الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في التأصيل الثقافي لحقوق الإنسان عند المفكر محمد عابد الجابري

أنجار عادل
طالب

(Adel Anejjar)

2020 / 8 / 7
حقوق الانسان


أدى صعود النزعة الليبرالية نهاية الثمانينيات من القرن الماضي إلى مزيد من الانتشار لثقافة حقوق الإنسان، لتصبح أحد الموضوعات الأساسية للخطاب السياسي والقانوني والنقاش العمومي لكن بمضامين مختلفة، ومع صدور العديد من الإعلانات والمواثيق الدولية التي تنص على ضرورة الانخراط في المنظومة الكونية الحقوقية، أخدت دول الجنوب مبادرات لترسيخها، وضمنها الدول العربية ذات الثقافة الإسلامية.
غير أن انتشار فكرة كونية حقوق الإنسان والإقرار القانوني بها، تواجهه صعوبات واقعية ونظرية متعلقة بالمرجعية؛ فالكونية تفسر بالثقافة الغربية وتفوقها على باقي الثقافات، والتي غالبا ما يتم توظيفها كأداة للهيمنة وخدمة مصالح سياسية وإيديولوجية واقتصادية، وهو ما يطرح ردود أفعال من قبل ثقافات أخرى تنتمي إلى عوالم حضرية غير غربية تتشبث بالخصوصية، باعتبارها تتوفر على تقاليد وعادات اجتماعية وتاريخية، وقيم ثقافية تتعارض مع شمولية حقوق الإنسان أو على الأقل مع بعض من جوانبها¹. تشكل المبررات الأخيرة سند موقف جزء واسع من الأنظمة السياسية التي توظف دعاوى الخصوصية لتبرير عدم التزامها القانوني، والتغطية على غياب الديمقراطية وانتهاكات حقوق الإنسان و قمع الحريات.
أن الأمر يتعلق بواحدة من قضايا الجدل الفلسفي والفكري والنزاع السياسي، فحقوق الإنسان ليست مجرد لائحة للحقوق، وإنما تصور أخلاقي يحمل معه نظرة محددة للعالم و الإنسان، يصعب فصلها كإشكالية داخل الفكر العربي المعاصر عن قضايا الحرية وأسئلة التراث والحداثة²، التي عرفت إختلافا في القراءات وحضورا متباينا في المشاريع الفكرية لأصحابها، لذا خصصنا هذه المقالة للوقوف عند أفكار المفكر محمد عابد الجابري وجوانب من جوابه على سؤال : طبيعة العلاقة بين المرجعية الكونية لحقوق الإنسان والثقافة الإسلامية، بالإعتماد على كتابه « الديمقراطية وحقوق الإنسان »، والذي يكشف الجابري من خلاله عن الأسس الفلسفية التي أسس عليها فلاسفة القرن الثامن عشر عالمية حقوق الإنسان، ليؤصل لها بعد ذلك فكريا في الفكر العربي المعاصر، مما يندرج عند حسن طارق كإحدى مكتسبات الحداثة السياسية، ضمن أعمال جبهة ثقافية و فكرية تضم إسهامات نوعية لكوكبة من المفكرين أمثال : عبد الله العروي، محمد عزيز الحبابي، علي أمليل وآخرون، تستدعي أهميتها وضرورة تجديد الفكر الديني العودة إليها و قرائتها، خاصة وأن « حركة حقوق الإنسان ببلادنا في بداية مرحلتها التنويرية، رغم حضورها الوازن على مستويات النهوض والترافع والتثقيف، لأن مجتمعنا ما زال يعيش ثقافيا بعض الأزمنة السابقة عن الحداثة والتنوير »³.
يميز الجابري بين ظاهرتين على الأقل تميزان خطاب حقوق الإنسان في الظرف الراهن : ظاهرة توظيف هذا الشعار كسلاح ايديولوجي ضد الخصم، وهذا ما يقوم الإعلام الغربي، الأمريكي الأوروبي به، كما فعل حين سكت ضد انتهاكات حقوق الإنسان بفلسطين المحتلة⁴، وبالجانب المقابل هناك ظاهرة المنازعة في عالمية حقوق الإنسان بإسم الخصوصية الثقافية، بإعتبارها ذات مرجعية غربية وصادرة عن ثقافة أوروبية مغايرة لخصوصية الثقافات الأخرى، وبالتالي الطعن في شموليتها كحقوق موجهة إلى كل البشر، كما يتبين في صياغة لوائح جديدة استنادا على خصوصيات محلية، لكي تكون بديلة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان وباقي المواثيق الدولية، كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان في الإسلام، البيان الإسلامي العالمي، مشروع وثيقة حقوق الإنسان في الإسلام⁵، معتبرا الجانب الأيديولوجي في الظاهرة الأولى واضح لا يحتاج إلى بيان، ويؤكد بالمقابل اتجاه الظاهرة الثانية، على ضرورة تجاوز المقارنة الفجة بين حقوق الإنسان كما في الفكر المعاصر وتلك التي قررها الإسلام زمن الرسول والصحابة دون إستحضار « أسباب النزول » أي الظروف العامة الإجتماعية والاقتصادية والسياسية إلى القيام بعملية التأصيل، « وعملية التأصيل الثقافي لحقوق الإنسان في فكرنا العربي المعاصر يجب أن تنصرف إلى إبراز عالمية حقوق الإنسان في كل من الثقافة الغربية والثقافة العربية الإسلامية، أي كونها تقوم على أسس فلسفية واحدة »⁶، حيث يرى صاحب نقد العقل العربي بهذا الصدد، أن الاختلافات لا تعبر عن ثوابت ثقافية أو اختلاف في المقاصد و الأهداف بقدر ما تعبر عن اختلاف « أسباب النزول» الضرورية لفهم المعقولية التي تؤسس لموقف هذا المشرع أو ذاك من هذه القضية أو تلك، ما «لا يعني التوفيق بين المعقوليتين ولا تضمين الواحدة منهما للأخرى بل إيقاظ الوعي بعالمية حقوق الإنسان داخل ثقافتنا حيث الطابع العالمي الشمولي الكلي من داخل الخصوصية الثقافية »⁷.
