الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخطاب الاسلامي والحداثة

أبواللوز عبد الحكيم

2006 / 9 / 22
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إلى أي حد يستطيع فكر ينطلق من الدين أن استيعاب الحداثة السياسية، بما هي خلق لمجال سياسي يكون محط صراع بين عدد من الفاعلين السياسيين، وإطارا لتوزيع المنافع المادية والرمزية وممارسة النقاش العام بالمفاوضة والاعتراض استنادا إلى معايير دستورية وقانونية؟ هل الثقافة الدينية هي بالضرورة عائق أمام هذه الحداثة السياسية؟ وكيف يمكن تحويل القيم الدينية ذات الأبعاد الأخلاقية والتربوية بالأساس إلى قيم سياسية ومؤسساتية تعقلن علاقة المواطنين بالدولة والسلطة بالمجتمع؟
ذلك هو الإشكال الذي سنتتبع كيفية معالجته من طرف الخطاب الإسلامي، الذي نعني به مجموعة الملفوظات الصادرة عن فاعلين تجمعهم الرغبة في بناء السلطة على أساس الشرعية الإسلامية ، المطالب بتطبيق الإسلام في الحياة السياسية، باعتباره المرجعية الشاملة والأولى للمجتمع الإسلامي، وتنطوي تحت هذا الخطاب كل التيارات سواء كانت حركات إسلامية راديكالية كانت أو معتدلة، بالإضافة إلى المفكرين ذوي المرجعية الإسلامية غير المنتمين بالضرورة إلى هذه الحركات .
وسيكون تتبعنا هادفا إلى اختبار الفرض التالي:
لا يعكس خطاب الإسلاميين ردة فعل ثقافة تقليدية ضد الحداثة ، ولكنه رد فعل تكيفي وتوفيقي يروم البحث عن عناصر التقارب والانسجام ليقويها، مقتبل التقليل من شأن التعارضات وإزالتها، فالخطاب إذن يدخل مع الحداثة في صراع فلسفي ومفاهيمي، محاولا احتوائها داخل مرجعيته من جهة ، ثم استعمالها وتوظيفها بعد ذلك.
وفي صلب الخطاب الإسلامي ذاته ، نجد تفاوتا في مستويات التوفيق ، حيث يظهر في بعض هذه المستويات انفتاحا واسعا واستجابة إيجابية للحداثة، وقد يبدو في أحيان أخرى وكأنه مجرد ترميق bricolage لايتجاوز سقف التعميمات الفضفاضة التي تروم إثبات تفوق المرجعية الإسلامية بدون مناقشة دقيقة وعلمية للمشاكل الحساسة ، فهو إذن خطاب يتداخل فيه الانفتاح و الانغلاق بصورة رفيعة.
تظهر هذه العملية على الخصوص في تعامل الخطاب مع الحداثة السياسية، حيث نلاحظ اختلافا نوعيا في التكييف المذهبي واللفظي والمرجعي بهدف صبها في القالب الإسلامي ، أو في إحدى تصوراته على الأقل .
تتضمن هذه المقولة العامة ثلاث مسويات أساسية في الخطاب الإسلامي: المستوى العام الذي يحدد الفكرة المشتركة بين أغلب اتجاهاته، ثم المستوى الخاص الذي يسعى إلى رصد الاختلافات بين هذا الشكل أو ذاك من الممارسة النظرية عند الإسلاميين في تعاملهم مع الحداثة.فعلى هذا المستوى ، يصعب وضع فرضيات عامة تنسحب على كل إنتاج الإسلاميين ، بل لابد من التمييز و التجزيء حتى نستطيع تلمس خصوصيات كل خطاب من الخطابات الصادرة عن الإسلاميين
وهناك أخيرا المستوى الثالث الذي يبين مسببات هذه الاختلافات ودواعي نشوئها .
