الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضحك ملون بالبكاء

عبد الرحيم التوراني
صحفي وكاتب

(Abderrahim Tourani)

2020 / 7 / 6
سيرة ذاتية


(...)
أما أحمد ميم، مدرس مادة الرسم في المركز التربوي الجهوي، فكان فنانا تشكيليا مبدعا، سبق له أن فاز بجائزة قيمة نظمتها مؤسسة مصرفية كبيرة. لكنه كان أقرب إلى المجذوب. ينعكس ذلك بجلاء في أعماله الفنية. لوحاته كلها عبارة عن أسنان بشرية متراصة. تصطك وتعض بعضها. أفواه فاغرة وضاحكة. كأنه يرسم ضحكاته الجنونية في جهات الليل وزوايا النهار.

كان أحمد يصرف كامل راتبه في الأسبوع الأول من الشهر، ولا أعرف كيف كان يتقبل عيشته البئيسة في الأسابيع المتبقية.

لما التقيت به أمام حانة "لونيفير" (الكون)، سارع أحمد إلى معانقتي. شد على يدي بحرارة زائدة. حتى ظننت أنه دخل حالة من حالاته غير العادية. أخافني بريق عينيه غير العادي مع تعتعة لسانه من الشرب.

قال لي أحمد:
- اليوم تأكدت من أنك مناضل كبير، أطلب منك الاعتذار لأني من زمن وأنا أشك في نضاليتك... ".

وأتبع كلماته بضحكة طويلة.

نظرت إليه باستغراب أو باستنكار، وربما شتمته بكلمة بذيئة ودفعته بيدي. كنت شاركت في اليوم السابق في المسيرة المليونية التي شهدتها الرباط في يوم الأحد 3 فبراير 1991تضامنا مع الشعب العراقي، وعدت في الغد إلى فضاءاتنا في "المعاريف" بمناشير كتبت عليها الشعارات القوية التي رفعت في الرباط. أحد تلك الشعارات كان ردا مباشرا على ما جاء في خطاب الملك قبل المسيرة بيوم.

ظل أحمد زمنا، عندما يريد أن يصف أحدا بالرجولة يقول عنه: "عراقي"، رغم احتلال العراق وسقوط بغداد.

ستمر الأيام تلو الأيام، اختفى فيها أحمد، لم أعد ألتقي به إلا لماما. قلَّ ارتيادي لفضاءاتنا المشتركة، إلى أن سمعت بنعيه ذات يوم غائم.

أحزنني الخبر كثيرا. ذهبت إلى الزقاق الذي كان يسكن به الفقيد. وقفت أمام محل حلاقة نسائية. نظرت من خلف زجاج الصالون المضبب. كان مليئا بالبنات وبالسيدات. ترددت في السؤال عن صاحبة الصالون. كنت أريد منها أن تحدثني عن موت صديقي الرسام، كيف حصل؟
صاحبة الصالون النسائي كانت هي مالكة الشقة التي يكتريها أحمد، تسكن في الشقة الأولى على الشمال بالطابق الأول من نفس المبنى. لا أعرف إن كانت العمارة كلها في ملكيتها. ما سمعته عنها هو عملها فترة طويلة بالمهجر في سويسرا. وكانت امرأة طيبة، تتغاضى عن تأخر أحمد في دفع واجب الكراء الشهري، بل إنها كانت تساعده وتجلب له الأكل لما تعرف إفلاسه وجوعه. وكان يناديها ب"أختي فلانة".

لكني تراجعت إلى الخلف، ساورني خجل أن أقتحم حرمة نساء. مشيت إلى حدود شارع دانتون الذي يطل منه زقاق أحمد. أعادتني ضجة السيارات وزحام الشارع إلى وعيي. عدت لأقف على الطوار المقابل لصالون الحلاقة، رافعا رأسي صوب الطابق الثاني، كجاهلي يقف على طلل. كانت عيني على النافذة العريضة لشقة أحمد. كانت مغلقة. أردت أن أبكي. وبكيت. لم أعر أي اهتمام للمارة وللجيران. ولم ينتبه أحد لبكاء رجل مهندم على الطوار.