يعود الجابري من أجل ذلك إلى الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر للكشف عن مفهوم عالمية حقوق الإنسان، التي يقصد بها الشمولية، بمعنى أنها حقوق لكافة الناس لا فرق بين ذكر وأنثى ولا بين أبيض وأسود ولا بين فقير وغني بل حقوق للإنسان بما هو إنسان، ويتسأل : كيف أسس فلاسفة أروبا خلال القرنين السابع عشر و الثامن عشر هذه العالمية ؟ وما المرجعية التي إعتمدوها في ذلك؟ ليجيب أنها مرجعية تتجاوز سلطة التقليد وسلطة الكنيسة، لتعود إلى البداية، إلى ما قبل أي مرجعية أو ثقافة أو حضارة، حيث تتأسس على ثلاث فرضيات أو« أصول نظرية » رئيسية هي :
- التطابق بين نظام العقل ( نظام كلي يشمل كل ما في الطبيعة بما في ذلك الإنسان نفسه) ونظام الطبيعة (المعقول) من جهة، وبين الطبيعي و الفطري (بدائي أولي) من جهة اخرى، بسبب تقدم العلم الحديث خاصة الرياضيات والفيزياء وقيام عصر التنوير والعقل، مما أدى إلى خلخلة التصورات والمعرفة السائدة⁸.
- إفتراض فلاسفة الفكر السياسي الحديث خلال القرن السابع عشر و الثامن عشر، « حالة طبيعية » للإنسان تتميز بالحرية و المساواة « كحقوق » قبل قيام أي تنظيم إجتماعي أو سلطة سياسية، وبالتالي المطابقة بين « حقوق الإنسان » و« الحقوق الطبيعية » وتأسيس تلك الحقوق على مرجعية كلية سابقة لأي مرجعية أو ثقافة هي حالة الطبيعة⁹.
- الإنتقال من حالة الطبيعة، حيث يمارس الإنسان « حقوقه الطبيعية » وسيادة « قانون الطبيعة » و تضارب الإرادات، إلى الحالة المدنية حيث تجسد الدولة الإرادة العامة وتلتمس المصلحة المشتركة والخير العام، بعد عقد اجتماعي يتنازل بموجبه كل فرد عن « حقوقه الطبيعية » قبل استعادتها على شكل« حقوق مدنية »، فتجد حقوق الإنسان الطبيعية بذلك مرجعيتها في الإرادة العامة التى تعلو على جميع الإرادات الجزئية المشكلة لها، وعلى ما تتميز به الأخيرة من عصبية وخصوصيات º¹.
ضمن هذا الأفق النظري يلح التأسيس الذي قام به فلاسفة الفكر الأوروبي في القرنين السابع عشر و الثامن عشر لعالمية حقوق الإنسان، بتجاوز كل الخصوصيات، ليعود إلى « البداية »، إلى « ما قبل » أي ثقافة، إلى حالة الطبيعة و العقد الإجتماعي، ويتسأل مجددا، لكن هذه المرة على مستوى متقدم من التحليل، هل هذا التأسيس الفلسفي المتعالي لعالمية حقوق الإنسان يجعل إثارة مسألة الخصوصية أمرا غير ذي موضوع ؟
يقر الجابري أن التأسيس المتعالي لقضايا الإنسانية كالحق و الخير والمصير، ظاهرة مشتركة بين جميع الثقافات والحضارات لكن بأشكال مختلفة، فالإسلام تعالى بحقوق الإنسان على أسس نظرية تكاد تتطابق مع تلك التي وضعها فلاسفة أروبا خلال العصر الحديث، مع التنبيه إلى البعد الإجرائي لهذه المقارنة و ضرورة أخد كل الفوارق الزمنية والحضارية بعين الإعتبار، إذ أن موضوعات المقارنة من جنس « الحقائق الثورية التي تستمد صدقها من وظيفتها كمحرك للثورة وشعار للدعوة كما في الثورة البرجوازية الأوروبية »¹¹، ويمكن إستخلاص عناصر المقاربة تلك كما يلي :
- تٌضمن خطاب الدعوة الإسلامية و القرآن خاصة، المطابقة بين نظام العقل ونظام الطبيعة، بهدف جعل العقل المرجعية التي تعلو على كل مرجعية، من خلال الدعوة المتكررة إلى تأمل الطبيعة و إستخلاص وجود خالق والإرتباط به والتحرر من جميع السلط الأخرى، لإرتباط قوانين الطبيعة مع أحكام العقل¹².
- إقتران الدعوة إلى إعتماد العقل وترك التقليد والعودة إلى الطبيعة في الفكر الأوروبي بدعوة الإسلام إلى الرجوع إلى «الفطرة»، فهي مطابقة لحالة الطبيعة¹³.
- المقاربة بين فرضية « العقد الإجتماعي » و« الميثاق الماورائي »، الذي وقع عند بدء الخلق، خلق آدم وذريته، حيث يقابل تنازل البشر عن حقوقهم « للإرادة العامة » إعتراف بني أدم وشهادتهم على أنفسهم بربوبية الله وحده لا شريك له، وتنازلهم بموجب هذا الاعتراف عن حقهم في عبادة أية آلهة والإلتزام بعبادة الله وحده والاعتراف به كسلطة تحرر الإنسان من باقي السلط الأخرى، هذا « الميثاق الماورائي » يتحول إلى عقد إجتماعي « واقعي » مع بداية قيام المجتمع الإسلامي، أطلق عليه الإسلام اسم « الشورى »، يؤسس المجتمع و ينظم العلاقة بين الناس والدولة¹⁴.
بعد هذه المقارنة يؤكد الجابري على عالمية المرجعية الإسلامية لحقوق الإنسان معتبرا « ادعاء فلاسفة أوروبا العالمية لحقوق الإنسان، حقه في الحرية و المساواة وما تفرع منها، ليس أمرا خاصا بالحضارة الأوروبية، وبالتالي فالأبعاد الثقافية الحضارية لحقوق الإنسان هي أبعاد إنسانية ، تشترك في التعالي بها فوق الواقع الثقافي الحضاري القائم، جميع الثقافات »¹⁵، أما الإعتراض على هذه العالمية بداعي خصوصية تلك الحقوق في الإسلام لعلاقتها بالدين وأحكام الفقه الإسلامي مقابل علمانية أساسها النظري في الثقافة الأوروبية، اعتراض مردود، لأن العلمانية لدى فلاسفة هذا الفكر لا تعني الإستغناء على الدين، بل التحرر من سلطة الكنيسة وفهمها للدين وطقوسها، التي حل مكانها سلطة العقل، كما الميثاق والفطرة في الإسلام، بعد ذلك يحلل الجابري مسألة إثارة بعض الأحكام الفقهية، كحكم المرتد وأحكام الميراث و الزواج و الشهادة، ليصنفها ضمن الجزئيات وموضوع الإجتهاد، لأنها مرتبطة بمقاصد الشرع وأسباب النزول، يجب الرجوع بها إلى المبادئ العامة و كليات الشريعة التي تقر عالمية حقوق الإنسان مثل أي فكر إنساني أخر¹⁶.

