الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كرة بدل عيارات

أوري أفنيري

2006 / 6 / 30
الارهاب, الحرب والسلام


لو أراد الرئيس بوش تفجير إيران و"إرجاعها إلى العصر الحجري" (كما عبّر أحد الجنرالات أيام حرب فيتنام) – فإن الفرصة سانحة له الآن. بينما تكون الشعوب منشدة إلى ألعاب المونديال، من سينتبه؟



تثبت حكومة إسرائيل ذلك. فجرت قوى سلاح الجو الإسرائيلي قطاع غزة بهدف مقاومة صواريخ القسّام التي تسقط في سدروت. تم قتل أكثر من عشرين فلسطينيا في غزة، منذ بداية المونديال، من بينهم أولاد بنات، امرأة حامل، طبيب وطواقم طبية. على ما يبدو، لم ينتبه أي شخص في العالم تقريبا إلى ذلك. المونديال هو الأهم.

في طريق عودتي من القدس إلى تل أبيب، اعتدت على المرور ببلدة أبو غوش والدخول هناك إلى واحة مميزة: مقهى يستريحون فيه شبان وشابات يهود على كراسي وكنبات، شبان عرب (ولكن ليس شابات)، وفي بعض الأحيان فئات من حرس الحدود أيضا، يهود ودروز. كلهم يجلسون هناك جلوس الأخوة معا، يسترخون، يدخنون النرجيلة، يتذوقون البقلاوة، يتحدثون، يضحكون ويستمعون لفيروز وزهافا بن.

عندما مررت هناك هذا الأسبوع، جلسوا كلهم بتأهب أمام شاشة كبيرة وتابعوا مباراة منتخبي هولندا والأرجنتين. تأثروا معا، قفزوا معا، صرخوا معا.

قبل ذلك ببضع، رأيت المشهد ذاته في سراييفو. في مقهى في مركز المدينة، جلست حشود من المحليين، مسلمين، كرواتيين وصربيين، يتابعون معا، يتأثرون معا، يقفزون معا، ويهتفون معا.

الأمر ذاته حدث في نفس الوقت في كافة الدول، من كندا وحتى كمبوديا، من جنوب أفريقيا وحتى كوريا الشمالية.

هل هذا جيد؟ هل هذا سيئ؟



لست من عشاق كرة القدم. مثل الكثير من الأشخاص في العالم، الذين يعرفون أنفسهم كمثقفين (وليكن معنى الكلمة ما يكون)، اعتدت على تجاهل هذه الظاهرة بابتسامة تهكمية خفيفة ومتعالية، وحتى عندما أجد نفسي في هذه الأيام ألقي نظرة على الألعاب لدقائق طويلة. تعلمت في بيت والدي أن الرياضة هي "كغوييم ناحس" (نحس غير اليهود)، وأن الرياضة اليهودية الحقيقية تتعلق بفلسفة شبينوزا أو شوفنهاور، أو في صفحات التلمود، بدلا من ذلك. عرف يشعياهو ليبوفيتش، وهو يهودي يطبق الوصايا، فريق كرة القدم كـ "أحد عشرة فوضوي يركضون وراء كرة!" (اقترح يهودي آخر، بهدف التهدئة: "لماذا الشجار؟ فليمنحوا كل فريق كرة، وكفى").

(وأيضا) من هذه الناحية، كفت إسرائيل عن كونها دولة يهودية منذ زمن بعيد، من ناحية المعنى الروحاني للكلمة. الإسرائيلي غير اليهودي يشبه أي غير يهودي في سائر بقاع العالم. والمونديال سيثبت ذلك.



ظاهرة تثير مشاعر متأججة في قلوب مليارات الأشخاص، لا يمكن تجاهلها بهزة كتف. أمامنا هنا ظاهرة إنسانية عميقة جدا. ما هو معناها؟ من أين تنبع؟

كونرد لورنس، من مؤسسي علم سلوكيات المخلوقات (بما يشمل الحيوان الآدمي)، ادعى أن هجومية الإنسان هي صفة متوارثة، ثمرة ملايين السنين من التطور البيولوجي. عاش الإنسان القديم في إطار قبائل، حيث كان يتوجب على كل منها الحفاظ على رقعة معيشة بحجم معين بهدف البقاء. كانت الهجومية مطلوبة لها بهدف طرد القبائل الأخرى بالقوة، التي هددت بالدخول إلى منطقتهم.

