خارج البلد أقل أهمية من زوال حكم سلالته. ولو استطاع تطوير سلاح كوروني لاستخدمه ضد السوريين المتمردين عليه مثلما استخدم ضدهم الأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة، والتعذيب والتجويع. وبلغ حاميه السيد بوتين من رهافة الحس أن تبجح قبل أيام قليلة بأن الأسلحة الروسية أثبتت نجاعتها في سورية، وأن لدى روسيا عقوداً لبيع أسلحة بمبلغ 15 مليار دولار، وهناك خطط لعقود أخرى تصل إلى 55 مليار دولار. دور الإمارات العربية المتحدة في اليمن يناظر دور روسيا في سورية، وصحة اليمنيين وحلول سياسية أقرب للعدالة في بلدهم ليست من أولويات القلعة الصاعدة للرجعية في الشرق الأوسط. وهذا ينطبق على دعم سلطة الجنرال حفتر في ليبيا.
في التنازع الدرامي بين حق الناس في الاحتجاج في لبنان والجزائر وتشيلي وبين حقهم في الصحة، غلّب المحتجون حق الصحة، لهم ولغيرهم. ليس هذا هو منطق أمثال بوتين وتابعه بشار الأسد، وإم بي زد.

2/ كیف ترون الأعراض الإجتماعیة والإقتصادیة الناجمة عن ھذه الأزمة الصحیة؟
يختلف الأمر بحسب البلدان. لا يبدو أن المهجرين السوريين إلى مناطق في شمال غرب البلد يجدون الأمر أسوأ من قبل ولا أحسن. كما لا يبدو الحال مختلفاً جداً فيما يخص عموم اللاجئين في أوربا، وإن كان يبدو أن العنف الأسري في تصاعد في بيئات اللجوء في ألمانيا بحسب معلومات متاحة. في لبنان خففت أزمة كورونا الضغط عن حكم أوليغاركي فاسد يمدد عمره على حساب مدخرات عموم اللبنانيين. وفي مصر يتململ أصحاب المشاريع الصناعية من توقف معاملهم، وأرباحهم، ويريدون رفع الحجر. صحة العاملين ليست من أولوياتهم. عموماً تدفع الفئات الأضعف من فقراء ونساء ومهاجرين الثمن الأكبر للأوضاع السيئة، ومن يستفيدون من أوضاع الرخاء، من أصحاب الأموال والملكيات، يتضررون أقل الضرر في الأزمات. لكن اللافت في هذه الأزمة معاناة البلدان الغنية والقوية منها أكثر من البلدان الأضعف والأفقر، وسهولة استسلام الناس للهلع في أوربا بالمقارنة مع غيرها.
في أوربا ظهر فشل الأنظمة الصحية في كل مكان. هذا في سبيله لأن يتغير من الآن. لكن ليس من المؤكد أن يجري ذلك في نطاق مراجعة أوسع نطاقاً للسياسات الاقتصادية النيوليبرالية. أما في أميركا وهي بلد عالم ثالثي من حيث النظام الصحي فالكارثة في البيت الأبيض أكبر بكثير من كارثة الفيروس.
كوفيد 19 ليس سبب الأزمة، بل هو كشافها. ظهر العالم، والبلدان الأغنى والأقوى أكثر من غيرها، غير مؤهل للتعامل مع أزمة صحية ليست أخطر ما يواجه العالم. مشكلات البيئة والعنصرية أخطر بكثير. ومنابعها متصلة بالهياكل الاقتصادية السياسة العالمية للبلدان الأغنى والأقوى، وهي تظهر اليوم الأكثر محافظة وممانعة للتغير، ولو بثمن مزيد من المخاطر على البشرية والحياة.

