الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانتصار على الألم

حامد تركي هيكل

2020 / 5 / 28
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


اتصلت بصديق عزيز ليلة أمس بالهاتف فوجدته في وضع صعب جدا. فهو يعاني من انزلاق غضروفي في رقبته، وآلام في ظهره، ويبدو أنه قد علَّق آمالاً على الطبيب الذي ينتظر رؤيته قريبا ليطلعه على آخر الفحوصات.
ذكّرني هذا الوضع بقصة مررت بها في العام 1992. كنت وقتها في ذروة نشاطي العملي، وكنت مؤمناً بضرورة تقديم أفضل ما لديَّ من أجل خدمة مدينتي من خلال وظيفة عامة تعنى بالوضع العمراني للمدينة والبلدات الأخرى ضمن محافظة البصرة. في ذلك الوقت كنت لمّا يمض على تخرجي سنوات عشر، حيث قضيت السنوات الأربع الأولى منها جندياً في الجيش.
فجرَ يوم من الأيام، كنّا أنا وسائقي الرائع عمو زكي متجهين بسيارة البيك أب الصغيرة الى مدينة القرنة، وبينما أخذتني سِنةٌ من النوم قبالة قرى الشرش، وأذا بالسيارة ترتجُّ وتضطرب، فقد دخلت عجلتها الأمامية اليمنى حيث كنت أجلس بحفرةٍ عميقة في الطريق، حفرةٍ جديدة لم تكن موجودة أمسِ، ولم يستطع عمو زكي تفاديها بسبب الظلام. تسببت تلك الحادثة بتمزق غضاريف رقبتي. وبدأت الآلامُ تحيل حياتي الى جحيم لا يطاق.
قرر طبيب العظام الدكتور ثامر حمدان وقتها إجراء عملية جراحية لي، ونصحني بالتقاعد عن العمل، لأنني ما عدت قادراً على عمل شيء، وليس من الحكمة الإنهماك بالعمل المكتبي. ولكنني رفضت. رفضت إجراء العملية لخطورتها، ورفضت فكرة التقاعد لسذاجتها. وبدلا من ذلك جرّبت العلاج الطبيعي، والطب الرياضي، كان مدلك نادي الميناء الرياضي يأتي الى بيتي على دراجته الهوائية مرتين بالأسبوع، فيطرحني أرضاً، ويثب فوقي، ويدهن رقبتي وكتفي وظهري بالمراهم والدهون، ويعلّمني كيفية أداء حركات غريبة، ويجبرني على إتخاذ أوضاعٍ عجيبة. ولم يفلح ذلك.
وجرّبت العلاج بالأبر الصينية، كان ثمة عيادة في شارع السعدون ببغداد، يزرع الطبيب عنقي وكتفيَّ بعشرات الأبر الدقيقة، ويربطها بتيار كهربائي، فيسري التيار عبرها الى جسمي، تدغدغني، وتخدرني برهة.ولم تفلح ذلك.
وجربت حضور جلسات عند أحد المعالجين الخارقين. كان يأتي من بعقوبة، عيادته كانت في كلية التمريض في باب المعظم. فهو ليس مشعوذا، بل كان يعمل تحت جنح الحكومة، ويتقاضى أجوره بأيصالات رسمية! كان يدّعي أنه يطلق طاقة ما من يديه لتتجه نحو موضع الألم فتفتته. ومن أول جلسة، حين وضع كلتي كفّيه على كتفيَّ صرخ مستغربا، أووووف! الله يساعدك على هذا! كيف بإمكانك تحمل هذا الألم؟ حينها سألته: كيف عرفت مقدار الألم الذي أعاني؟ قال لي: عرفتُ ذلك من خلال مستوى الطاقة التي أمتصَّها ألمُك! ولم يفلح ذلك.
وأخذتني أحدى الموظفات لدي، وقد كانت بمثابة أبنتي الى علويةٍ كانت قد بنتْ بيتاً لها تجاوزا على أرض مخصصة بموجب التصميم الأساسي كحديقة! رفضت دخول ذلك البيت، متحججا بالوضع القانوني له، وبالدور الوظيفي لي! فأنا كنت مسئولا عن العمران، وعن حسن تطبيق استعمالات الأرض بموجب التصميم، وضمان عدم حصول تجاوز! فكيف لي أن أدخل بيتاً بُنيَّ تجاوزاً؟ وما الذي سيكون عليه موقفي أمام الناس إن هم عرفوا أنني أرتاد بيوتاً تجاوزت على القانون! إلا أن زميلتي الصغيرة المؤمنة تماما بقدرات العلوية تلك هوَّنت عليَّ الأمر، فدخلنا. قرأت العلويةُ عليَّ رقىً، وطلبت مني أن أضطجع بجوار السيد! رفضت طبعاً ذلك رفضاً قاطعاً فمن ذا الذي يضمن عواقب الأمور! ولكن زميلتي هوّنت عليَّ الأمر حين أخبرتني أن المقصود هو أن أضطجع جوار قبر السيد المدفون في الغرفة فحسب! فهدأ عني روعي ! واضطجعت برهةً بمحاذاة مرتفع في أرضية الغرفة مغطى بقطعة قماش خضراء! ونصحتني العلوية أيضا بتناول وذرة من طين مأخوذة من تربة ذلك القبر، أذيبها بكوب ماء، فأشربه كل صباح قبل الفطور! لم أقتنع طبعاً بشرب ماء الطين. ولم يفلح ذلك.
ولم تجد عشرات المساند البلاستكية التي كنت ألفّها على رقبتي، ولم تجد مئات الحقن التي زُرقت بجسمي، وآلاف الأقراص التي ابتلعتها.
وبعد ثلاث سنوات من العذاب وقع بيدي كتابٌ يتحدث عن العلاج بالإيحاء الذاتي. واستذكرت عندها ما كنت قرأته منذ سنين مما كتبه كولن ولسن بخصوص قدرات الأنسان الخارقة الخفيّة .
قررت وقتها أن أجرب تلك الطريقة. فلم يكن بيدي حيلة، لا سيّما أنني قد جرّبت كل طريقة وُصفت لي. وتذكرت قصةً قرأتُها منذ زمن كانت تحكي عن وباءٍ يعجز عن مواجهة رجل واحد بينما يطيح يوميا بالآلاف من الضحايا، ذلك لأن الرجل لا يخاف منه. فالخوف هو الباب الذي يدخل منه الطاعون ليفتك بضحاياه، فإن لم يكونوا خائفين، فلا سبيل له عليهم.
جلست مساء يوم أتحدث مع مرضي، أتحدث مع ألم رقبتي. قلت له: حسنٌ أنت إذن صديقي، سأعيش معك. أنت لي مثل أسمي، لن أفكر بالخلاص منك. أنت مني كشكلي، لن أفكر يوما بتغييره. أنت قدري. لن آخذ دواءً لتجنبك، لن أشكو منك، بل على العكس، سأصاب بالخيبة إن لم أجدك موجوداً صباح يوم ما. فأنت جزء مني، أنت أنا. كررت ذلك الحوار كل يوم، بل كل ساعة. بعد مدة من الوقت أختفى الألم، أو لأكن دقيقاً، فقد خفَّ إلى درجة لم يعد معها يعيقني عن عمل شيء.
فهمت وقتها أن الالم هو وجود. هو كائن موجود. وللألم وظيفة يمارسها، ويسعد إن هو أنجز مهمته. للمرض دور . ودور المرض والألم هو تحقير الأنسان، وتحطيم غروره، والسخرية من جبروته، وسلبه سعادته، وإذلاله. الألم مخلوق لعمل محدد، هو مكلف بوظيفة واضحة المعالم، هي أن يكسر الأنسان. أن يلعب مع الأنسان لعبة. و لا يريد الألم للانسان أن يستسلم فيموت من أول مواجهة، بل يشجّعه على البحث عن الخلاص، ويتلذذ بإحباطه مرةً أثرَ أخرى، تماما كما يفعل القطُّ مع الفأر قبل أن يلتهمه، وكما يفعل الفهدُ الضاري مع غزالٍ صغيرٍ قبل أن يمزقه. فيتعلق المريض بدواء ما، ثم بعد مدة يكتشف زيف ذلك التعلق، ليبدأ رحلة البحث عن دواء جديد عند طبيب آخر. يوماً بعد يوم يتسرب اليأسُ الى قلب المريض. وتزداد ثقة الألم بنفسه. وتستمر اللعبة حتى نهاية محتومة. نهاية هي سنة من سنن الحياة، حين يستسلم الضعيف للقوي، وتنتهي لعبة الصراع بمنتصر ومغلوب.
لذلك قررت أن أسلب من الألم نشوته، وأن أحرمه لذة انتصاره، وأن أسخر من دوره الذي خلق لأجله. قلبت الطاولة عليه، وغيرت قواعد اللعبة. فلم تعد ضرباته مفاجئة لي، ولم تعد طعناته سبباً لصراخي وتوسلي، ولم تعد هجماته تعني لي شيئا. هو صديقي، هو أنا، وجوده ضروريٌّ ليس لنهايتي، بل لإدامة وجودي. دورُه ليس إذلالي وتحقيري والانتقاص مني، بل لتعزيز ثقتي بوجودي. فإن كنت أتألم، فهذا يعني أنني لازلت أقوم بدوري بالحياة على أتمِّ وجه. رفعت شعاراً ،وآمنت بفكرةٍ، وكتبت يافطةً علقتُها على جدار غرفتي، حروفها تقول ( أنا أتألم إذن أنا موجود).
بعد مدة، افتقدت ألمي، فقد غادرني مذموما مدحورا. لم يعد لوجوده من معنى. فقد احترامه لنفسه. أربَكتْ فلسفتي القائمةُ على الترحيب به وتجاهله فلسفتَه القائمةَ على تعذيبي . لقد جاء مصمما على تحقيري، ولكنني أحتقرته! وجاء عازماً على إذلالي، وبدلا عن ذلك أذقته الذلَّ والهوان. فلم يحتمل رؤيتي كل يوم مبتسما منتصرا، وقد تعوَّد رؤية ضحاياه باكين مهزومين. فرحل.
بعد ذلك بسنوات، وجدت الشباب مأخوذين بكتاب روندا بايرن الذي صدر عام 2006، والذي يتحدث عن السرّ الأعظم. ذلك السرّ المبني على قانون الجذب، وفكرته الأساسية هي أنك تستطيع جذب الخير إليك من خلال الإيمان بتحققه، مثلما تجذب المصائب على رأسك إن أنت أيقنت بحتمية حدوثها. وقد أشارت الكاتبة الى أن عظماء العالم كانوا ببساطة يؤمنون بقانون الجذب، لذا حققوا ما حققوه، وأنجزوا ما أنجزوه، فقط لأنهم آمنوا أن بإمكانهم تحقيقه وإنجازه، فترتبت أوضاع الكون، وجاءت النتائج كما أرادوا.
عندها فكرت، لو أنني نشرت كتاباً عن تجربتي في هزيمة الألم لكنت بعت مليون نسخة منه قبل أن تفكر روندا بايرن بالسير على إثر خطاي!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قوات الاحتلال تقتحم بلدة شرقي نابلس وتحاصر أحياء في مدينة را


.. قيادي في حماس: الوساطة القطرية نجحت بالإفراج عن 115 أسير من




.. هل باتت الحرب المفتوحة بين إسرائيل وحزب الله أقرب من أي وقت


.. حزمة المساعدات الأميركية لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان..إشعال ل




.. طلاب جامعة كولومبيا الأمريكية المؤيدون لغزة يواصلون الاعتصام