الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أخيراً؛ ماهية -الروح- (ردا على الأسئلة الوجودية الكبرى 3)

جميل النجار
كاتب وباحث وشاعر

(Gamil Alnaggar)

2020 / 8 / 5
الطب , والعلوم


"الروح"؛ ذلك المعنى البديل وتلك الفكرة البدائية التي راجت؛ فأسكنَّاها عقولنا. وأسكنَّا بجانبها شيطاناً ألِفناه، ذلك الأعمق الخبيث شاهدناه وهو يضاجع تلك الفكرة الرائجة، فرحنا بكل سذاجة رجمناه، واعتدنا عند كل مطبٍ؛ أن نُلقي عليهِ باللائمة؛ وعندما تقابلنا معضلة اشتهيناه. تلك السحابة الشفافة تمنحنا سحرا بلا رائحة ولا لونٍ أو طعومٍ. لتبقى "النكهة غير المتوقعة" أجمل ما منحتنا إياه. وفضولها الراقص أعظم ما تمنيناه. وتحويل جراحنا إلى حكمة كان أول درسٍ لها تعلمناه. تلك الغالية العلوية، ابنة المعرفة الفوقية، بوشاحها الأبيض، كم هي بسيطة، لكننا من نعشق التعقيد. فهي لا تتعدى الواحد بالمائة، والتسع والتسعون الباقية: تُختزل في "مدى استجابتنا لها". لذا؛ كثيرا ما تمرض. وما أن تمرض؛ تشع منها مسارات فريدة تقودها من ألوهية الحزن واليأس إلى الشفاء الأنيق. وتدب فيها "الحياة" وتعود تلهو كطفلٍ طليق. ولا تضيق بها أجسادنا، ولن تضيق؛ إلا بعد أن تشيخ؛ كحزنٍ تكيَّفَ، بشكل صحيٍ عتيق، مع خسارةٍ متوقعة، حطت حمولتها عند آخر مطب؛ كنهرٍ شامخٍ شاخَ عندما وصل المصب. وما إن ماتت إلا وقد عادت إلينا من جديدٍ كطائرٍ أسطوريٍ "فنيق"، يردد في الصباح: أنت صداي؛ فانظر ماذا تقدم؟ وفي المساء: يعزف لحن الخلود، ويغني على الصبابةِ يا من كنتَ صَدايَ أنت اليوم صِباي؛ فانظر ماذا تريد؟ وتُخبرنا بأنها هبة الكيميا الكونية، وقد جاءت لتبقى وإن ماتت!
مع تعمق واتساع رقعة البحث في محيط المعرفة وما رفدته من كافة التخصصات العلمية التي أحاطت بحكمة البشر؛ توصلتُ لنتيجة بحثية مفادها أن الروح (كمفهوم ميتافيزيقي) تتطابق مع معنى "الحياة" (كمفهوم بيولوجي).
وتبين لي بأننا نحن البشر نبحث عن "الروح" منذ أن وعينا (ويسألونك عن الروح)، وما نبحث عنه نردده مع كل "حالة وفاة". ونَصِفُ من مات بأنه قد "فارق الحياة" أو "فارقته الحياة" أو "فارقته روحه"، أو "فاضت روحه إلى بارئها" على حد وصف رجال الدين. فالمفردتان، إذن، مترادفتان منذ القِدم؛ ولم يلحظ أحد قوة هذا الترابط التام.
ووجدتُ بأن لفظة "الروح"، هي مجرد اختراع ميتافيزيقي حدسيّ قديم لإنسان بدائي بسيط. وللأسف استطاع السحرة والمشعوذون (أسلاف الكهنةِ والشيوخ) منذ بداية نمو الوعي البشري، ومن بعدهم الكهنة والأحبار والقساوسة والشيوخ على حمله تباعاً وتقديسه وفرضه على الساحة المعرفية والثقافية والفكرية للإنسان العاقل (هوموسيبينس)، ولتقادُم اللفظة؛ أقر بها الإنسان الحديث في أدبياته العلمية.