الحيوانات المفترسة الأخرى في الطبيعة، التي لديها أسلحة فتاكة – الأنياب، المخالب، سم وغيرها – مزودة عادة بمنظومة توقيف، تمنعها من قتل أبناء فصيلتها. وإلا فلم تكن لتبقى حتى يومنا هذا. ولكن الإنسان لا يتمتع بسلاح طبيعي، ولم تجهزه الطبيعة بمنظومة توقيف كهذه. هذا كان خطأ ذريع. صحيح أنه لا يوجد للإنسان أنياب ومخالب فتاكة، ولكن لديه عضو أكثر نجاعة من أي سلاح طبيعي: العقل البشري، الذي مكنه من اختراع الهراوة، السكين، المدفع والقنبلة الذرية. تجتمع في الإنسان ثلاثة أمور خطرة: الهجومية المتوارثة، السلاح الفتاك وفقدان الكوابح، بكل ما يتعلق بقتل أبناء جنسه. النتيجة: الميل البشري للحرب.

كيف يمكن التغلب على هذا الأمر؟ أشار لورنس إلى الدواء: الرياضة، وكرة القدم بشكل خاص. كرة القدم هي عينها البديل عن الحرب. إنها توجه الهجومية البشرية إلى آفاق غير ضارة. لذلك فهي تنعم بأهمية كبيرة وإيجابية إلى هذا الحد.



الهجومية والعنصرية تتماشيان جنبا إلى جنب. ومن هذه الناحية تتيح كرة القدم أيضا إلقاء نظرة إلى أعماق النفس البشرية.

لدى الحيوان البشري حاجة ضرورية للانتماء إلى كيان جماعي. إنه يعيش داخل جماعة. عاش الإنسان القديم في قبيلة. منذ ذلك الحين، تبدلت الأشكال الاجتماعية مرات عديدة. تغيرت الـ "نحن" من حين إلى آخر، مع تبدل المنظومة الاجتماعية. يعيش الإنسان في أطر دينية وطائفية، في حكم إقطاعي، في حكم ملكي، وغيرها وغيرها. أما في العصر الحديث، فإنه يعيش في إطار وطني.

التعاطف مع القومية هو حاجة ضرورية للإنسان العصري (فيما عدا استثناءات قليلة جدا). تمنح كرة القدم تجسيدا لهذا التعاطف، بشكل يتشابه من الناحية الخارجية مع الحرب. لذلك يقوم العلم والنشيد الوطني بوظيفة أساسية جدا في لعبة كرة القدم. الحشود التي تحمل الأعلام، والتي تلوّن وجوهها بألوان العلم، والتي تهتف بالشعارات الوطنية، تتجسد في هذه الظاهرة.

في بعض الأحيان يكون الأمر مضحكا للغاية، وقد رأينا ذلك في الأسبوع المنصرم. إسرائيل ليست شريكة في المونديال، لأن المنتخب الوطني لدينا قد خرج في مرحلة مبكرة. ولكن لاعب منتخب غانا، الذي لعب في الماضي في فريق إسرائيلي، لوّح على ملعب المونديال بالعلم الإسرائيلي – وغمرت السعادة كل الدولة: نحن هناك! نحن في المونديال!

ظاهرة أقل سخافة: للمرة الأولى منذ انهيار الرايخ الثالث، تلوّح الحشود الألمانية بعلمها الوطني بانفعال يصل إلى حد النشوة. هناك من يتحدث عن إعادة إحياء الوطنية الألمانية، وغيرها. غير أنني أعتقد أن هذه هي ظاهرة إيجابية بشكل خاص. لا يمكن لأمة أن تعيش حياة طبيعية إذا كان أفرادها يخجلون منها. يمكن لذلك أن يؤدي إلى جنون جماعي وأن يؤدي إلى ظواهر خطرة، الآن، بمساعدة كرة القدم، تم تصحيح الأمر.

