الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءات في - رأس المال-، القراءة الثانية - ما يُسمّى -التراكم الأولي- لرأس المال (الجزء الأول)

هشام روحانا

2020 / 8 / 8
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية




يطرح منظرو النظام الرأسمالي هذا النظام على أنه حقيقة طبيعية كونية، وجزء من نظام الكون والأشياء، موجود منذ القدم ولهذا فهو أزلي ومقدر كالأبد. ويؤكد لنا المنظرون بأن هذا النظام قادر على التخلص مع تقدم الزمن من مساوئه بل وأنه يتحسن ويتكامل بمروره متجاوزًا جوانبه السلبية. وتقوم أجهزته الأيديولوجية بتربيتنا على الاعتقاد بأنه لا يتماشى مع الطبيعة البشرية فحسب بل هو وببساطة نتاج هذه الطبيعة البشرية! فهكذا كانت الأشياء وهكذا ستبقى. وبعد أن كنا قد رأينا في القراءة السابقة كيف أن الديالكتيك الواقف على رأسه، أي الديالكتيك المثالي لهيجل يعمل على تشويه الرؤية وتعمية الواقع وفي نهاية المطاف على تبريره. فإننا سنتوقف في هذه القراءة عند الفصل الرابع والعشرين من رأس المال الجزء الأول وعنوانه: " التراكم الأولي وسره " الذي يقدم فيه ماركس ولأول مرة في تاريخ الاقتصاد السياسي قراءة علمية طلائعية لسيرورة نشوء النظام الرأسمالي من رحم النظام الاقطاعي-الفيودالي.



يصل ماركس إلى هذه النقطة بعد أن كان قد استعرض وحلل في الفصول السابقة كيف أن "النقد يتحول إلى رأسمال وكيف ينجب رأس المال فائضَ القيمة وكيف ينجب فائضُ القيمة رأسمالا أكبر". ولكن ولكي يكون الإنتاج الرأسمالي ممكنا فإنه يستلزم نقطة يبدأ بها الإنتاج الرأسمالي بالانطلاق؛ مرحلة أولية تشترط وجود كتلة كبيرة من رأس المال الجاهز وقوة العمل الجاهزة وتكونان سوية تحت تصرف هذه العملية الإنتاجية. إن رأس المال وقوة العمل في هذه المرحلة الأولية هنا، سابقان على الإنتاج الرأسمالي، وهذا ما يمكن تسميته تراكما أوليا أو "سابقا" حسب تعبير آدم سميث. فمن أين يأتي أذا هذا التراكم الأولي؟

سيقوم ماركس، كما سنرى، بتحطيم الادعاءات الرئيسية للاقتصاد السياسي البرجوازي وفي الأساس ادعاءات آدم سميث التي تدور حول مثالية السوق الحر وآليات نشوئه واستقراره. يكتب ماركس:



"يلعب التراكم الأولي في الاقتصاد السياسي دورًا مماثلًا على وجه التقريب، للدور الذي تلعبه الخطيئة الاصلية في اللاهوت: قضم آدم التفاحة، فحلت الخطيئة على الجنس البشري.." وعلى نفس المنوال وبحسب السردية البرجوازية: " في قديم الزمان كان هناك نوعان من الناس من جهة هناك نخبة مثابرة ذكية وقبل كل شيء مقتصدة ومن جهة أخرى كان هناك صعاليك كسإلى يبددون ما عندهم في حياة مستهترة".

هذا ما يدعيه إذا الاقتصاد السياسي البرجوازي؛ كان هنالك اشخاص اقلاء مجتهدون اذكياء مقتصدون، استطاعوا من خلال العمل والمثابرة مراكمة رأسمال واستطاعوا من خلال توظيفه الذكي البدء بمشاريع استثمارات ناجحة أطلقت عجلة الإنتاج البرجوازي. قد نجد أن هذه السردية الجذابة ممكنة وصحيحة في بعض الحالات النادرة التي نشهدها كاستثناء ولكنها بالتأكيد ليست القاعدة الاقتصادية التي منها وبها تكون نمط الإنتاج الرأسمالي من قلب النظام الاقطاعي الفيودالي السابق.



يسرد ماركس في هذا الفصل المثير ويفضح أسرار تكون التراكم الأولي، وأقترح قراءته من مصدره الأول والمتاح على الشبكة العنقودية، بأناة وتمعن لتذويت العذاب وتمثل المعاناة التي مرت بها الإنسانية خلال مراكمة رأس المال الأولي وخلق قوة عمل رخيصة. ويقدم هنا تاريخا بديلا لمغالطات الاقتصاد السياسي البرجوازي من خلال مروره بدقة متناهية مستعرضا تاريخ الاستغلال والفتوحات التي أدت إلى هذا التراكم الأولي. إن ما يسمى التراكم الأولي ما هو الا "المسار التاريخي الذي جُرد المنتجون من خلاله من وسائل انتاجهم".