فجأة بدأ مصراع النافذة ينفتح، ورأيت يدا نحيلة مليئة بالزغب تمتد لتمسك بجورب ملون كان منشورا على حبل خارج النافذة.
صحت بأعلى صوتي:
- أحماااااد. أحماااد.. وااا أحمد...

أطل علي رأس أسود كثيف الشعر بلحية كثة. تظهر منه عينان تبرقان.
لوحت له بيدي.
عادت النافذة إلى وضعها المغلق. ومضيت.

كان هو. لم يمت.

لاحظت أن المارة انتبهوا إلي وأنا أمشي وحيدا وأكلم نفسي. كنت ألعن ابن الزنا ابن الكلب ولد العاهرة، من روج لإشاعة موت صديقي، أي متعة في مثل هذه السخافة يجدها. وفي نفس الوقت كنت سعيدا فرحا بكون الخبر زائفا. للأخبار الزائفة حسناتها لما تأتي أخبار لتنفيها وتؤكد أنها مجرد أخبار سيئة ومحزنة غير صحيحة.

عندما فتحت الحكومة باب المغادرة الطوعية للموظفين، كان أحمد من أوائل من لبى النداء وهبَّ لقطف فاكهة التعويض المادي المسيل للعاب، مقابل انسحابه من الوظيفة. لكنه ما لبث أن بدد المبلغ بسرعة وعاد إلى عوزه. لا يمكن لمثل هذا الكائن إلا أن يعيش بائسا جائعا.
لم يعد أحمد يظهر في شارع الروداني كما كان يفعل. كما اختفيت أنا فترة طويلة في العاصمة وانشغلت بهوايتي للسفر. صرت من كارهي الدار البيضاء وكل المدن الكبيرة.

في حفل الذكرى الأربعينية لرحيل صديقنا الشاعر أحمد الجوماري، بقاعة المركب الثقافي للمعاريف (1995)، لم يكف أحمد ميم عن إطلاق صيحات مشاغبة وعن الضحك. حتى أزعج الحاضرين، وطالب بعضهم بإخراجه من القاعة. كان ميم يحب الجوماري، وكان الجوماري يتفهم أحوال ميم ويقدر إبداعه وجنونه. وكان شغب وضحك ميم طريقته في التعبير عن حزنه البالغ والشديد لفقدان صديقه. لكن صعب على الآخرين تفهم هذه الحالة.

لما التقيت الرسام والمصمم عزيز . ب. في افتتاح معرض تشكيلي برواق "أكتويا" في الدار البيضاء، سألته عن أحمد. وكانت صلته به أمتن. نظر إلي عزيز نظرة فارغة. ثم عاد ليخبرني، وسط صخب قاعة العرض، أن صاحبنا سافر إلى عالم الجنون، وأنه هذه المرة نسي حجز تذكرة الإياب.

- وأينه اليوم؟ إلى أي جغرافيا أوصله الجنون؟

رد عزيز:
- لديه أقارب بحي الألفة. هم من يعتنون به.

وأضاف أنه ذهب لرؤيته وشاهده من بعيد. يرتدي "فوقية" بيضاء متسخة وعلى رأسه الحليق طاقية مزوقة. صار له وجه متغضن يصعب عليك معرفته بسهولة. لا يتوقف عن الهذيان، وقد زاد بريق عينيه واتسعت مساحة البياض بهما. واكتملت ضحكاته الجنونية.

للضحك صلة وثقى بالجنون. هذا لا يفيد أن الحزانى والباكون وحدهم هم العاقلون.
كل المجانين يخاصمون النوم ويصادقون الضحك الغامض ولا يبكون. لكن ضحكهم لا يشبه الضحك. هو ضحك كالبكا.
من أراد التأكد عليه أن يشاهد لوحات أحمد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صواريخ إسرائيلية -تفتت إلى أشلاء- أفراد عائلة فلسطينية كاملة


.. دوي انفجارات في إيران: -ضبابية- في التفاصيل.. لماذا؟




.. دعوات للتهدئة بين طهران وتل أبيب وتحذيرات من اتساع رقعة الصر


.. سفارة أمريكا في إسرائيل تمنع موظفيها وأسرهم من السفر خارج تل




.. قوات الاحتلال تعتدي على فلسطيني عند حاجز قلنديا