الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
أصول التجزؤ العربي
عبدالله تركماني
2020 / 7 / 11دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
إنّ الدارس للتاريخ العربي يلاحظ أنّ العالم العربي كان يسير نحو التفكك منذ القرن العاشر الميلادي تقريبا، حتى في ظل الامبراطورية العثمانية، التي يمكن القول إنها لعبت دورا مزدوجا، موحِّدا ومجزِّئا في الوقت نفسه، حيث ضمّت أراضي السلطنة سلطة سياسية واحدة، لكنها قامت على أساس نمط من الاقطاع، يدعّم التجزئة والتفتيت. ولكن لا بدَّ من القول أنّ التجزئة العربية قد اتخذت شكلا محدّدا في ظل السيطرة الامبريالية.
أما في الطور الأخير من أزمة حركة التحرر الوطني العربية، خاصة منذ هزيمة يونيو/ حزيران 1967، فقد انتكست مسألة الوحدة العربية من مسألة الحفاظ على التجزئة القطرية إلى مرحلة اضطراب الوحدات القطرية نفسها.
لقد تكوّنت بنية العالم العربي المعاصر خلال ثلاث مراحل: المرحلة العثمانية، ومرحلة الاستعمار الغربي، ومرحلة العهد الاستقلالي. ولا نبالغ إذا قلنا أنّ الاستقلال الوطني في العديد من الأقطار العربية لم يكن، في حقيقته، أكثر من تسوية وسطية قبل فيها المستعمِر بمنح الأقطار العربية استقلالها السياسي، مقابل تنازلات القيادات الوطنية عن مطلبها في الوحدة مع أقطار أخرى. وإذا كانت تجربة سورية ولبنان، في مطلع الأربعينات، هي التعبير الصريح عن هذه التسوية، حيث تنازل الوحدويون في البلدين عن الوحدة مقابل نيل البلَدان استقلالهما، فإنّ تنازلات مماثلة- أقلَّ صراحة- جرت في العديد من الأقطار العربية الأخرى.
ومما لاشكَّ فيه أنّ التاريخ العالمي المعاصر قد أخذ العرب موضوعا ومادة له، خاصة حين فرض الاحتلال الأجنبي تعمّق اندماج العالم العربي في النظام العالمي، اقتصاديا واستراتيجيا، لا بشروطه ولمصلحته، بل بشروط المحتلّين ولمصالحهم. وقد تفاوتت تداعيات ذلك من قطر عربي إلى آخر، طبقا لعدة عوامل منها: طبيعة مرحلة التطور في كلِّ قطر عربي عشية الاحتلال الأوروبي، وحسب الدولة الأوروبية التي قامت بالاختراق، وأولوية أهدافها من احتلال القطر المعني. ففي المشرق ووادي النيل والمغرب العربي "حيث كان هدف الاحتلال هو الحصول على المواد الخام الرخيصة، واحتكار الأسواق لبضائعها المصنّعة، أدخلت القوى الأوروبية المحتلة الكثير من التغيّرات على نظام الإدارة الحكومية، والشؤون المالية، والضرائب، والنقل والمواصلات، وتطوير وسائل الري والزراعة الحديثة وتنظيم وتقنين الملكية الفردية. وقد أفادت هذه التطويرات فئات معينة من أهالي البلاد بالطبع. كما أنها تركت بنية أساسية لا بأس بها، بدأت بها معظم الأقطار العربية دولها القطرية بعد الاستقلال".
وقد كان ثمن الجانب الإيجابي من هذه التغيّرات فادحا، حيث كانت معظم التطويرات انتقائية، مما يخدم المصالح المباشرة للمحتل الأوروبي. وإضافة إلى ذلك، فإنّ هناك أقاليم جُزِّئّتْ بشكل تعسفي صارخ. وكان إقليم المشرق العربي أكبر ضحية لهذا النوع من التشويه، فقد اصطُنعت فيه خمسة اقطار: العراق، وسورية، ولبنان، وفلسطين، والأردن.
وغني عن التوكيد أنّ المواد الخام المكتشَفة، ولاسيما النفط ، شكلت حافزا هامّاً للامبريالية كي تزيد من رقابتها على هذه المنطقة الاستراتيجية البالغة الأهمية من العالم. ويمكن تحديد عام 1840 كبداية لتبلور مشاريع التجزئة الاستعمارية في المشرق العربي، حين أسفر الصراع الفرنسي- البريطاني في المشرق العربي عن تقسيم جبل لبنان إلى قائمقاميتين: مسيحية ودرزية.
وهكذا نلاحظ أنّ التجزئة العربية كانت إطار مشروع السيطرة الاستعمارية على المنطقة العربية ونقطة تقاطع شروطه ونتائجه. وإذا كان العنصر الاقتصادي شكل العنصر المقرّر لوجهة السيطرة الاستعمارية العامة على المنطقة العربية، فقد تمّت عملية تسييجه بانتدابات استعمارية عدة، وحضور عسكري مباشر، وبسلسلة معاهدات واتفاقات عسكرية، لضمان السيطرة على مراكز الإنتاج وعمليات النقل والتصدير. كما أنّ الاستعمار كان يرى في المنطقة العربية منطقة تلعب دور الممرِّ الضروري لعلاقـات النهب الاقتصادي لموارد المستعمرات في قارتي آسيا وأفريقيا، لما تتمتع به من موقع استراتيجي هامٍّ بفضل مضائقها وممراتها البحرية.
إنّ اعتبار العامل الخارجي رئيسيا في التجزئة العربية لا ينفي الدور الحاسم للعامل الداخلي، خاصة دور سلطة الدولة القطرية، خاصة بعد وصول قوى راديكالية إلى السلطة من خلال الانقلابات العسكرية، خاصة في الستينيات، حيث وقع انقلاب 8 فبراير/شباط 1963 في العراق، وانقلاب 8 مارس/آذار 1963 في سورية.
لقد تضخمت الذات القطرية، من خلال: بناء دولة، بكل مظاهر الدولة، والتوسع في إنشاء الأجهزة السياسية والأمنية، والإغراق في المظاهر الاحتفالية، والتعبئة على أساس الولاء للأسرة الحاكمة والزعيم الملهم، والمبالغة في الحديث عن المنجزات الاقتصاديـــة والاجتماعية والثقافية والسياسية، والإسراف في تأكيد الدور الإقليمي والدولي.
ومرة أخرى، نؤكد أنّ إشكالية التجزئة ليست ناتجة عن العامل الخارجي، الذي أوجدها ودعّمها وأمدّها بكل سبل القوة والاستمرار، فحسب. فهو لا يستطيع دعم وإدامة التجزئة حين لا توجد عوامل داخلية تسمح بذلك. إنّ العامل الخارجي يفعل فعله في ظروف مواتية، ولا يستطيع الفعل حينما تكون الظروف الواقعية منافية له، وقادرة على تجاوزه. وعليه، فإنّ تكريس حالة التجزئة العربية لم يكن بفعل خارق قام به الاستعمار، بل أساسا بفعل بنية داخلية مفككة، غير قادرة على التطور، وعاجزة عن إنجاز الاستقلال الحقيقي والوحدة القومية. فحين تتأسس القوى المعنية جديا بقضية الوحدة القومية، يكون من الممكن مواجهة التأثيرات الخارجية، ونسف أسس التجزئة.
إنّ انهيار السقف القومي لم يؤدِّ إلى "تبرير" الكيانات، كما تراءى للبعض، وإنما قاد، وهو يقود في كل لحظة، إلى تدمير الكيان نفسه لمصلحة كل ما هو محلي وخصوصي، من عناصر عرقية وطائفية ومذهبية وجهوية واجتماعية، وما تستتبع من تعارض ولا تجانس تصل، بفعل الانتشار السريع للخصوصيات الثقافية، إلى حد التناقض حتى الموت، كما في أكثر من حالة من حالات المجتمعات العربية المشرقية.
إنّ اعتبار التجزئة نقيضا للوحدة يؤدي إلى إفقار الوحدة، وإفراغها من كل محتوى أو مضمون. وعملية التوحيد القومي هي تجاوز واقع التجزئة دون إلغاء التعدد والاختلاف، فهو مستحيل موضوعيا. إنها عملية توحيد المتعدد والمختلف والمتناقض والمتعارض. لذلك كانت العقلانية، والعلمانية، والديمقراطية، والحداثة، مضامين عملية التوحيد القومي.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
التعليقات
1 - فقدان الامانة والنزاهة التاريخية
محمد البدري
(
2020 / 7 / 11 - 19:38
)
اعتقد ان الامانة امر ضروري لممارسة الكتابة
ارجو للكاتب ان يراعي هذا الامر
.. الانتخابات المحلية في تركيا.. استعادة بلدية اسطنبول: -هوس- أ
.. المرصد: ارتفاع قتلى الهجوم الإسرائيلي على حلب إلى 42 بينهم 6
.. بكين تتحدى واشنطن وتفتح أبوابها للنفط الروسي والإيراني
.. الحكومة الأردنية تهاجم دعوات حماس التحريضية | #رادار
.. رمضان ومدينة المليون حافظ.. طرابلس الليبية