الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رسائل جندي منسية (القسم الثاني)

باسل محمد عبد الكريم

2020 / 6 / 28
سيرة ذاتية


رسائل جندي منسية... (القسم الثاني)

(17)

إنها أولى غيوم الشتاء، وصمت تحول الطقس يخيم على الوديان الجرداء، الجميع اعصابهم متوترة، وكل له أسبابه، حيث نتوقع هجوم إيراني عند الليل، حصلت بعض المشادات الكلامية بين افراد مجموعتنا، وتلك عادة سقيمة لا يتخلون عنها في اسوء الظروف.
ليس هناك غروب هذا المساء بسبب كثافة الغيوم، أبلغونا بضرورة الاقتصاد في الاكل والماء مخافة الحصار الإيراني المتوقع، خط الجبهة ساكن، سكون حاد كشفرة سكين، ثم قصف مدفعي ثقيل ومتقطع، انتهى يوم أمس بسلام إلا أن ثعباناً أسوداً كاد ينفث الموت في صدر أحد الجنود لولا يقظتنا في الوقت المناسب.
مساءً، أكلنا السمك المسكوف، حيث جلب لنا المطبخ العسكري سمكةً متوسطة الحجم من النوع البحري، فقمنا بإعداد الحطب وتهيئة النار ثم شوينا لحماً أحمر معها، فكانت النتيجة أننا لم نشبع جميعاً ولم يشوى اللحم الأحمر جيداً، لأننا كنا سبعة جنود والسمكة صغيرة، وإننا وضعنا اللحم الأحمر جميعه في شيش واحد! المهم كانت امسيةً تخلصنا فيها من الطماطه!
صباح اليوم التالي، قمت بإعداد الفطور، فعجنت العجين لأصنع منه خبزاً بالدهن، والنتيجة كانت فضيحة، فالعجين لم يصبح عجيناً مهيئاً وأخذ بالتسرب بين أصابعي ولم يركد لأصنع منه فطيرة، وبين حين وحين كنت أضيف شيئاً من الطحين لأجعله أصلب وهكذا والوقت يمر والجميع نهضوا وأنا لم اصنع شيئا وفجأة فكرت بطريقة وهي أن أضع قبضة من العجين في الدهن وأفرشها داخل المقلاة بالملعقة وهكذا حفظت ماء وجهي عند ذلك الصباح...
أحياناً ألوم نفسي لأني اتجرأ هنا، وأرسمك في خيالي كما أشتهي، متجولاً في جغرافيتك الأليفة لي، مستذكراً مرةً ومتوجعاً مرات فتمتد أصابعي لتغرق في زوايا حنانك السخي، ألومها مراراً، ولكني أكتوي لعنةً لا تهدأ، بين صخور جرداء ووسط وحوشٍ نسميها (مجازاً) بشر...
المجال الوحيد لابتلاع ثلاثين يوماً في الجبهة، هو القراءة، وربما وددت لو كنتِ كتاباً يرافقني في غربتي، لكنما نقاط التفتيش، حتماً ستصادره كواحد من الممنوعات العديدة في هذا الوطن، وعندها يموت قلبي هماً!
(18)

أولى حبات المطر الشتائي، في هذا اليوم الاحتفالي بالنسبة لنا وكأن الطبيعة تحتفل معنا، المشكلة أننا لم نكن مستعدين للشتاء، فقد داهمنا البارحة ليلاً مطراً كثيف ولم تكن لدينا فوانيس للإنارة داخل الملاجئ، مضافاً إلى ذلك فإن الملاجئ برغم كل الجهد اللي انجزناه لها فإنها تبدو غير مستعدة لقبول موسم الأمطار التي نعتقد أنها ستكون غزيرة، وكأن الطبيعة تريد أن تغتسل من فصل الصيف وما علق بها من غباره..
مازلت تحت (نشوة) رذاذ أيلول الجميل، حيث رائحة الأرض وقد بللها الرذاذ الأول لأمطار الشتاء، وتبدو الآن وكأنها تعيد انتظام تنفسها للموسم الجديد، لماذا يعشق الانسان الأرض بل وتدهشه تلك الاسرار التي تحتويها؟
البارحة ليلا، كان هناك هجوم إيراني واسع على قاطعنا، ولم يتوقف.
إلا أن المكان الذي نحن فيه لايزال هادئا نسبياً...

