الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انا ورودان

وسيم بنيان

2020 / 7 / 15
الادب والفن


جلست في القطار الذي سيتحرك بعد 20 دقيقة،وأجلست صاحبي إلى جانبي بعد أن هيأت له المكان جيدا.بدا لي وقد استقر أخيرا في مقعده على يميني، متعبا وشاحبا يبدد بمنظره أي محاولة للحوار والمشاركة في الحديث بشكل قاطع.
وبما أني كنت متحررا من طفيليات الغباء التي تنخرأحيانا قشرة عقلي،لذت بالصمت ولم أسع لمضاعفة كآبته وهمومه.
فتحت حقيبتي مزدوجة اللون،لأنتزع من أحشائها قطعة طعام لفت بإتقان.ابتعتها من المحطة قبل صعودي.ولما تأكدت بأن صاحبي قد اصر على التوحد والخلوة لم اطلب منه ان يشاركني طعامي المتواضع.وعلى أي حال لم اشعر بأي تغير في وزن معدتي،حيث أن الوجبة الغذائية معدة لإشباع قطة على اكثر تقدير. اتكأتُ على حقيبتي المليئة بأثاثها الدائم، اضافة إلى كنزة صوفية كنت أحيانا استغني عنها حسب مزاج الطقس.فألقيها داخل الجدران السود الباهتة،واغلق عليها الباب الرمادي الباهت هو الآخر.وثمة غرف صغيرة خلف الباب تسكن إحداهن محفظتي الجلدية، والأخرى استأجرها نقالي بشكل بشع. لأنه لم يمارس وظيفته بشرف، حيث يتأخر بالخروج من حجرته في اكثر الأحيان، وأنا في أمس الحاجة أليه للرد على اتصال ما.فأحاول سحبه بالقوة وحينما انتزعه أخيرا من مكانه يكف عن الصراخ ويفوت علي إجابة المكالمات الواردة.مما حداني أن ارميه خارجا في إحدى نوبات الغضب غير أسف على حجرته الشاغرة.ويفصل بين الحجرة الشاغرة التي تأن ألان تحت ضغطة كوزي والحجرة المسكونة بالمحفظة ممران صغيران جدا،ينام في الأول قلمي الحبر شامخا بلونه الفضي اللامع، بينما شغل الآخر قلما من الرصاص  وقد استظل الجميع بسقف الباب الكبير المزود بسقف ثانوي سري يشغله باستمرار أحد الكتب المعدة للقراءة، بينما ينام الدفتر في حجرة الاستقبال الكبيرة في وسط البيت ناعما بدفئ الكنزة.
 قطع القطار محطات كثيرة غاسلا نوافذه الزجاجية بالرذاذ المطري المتكاثف من ورائها وكأنه يحاول أن يثير صاحبي.لكن محاولته ضاعت هباء العواصف إذ لازال غاطا في صمته مبتلعا حبل الفراغ متدليا فيه إلى قاع هاويته السحيقة.عدت انظر أليه بقلق ضاعف تدفقه دندنة القطرات،وعواء العواصف تزامن مع حركةالقطار المزلزلة فوق السكة المبتلة. وقد دفن الظلام دفتي القطار داخل فكه، وأبقاني تحت رحمة ضوء المقطورة المركز بشكل مقرف.
ظل صاحبي ملتصقا بالنافذة بينما تسلط بمقدمة بدنه أمام ناظري.احسبه متماهيا مع الظلام وغير منفصل عنه،وان كان يسبح في ضوء العربة.توقف القطار في محطة جديدة وتوقف معه المطر إذ يبدو انه يأس من صاحبي أخيرا،فهو لم يغير من جلسته الأولى، وظل متكئا على قدمه الخشبية الوحيدة.نظرت إلى كنزته الجلدية كانت متحاثة من الحواف،وهي جاثمة بلونها البني الغامق على ركود صاحبي وقد ناسبت كآبته. وفي أعلى الردن الأيسر ارتدى قفازا جلديا ثنائي اللون جميل الطراز، لكنه ساكن بشكل ملفت.