" إن البنية الاقتصادية للمجتمع الرأسمالي ولدت من أحشاء البنية الاقتصادية للمجتمع الإقطاعي " يقرر ماركس ويتابع" ولم يكن بوسع المنتج المباشر ان يتصرف بشخصه الا بعد ان ينقطع الرباط الذي يقيده بالأرض ويكف عن كونه مملوكا لشخص آخر" ولكي يغدو بائعًا ’حرًا‘ لقوة عمله كان يجب تحريره من حالة القنانة ومن التبعية للطوائف الحرفية ولكن في نفس الوقت يحرر هؤلاء من وسائل انتاجهم كافة، " إن تاريخ انتزاع ملكية هؤلاء، مسجل في مدونات البشرية بحروف من دم ونار".

يواصل ماركس فيحدد: "إن انتزاع الأرض من المُنِتج الزراعي، الفلاح، هو أساس هذه العملية برمتها" ويتخذ ماركس من إنجلترا المثال الرئيسي على هذا لأنها تمثل الشكل الكلاسيكي لعملية انتزاع هذه الملكية. "اغتصاب أملاك الكنيسة وانتزاع عقارات الدولة بالنصب واغتصاب الملكية المشاعية بوسائل إرهاب لا يرحم وتحويل الأملاك الاقطاعية واملاك العشيرة إلى ملكية خاصة حديثة -تلك هي الطرائق المتعددة البسيطة الوديعة التي تم استخدامها لتحقيق التراكم الاولي"، " مما وضع الأرض تحت سيطرة رأس المال" وخلق جماهير من العمال منزوعي الملكية المجردين من الحماية والشريدين المتدفقين من الريف إلى المدينة.

لقد جرى استيعاب عمال الزراعة السابقين، هؤلاء الشريدين المطرودين من الاقطاعيات ومن المزارع التي جرى تفكيكها، بشكل جزئي فقط في المعامل الحرفية في المدن، وأبقى على جمهرة كبرى منهم بين فكي البطالة والشحاذة واللصوصية. ولهذا السبب صدرت ضد هؤلاء المجرمين "بإرادتهم الطوعية" تشريعات وقوانين دموية.



ووفقا لقانون هنري الثاني عام 1530 على سبيل المثال، يحصل الشحاذ المسن وقد كان فيما مضى فلاحًا صغيرًا، على رخصة للتسول، اما المتشرد القادر على العمل فكان يجلد حتى يسيل دمه مدرارًا، وإذا ما عاد إلى التسول ثانية فكان يعاقب بالجلد ثانية وبجذع نصف الاذن، اما إذا تكرر امره فكان يعدم بوصفه مجرما عدوا للمجتمع.

إن تسلسل الاحداث الذي "حول الفلاحين الصغار إلى عمال مأجورين وحول وسائل عيشهم ووسائل عملهم إلى عناصر مادية من عناصر رأس المال يخلق في نفس الوقت سوقا داخلية" وبينما كانت الاسرة الفلاحية في الماضي تستهلك معظم ما تنتجه من وسائل العيش والمواد الأولية فإن هذه الوسائل والمواد تحولت إلى بضائع يقوم المزارع الكبير مالك الأرض ببيعها وهكذا غدت منتوجات النسيج والكتان والصوف بضائع تباع في الأرياف وهي التي كانت تنتج في السابق للاستهلاك الذاتي.

يصف ماركس بالتسلسل كيف تحول بعض المحظوظين من الفلاحين وصغار المزارعين إلى عمال بالسخرة لدى ملاك الأراضي الذين بدأوا يراكمون قطع الأراضي الكبيرة ويحولونها إلى رأسمال وكيف تحولت بقية هؤلاء الفلاحين إلى بروليتاريا رثة تعيش على هوامش المدن. وكان لهذه "الثورة الزراعية" نتائج عديدة أهمها أن الأرض والمصادر الطبيعية تحولت إلى رأسمال وتحولت منتوجات الأراضي إلى بضائع تحكمها قوانين السوق؛ تحول الغذاء إلى بضاعة وبالتوازي مع نشوء أسواق كبيرة للبضائع تم تدمير المزارع الصغرى والتجارة الأسرية وتم تجريد وسلب الفلاحين من ملكياتهم الصغيرة ليصبحوا قوة العمل الجاهزة للانخراط في دورة الإنتاج الرأسمالي.

بالتوازي مع هذا نجد "أن اكتشاف مناجم الذهب والفضة في أمريكا واقتلاع سكانها الأصلين واستعبادهم ودفنهم احياء في المناجم وأن بدايات غزو الهند الشرقية ونهبها وتحويل افريقيا إلى محمية لصيد ذوي البشرة السوداء [...] هو ما يميز فجر عهد الإنتاج الرأسمالي. وكيف أن هذه العمليات الرغيدة هي العناصر الرئيسية للتراكم الأولي".



" تتوزع مختلف مراحل التراكم الأولي [...] لتصب في كلية منتظمة تشتمل على نظام المستعمرات ونظام الاقتراض الحكومي ونظام الضرائب الحديث ونظام الحماية الجمركية. واعتمدت هذه الطرق على العنف الوحشي كالنظام الاستعماري مثلا. ولكنها جميعا تستخدم سلطة الدولة أي العنف المنظم [...] بغية تحويل نمط الإنتاج الاقطاعي إلى نمط رأسمالي. إن العنف هو قابلة كل مجتمع قديم يحمل في أحشائه مجتمعا جديدا. فالعنف ذاته، قوة اقتصادية"

يُفصل ماركس بعضا من هذا العنف الوحشي للنظام الاستعماري: "إن تاريخ الاقتصاد الاستعماري الهولندي- وهولندا هي نموذج البلد الرأسمالي في القرن السابع عشر- ’’يعرض للأنظار صورة لا مثيل لها من الخيانة والرشاوي والمذابح والوضاعة ‘‘ (*وليم هوويت؛ الاستعمار والمسيحية)، ولا أدل على ذلك من أسلوبهم في سرقة البشر من جزيرة سيليب للحصول على العبيد لأجل جزيرة جاوه. وكان يجري تدريب لصوص البشر خصيصا لهذا الغرض وكان اللص والمترجم والبائع هم المشاركون الرئيسيون في هذه التجارة وكان الامراء المحليون هم الباعة الرئيسيون وكان الفتيان المسروقون يرزحون في زنزانات سرية في سيليب حتى يبلغوا السن المناسبة لشحنهم في سفن نقل العبيد".

ويقتبس ماركس ما جاء في أحد التقارير الرسمية: "إن مدينة ماكاسار وحدها، على سبيل المثال، مليئة بسجون سرية واحدها أفظع من الآخر، تغص بالمنكودين، ضحايا الجشع والاستبداد، وهم مثقلون بالقيود بعد أن انتزعوا من أهلهم عنوة".

يواصل ماركس:" لقد حصلت شركة الهند الشرقية الإنكليزية [...] على الاحتكار المطلق لتجارة الشاي والتجارة مع الصين عموما واحتكار نقل السلع إلى أوروبا ومنها، بينما بقيت التجارة داخل الهند وقرب سواحلها وبين الجزر حكرا على كبار الموظفين فيها. وكان احتكار الملح والافيون ونباتات التامول وغير ذلك من السلع مصدر ثراء لا ينضب. وكان الموظفون هم من يقرر الأسعار وينهبون الهنود التعساء على هواهم. [...] لقد أرغمت الشركة وموظفوها بين عام 1757-1766 الهنودَ على تقديم هدايا تبلغ قيمتها 6 ملايين جنيه. وقد دبر الإنكليز في عامي 1769-1770 مجاعة مفتعلة عن طريق شراء محصول الأرز كله رافضين بيعه ثانية الا بأسعار خيالية".

وعلى غرار ما كان يحصل في الهند الشرقية كان النظام الاستعماري يفرض سطوة النهب وعنفه على سكان الأميركتين:" إن طهرانيي انكلترا الجديدة (نيو-اينجلند) اتقياء البروتستانتية الحصيفين المبدعين هؤلاء قرروا في جمعيتهم التأسيسية عام 1703 تقديم مكافئة قدرها 40 جنيها على سلخ رأس كل هندي أحمر وعن كل اسير منهم وفي عام 1720 ارتفعت المكافأة إلى 100 جنيه عن كل فروة رأس هندي أحمر".

يلخص ماركس دور النظام الاستعماري في التراكم الأولي: "لقد أنضج النظام الاستعماري نمو التجارة والملاحة. وغدت الشركات الاحتكارية رافعات جبارة لتركيز رأس المال... إن الكنوز المنتزعة من خارج أوروبا بالسطو السافر واستعباد السكان المحليين والفتك بهم سرعان ما تدفقت على البلد الأم وتحولت فيه إلى رأس مال". لقد "لعب النظام الاستعماري دور الاله الغريب" الذي صعد المحراب ووقف إلى جانب آلهة أوروبا القدامى، ورماهم جميعا ذات نهار جميل برفسة واحدة على قارعة الطريق. وأعلن النظام الاستعماري أن كسب المغانم هو الهدف النهائي والوحيد للبشرية".



سأتابع في الجزء الثاني من هذه القراءة استعراض وتحليل العناصر الإضافية المكونة للتراكم الأولي وهي تختلف من حيث عمق دورها ومساهمتها باختلاف الحقب التاريخية التي مر بها النظام الرأسمالي ولكنها تشكل جزءًا داعمًا للمنظومتين الأوليتين؛ أي لتجريد أبناء البلد من الفلاحين والعمال الزراعيين وصغار الملاك من الأرض مما أدى وكما كنا قد رأينا إلى تزويد عجلة الإنتاج البرجوازي الناشئ برأسمال عقاري ومالي وبيد عاملة أجيرة رخيصة إلى جانب المنظومة الاستعمارية التي زودته بالإضافة إلى هذا بالعمل العبودي ورأس المال والموارد الزراعية وبالمعادن والخامات وكما شكلت له سوقا إضافية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيارة تحاول دهس أحد المتظاهرين الإسرائيليين في تل أبيب


.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in




.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو


.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا




.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي