الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهورلا: اوراق الجنون- الام ذاكرتي اللبنانية

فالح عبد الجبار

2006 / 8 / 15
مواضيع وابحاث سياسية



(قول شخصي عن احداث غير شخصية)


استغرقتني خربشة العنوان هنيهة خاطفة. وهو مستمد من عنوان كتاب مذكرات فرنسي كلاسيكي – محدث، دبجها كاتبها لحظة أطبقت عليه ابواب الجنون، وفشل، هو الكاتب المفوّه، في أن يجد لذلك الجنون لساناً يفضح ويجاهر. أجدني اليوم في مثل هذا الخرس. ماذا يفعل الأبكم غير أن يتأمل فورات صمته؟!

-1-
ذاكرتي اللبنانية مديدة: تشكلت في السبعينات من القرن الماضي، وانقطعت في مبتدأ الثمانينات، وعادت مطالع القرن الجديد.
هاأنذا أغادر بيروت ليلة الخامس عشر، وهاأنذا أعود ليلة الرابع والعشرين من تموز. جاري، الاعلامي، أبدى من السرور لعودتي قدراً يوازي الاستغراب.
- شو جابك لهاالبلاد؟
ثمة دهشة شفيفة في هذا السؤال المهذب.
- "مشكلجي"، قلت، من دون تفكير. إبتسم وابتسمت.
أحب هذه الكلمة، "مشكلجي". فيها فصاحة مكثفة، تختصر ثلاث كلمات: انخراط في المشاكل. زوجتي تعشق كلمتي "فناص" و"عكروت" البيروتيتين بامتياز، وتنخرط في ضحك مجلجل حين ينطق بأيهما أحد. علق الكلمات خطير.
مشكلجي؟ اي مشكلجي؟ لست موقناً ان المشاكل تطاردني، كما يحب الباكون على النفس الظن بحالهم. أمقت هذا الميل الى رثاء الذات. كما انني غير موقن بأني اطارد المشاكل. فلست متنبئاً، لا ارضياً ولا جوياً. لعلي أهوى المشاكل. لكن المشكلة تواجه أربعة ملايين كائن في لبنان اليوم. ان كان ثمة سوء حظ، فهو نحس جماعي. لبنان كله متمشكل! وأنا معه في المستنقع نفسه.