وقد ادخله بين قضبي السلة الحديدية في أعلى العربة فتدلى وكأنه ثعبان يحاول أن ينقض على أي حركة مباغتة تحاول أن تعكر مزاج صمته.واستراح القفاز الأيمن على حافة المصطبة العليا خلف رأسي، ومن تحت الكلاب الحديدي على جانب العربة انحدرت قبعته الصوفية ذات السحنة الزرقاء الشاحبة، وقد غطت كل ملامح وجهه فلم يبدو منه أي اثر. والتف على عنقه حبل عريض هو الوحيد بألوان مشعة وزاهية،وتحمل انطباعات عن الحياة.فوجئت بهذا التناقض وتساءلت عن السر في ذلك فعللته حينها بكون صاحبي بارع في الاحتفاء بكل رموز الموت فقط.انه يصر على أن يخنق رقبته بحبل زاه لأنه قرف حياته ومستعد للشنق بكل رحابة صدر.توقف القطار في محطة تالية وهي كبيرة مُلئت بالمصابيح الكهربائية وتزاحم الناس وقوفا وجلوسا على مصاطبها بانتظار القطار الذي سيقلهم إلى مساكنهم.صحا الطقس وقد ازداد نقاء والتمعت قطرات المطر على زجاج العربة،وكأنها شظايا من ماس .هبت شحنات حركية في سكون القطار إذ صعد لمتنه بعض الأفراد الجدد.جلس منهم في نفس العربة التي شغلتها وصاحبي،إضافة إلى شخص استغل الرحلة بسرقة غفوة طويلة انفلتت منه ولابد خلال ساعات النهار، شخصان وجلس في العربة التي تقابل مسقط نظري بعض الأفراد أيضا.تركت صاحبي غارقا في سكونه لاتحسس الجو الحركي من حولي. فثم حركات صوتية غريبة تنثال في المكان، وقريبا مني تثاءب كيسا مهسهسا بقوة بعد أن حمله صاحبه وألقاه إلى جانبه بحدة. صدح مكبر الصوت منبئا عن المحطة التالية، وعدت إلى نفسي وقد شعرت بلسعة في معدتي ومرارة في ريقي أحدثها الطعم اللاذع لقطعة الطعام، المنتمية لصنف الوجبات السريعة.لكني لم اندم على ابتياعها على أي حال.فبالنسبة لي من المناسب أحيانا أن اكسر الصمت بأي معول مهما كان سيئا.فلابد أن أزعج سكون الصمت وأزلزل بشاعة الفراغ قبل أن يزعجني ويبتلعني في أحد أفاعيه الخطيرة.
عاد القطار إلى مواصلة سيره مجلجلا بعجلاته سكون الليل، وبدأت روائح الأعشاب والأشجار المنقوعة تعطر انفي برطوبة صافية وعذبة،حفزته ليعب من عبقها بعد أن فتحت النافذة قليلا،وما زال صاحبي يواصل صمته المطبق.استمرت الجلجلة منحدرة واخيرا أعلن مكبر الصوت بلوغ المحطة الأخيرة خلال دقائق.ارتديت قبعتي الزرقاء الشاحبة وكنزتي الجلدية التي ضاعت بقعها المنقشعة تحت ذراعي،وافلت القفازين من
كميها وارتديتهما.بينما لففت رقبتي بشال مشع الألوان،إذ يجب الاحتفاء بكل شيء حتى وان كان برمز يذكر بالموت شنقا. فالموت لازما ولابد منه لتستمر الحياة،وما علي سوى أن أعيشها بكل تفاصيلها وتناقضها أرحت أخيرا شريط حقيبتي الأسود على كتفي،وأمسكت القبضة الخشبية المعقوفة لمظلتي،واتجهت خارج القطار.
وجدتُ باستقبالي رياح عذبة لفتني بالندى من كل اتجاه ...


في رحلة من لاهاي الى دودرخت؛عام 2008،الساعة 12 ليلا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير