الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوحدة اليمنية والحلم المجهض!

منذر علي

2020 / 6 / 1
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


لقد فشلت وحدة 22 مايو 1990 في اليمن ليس بسبب المساوئ الكامنة فيها، وليس بسبب التكوين الجيني، Genetic composition ، المتباين لأولئك الذين نهضوا بها ، أو بسبب الهويات اللغوية والدينية المتنافرة للشعب في شطري الوطن ، كما يروج بعض الحمقى والمرتهنين للقوى الرجعية ، وليس بسبب نقص، أو خلل في الاتفاقيات المنظمة للوحدة خلال المرحلة الانتقالية وما بعدها، ولكن الوحدة أجهضت بسبب التهور والجهل بالواقع القائم ، و بسبب التقاسم السياسي والوظيفي الذي تم على حساب الحق والكفاءة والولاء الوطني، و بسبب عقلية القائمين على الوحدة ، الميالين إلى الغدر والخديعة، الذين نظروا للوحدة كمشروع تجاري وليس كمشروع تاريخي ، وكان لابد أن يختلفوا على الأرباح ، و بسبب الواقع السياسي والاجتماعي المتخلف، الذي يمجد الهويات القبلية والطائفية والجهوية على حساب الهوية الوطنية الجامعة، و بسبب الانقسام السياسي والتاريخي الطويل، وبسبب الصراعات السياسية والقبلية السابقة في إطار كل نظام، وبين النظامين الشموليين السابقين ، تلك الصراعات التي صبغت المراحل السابقة ، ونقلت أرثها السياسي ،المضفور بالعنف والثارات الدموية، إلى المرحلة الجديدة . كما أجهضت الوحدة، بسبب الأوضاع المحلية والعربية والدولية التي أحاطت بقيامها، وبسبب القوى الخارجية المناهضة لوحدة الشعب اليمني ، التي كانت، ومازالت حتى اليوم ، تخشى قيام كيان سياسي يمني قوي ومستقل في هذا الموقع الإستراتيجي المهم من جنوب شبه الجزيرة العربية.
***
فعلى الصعيد الوطني لم تقم الوحدة في ظروف طبيعية ، وإنما قامت بعد سبع سنوات من حرب المناطق الوسطى بين السلطة في صنعاء والجبهة الوطنية الديمقراطية، المرتبطة سياسياً وأيدلوجياً بالسلطة في عدن ، وبعد أربع سنوات على أحداث 13 يناير الدامية سنة 1986 التي قصمت ظهر الدولة والحزب في الجنوب ، وفتحت الأبواب على مصراعيها لصراعات جديدة في الحزب، سواء في إطار الجناح المنتصر الذي تربع على السلطة في عدن عقب الأحداث ، أو مع الجناح المهزوم الذي أزيح من السلطة وتوجه إلى صنعاء ، وتحالف مع النخبة الحاكمة هناك ضد السلطة في الجنوب. وعلى الصعيد العربي ، نلاحظ أنَّ الوحدة قامت في 22 مايو 1990 ، في ظل توتر بين العراق ودول الخليج ، و قبل بضعة أشهر على غزو العراق للكويت في أغسطس 1990 ، وبروز توترات إقليمية بين اليمن وبين دول مجلس التعاون الخليجي. كما أنَّ الدول الإقليمية، وخاصة السعودية، عارضت الوحدة اليمنية، وسعت لتقويضها ، خشية أنْ تتعزز مكانة الدولة اليمنية الجديدة، ويتسع نفوذها ، وتتنامي قوتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية ، وتتبني موقفاً معادياً لها.
وعلى الصعيد الدولي فأنَّ الوحدة لم تقم في ظروف طبيعية ، لأنها جاءت بعد بضعة أشهر على العاصفة السياسية الكبرى التي هزت العالم ، عقب سقوط المعسكر الاشتراكي. وفي هذه الظروف السياسية المضطربة كان على الدولة في اليمن الديمقراطية، التي فقدت سنداً خارجياً قوياً، أنْ تعزز مكانتها السياسية عبر تحقيق الوحدة اليمنية التي كانت أحد أبرز أهداف الحزب الاشتراكي اليمني.