ويبدو أن "الحياة" و"الروح" قد تم التفريق بينهما عن عمد من قبل رجال الدين خِدمةً لأغراضهم التي لطالما روجت لحياةٍ روحية غيبية (غير مرئية) دعماً لقرابينهم وأرزاقهم، وتعزيزا لمكناتهم (الجليلة)، والتي أعفتهم من القيام بأي أعمال شاقة أخرى يمكن أن تفرضها عليهم ظروف البيئة القاسية التي عاشوا فيها. مستغلين في ذلك خوف وعجز وجهل الإنسان البدائي؛ الذي ازدحمت دماغه بالعديد من الأسئلة التي ضنَّ عليهم بإجاباتها الزمان.
ولعل في استمرارهم بمسعاهم الخبيث بتجهيل العامة إلى وقتنا هذا؛ هو ما جعل البشر إلى الآن يُفرِقون بينها وبين الحياة؛ وعدم ادراك ترادفهما، أو أن الحياة هي الروح أو "الاثنين معاً" يمثلان "شيئاً واحدا". ومن ضمن هؤلاء البشر -وللأسف- الفلاسفة والعلماء ممن حصلوا على أعلى الدرجات العلمية المرموقة.
ولأن أغلب العناصر الكيميائية بغلافنا الجوي والمائي هي بالأساس عناصر شفافة، بلا لون أو طعمٍ أو رائحة؛ الأمر الذي ساعد بعض الكهنة ممن اشتغلوا بالسيمياء والخيمياء؛ أن يتلاعبوا بعقول الناس لفتراتٍ طويلة؛ بهدف ترسيخ ما يعِظون به التابعين السُذج، وكان منهم حتى الملوك الذين كانوا يتطلعون إلى "سر الخلود". واختلط الحابل بالنابل لقرون طوال. وأصل "الروح" أو "الحياة" لا يعدو عن كونه مجرد تفاعل للعناصر الأولية مع بعضها البعض؛ فنتج عنه مركبات عضوية بسيطة – في حضرة جلالة الملك عنصر الكربون- نشأت منها الحياة البدائية البسيطة التي تطورت نسبيا في صورة كائنات دنيئة وحيدة الخليَّة وتعقدت مع مرور الوقت؛ بفعل الانقسام الخلوي واندماجه.
وظلت الأغلبية من الناس أسيرة الشق الأثيري للحياة أو الروح، بـ "تجهيلٍ متعمد" من رجال الدين وبمساعدة فلاسفة الوجودية الأوائل؛ مستغلين في ذلك جهل البشرية بـ "أساسيات العلوم"؛ التي لم تكن قد اكتُشِفت بعد؛ فتعذَّرَ لديهم الربط بين "الروح" و "الحياة". وظل التفريق هو سيد الموقف في أذهانهم وإلى الآن.
و"الروح" تاريخياُ؛ كانت عند المصريين القدماء تتألف من سبع مكونات: تتوسطها الـ "كا" وهي القوة الدافعة لحياة الإنسان، وحسب الاعتقاد فإن الموت هو نتيجة مفارقة "كا" للجسد. وعند أفلاطون (427- 347 ق.م) الروح هي أساس كينونة الإنسان ومحركها الأساسي، وتشمل العقل والنفس والرغبة. وفي البوذية هي مجرد وهم، فالموت لا يعني سوى مفارقة "الإدراك" للجسد. وفي الهندوسية الروح (الجيفا Jiva) هي كينونة خالدة كبقية الديانات الابراهيمية، والتي تعتقد بأنها مستمدة من روح الله التي نفخها في آدم. ثم توكيل ملاك ينفخ الروح في أرحام النساء بعد مرور مئة وعشرين يوماً (حسب حديث بن مسعود) أو بعد مرور اثنتان وأربعون ليلة (حسب حديث حذيفة بن أُسيد)، ولا أدري أيهما نُصدِّق ؟.