فعلى المستوى الأول، لا يقوم أن الخطاب الإسلامي على مبدأ نفي الشأن السياسي، لأنه يستبطن فكرته الأساسية، أي الدولة كموضوع الرهان السياسي الأهم ، كما يستبطن ما هو ضروري لتحقيقها ، أي القبول بالتعددية والعمل في إطار الشرعية ، كما انه يسلك الممر الضروري للوصول إليها، أي المطالبة بالحرية والديموقراطية والتداول على السلطة والمراهنة على المجتمع لتحقيق التغيير.
لذاك، فخطاب الإسلاميين ليس رفضا للحداثة السياسية بما هي خلق "للسياسي" كمجال قائم على الصراع والتوافق لتوليد الشرعية ، فهناك اعتراف من لدنه بالحاجة إلى بناء "السياسي" ، لكن ذلك لا يتم عبر تمييزه عن المجال الديني ،الذي يعتبره الإسلاميون المصدر الوحيد للمبادئ والأسس القابلة لأن تكون موضوع ذلك الحد الأدنى من التوافق الذي لا يمكن بدونه قيام النظام الاجتماعي ، بعد ما يعتبرونه عجزا لمختلف الإيديولوجيات التي حكمت المجتمعات الإسلامية عن تحقيق هذا الإجماع.
علاوة على ذلك، لا تعكس الممارسة السياسية للإسلاميين رفضا لهذه الحداثة ، بل إن الموقف منها هو موضوع خطة مدروسة يهدفون من خلالها إلى خلق مجال سياسي عصري جديد ، وإعادة تقنين القواعد تحكم اللعبة السياسية ، انطلاقا من قراءات خاصة للإرث التراثي .
وحتى مع رفض ما تتأسس عليه الحداثة من فكرة الفصل بين المجال العام و المجال الخاص والذي يترجم سياسيا بالعلمانية ، فإن الخطاب الإسلامي بيدي محاولة لفهم هذا الفصل والرد عليه ، مع اختلاف مستويات هذه المحاولة ، بين من يكون ينتهي به تعامله مع هذه الفكرة إلى تثبيت الفواصل وتعميقها ، و بين يبدي بصددها تقبل نظريا ، بغرض إيجاد الصلة التي ظلت مفقودة بين الفكرين الأصولي والعلماني .
إن رفض فك الارتباط بين "السياسي" وما عداه ، لم يكن عائقا أمام الخطاب الإسلامي للتفاعل مع الحداثة السياسية ، بقدر ما يمثل إعادة إنتاج التفكير في "اليساسي" على ضوء خصوصية الثقافة الإسلامية وأخدا بعين الاعتبار مقتضيات النظر السياسي الحديثة . أي ، مفهوما "للسياسي" يتميز بخصوصيته و حداثته معا . تتمثل هذه العملية في إعادة بناء معاني القيم الدينية التي توحي بالسلطة ومواجهتها ، وتطعيم مدلولاتها التربوية و الأخلاقية بمضامين سياسية ، تجعل منها ضمانات قانونية ومؤسساتية تساهم في تحقيق الديمقراطية ، أنها عملية للانتقال بالقيم الدينية من المجال الخاص،أي من مستوى الإيمان والمراهنة على الفضيلة الأصلية المتشخصة في الفرد ، إلى المجال العام عن طريق تطعيم معانيها الباطنية والروحية بنظرة وسائلية وإجرائية . ذلك ما تفيده الاجتهادات التي راكمها الإسلاميون في مواضيع حساسة مثل التعددية و المشاركة و التمثيلية…
لذلك نستطيع القول أن غياب التفكير في "السياسي" كمجال مستقل عن المجال الديني هو العنصر المفتقد في خطاب الإسلاميين ككل ، فخطابها هو جملة من الردود و الإثباتات ذات الصلة بموضوع السياسة والسياسي ، لكن دون أن يكون البعد المركزي الوحيد للتفكير و البؤرة الناظمة لإبعاده ، حيث لو يتم تناوله كأفق مستقل كما هو الحال عند فلاسفة النهضة و الأنوار اللذين أسسوا حقل السياسة خارج دائرة الدين والأخلاق.