3/ بصفتكم كاتب لیبیرالي دیموقراطي، ھل تعتقدون أن المنعرج التاریخي الذي یعیشه العالم حالیا یمثل نھایة نظام ما یسمى باللیبیرالیة الجدیدة، وھل في خضم ھذه الأزمة سنسجل تغیرات في النظام الرأسمالي بغیة التأقلم مع الوضع الراھن والإستمراریة؟
لست ليبرالياً خارج الميدان الاجتماعي-الحقوقي، ولا أزال أفضل وصف اليساري لنفسي، وإن من موقع انشقاقي...
لا أستطيع التنبؤ بما يحدث، وأميل إلى توقعات ليست إيجابية كثيراً من أزمة كوفيد 19. ما أعول عليه ويعطيني بعض الأمل ليس تعامل الدول مع الأزمة، بل ما يمكن أن يحدث من تغيرات في الأفكار والتنظيم والنشاط والمخيلة بفعل تفاعل ملايين ومليارات الناس مع الأزمة. العالم في أزمة فقدان للوجهة وانعدام البدائل، ضرب من سجن في حاضر مؤبد نعرفه جيداً في سورية خلال نصف قرن من الحكم الأسدي. والسجن يولد سجانين من أمثال ترمب وبروتين وجونسون وشي جين بنغ، والسيسي وإم بي إس وإم بي زد... في عالم معافى مكان هؤلاء السادة هو في أقفاص حديدية في المحاكم، وليس في قيادة بلدان يسكنها مليارات. من شأن ظهور حركات وأفكار جديدة أن يحدث انعطافاً سياسياً وأخلاقياً نحتاجه كعمل إنقاذي. وإلى جانب مراقبين ومحليين كثيرين أعتقد أنه إذا أمكن لأكثر من نصف العالم بأن يفرض على نفسه إجازة إجبارية لشهرين أو ثلاثة، فلا ينبغي أن يكون تغيير نمط تنظيم العمل والاقتصاد، والمعرفة، ممتنعاً. الأزمة أظهرت أن شرط اللابديل ليس قدرياً بقدر ما يفضل تصويره عبيد النمو، سواء بنموذج صيني أو رأسمالي غربي.

4/ لم تتمكن الأمم المتحدة ولا حتى منظمة الصحة العالمیة والإتحاد الأوروبي من تقدیم رد مشترك، بعض المؤلفین یرون أننا أمام تراجع النظام المتعدد الأطراف، ھل أنتم مع ھذا الرأي؟
أخشى بالأحرى أننا نتجه إلى عالم أقل، أو إلى تعازل وتجزؤ عالمي أكبر. ما نشهده اليوم هو ظهور gated polities، وحدات سياسية مع جدران حماية تفتح وتغلق، أو ما سمته وندي براون walled states. وقد يكون جدار ترمب مع المكسيك، وقبله ومعه جدار الفصل العنصري الإسرائيلي، أبرز رمزين لعالم كثير الجدران.
هذا ضرب من تعدد بلا عالم، ومن سيادة تقوم على الاستثناء، وربما تصنع الاستثاءات التي تضفي عليها الشرعية، وهو شيء نعرفه جيداً في سورية كذلك. ليس هذا المسار محتماً، لكن التعامل مع كورونا يسير وفق هذا النمط القومي السيادي الذي لا أراه مؤهلاً للاستمرار، وأخشى أنه قد يطول أمد التردد بينه وبين العودة إلى السير العادي للأمور، أو منطق البزنس أز يوزوال Business as usual، بفعل الافتقار إلى تصورات أوضح عن بدائل قابلة للحياة. الشلل المحتمل المترتب على ذلك هو أخطر ما في وضعنا الحالي. وسيظهر هذا الخطر أكثر كلما اقتربنا أكثر من نهاية أزمة كورونا ووجدنا أنفسنا في مواجهة الفراغ. ساعة الحقيقة قادمة، وقد لا يكون ثمة شيء بعدها غير الفراغ. الفراغ جيد فقط للسادة الذين يحكمون مجتمعات بلا وجهة.


5/ في الأزمات السابقة كانت الولایات المتحدة الأمریكیة وكذا الدول الأوروبیة السباقین إلى الإستجابة لمثل ھذه الأوضاع، الآن الدول العربیة وحتى الأوروبیة نفسھا لجأت لطلب ید المساعدة من جمھوریة الصین الشعبیة، ھل نواجھ بدایة لترتیب جیوستراتیجي جدید؟
أميل إلى الاعتقاد بأن كثيرين، في المجال العربي وفي الغرب، وفي الصين ذاتها، وكذلك في روسيا، يميلون إلى نموذج صيني لسيادة بلا سياسة، ولنمو اقتصادي بلا حقوق اجتماعية لأنه ليس لديهم نموذج آخر. لكن هذا يبدو لي خطراً. ثمة قدرية منتشرة، تنقلب من قدر نيوليبرالي أظهرت أزمة كورونا أن الخروج منه ممكن وواجب، إلى قدرية مماثلة، نموذج صيني لا يقترح على الصينيين ولا على العالم بدائل ضمنه أو عنه. شيء يشبه رأسمالية القرن التاسع عشر في بريطانية مثلما وصفها ماركس في الرأسمال. أشارك كثيرين التطلع إلى عالم بلا امتيازات للغرب، لكن ليس إلى عالم يعلي من شأن نمو رأسمالي على يد رب عمل وحيد هو الدولة.
وأخشى أن الديمقراطية التي جرى تفريغها من الروح الاجتماعية بفعل عقود من النيوليبرالية ومن "الحرب ضد الإرهاب" لا تجد من يدافع عنها جدياً في شروط الأزمة. في هذا الإعجاب بالصين شيء معاد للديمقراطية، في الغرب ذاته، وليس فقط في البلدان العربية وروسيا.

6/ للحد من تفشي ھذا الوباء أصبحت الحاجة للسیطرة علیھ أمرا ملحا وذلك من خلال اللجوء إلى تطبیق تكنولوجیات جدیدة تسمح بشكل أكبر بالسیطرة الإجتماعیة على المواطنین، ألا تعتقدون أن ھذا یشكل تھدیدا وانتھاكا للدیمقراطیة وحقوق الفرد؟
بلى. إذا اخذنا بالاعتبار أن نظم الضبط والرقابة في المطارات بعد 11 أيلول 2001 مستمرة بعد أن بدت استثنائية وقتها، فإن ما قد يستحدث من تكنولوجيات انضباطية بتأثير جائحة كورونا قد يدوم. يميل الناس إلى طاعة الحكومات في ظروف الخطر، والمجتمعات الخائفة والمنكفئة على نفسها أسهل حكماً. فلماذا لا تصطنع الحكومات المخاطر، وهي التي كانت على مر التاريخ أكبر الأخطار على الحرية الإنسانية حين لا تواجه بمقاومات يقظة؟ سورية هنا أيضاً مثال طيب. بلدنا المنكوب عاش تحت حالة استثناء منذ عام 1963، بذريعة الأمن الوطني ومقتضيات مواجهة العدو الإسرائيلي. في واقع الأمر وفرت حالة الطوارئ البيئة الأنسب لحرب الحكم البعثي، والأسدي بخاصة، ضد كل أشكال الانتظام الاجتماعي المستقل، ومنها حرب كلفت عشرات الألوف بين أواخر السعبينات وطوال عقد الثمانينات وبعض التسعينات. ولم تلغ حالة الطوارئ هذه إلا في عام 2012، لتستبدل بقوانين محاربة الإرهاب. المستمر هو الحرب والاستثاء، أما المخاطر فتبدل بحسب الحاجة، وحين تطوى صفحة الحرب ضد الإرهاب ربما تخترع ذريعة جديدة. المهم أن تستمر حرب الأوليغاركية الحاكمة ضد المحكومين. في أوضاع العالم اليوم تبدو سورية من المستقبل، وليس من الماضي.
وقد يصير الSocial distancing الحالي نموذجاً للعلاقات ضمن المجتمعات. فإذا كان المواطن يوجد في الفضاءات العامة أثر من البيت والحياة الخاصة، فإن ترسخ التباعد الاجتماعي سيكون ضربة للمواطنة والديمقراطية، لكنه سيسهل الحكم على من يجدون أنفسهم في أفضل العوالم حين يكون الخوف منتشراً.