ويذهب نفرٌ من فلاسفة المجتمع العلمي الحديث إلى أنها "مرادف أثري" للعقل. وأخيراً اقترب قليلاً عالم البيولوجيا الجزيئية فرنسيس كريك (1916- 2004) كثيراً من تعريف الحياة (الروح) وربطها بالعلوم العصبية. وإن افترض وصولها إلى الأرض من الكون؛ وارتقت لقابليتها للحياة في نظريته "البانسبيرميا الموجهة "-dir-ected panspermia، وقام فيها بحساب احتمالية إصابة البذور لهدف معين بواسطة معادلته الشهيرة. وقد أكد هذا الفرض عثور العلماء على أسطح بعض المذنبات على عينات سكر وأحماض أمينية وهي بمثابة جزيئات أساسية أو حبيبات عضوية تمثل بذور الحياة (بذرة الروح)؛ ما يعني أن خلطة الحياة، والتي لا تعدو عن كونها مجرد تركيبة كيميائية موجودة أصلاً في أرجاء مختلفة من الكون؛ فقط، تنتظر توافر بقية الظروف التي تدخل في إتمام عملية "اشتعال الحياة" وتشكُلها؛ لتبدأ وتنتهي (تولد وتموت) في دوراتٍ لانهائية بأكوانٍ عدة سرمدية، تولد وتموت هي أيضا، بعد أن تمنح بنيتها لأكوانٍ أخرى ما تلبث أن تولد فتولج من جديد من غبار الانفجارات النجمية التي تتناثر في أرجاء الفضاء.
وتتجمع من جديد في صورة أرحامٍ (سِدم) تحتضن الأجنة النجمية الوليدة. ويُرجح بأن تكون للثقوب السوداء علاقة بهذا السيناريو. وعليه؛ فما النقطة، التي انفجرت منذ الأربعة عشر مليار سنة تقريبا، والتي تؤرخ لميلاد كوننا المنظور، ما هي إلا حدٍ يحدد نهاية كون سابق وبداية كون لاحق هو كوننا المرصود، وهكذا دواليك في دوراتٍ أزلية/أبدية.
والحياة وأحيائها هي موضوع علم الأحياء Biology، وكانت ولا تزال نتائج دراساته، مع بقية العلوم المعنية بالموضوع، عن نشأة الحياة وتطورها الأكثر إقناعاً، من الناحية العلمية، والأكثر مهنية ومنطقية من معارف أخرى عتيقة أثبت العلم زيفها مثل الفراسة والسيمياء والميتافيزيقا بفلاسفتها السُفسطائيين.
والمُطَّلِع على نتائج دراسات كل العلوم ذات الصلة، بدءً من علم النبات Botany وعلم الحيوان Zoology والبيولوجيا التطورية Evolution Biology والبيولوجيا الجزيئية Molecular biology والكِيمياء الحيوية Biochemistry وعلم الجينات Genetics والفسيولوجيا العصبية Neurophysiology وعلم الأجنة Embryology وصولا إلى علم الجيولوجيا Geology بكنوزه الحفرية القمينة؛ يفهم ماهية الحياة (الروح).
وتتراءى الحقيقة أمام أعيننا؛ لكن لم يلحظها أحد؛ فالروح (الحياة) موجودة في الجنين من قبل أن يدخل مرحلة اللاقحة أو الزيجوت Zygote – الخلية التي تنتج عن عملية الإخصاب. وهي خلية ثنائية الصيغة الصبغية- ثم المرحلة الجرثومية Germinal stage للنمو السابق للولادة وهي مراحل تغطي أول 8 ثمان أسابيع من تطور نمو الجنين؛ وفي بداية الأسبوع التاسع يطلق العلماء على هذا الجنين الجرثومي اسم الجنين الحي Fetus، و"أراها تسمية قد جانبها الصواب"؛ لأن شعلة الحياة (الروح) لم تنطفئ في المرحلتين التاليتين لعملية التلقيح؛ وذلك لسبب بسيط وهو أن البويضة المُلقَحة والنُطفة المُلقِحة هي – في الأساس- خلايا حيَّة.
كل ما هنالك أن الزيجوت قد دخل بعد تمام التخصيب مرحلة سكون أو سُبات أو كمون أو شرنقة، تشبه- من بعيد- دخول اليرقة في مرحلة الشرنقة بدورة حياة الفراشة، وفيها تتم عمليات بيوكيميائية معقدة تشبه، للتقريب، عملية الانقسام والتمايز الخلوي للجنين، والتي تحدث أثناء المراحل الأولى للنمو، وفيها تتشكل طبقات التبرعم الثلاث للجنين، في عملية تسمى تكوّن الأنسجة، وهي تشبه عملية التبرعم النباتي إلى حدٍ بعيد.