من جهة أخرى، يدل الموقف التكيفي تجاه الحداثة السياسية على أننا لسنا أمام خطاب يكتفي بمعاودة إنتاج النموذج الإسلامي للسلطة ، واستخدام اللغة السياسية التقليدية ، يتضح ذلك من خلال القطيعة مع التصورات القديمة التي روجها الفقهاء التقليديون،وأيضا مع مرجعيات الإسلام السياسي التقليدية .
أما على المستوى الثاني، فيتراوح الانفتاح على التراث الفكري و الفلسفي الحداثة عند الخطاب الإسلامي بين اتجاه له القدرة على التعامل مع هذه المنظومة بكاملها ، بما يعنيه ذلك من اهتمام بالأسس اللبيرالية للحداثة السياسية ، وتدبير المفارقات التي قد تظهر على هذا المستوى مع الثقافة الإسلامية ، وبين من يكون اتصاله بهذا التراث مجرد محاولة لاستمداد ما يكشفه من ثغرات ، فالتوجه للاقتباس من هذه الأخيرة يغلب عليه هم الحاجة إلى التقنية السياسية ، أكثر مما يغلب عليه الأيمان بالقيم الإنسانية التي تتأسس عليها الحداثة ، وخير دليل على ذلك ، أن هذا الاقتباس هذا التراث غلبا ما يرافقه هجوم عليه ، وتقليل من أهميته ، وترقب لانحطاطه المرتقب.
أما التكيف مع الحداثة فيتم عند بعض الإسلاميين عبر إعادة إنتاج أطرها الفكرية في اتجاه أقلمتها ، يظهر ذلك من خلال الاهتمام بالمصطلح الحداثة ذاته والقضايا المتفرعة عنه ، في مقابل غياب ذات الاهتمام بالتقاليد السياسية الإسلامية . في حين يتم هذا التكييف عند البعض الآخر عبر إعادة إنتاج وتقييم الإرث التراثي الإسلامي للارتفاع به إلى مستوى الحداثة ، فأقلمة القيم السياسية الحديثة تتم من خلال تنشيط فاعلية القيم الدينية نفسها بتحرير هذه الأخيرة من حقلها المعرفي التقليدي و قراءتها في ضوء الجهاز المفاهيمي للحداثة نفسه.
أما من جهة التعامل مع الأسس الفلسفية للحداثة السياسية، فإن رفض بعض الإسلاميين لها يدفعهم إلى ممارسة التوفيق بين الثقافة الإسلامية و الحداثة على مستوى الحدود الدنيا للمعنى الذي تنتجه القيم الليبرالية للحداثة السياسية، في حين يدعو البعض الآخر إلى تفاعل هذه الثقافة مع الحدود العليا للحداثة أي أسسها الفلسفية خصوصا المثالية منها والمؤمنة .
نفس التعامل نجده حاضرا عند التعامل مع المفاهيم السياسية الحديثة، فإذا كان بعض الإسلاميين يرفضون المعاني المعطاة لها باعتبار عدم وجود أصل لها في الثقافة الإسلامية وتكتفون بتوظيف الموازين الأخلاقية و الفقهية أو مؤسسات المجتمع التقليدي وإسقاطها على هذه المفاهيم ، (شورى –ديموقراطية) (أهل الحل والعقد-برلمان) (إجماع-رأي عام) ، فإن البعض الآخر بدى أكثر وعيا بشروط الانتقال من نظام معرفي تقليدي إلى نظام معرفي حديث وأثر ذلك عملية التوفيق بين المفاهيم ، فلم يكن مدخل التجديد عنده هو إسقاط مفاهيم حديثة على أخرى تقليدية ، بل تفكيك المفهوم التقليدي إلى أجزائه التفصيلية لإدخال المعاني الحديثة أليها ، ثم الانتهاء إلى تعديل المضمون الكلي للمفهوم ، لكي تصبح عبر أجزائه موافقا للصيغة الجديدة التي يراد قراءة المفهوم التقليدي على ضوئها .