***
ولئن كانت دولة الوحدة قد قامت على أساس دستور شبه ديمقراطي ، إلاَّ أنّ تلك الوثيقة القانونية، تمت صياغتها من أجل واقع شديد التخلف، لم يسبق أنْ جُربت فيه الديمقراطية الحقيقية في كل تاريخه، باستثناء محاولات مثلومة ومضطربة و قصيرة في عدن ، خلال العهد الاستعماري ، فضلاً عن أنَّ النخبة السياسية التي اضطلعت بقيادة "الدولة الديمقراطية الموحدة" لم تكن ديمقراطية أصلاً ، ولم تكن مؤهلة نفسياً وعقلياً لأنْ تتحول إلى الديمقراطية .
الجدير بالإشارة هو أنَّ الوحدة عند قيامها استندت على بنية سياسية هشة ، وارتكزت على قاعدة اقتصادية ضعيفة ، و سبقتها وصاحبتها وأعقبتها أزمات مالية هائلة ، بسبب الديون الخارجية للدولتين، و توقف المساعدات الخارجية، جعلتها لا تقوى على تحمل عبء الوحدة ومتطلباتها الكثيرة ، وصد القوى الداخلية والخارجية المعادية لها ، بل أنَّ الأزمة الاقتصادية ما لبثت أن تفاقمت عقب طرد المغتربين اليمنيين ، في وقت لاحق، من السعودية والكويت.
كما أقيمت الدولة الجديدة على قاعدة اجتماعية قبلية ، حيث كان يبلغ سكان الأرياف في التركيبة السكانية لليمن حوالي 72% ، وتبلغ نسبة الحضر 28% ، وتبلغ نسبة الأمية في المجتمع حوالي 35% للرجال. وترتفع النسبة إلى حوالي 60% بين النساء. ومستوى التعليم العام ، الثانوي والجامعي ، على قلته، بالغ الرداءة ، وتغلب عليه التوجهات غير العلمية والمعادية للعقلانية بكل صورها. وقامت الدولة الجديدة وفق مساومات شخصية بين طرفي النخبتين السابقتين . لقد تم الاتفاق على تقاسم المناصب والمكاسب ، ولم تقم الدولة على أساس المواطنة المتساوية ، والإيمان بحق الإنسان ، شمالياً كان أم جنوبياً ، رجلاً كان أم امرأة ، مسلماً كان أم يهودياً، شافعياً كان أم زيدياً . إنَّ ما نص عليه الدستور من مبادئ نبيلة كانت، في الواقع، نصوصاً جامدة ، مهملة . ليس هناك وعي بأهميتها أو بتطبيقها. كان التقاسم هو الغالب ، بين النخب السياسية المتخلفة، المثقلة بصراعات الماضي، التي قُدِّر لها أنْ تضطلع بإدارة دولة الوحدة الجديدة ، والتي لم تكن في مستوى الحدث التاريخي العظيم والغايات الكبرى لتلك الوحدة.
***
و في ظل تلك الملابسات، الذاتية والموضوعية، كان لا بد أنْ يحدث ما حدث. إذْ بمجرد أنْ تأزمت الأوضاع الاقتصادية، و أختل التقاسم الوظيفي والمالي بين أطراف النخبة الموحدة ، وتدخلت القوى الإقليمية، بشكل تخريبي، وانبعثت الأحقاد المكبوتة ، أنفجر الصراع بين أطرافها، و تداخل المكر مع العنف، المستتر والمكشوف ، ونُحيت جانباً المبادئ والعهود والمواثيق والشرف والمروءة. ذلك أنَّ هذه القيم العظيمة لا تكفي وحدها ، و لا تعوض عن القانون والقوة السياسية والعسكرية والتنظيمية .