والطبقات الثلاث هي: الإكتوديرم Ectoderm؛ المسؤلة عن تخليق الجلد والشعر والأظافر وعدسات وشبكية وقرنية العينين والأسنان والدماغ والمخ والأعصاب. والميسوديرم Mesoderm ؛ المسؤولة عن تخليق العظام والعضلات والجهاز الدوري بأوعيته الدموية والقلب والجهاز التناسلي والبولي، والإندوديرم Endoderm ؛ المسؤولة عن تخليق الغدد والأحشاء من أمعاء ورئتين وكبد وبنكرياس.
وبعد الأسبوع الأول من الحمل، يلتصق الجنين بجدار الرحم؛ وعندها تتكون المشيمة Placenta بأرومتها المغذية Trophoblastic من أنسجة من الأم والجنين معا، وتبدأ في مد الجنين بالطعام والأكسجين، وتسحب المواد السامة الناتجة عن الأيض Metabolism وأي نتاج آخر من إخراج الجنين، كما أنها تُنتج هرمونات كيميائية تحافظ على الحمل وتنظم نمو الجنين، فالعمليات الحيوية المتبادلة بين الجنين وأمه بواسطة المشيمة وحبلها السري؛ لخير دليلٍ علمي على وجود الحياة.
مما سبق يتضح بأن الجنين، شكلا وموضوعاً، عبارة عن كتلة من المادة الحية، تتوافر بها كل شروط الحياة من لزوم الطاقة والحركة والقدرة على التكيف والنمو وإمكانية التكاثر عندما تنضج وكذلك توافر كافة التفاعلات الأيضية والاستجابة لمؤثرات الوسط من حرارة وحموضة... الخ.
في هذه النظرة العامة المُحلقة بهذا التبسيط غير المُخل؛ يتضح سكون أو خفوت شعلة الحياة في "فترة التخليق" لا انطفائها أو موتها؛ وعليه؛ فلا حاجة للجنين إلى ملاكٍ لينفخ فيه الروح أو الحياة؛ لأنها موجودة أصلاً، على عكس ما اعتقد الفلاسفة القدماء وأدعياء النبوة؛ الذين افترضوا عدم وجود حياة في الجنين في مرحلة ما، قبل الاكتمال (التبرعم)، وسار على هديهم البعض ممن تخصصوا حتى في علوم حديثة. لكنهم اسرى معتقدات ميتافيزيقية قديمة.
والتبرعم هو مجرد مرحلة أو طور يمر به الجنين الحي منذ اللحظة الأولى بعد عملية القذف المفعمة باستمرارية الحياة والروح النابضة بالحركة والحيوية الواضحة من حركة الحيوان المنوي؛ بقوة دفع جبارة من محرك "الميتوكنداريا Mitochondria" ببروتيناتها وإنزيماتها ومركباتها الفوسفاتية السحرية، خلال رحلته إلى البويضة (يمكن أن تشاهد أي وصلة فيديو لحركة الحيوان المنوي؛ عندها ستدرك بأن الجنين حيٌ تدب فيه "الحياة" أو كما أسموها "الروح").
وهي ذاتها الروح التي نعمت بها الكائنات الحية؛ واختصتها بها الطبيعة الأم وقت أن كانت تلك الكائنات مجرد مركبات كيميائية بسيطة تتألف من عناصر أولية في المواد القديمة، التي شكلت قشرة الأرض من الماء والميثان والأمونيا والهيدروجين. فلا ريب في أن أصل الحياة ما هو إلا سلسلة من العمليات والتفاعلات الكيميائية البحتة. سواء تمت هذه التفاعلات على الأرض، أو أتت إلينا من الفضاء؛ على إثر القصف الكويكبي الهائل الذي تسبب في انفصال القمر عن الأرض؛ وأطاح بغلافها الجوي في الفضاء؛ فتفككت أغلب الجزيئات العضوية؛ إلا أن عددا كافياً منها قد أمكنه النجاة؛ بحيث يتراكم مُكَوِّنًا اللبنات البدائية الأولى للحياة. وإذا ما احتاج أي تفاعل منها لبضع آلاف من السنين حتى يكتمل، فمن المرجح إذن أن تتبدد بعض العناصر الداخلة في التفاعل أو تتحلل بعض موادها خلال هذه الفترة، مالم تستكملها تفاعلات أخرى أسرع. وعليه؛ فإن التفاعل الأصلي للحياة لابد وأنه حدث على نحو تلقائي وسريع، ولكن تطور الحياة، في حد ذاته، قد استغرق مئات الملايين من السنيين أو نحو عشرة مليارات عاما كي ترتقي.
أدت تفاعلاتها إلى ظهور ناتج يحوي أحماضًا أمينية وسكريات بجانب ثاني أكسيد الكربون، بالصورة نفسها التي ينتجها تفاعُل دورة حامض الستريك (ملح الليمون)؛ هذه الخلطة الكيميائية السحرية تجمعت على هيئة جزيئات صغيرة تتفاعل مع بعضها في سلسلة من التفاعلات، وتم احتوائها في كبسولات بسيطة شبيهة بأغشية الخلايا، وتتألف من ليبيدات الفوسفات phospholipids، التي تشكلت تلقائياً، وتُعرف بالتركيبة الأساسية للأغشية الخلوية.
وطُبِخَتْ هذه الخلطة على حرارة البراكين بمياه البحار في مرحلة ما؛ فهيأتها وأكسبتها القابلية للحياة. ومع الزمن دفعت بها تيارات المد خارج البحار لتتجمع مرة أخرى في طين المستنقعات؛ الذي أحال هذه الخلطة إلى جزيئات عضوية، تحوي عددا قليلًا من الأحماض الأمينية، التي تُعَدُّ الوحدات البنائية للبروتينات وأكثر الجزيئات التي ترمز للحياة. والتي تحولت، مع الوقت، إلى حساء رقيق جدا ودافئ، أهم ما فيه المواد البروتينية الغروية؛ وقد أحالت التفاعلات المركبة هذا الحساء الرقيق إلى حساء أسمك وأكثر لزوجة بعد أن تخمَّرَ في المستنقعات القديمة. فساهم، مع الوقت، في تكوين بروتينات أكثر تعقيدا على هيئة حبيبات دقيقة، ظهرت معها لأول مرة بوادر الإنزيمات.
ويُرجح بأن تكون قد أشعلت شرارةُ برقٍ كهربائية الحياة البدائية فيها؛ ما ساهم في تكوُّن جزيئات عضوية بسيطة؛ قامت فيها البكتيريا والطحالب بعملية البناء الضوئي التي ملأتْ المحيطاتِ وهواءَ الغلاف الجوي بالأكسجين. وقد أدى تفاعلها إلى ظهور أشكال معقدة نسبياً؛ نتج عنها نظاماً ذاتي التكاثر؛ شكّل كائنات حية شبه خلوية بسيطة، ثم وحيدة الخلية، كالبراميسيوم؛ على سبيل المثال، والذي يمكنه الانقسام حوالي ستمائة مرة في السنة، فأثْرَتْ المستنقعات الدافئة بكثرتها وتنوعها الهائل.
ومع الوقت تكاثرت هذه الكائنات البسيطة وأسلافها، وانتظمت هذه الخلايا فيما بعد- مُستغرقة ردحاً من الزمان- بالترتيب الجزيئي في كائنات متعددة الخلايا، حتى ظهرت الكائنات معقدة التركيب فالأكثر تعقيدا. وأنتجت بتطورها المعقد أسلاف الحيوانات والنباتات البدائية فالمعقدة والأكثر فالأكثر، وهلم جرا.
وكشف علم الوراثة الجزيئي- مع تقدمه- وجود سجل للتطور باقٍ في الجينوم الخاص بالكائن الحي؛ يمكن أن يدعم فكرة أن الحياة قائمة على "المتضاعفات" وتحديدا الجينات المؤلفة من الحمض النووي "الريبوزي" منقوص الأكسجين أو الدي إن إيه (الدنا). ومن المرجح أن تكون أشكال الحياة الأولى قد استعملت "الآر إن إيه" (الرنا) أو الحمض النووي "الريبوزي"، التي تنسخ نفسها بدقة وتنتقل إلى الجيل التالي؛ كناقل لمادتها الوراثية كأول شكل من أشكال الجينات، والتي تكونت بسببها، فيما بعد؛ الخلايا الأولية protocellules؛ ثم حلّ "الدنا" – مدعوماً بالجينات - محل "الرنا" في القيام بوظيفة نقل المعلومات الوراثية التي تسمح لكل الكائنات الحية المعاصرة بالتكاثر والنمو والقيام بمختلف الوظائف الحيوية منذ نشأة الحياة على سطح الأرض، منذ أكثر من 3,5 مليار سنة خلت.