-2-
قبل أن يدلف الجنوب "ساحة الوغى" كنت في زيارته صحبة الصديق أحمد بعلبكي الذي جرّني بلطفه المعهود جراً الى جنوبه، الى القرى والبلدات، واحدة واحدة، من الخيام شرقاً، مروراً بمرجعيون وبنت جبيل وتبنين وعيناتا، حتى شارفنا التلال المطلة على الناقورة. وحده العرقوب ظل في منأى عنا. استشرفناه عن بعد: سفوح جبل الشيخ، كفرشوبا، أحراش راشيا الفخار، زيتون الهبارية ومزارع شبعا، موطن النزاع.
كان مضيفي يومئ الى قرى جنوبه، ضياعه، زيتونه، وتينه، أساطيره، وخرافاته. كانت سبابته التي تومئ الى القرى تندس في ذاكرتي لتوقظها من سبات ستة وثلاثين عاماً.
في كفرشوبا السنية تعلمت، لأول مرة، النزول الى ضيعة حلتا، فبساتين الزيتون في مزارع شبعا. كانت المطلة والتماعات بحيرة طبريا ترى بالعين المجردة. تعلمت دروب حلتا الخفية، حفيف اشجار اللوز، شذى الحبق، خضرة الزيتون، برقشات فساتين صبايا الضيعة. وشيخ مرجعيون، ابرهيم اللقيس، ما يزال ماثلاً في ذاكرتي: قامته القصيرة، جسده النحيل، يطل عليك بجبّة فضفاضة، وعمامة سنية بيضاء، ضخمة، ينوء بها رأسه وهو يكز بأسنانه على لفافة تبغ (مارلبورو؟) لا تفارق شفتيه. هو قاضي مرجعيون. ابناؤه اليساريون استضافونا في لحظة من العمر. كفرشوبا كانت ملاذي لأسابيع. تعلمت فيها جمع الماء في آبار الاسمنت، وكرعه منقوعاً باليراقات والديدان (الحميدة؟). واقتضى الامر رفقة طويلة كي أفقه لهجة الجنوب. وفي راشيا الفخار المسيحية نبتت في قلبي اول قصة حب لم تتعدَ نظرات، وبسمات خفية، وقصاصات ورق فيها تنهدات عذراء قروية، وانشاء مثقف بائس، مثالي، لم يعبر هوة الوعي اليومي لهذه الاصقاع. أمضينا ليلة رأس السنة في قبو كنيسة، إتخذناه ملجأ من القصف. كل الانفاس الدنيوية تتخيلها آهات مشفرة من الصبيّة المعجبة، حتى لو اتضح أنها خرير نفس مدخن مخضرم أو عجوز فانية. الحلكة تطلق الخيال، تلامس الايدي، أو تقاطع اصابع القدم، وان كانت عفو الخاطر، تحمل وخزات هوى.
لا ادري اليوم ما حل براشيا الفخار، وفلاحها المخضرم طانوس جرجس، الشيوعي العتيق. كان يبدو صلداً مثل سنديانة، ويداه مثل معول. إياك أن تشد على يديه عند المصافحة، لئلا يهرس كفك تعبيراً عن حرارة "رفاقية". عثرت على كلاشنيكوف تركه أحدهم في شارع في كفرشوبا، فأهديته الى جرجس، وبه كسبت مودته الابدية.
دعاني مرة، وثلة من مقاتلي المقاومة الفلسطينية للتوجه الى قرية الخيام لتشييع معلم يساري مزقته قذيفة اسرائيلية. بدت الخيام قريبة بالعين المجردة. استغرق الوصول اليها مشياً عبر الاحراش ساعات وساعات، ولما بلغنا تخومها فاجأنا مطر مدرار وثلة من جنود الجيش اللبناني. الفوهات مصوبة من الجانبين. بدا الوضع غريباً. الضحية كانت قد شيعت ودفنت قبل وصولنا، وعدنا مثل هررة منقوعة نقعاً.

-3-
ها أنذا الآن في الخيام بعد كل هذا، في معسكر الاعتقال. بدا لنا المعتقل نحن العراقيين لطيفاً، قياساً بزنزانات الأهل في بغداد، وهي اقفاص صغيرة تحت الارض. هاأنذا أعبر الزمن، بين الخيام المبللة في آذار 1970 وخيام "حزب الله" الساخنة في مطلع تموز 2006. رغم الشمس الحارقة سرت في أوصالي رعدة البلل القديم: آذار 1970.
جنوب مضيفي اليوم، هو الجنوب الشيعي، الراديكالي، المقاوم. وجنوبي هو الجنوب الفلسطيني – اللبناني المقاوم ايضاً. الاول ازاح الثاني كما لو ليقضي عليه، لا لشيء الا ليأخذ مكانه.
اتذكر بحثاً لمفكر اسرائيلي هو ايمانويل سيفان في عنوان "الاسلام الراديكالي"، ينعى فيه موت النزعة القومية العربية بسبب صعود الاسلام السياسي. والمغزى واضح: الاسلام السياسي عدو للمدارس القومية، وهو في سبيله الى تدميرها، وبدمارها يزول عدو مسكين لاسرائيل. اما النتيجة فان الدراسات السوسيولوجية تبين ان الاسلام السياسي هو الشكل الجديد للنزعة القومية. اسرائيل تعرف هذا الآن خيراً من سيفان المفكر الرغائبي.

-4-
في الحرب المشاهد كلها تبدو مزدوجة: وميض القذائف ودخانها ينبجسان اولاً في منظر صامت. ثم يأتي، بعد هنيهة السكون، دوي الانفجار. تتساقط صواريخ اسرائيل هنا ايضاً مرتين، مرة على قرى وبلدات الجنوب، ومرة على ذاكرتي. الطائرات توجه احداثيات التسديد الى بنت جبيل، ثم الى ذاكرتي، هناك الوميض، وهنا الانفجار.
صحوت في اليوم الرابع للحرب الجديدة وأنا في بنت جبيل. أمضي في السيارة صوب تبنين. بعد لحظات من العياء تذكرت أني في رقادي في منزلي البيروتي. ما أسهل اختلاط الازمنة في حجيرات الذاكرة؟ ماذا لو ضاعت الفواصل في هذه الحجيرات: فيروس اختلاط الازمان، بكتيريا اللامنطق، حافة الجنون.

- 5 -
يحارب "حزب الله" باسم القومية والوطنية، على جبهتين: جبهة لبنان في معركة داخلية، وضد اسرائيل في معركة خارجية. وتتداخل الاثنتان تداخلا مكينا.
فقدت الوطنية والقومية الكثير من سحرهما في قارة المنشأ، أوروبا. وحين تنطق بهما في شيء من الجد هناك، فأنك تثير الهزء، بل الشفقة. هنا لا تزال الكلمتان في أتم عافية، مسربلتان بالوهم المقدس. اخترع الانسان اللغة ووقع فريسة اختراعه، أسيراً لسحر والبيان. في البدء كانت الكلمة؟ في البدء كان الاغتذاء؟ في البدء كان الفتك؟ في البدء كان التناسل؟
الوطنية والقومية كلمتان عجيبتان، تستبطنان ظاهرة واحدة: الاولى تفصح عن الجماعة (القوم، الأمة)، والثانية عن المكان (الاقليم، الأرض، الوطن). يا لهذه الأوطان، المقاسة بالسنتيمترات المربعة، والمودعة في خرائط رسمية في أدراج الامم المتحدة.
عجزت اللغة عن ابتكار كلمة واحدة تجمع الوطنية بالقومية، على غرار كلمة (الزمكان) الجامعة للزمان والمكان.
في الانكليزية (واللغات الاوروبية عموما) قمة الازدواجية نفسها: الوطنية مشتقة من (Patri)، الأب. ورغم الطابع القرابي للإصطلاح فهو ترميز للأرض، أرض "الآباء والأجداد". من قال إن العين وحدها تعبد الاسلاف!
أما كلمة الامة (nation) فقد ظلت حتى أواخر القرن الثامن عشر تعني جالية غرباء. اما في العربية فإن الأمة لا تعني سوى قبيلة، قبائل الغير، أمم الآخرين، وجاليات الأمس هي أمم اليوم.
لعل الحروب التي خيضت تحت رايات الأوطان والقوميات اكثر من ان تحصى. حسبنا الاشارة الى 20 مليون قتيل في الحرب العالمية الولى، و50 مليون قتيل في الثانية. وهما حربا قوميات ووطنيات بامتياز. ما جدوى التأمل في هاتين الكلمتين في سياق حرب لبنان الجديدة؟
تغتذي النزعة القومية على العدو الخارجي، مثلما تربأ بأي شقاق داخلي. هذان هما وجهاها. وان لم يكن ثمة عدو خارجي فينبغي اختراعه. كان الروس، في ظل الاشتراكية، يرون اميركا خطرا على "الوطن"، بينما كانت النخبة تحاول طلاء الوطنية بدهان آخر: الوطنية الاشتراكية. لا ريب ان ثمة وطنية ليبرالية، ووطنية قومية، ووطنية اسلامية، كناية عن تنوع المشارب الفكرية في المجتمعات. الوطنية المستبدة وحدها تربأ بالتنوع، وتطالب، على غرار نظم الحزب الواحد، بوحدة جوانية صوانية. واي مساس بها هو انتهاك فاضح للحرمات.
تزدهر الوطنية (أو القومية) بوجود الخطر الخارجي، فان خفّ أو غاب، انتجته في الوهم، مثل حب نزار قباني: إن لم نجده على الارض، لاخترعناه. ونحاول أحيانا الافلات من اسئلة الاصلاح، والتطوير، أو التعقيد، فتقرع طبول الحرب. فكل الأسئلة مؤجل، كل الضرورات تُستبعد، إلا ضرورة الحرب.
أكاد انفجر ضحكاً وأنا أسمع شمعون بيريز يصف المعارك في جنوب لبنان، على غرار باعة بطاقات اليانصيب، بأنها "حرب حياة أو موت".