وهكذا بدأت الاغتيالات لأعضاء الحزب الاشتراكي ، و ليس غريباً أنها بدأت ، بدرجة أساسية ، باستهداف الشخصيات الأكثر أيماناً وتمسكاً بوحدة الوطن ، حيث شملت محاولات الاغتيال كل من عمر الجاوي و أنيس حسن يحيى ، وعلي صالح عباد مقبل ، وعبد الواسع سلام ، وياسين سعيد نعمان وآخرين . كما جرى اغتيال المهندس حسين الحريبي ، و تم تصفية ماجد مرشد ، واتسعت رقعة الاغتيالات لتشمل أكثر من مئة وخمسين عضواً من أعضاء الحزب الاشتراكي، الذين ينتمون إلى مختلف المحافظات اليمنية . وعجز الحزب عن حماية أعضائه، ناهيك عن حماية المنجز التاريخي العظيم ، وتمكن الطرف الأقوى والأكثر مكراً من كسر شوكة الطرف الأضعف. تماماً كما جرى في أحداث أغسطس 1968 في صنعاء، عقب فك حصار السبعين يوما عنها ، حينما أُزيح الجناح الجمهوري التقدمي من السلطة، لحساب التيار الجمهوري التقليدي الموالي للسعودية . وهي الانتكاسة التي لخصها، بعمق، حينئذ ، المناضل اليساري المرحوم يوسف الشحاري بقوله: قتلوها وأمعنوا في البكاء وأحالوا الربيع فصل شتاء!
وكما جرى عقب أحداث يناير 1986 في عدن ، حينما تم تصفية أهم الكوادر المجربة في الدولة والحزب ، و تم إزاحة جناحاً من السلطة، فألتحق ، بكامل قطاعاته العسكرية والمدنية ، بالنخبة الحاكمة في صنعاء.
***
ولئن كان قد تمكن الجناح المنتصر في عدن في يناير 1986، من الإمساك بالسلطة ، فأنه كان قد غدا ، بفعل الصراعات والأحداث الدامية التي عصفت به ، مجوفاً وضعيفاً ، وأقل تجربة وقدرة واستعداداً على التعاطي مع المعضلات المستقبلية العاصفة ، التي كانت لابد وأنْ تواجهه ، وخاصة بعد أنْ برزت، في إطار الجناح الحاكم في عدن ، مؤشرات قوية على تصدعات جديدة قبيل الوحدة، وكان أبرز طرفيها كل من المرحوم سعيد صالح، وعلي سالم البيض، وأتباعهما في قيادة الحزب والدولة .
وهكذا كانت النخبة السياسية التي توجهت من عدن إلى صنعاء عشية 22 مايو 1990، منهكة و منقسمة ، وكان من المتوقع أن تواجه ليس فقط النخبة العسكرية والقبلية الحاكمة في صنعاء، ولكنها ، وهي المفككة والكسيحة ، كانت لابد وأنْ تواجه جناحها الآخر المنهزم في 1986، الذي أصبح متحالفاُ مع نخبة صنعاء الدموية.
فبعد تصفية القيادة التاريخية للحزب، وبالذات عبد الفتاح إسماعيل وعلي أحمد ناصر عنتر ، وصالح مصلح قاسم ، وعلي شائع هادي ، وحسين قماطة ، والدكتور ثابت عبد حسين ،وآلاف الكوادر السياسية والعسكرية ، غدا الفكر اليساري في إطار الحزب المنهك مجرد قشرة حمراء رقيقة تغطي على كومة من القبائل ، المعوقين فكرياً ، الذين لا صلة بقيم الحزب الوطنية و التقدمية . وكانت جل النخبة القادمة من عدن إلى صنعاء ، تجهل البيئة الشمالية، وكانت معلوماتها عن موسكو وصوفيا وأديس أبابا تفوق كثيراً معلوماتها عن صنعاء وذمار وعمران وحجة وصعدة . كما كانت جل نخبة صنعاء تجهل البيئة الجنوبية، وكانت معلوماتها عن عدن ولحج وحضرموت ويافع والضالع والمهرة أقل بكثير من معلومتها عن الرياض وجدة!
وهكذا فأنَّ نخبة دولة الوحدة الجديدة، المركبة بشكل اعتباطي، و المشحونة بالجهل والحماقة ،وضيق الأفق ، والتطلعات غير المشروعة إلى الإثراء السريع ، والمسكونة بالأحقاد والثارات والمصالح الفئوية الضيقة ، و المغومة بالصراعات السياسية والقبلية، تدثرت برداء الوحدة الجميل ، فأجهضت الحلم الوطني العظيم.
***
إنَّ حرب 1994 ، لم تكن صراعاً بين شمال اليمن وجنوبه ، وإنما كانت، كالحروب السابقة ، عبارة عن صراعات دموية بين الأطراف المختلفة والمتخلفة من النخب الشمالية والجنوبية التي استنفر قطات صغيرة من السكان للسير وراء توجهاتها العمياء ، وتداخلت فيها المصالح الشخصية و الفئوية ، المضفورة بإرث طويل من صراعات الماضي الإقطاعي والاستعماري ، ولكن المتصارعين ، وبأسلوب ماكر، أضفوا على حرب 1994 بعداً جهوياً خادعاً ، بغرض الأستقواء بالجغرافيا والتاريخ في صراعهم على السلطة ومكاسبها.
إنَّ ما ينبغي أنَّ ندركه في هذه المناسبة التاريخية، المشوبة بالحزن أنَّ الوحدة كانت حدثاً تاريخياً عظيماً، وكانت وستظل ملكاً للشعب اليمني ، وليست للنخب السياسية المتخلفة .
و اليوم وبعد ثلاثين عاماً من ذلك الحدث الثوري العظيم في 22 مايو 1990 ، و بعد 26 عاماً على الانكسار الموجع في 27 أبريل 1994، لا ينبغي المساومة على الوحدة من أجل مصالح هذا الطرف أو ذاك من أطراف النخبة الفاسدة ، فما حدث لم يكن ولكن يكون نهاية التاريخ.
إنَّ الوطن اليوم يمر بظروف غاية في التعقيد ، فالشعب واقع تحت العدوان والاحتلال الخارجي والقهر الداخلي، يعصف به الجوع والمرض القاتل، والقوى السياسية المحلية أما أنها مرتهنة للخارج ، وتسعى لتنفيذ أجندات الدول الإقليمية، أو أنها مشتتة، ومنكفئة على نفسها وعاجزة ليس فقط عن توحيد اليمن ، أو توحيد الجنوب أو توحيد الشمال ، بل عاجزة حتى عن توحيد قبيلة صغيرة على أسس نبيلة.
***
على أنَّ تجاوز المأزق القائم الذي يعصف بالوطن والشعب لا يكمن في الانفعالات الصبيانية ، وإنما في توجيه كل الطاقات الوطنية من أجل وقف الحرب ، وانسحاب القوات الأجنبية من بلادنا، والتحرر من الوصايا الخارجية ، ومواجهة الجائحة ، وخلق ظروف سياسية مواتية ، تتيح للشعب ، بدون وصاية داخلية أو خارجية عليه ، أنْ يختار من يمثله ويحقق ما يرتضيه لنفسه في المستقبل.
إنَّ الدعوات االشائنة باسم الوحدة أو الموت ، و باسم الانفصال أو الموت، المشحونة بالأحقاد والجهالة لا تصنع وطناً ولا تحقق تقدماً ، وإنما هي وصفات قديمة لحروب جديدة . ذلك أنَّ التقدم لا يتحقق بمجرد الوحدة، أو بالانفصال، وإنما يتحقق بإقامة العدل والحرية والمواطنة المتساوية. ونحن اليوم إذا حيَّدنا جانباً النخب الفاسدة، المعطوبة بالجهل ، التي لا تمثل أكثر من 1% من الشعب ، ولكنها ، بفعل إرتهانها للخارج ، مهيمنة على الشعب ومتربحة من بيع دمه ، ومتاجرة بالوطن ، ومتلاعبة بمشاعر الجماهير المنكوبة ، فأنَّ وحدة الوطن ، كقيمة عظيمة ، وكرافعة للتقدم في عالم التكتلات الكبرى ، مازالت حيَّة في وجدان شعبنا اليمني، ولكن لكي تخرج إلى الحياة ، و تقف على قدميها بثبات ، ينبغي على النخب الديمقراطية الوطنية التقدمية أن تضطلع بمسؤوليتها ، وتعمل في إطار كتلة وطنية تاريخية عريضة ، متحررة من العطب الطائفي والقبلي والجهوي ، و تمارس السياسية والفعل الثوري الديمقراطي على قاعدة العقل و العدل والحرية والمواطنة المتساوية.
المجد لليمن الديمقراطي الموحد، الذي مازال آملاً بعيداً نسعى إليه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبة على العقوبات.. إجراءات بجعبة أوروبا تنتظر إيران بعد ال


.. أوروبا تسعى لشراء أسلحة لأوكرانيا من خارج القارة.. فهل استنز




.. عقوبات أوروبية مرتقبة على إيران.. وتساؤلات حول جدواها وتأثير


.. خوفا من تهديدات إيران.. أميركا تلجأ لـ-النسور- لاستخدامها في




.. عملية مركبة.. 18 جريحًا إسرائيليًا بهجوم لـ-حزب الله- في عرب