وعليه؛ ما نحن سوى "مُكوِنات كونية" تجمعت من الجزيئات التي نمت وتطورت؛ حتى تمكنَّا من أن نشعر ونتعجب ونفكر ونتساءل عن الكيفية التي جئنا بها إلى هنا. وقد ساعدتنا الحفريات التي تملأ الفجوات والبنية الدقيقة للجينات في فهم ماضينا، وهو الفهم الذي يقوم عليه الآن كل تفصيلة من تفاصيل الحياة المعقدة.
فقصة الحياة كُتِبت بلُغةٍ كانت مُشَفرة، بدَأْنا، منذ وقت حديث للغاية، من خلال تسلحنا بمفاتيح العلم - وفهم العالم من حولنا- بفَكِّ طلاسمها، وفهم الماضي البعيد. وهي، باختصارٍ شديد، قصة طفرات وتغيُّرات مذهلة، صغيرة وبطيئة في أغلبها، ضخمة وفجائية في بعضها. وبالبحث العلمي الحثيث والرصين؛ كشفت لنا القصة عن "اختراعات الطبيعة" التي فجرت وغيَّرت وجه كوكبنا على مراحل متباينة؛ لتمحو دهوراً لها ثوراتها السابقة لتحل محلها دهور وأحقاب بثوراتٍ أرقى وطبقات أحدث من التعقيد بكافة الأغلفة الصخرية والمناخية والبيولوجية.
ومنذ أن قامت البكتيريا الزرقاء (صانعة اليخضور) بعملية البناء الضوئي ونظَّفَتْ المحيطات وهواءَ الغلاف الجوي وملأتْه بالأكسجين؛ بقوة دفعٍ كهرومغناطيسية؛ وبفَضْل هذا المصدر الجديد المُفعم بالطاقة القويَّة؛ تفجَّرَتِ الحياةُ الصاخبة في مياهها برخوياتها وقشرياتها ومفصليات الأرجل وأسماكها الأولية والفقارية الملونة الرشيقة، ووحوشها الضخمة القابعة في الأعماق المظلمة (بالانفجار الكمبري)، وحقول المرجان والإسفنج بتركيبها المُعقَّد، وبرمائياتها وزواحفها وطيورها المغردة، وحيواناتها المذهلة في أشكالها وألوانها، وثديياتها برئيسياتها وبشرها، الأكثر تطورا وذكاءً.
ومع نضوج تربتها بنباتاتها المُتمايلة وأزهارها المتفتِّحة ورحيقها الفوَّاح، وغاباتها الغنَّاء بأشجارها السامقة، ومراعيها الغنية بتنوعها الحيوي، وفطرياتها- النافع منها والضار- كل هذا التنوع الحيوي المتجدد؛ منحَ كوكبَنا اللونين الأزرق والأخضر؛ ووسط كل هذا، تُحرِّكنا جميعا تلك الألغازُ التي باتت "روحاً" شبحية غير محكية كامنة وراء هذا الكون بتنويعاته الخلاقة/الخلابة عبر الزمكان، وأصبحت بفضل العلم محكية في أجمل حكاية اسماها "علم الأحياء": "الحياة".
ويُثبت البشر بأن، الكشف عن الأدلة المدفونة داخل بنية "الدنا" لهو من أعظم القصص الآسرة لكل العقول المحبة للمعرفة. فقصص فحص ومحص تريليونات الفوارق والطفرات الضئيلة داخل تلك البنية الضئيلة للدنا؛ أمدتنا بالكثير. قصصٌ كان لها جاذبيتها ومنطقيتها في حل الألغاز العلمية على مدار نصف القرن المنصرم فقط، ويُثبتون بعلمهم الوافر أنَّ "أصل الحياة" لم يعد ذلك اللغز المُحيِّر على النحو الذي كان، ولا يزال يجري تصويره (بفعل فاعل) على أنه أعقد الألغاز التي لن نعرف أصلها أبداً؛ لأن الآلهة ما أشهدت أحداً على خلقها، وسيظل هذا حكراً عليهم جميعاً سواء من ظل منهم في السماء أو من بقي منهم على الأرض.