- 6 -
الوطنية والقومية اكتسبتا، رغم تقارب الدلالة، ظلالا متباينة. وهذا التفارق صنعته نظم المعرفة السياسية، مثلما صنعه الواقع.
فالمنظرون العرب، منذ أواخر القرن التسع عشر، يلهجون بالوحدة القومية العربية، حتى بات مفهوم القومية عروبياً صرفاً. أما الكيانات السياسية العديدة التي قامت على انقاض الدولة العثمانية، فقد باتت مصالحها وآمالها تكتسي طابعاً "وطنياً" (اي قطرياً حسب المنطوق الايديولوجي). صار ما هو عراقي، أو سوري، او لبناني، وطنياً، وما هو فوق هذه الكيانات، قومياً. هذا التباين مجازي، من حيث الدلالات الأولية للكلمتين، لكن الاختلاف صار وجودياً من حيث الدلالات الراهنة. وأجد في معسكر الخصم افتراقاً مماثلا. فالحركة الصهيونية التي ولدت في أوروبا الشرقية أواخر القرن التاسع عشر، كانت تعبيراً عن نزعة قومية علمانية، شاملة، تتخذ من الدين معلماً ثقافياً مميزاً للجماعة القومية، ثم من اللغة العبرية – وهي لغة التراتيل الدينية القديمة، شأن اللاتينية في الكنيسة الكاثوليكية، معلماً أثنياً للجماعة القومية.
في معنى من المعاني كانت الصهيونية، حسب تعبير اول منظر لها (ليوبنسكر Leo Pinsker) ترى ان الذات الجماعية للأمة لن تجد مأمناً لها إلا في اطار دولة خاصة بها. وبات انشاء دولة لليهود – أي دولة – المطلب الأساس لدى بنسكر (في افريقيا او في اميركا... او أي مكان). بعد ولادة اسرائيل وقع افتراق بين الصهيونية، القومية الجامعة لكل اليهود، والوطنية الاسرائيلية، أي قومية الجماعة القاطنة داخل الدولة العبرية. وباتت هذه الاخيرة مرتبطة برقعة اقليمية محددة، ذات مصالح جيوسياسية محددة. ورغم وجود تواشجج بين القومية اليهودية الشاملة (الصهيونية) والوطنية الاسرائيلية، فان الافتراق او التمايز بين الاثنتين، وارد. الصهيونية دفاع عن اليهودي ضد اللاسامية في اطار كوني، والوطنية الاسرائيلية دفاع عن اقليم محدد. ولعلنا في حاجة الى المزيد من التأمل لفهم هذه الظاهرة بدرجة أعمق.
في عالمنا العربي، شهدت النزعات القومية ثلاثة تلاوين: عربية عامة (قومية) ومحلية أي وطنية. واخيرا ثمة قومية اسلامية سبقت العروبة ثم طاردتها لتسعى الى الحلول محلها بعد نكسة حزيران 1967 وسقوط عبد الناصر. واليوم تتعايش هذه الاشكال الثلاثة، بل تتداخل، في البلد الواحد، واحيانا في التنظيم الواحد.(التتمةفي الحلقة الثانية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجناح العسكري لحركة حماس يواصل التصعيد ضد الأردن


.. وزير الدفاع الروسي يتوعد بضرب إمدادات الأسلحة الغربية في أوك




.. انتشال جثث 35 شهيدا من المقبرة الجماعية بمستشفى ناصر في خان


.. أثناء زيارته لـ-غازي عنتاب-.. استقبال رئيس ألمانيا بأعلام فل




.. تفاصيل مبادرة بالجنوب السوري لتطبيق القرار رقم 2254