7/ مجمل الحكومات اتجھت إلى استخدام جمیع مواردھا لمكافحة فیروس كوفید في بلدانھا وھو ما أدى إلى انخفاض كبیر في الموارد الإقتصادیة والبشریة المخصصة للمساعدات الدولیة، كیف یؤثر ذلك على أزمة اللاجئین التي فرض علیھا فیروس كورونا واقعا جدیدا؟
لم تكن تلك الموارد المواجهة للاجئين شيئاً مهماً من قبل. وأي زيادة في المخصصات كانت تمر عبر النظام ولا يصل منها شيء للمتضررين الحقيقيين. فكرة المساعدات في الأصل مصممة لمعالجة أعراض حروب الأوليغاركيات والحيلولة دون انهيار النظام الدولي، وليست بحال من أجل أن يتغلب المتضررون على أزمة عارضة ويقفون بعدها على أقدامهم ويناضلوا من أجل حقوقهم. في بيئات اللجوء في تركيا وأوربا ترتفع مشاعر معاداة الأجانب، وتنصب على اللاجئين بخاصة. لم تقع إلى اليوم حوادث سيئة بحدود ما أعلم، لكن المساحات المشتركة بين الوافدين والأصليين تضيقت بقدر يفوق وسطي التضيق العام للمشترك في تقديري. الأوضاع الأسوأ اليوم هي أوضاع المهجرين حديثاً من إدلب وشمال حماه إلى مناطق شمال حلب وإدلب، وكذلك من تقطعت بهم السبل في بعض الجزر اليونانية. اللاجئون عموما يقعون على أقصى طيف الانكشاف وانعدام الحقوق، والنسيان، بفعل انشغال الجميع اليوم بأوضاعهم الخاصة. والمشكلة أن هذا الموقع الأقصى مرشح للتوسع بانضمام عاطلين عن العمل ومفقرين ومرضى وكبار السن، فضلاً عن اللجوء البيئي الأبطأ إيقاعاً لكن الذي لا يتوقف دون مواجهة جذرية لأنماط النمو و"السيطرة على الطبيعة" الحالية. لا شيء من هذا الواقع جديد، كله سابق لأزمة كورونا. بالعكس، تبدو الأزمة الصحية العالمية حجباً بقبح ناشئ لواقع كان قبيجاً جداً من قبل.

8/ أخیرا، ما ھي النقاط الإیجابیة التي یمكن استخلاصھا من ھذه الأزمة الصحیة في الوضع الحالي؟
مثلما قلت من قبل، اللحظة الأخطر ليست حين يكون الوباء في ذروته بل حين يتراجع ويأتي وقت الاسترخاء لنكتشف أنه ليس لدينا ما نفعل غير العودة إلى ما كنا عليه، أو الاستجابة للنداء الصيني الذي تنشد له المدائح في كل مكان، أو المرواحة بينهما. ما يمكن أن يكون إيجابيا هو الربط الذي يقوم به كثيرون بين المشكلة الصحية ومشكلة البيئة، ورأيي أن هناك مشكلة ثالثة يجب ربطها بهما وهي مركب العنصرية والحرب ضد الإرهاب، وقد قادت إلى أمننة السياسة ونزع الصفة السياسية للاقتصاد، وهاتان حركتان متكاملتان في رأيي من حيث أن ما ما يجب أن يتبع السياسة، الأمن، يصير مسيطراً عليها، وما يجب أن يكون سياسياً، الاقتصاد، تنزع سياسيته. وبعد العمل على إدماج الشرائح الدنيا وقت كان الاقتصاد سياسياً، صار يجري العمل على إقصاء المهاجرين واللاجئين ووضعهم تحت المراقبة وقت صارت السياسة أمنية. وهو ما ترافق مع انتشار العنصرية وعودة التعذيب وإضعاف الديمقراطية في كل مكان، سواء بتوسع ممارسات المراقبة والضبط والاحتجاز التعسفي، أو بتآكل البعد الاجتماعي للديمقراطية.
من شأن الربط بين هذه المشكلات الكبرى الثلاث أن يؤسس لخيال سياسي مغاير وحركات اجتماعية وسياسية جديدة هي ما أرجو أن تبدأ بالظهور منذ الآن. حين يبدأ كورنا بالانسحاب يؤون الأوان لانطلاقة مغايرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هجوم إسرائيل -المحدود- داخل إيران.. هل يأتي مقابل سماح واشنط


.. الرد والرد المضاد.. كيف تلعب إيران وإسرائيل بأعصاب العالم؟ و




.. روايات متضاربة حول مصدر الضربة الإسرائيلية لإيران تتحول لماد


.. بودكاست تك كاست | تسريبات وشائعات المنتجات.. الشركات تجس الن




.. إسرائيل تستهدف إيران…فماذا يوجد في اصفهان؟ | #التاسعة