ويحاولون ألا يصدقوا بأن ألغازهم صارت الآن أقرب إلينا من أي وقتٍ مضى. واقتربنا كثيرا من الإجابة النهائية الحاسمة عنها. وللمرة الأولى في التاريخ، أصبحنا نعلم – بمعرفتنا التراكمية/المتنامية- الكثير عن ذي قبل من عصور الجهالة التي يُصر حراس التراث المتخلف على أن يُجبرونا على العيش في جلبابه البالي.
وبهذا تكون "الثورات العلمية" قد أعلت من شأن "الجانب المادي" للوجود؛ والذي انعكس بالإيجاب على كافة الشؤون الإنسانية؛ وكانت تأثيراته هائلة في تعزيز "سطوة المنطق" و"حقيقة الواقع"؛ الأمر الذي ساهم، مع الوقت، في طمس "العوالم الروحية" بوتيرةٍ ثابتة. وتجسد السر الأعظم في "الأحادية المادية" التي أكدت بموضوعية راسخة أنه لا يوجد – في الواقع- شيء اسمه "الروح" إنما "الحياة". لا يوجد سوى "كواركات وبوزيترونات وذرات وجزيئات" وقوى تعمل على إنتاج عالم حقيقي من الظواهر الجامدة والحيَّة، لم يعد يخفى علينا باطنها؛ إلا فيما نذُر.
ومع أفول نجم الميتافيزيقا وروحها اختفى معها "الفلاسفة الوجوديون" ومعهم الدجالين من رجال الدين فعليًا، ولا يمكن العثور عليهم إلا في كتب الأديان والفلسفة وعقلية الأميين البسطاء حتى ولو كانوا من المتلقين لقدرٍ من التعليم، ويرون شيوخهم الدجالين من العلماء (الأجلاء).
الفلسفة، اليوم، هي فلسفة العلوم المعرفية والتفكير التحليلي الناقد، وكلها تقوم على نموذج الوجود المادي. هذه ليست مجرد محاولة إنكار لمعنى و"معلم ميتافيزيقي" قديم اسمه: "الروح". إنما هي إقرار بـ "واقعية الأشياء وحقيقتها" وضرورة الحفاظ على أن المعنى الوحيد أو الأوحد لكافة الأحياء؛ لا يعني سوى: "الحياة" الكامنة في الوجود المادي/العضوي. فتقتضي "واقعية الأشياء" منا التخلص من المفردات التي تكررت على مسامعنا تريليونات المرات؛ ولم يظهر لها دليل واحد ملموس طيلة ألاف السنين! أفلا تعقلون؟ الطبيعة تقول: أن ما يحدث مرة؛ يحدث ويتكرر ألاف المرات؛ بمعنى أنه لو كانت عوالمكم الغيبية موجودة؛ لتركت آثارها حتماً. تلك المفردات الميتافيزيقية التي غرستها المعتقدات البدائية، وأفسدت علينا حياتنا بغموضها الذي ضج مضاجعنا في كل وقت وكل حين.
وإن أبقينا عليها؛ فلابأس؛ لكن من باب تعاملنا معها على أنها مجرد "أثر حفري" يبقى في كتب التراث الإنساني؛ كشاهد على "معاني خرافية" حُفِرَتْ في عقولنا القديمة البالية، وبقيت عالقة في أدمغتنا ردحا من الزمان؛ رغم أنها استنفدت عمرها الافتراضي منذ أمدٍ بعيد.
ونكون، بذلك، قد توصلنا لمعنى الروح الذي حيَّر الفلاسفة وأدعياء النبوة من حيث سئلوا: "ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"، وليس هذا وحسب؛ إنما تعرفنا على كيماويتها ونشأتها وتطورها؛ لنثبت – نحن البشر- بأننا أصبحنا نعلم الكثير والكثير، ولم يعد مثل هذا "الخطاب الجاهلي" ينفعنا أو يأتلف معنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزائر تستعد لإعادة إحياء نشاط صناعة الهواتف الذكية بعد توق


.. أبو عبيدة: فاتورة الدماء التي دفعها شعبنا لن يكون مقابلها سو




.. صور الأقمار الاصطناعية تظهر إقامة عشرات الخيام الجديدة في جن


.. باستخدام الذكاء الاصطناعي.. تقنية جديدة الحمض النووي قد تجنب




.. لماذا شدّد القضاء عقوبة مدوّن مغربي في قضية -إسكوبار الصحراء