(19)

الانتظار... كان يعني عندنا مستقبلاً يطفح بما نريد، فهو الأمل الذي طال، بأن نلتقي في موعد كان زمانه العمر الذي فات، وهو الطموح الذي تفضحه عيوننا، ونتلمسه عبر حرارة الكلمات التي نقول، وصدقها المزروع بالثقة الغريبة التي تصل حدود الدهشة وحتمية السؤال المؤجل، وكانت الإجابة، مواعيد حميمة، يكتنفها الفضول والشوق للكشف عما وراء مفردات لغة العيون الدافقة، فكانت جلسات أشبه بالعمل السري المنظم، كل الأشياء بعقلانية حتى العواطف المتأججة، وكان لابد من الخوف الذي يسبق نتائج الأمور، بل ولحظات الحسم، تلك التي نتجاوز فيها أنفسنا، كانت المشاريع ممتلئة بكل التفاصيل، حتى أصغرها شأناً، بل لم نكن لنريد مَنْ يفاجئنا بمسألة لم نحسب لها حساباً، وكانت البرقية الأولى: "قلتُ، لو أعطيتَهُ بعض البنفسج، ولكني لم أعُد أملكُ منهُ شيئاً، خُذْ منّي أقحوانة".

(20)

إن قمة جبل (بمو) تكللت بالثلج منذ الصباح الباكر والبرد أخذ يتزايد تدريجياً، غير أن القصف المدفعي الإيراني لا يريد أن يهدأ، لا أدري لِمَ يضيِّعُ العراقي عمره في سلسلة الحروب التي لا تنتهي، أنها استمرت طيلة أربعة عقود من الزمن وكأنها قدراً اهوج لا يريد أن يريحنا...
"في عيون الناس الفرحانة بلمح صورتك" ما أعذب صوت شادية، وتقولين "لماذا تلازمك فكرة الموت الرهيبة؟ أهكذا تفكر بأنانية لتهرب من معاناة أصبحت جزءاً من حياتنا" "لماذا تستلم لمثل تلك الهواجس بمثل هذ ه السهولة؟ أنسيت لحظةً بأنك لا تسير وحدك في هذا الطريق!"
"أحِبُّكَ بفوضويتك.. أحِبُّكَ بتمردك"

(21)

زارنا حلاق الوحدة، وتطايرت نتف الشعر في هواءٍ جبليٍ بارد، حلقت رؤوسنا في الهواء الطلق، وهاهو غروب آخر يسرق شمس النهار عن بلادي، ترى متى الشروق؟
طيور السنونو تحلق واطئةً، لماذا؟
سفوح الجبال تكتسي بعشبٍ أخضرٍ زاهٍ، والبرودة معتدلة أثناء النهار، حيث أن الشمس تشرق بكرمٍ واضح، غير أن الملاجئ أصبحت رطوبتها لا تطاق وباردةً، أنها تمطر منذ ليلة أمس، أما برودة الهواء فما أشدها ليلاً، قبل يومين أكلنا سمكاً مقلياً وحاول أحدهم أن يطبخ لنا (الدولمة) إلا أنها جاءت غير مطبوخة بشكل جيد وتذكرت جودة (الدولمة) عند أهلينا...
"من أين يجيء الحزنُ إليَّ وأنتِ معي" تلك هي نغمة الفرح المتفائل التي صاغها شاعر ألماني كبير (شيلر) ممتزجةً بنبضات (بتهوفن) العظيم في السيمفونية التاسعة، نشيد الفرح..

(22)

(الدبس)

مزارع القمح التي لم تنمو بعد وأعمدة الغاز المشتعلة دوماً من آبار النفط تحيط غرفتنا المتآكلة بفعل الرطوبة والمطر الدائم، لكنها تبدو مترفة قياساً لملاجئ الأمس، خمسة أسرةٍ شبه متكاملة لنوم دافئ ومريح، وطباخ غاز صغير ولوكس لإنارة الغرفة، أنها (مكرمة) المتروكين في المعسكرات الخلفية...
عندما تكون هناك شمس ونسيم عذب وصباح يكتحل بكل الاشراق وآمال حية وعيون ترى وأصابع تتلمس وتبني وذهن يتفتح يومياً على معرفةٍ جديدة للعالم وقلب طافح بحب الخير للإنسانية، عندما يكون ذلك حاضراً وملموساً لا تستطيع كل الغيوم السوداء أن تحجب شمسنا الساطعة.

(23)

من منفاه الاضطراري (الجزائر) يستذكر عدنان يوسف، وهو فنان مسرحي من جماعة مسرح الفن الحديث، يستذكر تلك القصائد التي كنا نترنم بها في مساءاتنا الجميلة إبان عقد السبعينات. "حبيب القلب تعالَ ولاتأتِ/زيّتنا من أجلِكَ أبوابَ البيتِ/لكنّا لم نترك خلفَ نوافذهِ/ غيرَ الوحشةِ والموتِ" و "يا نجماً أبيضَ فوق خليجِ البصرةِ/أقسمتُ عليكَ ثلاثاً/بالمنفى، بحنين الموتى، وبأمواجِ بويبْ/إن كنتَ لخيرٍ جئتَ فقُلْ/بعد قليلٍ سوفَ يصيحُ الدّيك/ويستدعي الأموات إلى المثوى/أو كنتَ لشرٍّ/يا شبحاً فوق خليج البصرةِ/ عُدْ للبحرْ/ شرور مدينتنا تكفي/" مقاطع من قصائد للشاعر يوسف الصائغ.
ترى أين أنت الآن يا عدنان، أيها الصديق البعيد القريب.
(24)

في تلك الظهيرة "تراءى لي طيفه الناحل، يلوحه اصفرار السهر وأكواب القهوة المحروقة" في لوحة سوداء تصفعك مراراً وأنت تحدق فيها و (الكلاشنكوف) تغفو كسلى في حضنك التعبان، أنه السجن، وصدفة غير محسوبة وخبر متوقع، وأنت في أقبية للحزن الموحش تحدق عبر حلم طويل، يتخلله الأحمر والبنفسجي ثم يأتي الرمادي ملفعاً بغمامة ثقيلةٍ، ما أثقلها وأتعبها، أنك تسأل نفسك الآن، أي الأسماء تبقى في الظل، وأيها بماء البحر مترع، تعيد السؤال مرة ومرات، ثم تبحث عن سيجارتك الأليفة، هل تجدها؟ أم أنك تتوهم ذلك، لا تستذكر شيئاً حتى قائمة الأصدقاء الطويلة، بل تضغط على أصابعك التعبى، لتبدد التركيز اللعين ويتكرر المك وانت تبحث عن سيجارتك، إلا أنك قد تبصق مرةً وألف في وجه.. في وجه من؟
ها إنك تصرخ الآن وبنشيج كالنزيف الممتد من البحر إلى البحر، ليست صرخة، وإنما بصقةٌ على هذه الجثة المتمددة...
... آه لو أن (خالد) أكمل مساجلته معي بشأن القرامطة، ترى أيعتقد أننا سنكمل المساجلة كما أعتقد أنا؟
(خالد السلطان – مثقف موسوعي ومخرج مسرحي من البصرة).
لا أدري كم امضيت من الأيام ترفع هذا الشوك المزروع في الجسد، جسدك وبألمٍ أسْتَشْعِرُهُ أنا، ولا أدري أين انت بالضبط وكيف تكون القهوة المصنوعة على عجلٍ بانتظار.. بانتظار من؟
هل يَجْمَعُنا حلمٌ يتسرّبُ كالحياةِ من بينِ الأصابع؟
.. يجفف دماً أسوداً لا أدري منبعه فكله ينابيع، يقترض سيجارته ويغصُّ بسعلتهِ، النسكافية جاهزةً في بيتي يا(خالد) وأنا انتظر.
"هل لي بورقة مهما يكن لونها، فأصابعي عطشى لأن ترسم كلمةً، أي كلمة، مدادها الدم والكبرياء" يتمنى وأصابعه معقودة حول ركبتيه، ثم يؤجل شوقه لأن يكتب شيئاً ليومٍ لا يدري كيف يكون.
هل يعتقد (خالد) أنه سيكتب شيئاً كما أعتقد أنا؟!