تتغلب وطنية كرة القدم على أي إحساس آخر. مثال كلاسيكي على ذلك: شغل منصب رئيس البلدية في فينا، في فترة هرتسل، شخص كان لا ساميا معروفا في تطرفه. ولكن عندما واجه الفريق اليهودي "قوة فينا" فريقا هنغاريا، شجع رئيس البلدية الفريق المحلي. عندما ذكروه بأن هذا فريق هو فريق يهودي، قال المقولة المشهورة: "دعوا ذلك جانبا، أنا من يقرر من هو يهودي ومن ليس يهوديا!".

عندما كان نجم المنتخب الفرنسي جزائريا-فرنسيا، شجعه عنصريون فرنسيون حتى بحت حناجرهم. هذا ما حدث أيضا للجمهور اليهودي في إسرائيل، الذي شجع لاعبا عربيا في منتخبنا.



مفكر أوروبي قال لي مؤخرا: هناك نوادر تُروى عن البولوني، عن الألماني، عن الفرنسي وعن أبناء كل الأمم الأخرى في أوروبا. ولكنه لم يسمع أبدا طرفة تُروى عن أوروبي. وهذا يثبت بأنه لا يوجد إنسان أوروبي بعد.

كنت لأقول الشيء ذاته عن كرة القدم. لكل شعوب أوروبا يوجد منتخب، لكن ليس هناك منتخبا أوروبيا. لا يمكن أن يكون هناك وعي أوروبي شعبي، طالما منتخب أوروبا لا يواجه، تحت راية العلم الأوروبي، منتخب آسيا أو منتخب أفريقيا (يمكن لشخص خيالي حقيقي أن يحلم أيضا بمباراة بين منتخب الكرة الأرضية ضد منتخب المريخ أو الكوكب X مثلا).

صديقي الفلسطيني عصام سرطاوي، الذي اغتيل قبل 32 عاما، بسبب علاقته بنا، قال ذات مرة: "لن يحل السلام حتى يلعب منتخب إسرائيل ضد منتخب فلسطين – ونحن نكسب".



هناك، بطبيعة الحال، جانبا جندريا للموضوع أيضا.

كوبيرايتر نشيط من تل أبيب، ألصق في ساحات المدينة إعلانا كبيرا، على شكل بطاقة من امرأة موجهة إلى شريك حياتها: "إيتسيك، فليقم حامي مرمى البرازيل بتحضير القهوة لك. أنا ذاهبة مع صديقاتي إلى حانوت مستحضرات التجميل. عزيزي". في إحدى الرسومات الكاريكاتيرية تقول امرأة لزوجها، المستلقي أمام جهاز التلفزيون: "هل أنت متأكد من أنك لا تريد الذهاب معي إلى أسبوع الكتاب؟"

كرة القدم هي أمر رجولي عنيف، على الرغم من وجود مشجعات من الجنس اللطيف أيضا. تؤدي كرة القدم، من هذه الناحية أيضا، وظيفة بديلة عن الحرب، وربما أيضا عن الصيد لدى الإنسان القديم. (في الولايات المتحدة، كرة القدم الأوروبية، والتي تدعى هناك "سوكر"، تجذب النساء بشكل خاص، وذلك لأن "الفوتبول" الأمريكي هي مباراة أكثر عنفا بكثير).

يسمح للرجال في كرة القدم القيام بأمور لن يجرؤوا على القيام بها في سياق آخر: احتضان أحدهم الآخر، تقبيل أحدهم للآخر، الاستلقاء أحدهم على الآخر بعد إحراز هدف. هذا بعبر، دون أدنى شك، عن نزعات عميقة، وهذا لا يلحق الضرر بأحد.



كرة القدم هي ظاهرة إيجابية، من كل هذه النواحي، التي تقوم بتبديل ظواهر سلبية أكثر بكثير. شريطة ألا يقوم الرئيس بوش باستغلال اللحظة المواتية لتفجير إيران، بطبيعة الحال، وألا نقوم نحن باستغلالها لقصف الأولاد في غزة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أوروبية جديدة على إيران.. ما مدى فاعليتها؟| المسائية


.. اختيار أعضاء هيئة المحلفين الـ12 في محاكمة ترامب الجنائية في




.. قبل ساعات من هجوم أصفهان.. ماذا قال وزير خارجية إيران عن تصع


.. شد وجذب بين أميركا وإسرائيل بسبب ملف اجتياح رفح




.. معضلة #رفح وكيف ستخرج #إسرائيل منها؟ #وثائقيات_سكاي