الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيسُ القُبَل

هاشم تايه

2007 / 2 / 14
كتابات ساخرة


مذ استيقظت صباح هذا اليوم وجدت كياني كلّه مملوءاً برغبة هائلة في أن أطبع قبلتي على عالم يومي كلّه بأشيائه، وكائناته، وأمكنته، وحتى دقائق ساعاته، رغبة تملّكتْ روحي، وأخضعتْني تماماً لمشروعها الذي لا بدّ من تنفيذه، كما لو أنّه رسالة عُليا عليَّ الانصياع لها وإشهارها بشفتيَّ هاتيْن...
أعددْتُ نفسي كرياضي تهيّأ لمارثون طويل وتنفّسْت بعمق، وملأتُ رئتيّ بأكبر قدر من هواء الصباح الطريّ الذي أرسله الرّبُّ توّاً كفطور للأرواح الملهمة، وكما لو أنني صرتُ كائناً يتمتّع بقوى خارقة شرعْتُ أُنجزُ قبلتي باجتهاد نسائنا القرويّات المثقلات بالأعباء، فهرعتُ كالملهوف إلى المرأة في مطبخ الصباح ومنحتُ وجنتها أول جزء من أجزاء قبلتي الهائلة، فترنّحتْ ثمِلَة، وانحنيتُ على طبّاخها القديم فباركتُهُ بقبلة أطلقتْ النار من عيونه الأربع، وتلقّتْ وجنات أولادي وهم بثياب المدرسة هدايا شفتيّ على عجل، وصعدتُ على كرسي من البلاستيك حتّى بلغتُ المصباح المستطيل المُغبّر وقبّلتُ زجاجته القبلة الخطرة التي كادتْ تطيح بأقدامي من الكرسي الذاهل... وذهبتُ إلى الصور المعلّقة على الجدران لأحبابي الذين ماتوا بحسرة ، لأنّهم لم يروا نهاية طاغيتهم كما كانوا يودّون، فقبلْتُ وجوههم المزجّجة...
وفي الشارع أتحفتُ أرضنا المرهقة بثلاث قُبَل لتستعدّ لاستقبال ألعابنا الصغيرة الخطرة على ترابها المسكين، واضطررتُ إلى أن أقفز قفزة عالية لكي أنوش السماء البعيدة وأقرعها بقبلة مدويّة كالرّعد لعلّها تعود إلينا..
وعموداً فعموداً تعلّقتُ بأعمدة الكهرباء الباردة وأتخمتُها بقبلٍ لاسعة هدرتْ في بطونها الفارغة وهزّت أسلاكها اليابسة... وانطلقتُ في الشوارع والسّاحات كعاشق مسحور أنثر قبلاتي المغرّدة على العابرين الذين لم يأنف أحدٌ منهم من استقبالها ربّما لأنّهم اعتبروها من مجنون لا حرج على قبلاته، وهكذا صرفتُ الساعات حاملاً كيس القُبَل في الأحياء القريبة والبعيدة، فقبّلت أبواب البيوت وعتباتها وشبابيكها، وفي الأسواق نال أصحابُ البسطات الطيبون حظّهم من القبلات، وأشبعتُ باعة أكياس النايلون الصغار بالقُبَل، وهكذا فعلت بدافعي العربات الخشب المكدودين، وحتى السّوّاق الذين لا يعجبهم العجب قبّلتهم في قمرات مركباتهم، ونال شرطة المرور أوفر نصيب من قُبَلي، ولم أترك جداراً في المدينة إلاّ عانقتُه مُقبّلاً حجارته، وكلماته المتقاتلة، وموتاه المكتوبين على إسمنته المتآكل، وأقبلتُ على النخل، وعلى الشجر، وعلى القطط الجائعة، والكلاب الطريدة وعلى تلول النفايات، وأكداس الملابس البالية، فقبّلتُها جميعاً حيث وجدتُها، ورحتُ إلى الجسور المتهدّلة فشفيتُ أوجاعها بقبلاتي الرّحيمة...
وما بقي في كيسي من القُبَل قرّرتُ أن أحمله إلى قاتلينا الرهيبين !! قبل أن يخرجوا إلى شوارعنا ويباشروا قتلَنا فيها ، وسأُقبّل أحزمتهم الناسفة، ومفخخاتهم،وبنادقهم لعلّها ترقّ، وتبرد، وتخجل، وتعود إلى بيوتها نادمة، وتدفن نفسها فيها إلى الأبد، وتُريحنا من نارها، فأنا مثل أخوة الأرصفة، لا يمتلكون غير هذه البسطات الخفيفة التي يُقتَلون عليها ، وغير أكياس القُبَل ....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير