الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظل آخر للمدينة10

محمود شقير

2020 / 7 / 15
الادب والفن


أعود أدراجي إلى شارع صلاح الدين.
على اليسار يمتد شارع الزهراء (بور سعيد سابقاً). أتذكر مجلة (الأفق الجديد) وكتّابها الذين شاطروني الأحلام نفسها. أتذكر ماجد أبو شرار وهو يذرع شارع الزهراء إلى نهايته، يدلف إلى داخل بناية قديمة، لكي يدفع إلى المجلة الثقافية بقصة جديدة، ثم يخرج إلى المدينة، يجوب شوارعها مع صحبه الكتاب، ولا يكتفي بذلك، بل تأخذه القضية التي نذر نفسه من أجلها إلى امتدادات لا حصر لها، ويذهب ذات يوم إلى روما (أمضيت في روما ليلة واحدة في الطريق إلى الجزائر لحضور المؤتمر التوحيدي لاتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين، وسيكون ماجد هو االغائب الحاضر أثناء ذلك، وستكون قصيدة محمود درويش: صباح الخير يا ماجد حاضرة في ذهني وأنا أتجول في شوارع المدينة ذات الإيقاع السريع)، ليجد قنبلة الموساد تنتظره في غرفة الفندق، فيمضي على درب الشهادة، ولا يعود إلى شارع الزهراء، فأدخل ذلك الشارع مراراً، أتوقف متأسياً أمام المبنى القديم، الذي التقيته فيه أول مرة عام 1963.
وسأمضي إلى تفاصيل أخرى، سأبحث عما يؤكد أنني كنت هنا.
سأواصل مسعاي في شارع صلاح الدين. على اليسار: فندق لورنس، وعلى اليمين فندق الكابيتول. المباني المتلاصقة على جانبي الشارع ما زالت على حالها، لم يجر عليها أي تجديد منذ سنوات. جدرانها مصطبغة بشعارات وطنية شتى، كتبتها الأحزاب والتنظيمات، والانتفاضة الشعبية التي انفجرت قبل ست سنوات، أصبحت الآن لا تعبر عن نفسها إلا على نحو خجول.
اعتدت في مطلع شبابي، حينما ابتدأت هاوياً للكتابة أوائل ستينيات القرن العشرين، أن أقطع شارع صلاح الدين كل يوم عدداُ من المرات، وبالذات في فترة ما قبل الغروب، مع عدد من الأصدقاء الكتّاب، نتأمل الناس وفترينات المحلات وكل ما يحيط بنا، لعلنا نلتقط مادة لقصصنا القصيرة. نكثر من التردد على مكتبة المحتسب، التي تقع بالقرب من مدخل المدرسة الإبراهيمية، لنشتري ما يصل إليها من كتب ومجلات، وبخاصة مجلة "الآداب" البيروتية التي كانت محط أنظارنا. وغير بعيد من المكتبة، بالقرب من مبنى شركة كهرباء القدس، ثمة محل للمرطبات هو "باتيسري سويس" الذي ما زال موجوداً حتى اليوم. نجلس فيه بعض الوقت، ولا يندر أن يجلس في أحد أركانه شاب وفتاة، يتبادلان الهمس فيما بينهما.
أما صالة ساندريللا، فلم تعد موجودة الآن، فقد تحول المكان منذ زمن إلى نوفوتيه واسع الأرجاء. كنا نجلس في الصالة، نستمع إلى أنغام الموسيقى، ونتابع بأعيننا الفتاة التي كانت تخدمنا برشاقة، وتوزع علينا بعض الابتسامات (تشغيل فتاة في صالة للمرطبات كان عادة استثنائية في القدس وما زال حتى الآن). وكنا في كل الحالات، نتأبط كتباً ومجلات، لنوحي لفتاة الصالة ولغيرها، بأننا مثقفون جادون نسعى حثيثاً لاجتراح "المعجزات".
مقابل هذه الصالة، ثمة متجر للخياطة لصاحبه اسحق الشرفا، الذي غادر موقعه في أول طريق مار مرقص بالبلدة القديمة، إلى شارع صلاح الدين، بعد أن أصبحت للشارع أهمية تجارية متزايدة، فلم ينقطع عنه أبي في موقعه الجديد. كان يخيط له قنبازاً من قماش الروزة الضارب إلى الصفرة، أو قنبازاً من الصوف كلما تيسرت لديه الأحوال. أما أنا، فلم أعرف ارتداء البدلة إلا حينما كدت أنهي مرحلة الدراسة الثانوية أواخر خمسينيات القرن العشرين. اصطحبني أبي ذات يوم إلى المتجر، عرض علينا صاحبه عدة أصناف من القماش، فاخترت منها صنفاً، فأصبحت لدي بعد ذلك بدلة عاشت معي سنوات.
وسأمضي إلى مزيد من التفاصيل، حيث الميدان المقابل لباب الساهرة.
على يسار الميدان مبنى البريد وبجواره مخفر لشرطة الاحتلال. والميدان يخترقه شارع السلطان سليمان من جهة الشرق ويتجاوزه نحو الغرب، وفي الشارع مطعم أمية الذي كان يجاور محل "جروبي". ولن ننسى، نحن الذين اعتدنا الجلوس في جروبي، صاحب المحل (أبو عطا) الأنيق في تعامله مع الناس، الذي فقد ابنه الشاب في حرب حزيران، حينما ذهب متطوعاً للقتال مع غيره من المتطوعين الشباب، دون دراية بالحرب أو معرفة باستخدام السلاح، فلم يعد إلى أهله بعد انتهاء الحرب، وظل أبوه يحلم بالعثور عليه، إلى أن مات.
وعلى يمين شارع السلطان سليمان تقع محطة الباصات المركزية. تفصلها عن بستان قبر السيد المسيح، كتل من الصخور. كان مقهى الشعب المجاور لمدخل المحطة، هو المقر اليومي لمخاتير قريتنا ووجهائها، وقد تحول بعد سنوات من الاحتلال إلى محل لبيع الأدوات المنزلية.
على يمين الشارع أيضاً تقع كلية شميدت للبنات. يبدو مبناها راسخاً كأنه قلعة حصينة (فيها الآن، في الصف الأول الابتدائي، حفيدتي ليان). كانت قلوبنا الصغيرة تقفز من مواضعها شغفاً، ونحن نطارد فتيات الكلية الجميلات، كلما رأيناهن خارجات من البوابة الكبيرة، بالقمصان البيضاء والمراييل الزرقاء. وأسأل نفسي: أين هي لوسي، ذات الشعر الذهبي، التي طاردتها من باب الكلية إلى آخر طريق حارة النصارى -دون جدوى- حتى حفيت قدماي!
وعلى يسار الشارع يمتد سور المدينة، وفيه البوابة التي يحيط بها برجان كبيران. أتذكر أول تظاهرة ضد الاحتلال، طلب منا الحزب القيام بها عام 1968. تنطلق التظاهرة من المسجد الأقصى بعد صلاة الجمعة، وتصل إلى باب العمود. ينتظرنا رجال الشرطة الإسرائيلية وحرس الحدود خارج السور. يسلطون علينا خراطيم المياه الملونة، ثم يشتبكون معنا وهم يضربوننا بالهراوات. تصطبغ ملابس العديدين منا باللون الأحمر، ننزوي داخل مقهى زعترة، مبتعدين عن أعين رجال الأمن.
كان مقهى زعترة في خمسينيات القرن العشرين مقراً للاجتماعات الحاشدة التي دأب على عقدها مرشحو القدس للبرلمان الأردني حينما كانت الضفة الغربية تشكل مع الضفة الشرقية، المملكة الأردنية الهاشمية منذ عام 1950 حتى عام 1967 (في هذا المقهى استمعت إلى خطب المرشحين للبرلمان، وفيه جلست مراراً لاحتساء القهوة وأنا أرقب الناس، وهم يتحركون نازلين صاعدين).
الآن، استحال المقهى إلى معرض كبير للأحذية من كل الأصناف. ويبدو أن تحول المقاهي إلى حوانيت للسلع، هو حزء من ظاهرة أعم، إذ يفقد الجزء الشرقي من القدس مع استمرار الاحتلال، بعض الأماكن الدالة على تاريخ المدينة السياسي والثقافي، مثلما تفقد فضاءها الطليق، وتجري محاولات إسرائيلية دائبة لتحويلها إلى حي هامشي، من أحياء القدس الكبرى، محاصر بالعزلة ومعزول بالحصار.
يتبع..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و