(25)

في إجازاتنا الدورية المتباعدة يتحول لقاء الجمعة مع الأحبة الأصدقاء إلى احتفال فيه الهموم والأفكار والانفعالات والضحكات والمناقشات المحمومة في شتى صنوف المعرفة.
كنا نحرص على أن نلتقي مع الأحبة الدائمين القاص فهد الأسدي والموسيقي والقاص أسعد محمد علي والشاعر حسين الحسيني وهو يأخذ دوماً ركناً وسط المجموعة ويكيل للجميع النعوت الفاحشة والقفشات الضاحكة، وكان توفيق ناجي يتوسطنا بنظارتيه الغامقتين وصوته الهامس وعلى مقربةٍ من شاعرنا الجميل رشدي العامل ومصطفى سام ود. سامي سعيد الأحمدي ولابد من عبد الحسن سلمان ذاك الطائر الرهيف، تلك الجلسات دوماً تمضي بنا سريعاً إلى منتصف الليل ونحن في قاعة اتحاد الادباء أو نادي الاعلام، لنتفرق بعدها وسط شوارع بغداد التي يخيم عليها التعتيم وروائح الحرب المستعرة.

(26)

"بين أن ترتضي يومك،
مشتعلاً كسيجارتك،
يا(توفيق)،
وأن يشرق في وجوه تألفها نبضٌ يرتعش كعصفور جريح،
مسافةً تقطعها متكئاً على سنين من العمر لم يبقي منها إلا رائحتها،
يا(توفيق) هو الوجدُ منتشراً في وجوه الأحبة،
أصابعك مرتعشةً،
صلبةً،
هشة،
عامرة،
بالحنين،
محطةً يأوي إليها المستريبون،
ثكالى زمنٍ مرّ،
يحلمون،
آه يا(توفيق) لو أن (الكبد) فيك يحتمل قارورة بيرة،
إذاً، لعرفنا منك سر الوداعة والحنين،"
توفيق ناجي – صاحب أشهر صالون ادبي وثقافي غير رسمي (محل خياطة) في بغداد طيلة أكثر من ربع قرن.

(27)

" كنت أعُدُّ الأيام على أصابعي،
وكذلك أعدُّ أصحابي وأحبابي على أصابعي،
وسيأتي ذلك اليومُ الذي لا أعُدُّ على أصابعي سوى أصابعي،" شاعر فرنسي.

وهو في خندقه الموحش في مملحة الفاو كان يسجل تلك الملاحظات المنسية.
في حكاية الموقد وتقاسيم على وتر الربابة، هناك انتظارات ولوعة، هناك اشتياق يصل حد الجنون، هناك جنود عراقيون يعودون ولا يعودون، من جبهات قتال متعددة، ظلت تبتلعهم عشرات ومئات وآلاف. عن سنين عجاف لمسناها ونلمسها الآن، عن تلك السخرية الموجعة لحروب مفتعلة، دروبها مقفلة ونهاياتها مفتوحة، أن (محمد خضير) ذاك المتوجع البصري الذي تبتلعه أزقة البصرة العتيقة لقادر على أن يومئ وتكون إيماءته ساخرةً موجعةً حادةً أنها سكين الحقيقة وهي تحفر في الظلام.
حكاية الموقد وتقاسيم على وتر الربابة قصتان من مجموع القاص محمد خضير المعنونة (المملكة السوداء) المنشورة عام 1972...
يبدو أن خيوطاً سرية طويلة تمتد عبر قارات هذا العالم المسكون بالغرائب والحقائق الكبيرة، تلتقي هذه الخيوط عبر تلك المسافات الموحلة والقاحلة أحياناً، فعوالم ماركيز الكولومبي قريبة الشبه وربما ذات أواصر خفية في علائقها (القربوية) بذلك البحار البصري الضبابي (محمد خضير)! وربما (تعتقد) أن ماركيز قد زار خليج البصرة أو أن (ماكوندو) قد عرفت خطى محمد خضير ذلك السندباد الذي لايريد أن يبوح بسفره الدائم عبر تلك البحار الكونية التي يركبها من خليج البصرة! (تعليق على قصص شجرة الأسماء، المملكة السوداء، الأسماك).

وهناك تكملة ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهاجمة وزير الأمن القومي الإسرائيلي بن غفير وانقاذه بأعجوبة


.. باريس سان جيرمان على بعد خطوة من إحرازه لقب الدوري الفرنسي ل




.. الدوري الإنكليزي: آمال ليفربول باللقب تصاب بنكسة بعد خسارته


.. شاهد رد مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأمريكي عن مقتل أطفال




.. مظاهرة أمام شركة أسلحة في السويد تصدر معدات لإسرائيل