يرتبط هذا التأصيل الفكري والفلسفي لعالمية حقوق الإنسان في الفكر العربي المعاصر لدى الجابري باعتماد مفاهيم تراثية، والمقاربة بين كونية تلك الحقوق في المرجعيتين الأوروبية و الإسلامية، واعتبارها لا إختلاف بينها، بل مطابقة، بمشروعه النقدي واشتغاله بخدمة مسألة الحداثة بمختلف أبعادها، عن طريق الـتأصيل لها في الثقافة العربية، أو كما يقول الجابري تحديث التعامل مع التراث بتأصيل الأصول بفكر منفتح يراعي شروط العصر أي من موقع الفاعل وليس من موقع المنفعل الهارب¹⁷.


الهوامش

¹. مؤمنون بلا حدود، الدين وقضايا المجتمع الراهنة، [en linge].
Disponible sur : >https://www.mominoun.com/article https://www.mominoun.com/article (آخر إطلاع 26/07/2020)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. برنامج الأغذية العالمي يحذر من خطر حدوث مجاعة شاملة في غزة


.. احتجاجات أمام مقر إقامة نتنياهو.. وبن غفير يهرب من سخط المطا




.. عائلة فلسطينية تقطن في حمام مدرسة تؤوي النازحين


.. الفايننشال تايمز: الأمم المتحدة رفضت أي تنسيق مع إسرائيل لإج




.. رئيس مجلس النواب الأمريكي: هناك تنام لمشاعر معاداة السامية ب