وعلى المستوى الثالث، فإن الاختلاف بين الإسلاميين في فهم الحداثة وتفاعلهم معها يرجع في جانب كبير إلى ما تعرفه تنظيماتهم من تمايزات وانقسامات وتباين في الرؤى و التصورات ، كما يرجع إلى التفاعلات التي شهدتها هذه التنظيمات . فقد كانت بعض هذه التيارات مكونة من تيارات متعددة تداخلت في حركة تأثير وتأثر، نجم عنها موقف متميزة تجاه الحداثة.
يمكن أيضا رد هذا الاختلاف إلى تفاوت موقع الإسلاميين من التفاعلات النسق السياسي . فالنسبة للبعض ، غالبا ما تكون الرغبة في الدخول إلى المجال السياسي والبحث عن الاعتراف القانوني سببا في اتسام مواقفهم بالبراغماتية وعدم الانسجام مع البناء الفكري والإيديولوجي لتنظيمهم. فيظل خطابهم يلهث وراء مستجدات الحقل السياسي ، ويبقى موقفهم من الحداثة موضوع استراتيجية سياسية دون التمكن من تعميقه نظريا.
أما بالنسبة للبعض الآخر، فقد كانت القطيعة مع النظام السياسي،وفقدان الأمل في معاودة الاندماج في المجال السياسي ، دافعا للقيام بنقد ذاتي نتج عنه اتسام الخطاب ببعد تحليلي ، وبقدر من التماسك النظري و المفاهيمي.مما جعله أقرب الخطابات الإسلامية إلى الحداثة. وجعل من التنظيمات الناطقة به الأكثر حداثة من غيرها.
كما لأساليب التكوين التي تلقاها الإسلاميون أهمية كبرى في فهم تمايز نظرتهم إلى الحداثة ، فقد دفع التشبع بالثقافة التقليدية البعض إلى مجرد تطعيم الوعض الديني بشذرات من المفاهيم المنبثقة من الحداثة ، في حين يدفع التدرج في المنظومة التعليمية الحديثة إلى إيثار الجهاز المفاهيمي للحداثة، مع القيام بتوفيق لفظي يهدف إلى التعبير عن نتائج العلم الحديث بتعابير إسلامية ، أما تتعدد وتنوع المنظومات التعليمية فيؤول إلى ممارسة التوليف بين النموذج التقليدي المستند إلى المفارق و المتعالي ، وبين النماذج الحديثة وليدة التجارب الإنسانية و التاريخية ، فاستعمال المفاهيم للحداثة هنا يكون في الحدود التي لا تتنكر فيها للمفارق وللكمالية الأصلية للمقدس.وأخيرا تظهر البعض خطابا تتداخل فيه جميع هذه الأنماط حيث يمكن أن نقرأ فيه إسلاميا سلفيا وصوفيا وتوفيقيا وثوريا.
وأحيانا يؤدي الاكتفاء بمعرفة الحس المشترك التراثي و الغربي،الأصيل و المعاصر إلى غموض يطبع تعامل الإسلاميين مع الحداثة ،ففي خطاب وظيفته تحريك الجمهور ليس هناك حاجة إلى الاتساق المفاهيمي و الفلسفي ، فالاتساق يطرح عندها من وجهة الفاعلية السياسية المحضة.
وبالرغم من النهل من نفس المرجعية فإن تعدد مراكز إنتاج القيم داخل نفس التنظيم الإسلامي يؤدي إلى تفاوت فهم الحداثة السياسية ومستويات التوافق معها.في حين يقل هذا التفاوت في تنظيمات أخرى ،بفعل المكانة الرمزية التي يحتلها قائد التنظيم وامتناعه عن الخوض في كثير من المتاهات الفكرية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هنية: نرحب بأي قوة عربية أو إسلامية في غزة لتقديم المساعدة ل


.. تمثل من قتلوا أو أسروا يوم السابع من أكتوبر.. مقاعد فارغة عل




.. العقيدة النووية الإيرانية… فتوى خامنئي تفصل بين التحريم والت


.. العالم الليلة | ليست نيتساح يهودا وحدها.. عقوبات أميركية تلا




.. شاهد: مع حلول عيد الفصح.. اليهود المتدينون يحرقون الخبز المخ