الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فنطازيا العشق والموت

عدلي شبيطة

2020 / 7 / 15
الادب والفن


بقلم : عدلي شبيطه

تبدل المشهد فى ذات المكان، اختلط الحابل بالنابل، تعالت الصرخات، ساد الهرج والمرج وباتت الدهشة على الوجوه وفي العيون الحائرة. تساءلت "ماذا حصل يا ترى، وأين اختفى؟" انقبض صدري وتسلل الخوف إلى قلبي..



كانت تلك ليلة صيف مقمرة في موسم الحصاد. أكوام القش ملأت البيادر والساحات العامة عكست نور القمر على الاشجار والجدران، بدا المشهد ساحرا، مكتملا يبشّر بالخير ويبعث الطمأنينة في نفوس من تجمعوا في الساحة المجاورة لبيتنا ليشاركوا بعرس ابن الجيران. الجو لطيف والنسمات تحمل شذا أزهار السهب. هكذا جرت العادة في قريتنا الوديعة، الجميع يشاركون أهل الفرح أفراحهم، الصغار منهم والكبار، النساء والرجال. كلهم يغنون" العتابا" "والميجنا" ويتراقصون فرحين، من غياب الشمس حتى ساعات الفجر الأولى.
في تلك الليلة استمعت لصوته للمرة الأولى، لكنها ليست المرة الاولى التي أسمع فيها عنه، إذ أن اسمه يسبقه أينما حلّ. الكل يشهد له ارتفاع قامته، ويثنون عليه. اسمه يتردد في كل مجلس وعلى كل لسان. عندما باشر بالغناء، لم يستأذن صوته المميز الحنون بالدخول الى قلبي. جاءت كلماته عذبة سلسة خرجت طروبة من فمه لتستقر فى ذهني. إنها تفعم مشاعرى بإحساس رهيب لدرجه البكاء. استفزتني، تفاعلت معه وانفعلت حتى انهمرت الدموع.
لم أره من قبل ولم أعرفه ولكننى سمعت عنه الكثير. هل أصدّق كل ما يقال ويروى عنه، وهل من الممكن ان تجتمع كل هذه الصفات في شخصية واحدة؟ تساءلت. لدي رغبة جامحة محمومة برؤيته والتعرف عليه. كيف يمكن أن أصل اليه؟ الساحة مزدحمة والمكان مكتظ يعج بالمشاركين. الرجال في حلقات الدبكة، يدبكون على انغام اليرغول مرة "طيارة" وتارة "شمالية".لا بد أن أراه وأتعرف عليه. لن اترك الفرصة تفوتني.هل في الامر حيلة؟ نظرت حولي، رأيت الكل منهمكين بالرقص والغناء. اغتنمت فرصة انهماك المحيطات بي، راوغتهن وأنا انسحب بخفة من بينهن وتسللت الى الاتجاه الآخر، حيث كان الرجال.
رفعت رأسي ونظرت الى السماء، وجدتها صافية والنجوم تتلألأ، لمعت بضوء القمر حبات العرق على وجوه الرجال كأنها النجوم. أما هو، فقد وقف يتوسط الحلقة، كالمشرب العذب تزاحم حوله الرجال. يغني وهم يرددون من بعده الكلمات. أمعنت النظر به طويلا فانجذبت اليه اكثر. لم ار ولم اسمع في الساحة سواه. الكل فرحون ولكنه بنظارته السوداء بدا حزينا. أحاسيسه تتدفق عبر صوته القوي الناعم ودفء كلماته الحنونة. إنه يعتصر ألما. حاولت الاقتراب منه أكثر لأتمكن من رؤيته عن قرب ولكن لم يكن الامر سهلا.
قلت لنفسى يا إلهي كم هو جذاب وعظيم بكلماته، بأغانيه وصوته العذب، بطول قامته التى برزت فوق كل من حوله، بعرض منكبيه وبنيته القوية. شعره سقط حتى عنقه. نظارته السوداء اخفت الدموع التى انهمرت بغزارة من عيونه، لكنها لم تخف عظمته. أمام هذا المارد، ورغم عماه تقزم كل من حوله. شعرت ببعض الخجل والارتباك لأننى أحببته. نعم احببته مند زمن بعيد. قبل أن أراه. الآن تأكدت من صدق مشاعرى نحوه. كم يشدنى اليه. ليته يعلم.
شعرت بالحزن والأسى لعدم تمكني من الاقتراب منه اكثر. شعرت برغبة قوية تشدنى لعناقه وضمه الى صدري. أغمضت عينيّ وهو يغني كي أشعر وأحس بما يشعر به ويحسه ولأرى ما لا يراه. إنه لم يتوقف عن الغناء. صدى صوته تردد فى عمق الليل وسكونه وانساب انسياب الغدير بين الصخور. غنى للأرض، للوطن، غنى للجمال، للطبيعة وغنى للحب والعاشقين. يا له من عاشق متيم! في ذروة النشوة وسكرة الحواس تساءلت بحسرة، من تكون حبيبته يا ترى؟
في لحظة الانسجام انقطع الصوت دون سابق انذار، وذهل الجمع وعمّت الفوضى واختفى عن الأنظار، كأن الارض انشقت وابتلعته. تبدّل المشهد فى ذات المكان، اختلط الحابل بالنابل، تعالت الصرخات، ساد الهرج والمرج وباتت الدهشة على الوجوه وفي العيون الحائرة. تساءلت "ماذا حصل يا ترى، وأين اختفى؟" انقبض صدري وتسلل الخوف إلى قلبي.
فجأة سمع صوت اطلاق نار كثيف في الهواء، وإذ بالجنود يحاصرون المكان من كل منافذه. إنهم يبحثون عنه. جاءوا بعددهم وعتادهم، مئات الجنود، خيالة ومشاة، مصفحات وعربات، مدججين بالسلاح. جمعوا الرجال وسط الساحة ثم ساقوا النساء إلى الساحة المجاورة. أما الاولاد فقد اخلي سبيلهم، والجنود يصرخون مرتبكين "أين الاعمى، أين الأعمى؟". يا للعجب، الامبرطورية العظمى التي لا تغيب عنها الشمس يخيفها رجل ضرير اعمى؟!
لكنه محتاط من غدرهم ومكرهم، ويعلم انه مطلوب "لعدالتهم" حيا كان ام ميتا. رجاله المرابطون في مداخل القرية رصدوا تحركاتهم وابلغوه فى الوقت المناسب، فانسحب مع مجموعته وعاد الى حيث اعتاد أن يكون، أعالي الجبال، ثائرا مناضلا، قائدا فذا، ومقاتلا شجاعا،عرف بصلابته وسداد رأيه رغم إعاقته وصغر سنه.
انسحب الجيش خائبا، وانفض الجمع الى بيوتهم. فى طريق عودتي الى البيت لم يغب عن قلبي وان غاب عن عيوني وأدركت ما كنت اشعر به وأحسه. قبل أن أراه واسمعه كنت شيئا ما وأنا الآن شيء آخر. هذه الليلة ليست كغيرها، لها ما بعدها من أفكار غريبة وخواطر. أريد اللحاق به، أتتبعه وأبحث عنه في كل مكان لأقف بجانبه وأقاتل معه. لكن أين هو الآن؟ أين أذهب؟ انه مجهول الإقامة والمصير.
عندما بدا أمر العثور عليه مستحيلا عقدت العزم أن أهبه نفسي، أن أتزوجه. نعم أتزوجه غيابيا. فقلت: "إني اهبك نفسي زوجة لك على سنة الله ورسوله، وأعاهدك أن أكون زوجة مخلصة مطيعة". في هذه الليلة لم تغمض لي عين، تقلبت في الفراش انتظر قدوم الصباح بفارغ الصبر. صورته لم تفارقني، صوته يدوي في فضاء غرفتي. زقزقة العصافير هذا الصباح ليست كباقى الأيام، صداها مختلف وجميل.عندما فتحت النافذة تمنيت أن أطير، أحلق بعيدا، أبحث عن حلم يأخذاني هناك.
مرت أيام انتظاره ببطء شديد، مثقلة بالهموم والقلق من خوفي عليه. قضيت الوقت اسأل عنه وأتتبع اخباره. أسأل ولا من مجيب، لا احد يعلم عنه شيئا. قالوا: إنه كالريح لا مكان له ولا زمان، لكنه موجود في كل مكان وزمان! حتما سيعود يوما، سيعود في زمن ما، وتذكرت قول جدتي رحمها الله "من له حبيب ينتظره لا بد من عودته".
طال الانتظار وأنا ما زال الأمل يراودني بعودته. إيمانا بمقوله جدتي. منذ أن زوجته نفسي نخلد للفراش معا، احتضنه، أحكي له متاعبي وهمومى وأحدثه كيف قضيت يومي بتفاصيله دون ملل او كلل. في الأغلب لم أجدد له الكثير، فالأيام توالت متشابهة ومملة. أغمض عيوني واستسلم للنوم.
على غير عادة بكرت بالنهوض هذا الصباح، تربعت على الفراش أفكر بشيء ما، خيوط الشمس الأولى تسللت من شقوق النافذة، رسمت على أرض الغرفة بقع ضوء ملونة، جذبت نظري، أمعنت بها النظر، فوجدت نفسي أدور محاصرا في داخل بقعة ضوء لا اقوى على الافلات منها ومن حرارة أشعتها الآخذة بالاشتداد شيئا فشيئا حتى أنهكت قواي وغططت فى غيبوبة طويلة. حلمت بأنى اسمع صوت غناء يأتي من بعيد، يا إلهي، إنه هو. الصوت صوته والغناء غناؤه. فرحت. طرت فرحا، رحت اترنح وأردد معه: ثلاث بنيات ع البيدر بكربلن مدرى بنيات ولا جوزوهن
لم يدم الغناء طويلا، خرس الصوت فجأة، نهضت مسرعة الى النافذة وأنا ما زلت اغني. فتحت النافذة، جلت بنظري الى كل اتجاه. لم يكن هناك، اختفى، كما حدثوني عنه. إنه كالشبح، ما يلبث أن يظهر حتى يختفي. لكنني مصرة هذه المرة أن لا اتركه. سألحق به.
قفزت من النافذة. امتطيت صهوة حصاني وأطلقت له العنان، يا لها من فرس اصيلة تطاوعنى وتندفع بقوه نحو ازقة القرية ودهاليزها، إلى طرقاتها الضيقة المؤدية إلى السهول والمراعى.الناس الذين خرجوا للتو إلى مزارعهم ملأوا الطرقات المزدحمة، والرعاة يمتطون الحمير خلف قطعانهم. تخطيتهم مسرعة. عبرت درب الجميز ودخلت الغابة، ضغطت بكعبي رجليَّ على خاصرتي الحصان فزاد سرعته. العرق ينهمر، يتصبب مني ومن الحصان بغزارة. ناديته ولم يجب، لا أثر له. خرجت من الغابة نحو البصة. الحصان يعدو بسرعة مذهلة وكلما وخزته بالمهماز يزيد سرعة. يطوي المسافات، يقطع السهول والبراري يتخطى الوديان ويعتلي الجبال والتلال. توقفت على قمة المرتفع، بدت السهول والبيارات خلابة بكسائها الأخضر، والدخان الذي يتصاعد من طوابين القرية امتزج برائحة الخبز والزعتر فتضورت جوعا. إني أبحث عنه، أصرخ بأعلى صوتي، ولا من مجيب، وبما أوتيت من قوة أنادي، فرد الصدى.
همزت حصاني فأنطلق يهبط مهرولا بسرعة مذهلة مخيفة. استصعبت السيطرة عليه. استسلمت له حائرة تائهة يرعبني الصمت ويعتريني الخوف من المجهول. لا أعرف إلى أين. كم أنا محتاجة إليه الآن. في ذروة الفزع، الرعب والارتباك، بينما هو يتخطى ويقفز الحواجز، احسست بدفء يتفشى فى جسدي، احساس غريب لم أعهد مثله من قبل. طربت له كما طربت لملامسة الحصان والاحتكاك به. كلما زاد سرعة ازداد الاحتكاك، اركل خاصرتيه بقوة وينطلق بسرعة أكثر. انه يستجيب، سرعته تزيد والاحتكاك يتعاظم. جسدي يهتز، افقد السيطرة. افكر به ويستحوذ علي. ذراعاه المفتولان يطوقاني، يشداني، يحكمان سيطرته علي. حضنه يبعث في قلبى الطمأنينة والحنان. الحصان يواصل عدوه بسرعة جنونية. هو يحتضنني وأنا بساقي احتضن خاصرتي الحصان. الحرارة تتدفق الي من كل اتجاه، فاركل الحصان وأطلق له عنانه.
حين أخذتنى أجنحة الأحلام إليه تشابكت الأيدي وتلاقت الشفاه. كم انتظرت لحظة الانفراد هذه والأزدواج ثم الافتراع. حينما الشهوة والألم يمتزجان، الواقع بالحلم يختلطان. الفوضى تغمرني وحواسي فوضوية، وقعت عن صهوة حصان وفقدت السيطرة. استفقت على وقع صهول خيول عربية وزغاريد. ابتسمت لها اذ ظننتها أمه تزغرد تلوح بمنديل مبقع بالدم لتعلن اكتمال رجولة ابنها، وحين اختلطت زغاريدها بالصراخ والعويل وبأصوات الطلقات تبشر بأمر جلل قد حصل، أدركت ما اخبأه لنا القدر، انتهى الحلم الجميل وضاع الامل، التطمت بواقع رحيله فانهمرت على قبره الدموع غزيرة كالمطر..
فى يوم دخلته كانت آخر معركة. مذعورة خرجت اغني شبه عارية، أصرخ بأعلى صوتى: ثلاث بنايات ع البيدر بكربلن.... الأولى عشيقتك، الثانية زوجتك نفسها والثالثة تقسم لك من على قبرك الطري ان تكمل دربك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا