الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مداخلة حمّة الهمامي في الندوة المتعلقة بالمساواة بين الجنسين

حمه الهمامي
الناطق الرسمي باسم حزب العمال التونسي

2007 / 3 / 9
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات


مداخلة حمّة الهمامي في الندوة المتعلقة بالمساواة بين الجنسين - "هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات" ديسمبر2006

هذا نص مداخلة الرفيق حمّه الهمامي في ندوة "المساواة بين الجنسين" التي نظمتها هيئة 18 أكتوبر للحقوق و الحريات في مطلع شهر ديسمبر 2006. وقد راجعها المعني وأضاف إليها فقرات على ضوء النقاشات التي جرت.


يعتبر حزب العمال أن مسألة حقوق المرأة تمثل جزءا لا يتجزّأ من المسألة الديمقراطية العامة المطروحة في بلادنا، بل إنه يعتبر أنّ أي مشروع ديمقراطي لا تكون هذه الحقوق، بل لا يكون تحرير النساء من الميز والاضطهاد في قلبه وصميمه لن يكون إلاّ مشروعا مشوّها وغير متماسك، فلا يمكن تصور نظام ديمقراطي لا تكون فيه المساواة التامة بين المواطنين بشكل عام وبين الجنسين بشكل خاص أساسا من الأسس التي ينبني عليها. وتكتسي مسألة المساواة بين الجنسين أبعادا عدّة. فهي تطرح داخل العائلة من جهة وفي المجتمع والحياة العامة من جهة ثانية، كما تطرح في مستوى القانون من ناحية وفي مستوى الممارسة الواقعية من ناحية ثانية. ولقد مثلت هذه المسألة بأبعادها المختلفة محورا من محاور الصراعات الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي شقت بلادنا منذ أواخر القرن التاسع عشر وخصوصا منذ مطلع العشرينات من القرن العشرين. ولم يكن حضور هذه المسألة في تلك الصراعات معزولا عن التطورات التي شهدها المجتمع التونسي في الحقبة الاستعمارية ولا تلك التي شهدتها، في العصر الحديث، بقية الأقطار العربية وبلدان العالم التي حققت النساء في البعض منها خطوات حاسمة نحو تحررهن وانعتاقهن.

I - صراع بين مشروعين مجتمعيين
وقد حكم هذا الصراع، كما هو الحال في معظم الأقطار العربية، وبلدان العالم نظرتان جوهريتان متناقضتان: نظرة تسعى إلى الحفاظ على الوضع الدوني للنساء داخل العائلة والمجتمع مستخدمة مسوغات إيديولوجية عدّة من قبيل "إن الله شاء" أو"الطبيعة اقتضت" أو"النواميس الاجتماعية والأخلاقية أملت"، ونظرة تقدمية تنسّب المسألة وتتناولها من زاوية التاريخ والعلاقات الاجتماعية معتبرة أن الوضع الدوني للنساء "ظاهرة مكتسبة" ولّدتها السياقات التاريخية والعلاقات الاجتماعية التي عشن فيها وبالتالي فإن ذلك الوضع ليس ثابتا بل قابلا للتغّير بتغّير تلك السياقات والعلاقات وتطورها.

وإذا كانت مسألة حقوق المرأة أثيرت في بلاد المشرق، وتحديدا في مصر منذ ثلاثينات القرن التاسع عشر مع رفاعة الطهطاوي (تخليص الإبريز في تلخيص باريز – 1834، المرشد الأمين للبنات والبنين - 1872) ثم في مطلع القرن العشرين مع قاسم أمين (تحرير المرأة - 1899 والمرأة الجديدة - 1900) فإن الثلاثينات من القرن العشرين مثلت منعرجا حاسما في إثارة تلك المسألة في تونس.ويرجع الفضل في ذلك إلى الطاهر حداد الذي يعتبر في عصره "رائد تحرير المرأة التونسية".

إن هذا الزيتوني التكوين، ولكن الملتصق التصاق شديدا بالحياة الاجتماعية التونسية من خلال فصيلها المتقدم أي الحركة النقابية العمالية التي خصّها بأحد أثريه التاريخيين (العمال التونسيين وظهور الحركة النقابية التونسية - 1927)، عبّر في أثره الثاني الذي خصّ به النساء التونسيات (امرأتنا في الشريعة والمجتمع - 1930) عن أهم الإصلاحات التي كانت تروم النخبة التونسية النيّرة إدخالها على أوضاع المرأة خاصّة والمجتمع التونسي عامة.

مسألة اجتماعية

عالج الحداد مثله مثل رموز الإصلاح الاجتماعي في العالم العربي، المسألة النسائية كمسألة اجتماعية ورأى في تخلف أوضاع النساء التونسيات علامة جوهرية من علامات تخلّف المجتمع التونسي الذي كان يرزح وقتها تحت وطأة الاستعمار المتحالف مع القوى الرجعية المحليّة، وفي نهوض تلك الأوضاع، علامة من علامات نهوض المجتمع بأسره. ومن هذا الموقع صاغ الإصلاحات التي نادى بها على غرار إلغاء تعدد الزوجات وحق الفتاة في اختيار شريك حياتها وفي طلب الطلاق وفي التساوي مع الرجل في الإرث وفي التعليم والشغل وتقلّد الوظائف العمومية. وقد حاول الحداد أن يجد لإصلاحاته مسوّغا في الدين الإسلامي باعتبار ما كان للأفكار الدينية والعادات والتقاليد من دور بارز في تبرير اضطهاد النساء ومعارضة تحررهن. ولم يكن يهمه التقيّد بالأحكام الشرعية والفقهية بقدر ما كان يهمّه الدفاع عن ضرورة تحرير"المرأة المسلمة" حتى تسترد عضويتها كاملة داخل الأسرة والمجتمع.

إن النواة الأساسية في فكر الحداد التي بني عليها الإصلاحات التي نادى بها والتي مكنته من تجاوز الجمود الفكري لسابقيه، تتمثل، كما جاء في مقدمة كتابه: "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، في ضرورة إخضاع الأحكام الشرعية لتطور الحياة أي لتطور الواقع، وليس العكس لأن الأحكام نتيجة للظروف التاريخية وبما أن التاريخ يتحرك والواقع يتطور ويتغّير فإن التشريعات ينبغي أن تواكب حركتهما وتطورهما وتغيّرهما وليس العكس. فالواقع المتغيّر، المتحرّك، المتطور لا يمكن أن يكون حبيس تشريعات ثابتة وجامدة تعيقه وتكبله.

على هذا الأساس نسّب الحداد العديد من الأحكام الإسلامية/الفقهية وراجعها. وقد ميّز بين ما اعتبره "جوهر"/"مرمى"/"معنى"/"روح" الإسلام وهي "الحرية والمساواة والعدالة"، وبين ما هو "عَرْضٌ/"حكمٌ"/"خاصٌ". فالمظهر الأول "باق"، "خالد"، والمظهر الثاني "متغيّر"، "متطور". ويربط الحداد بموقفه هذا مع المدرسة "المقاصدية"، الاجتهادية في الإسلام. وقد تميّز في مواقفه عن قاسم أمين ومحمد عبدو وغيرهما من المصلحين إذ بلغ في عصره ذروة "المدرسة الإصلاحية الإسلامية".وقد وجد إلى جانبه، في صراعه مع القوى الرجعية المحافظة التي سارعت، كما جرت العادة، إلى تكفيره، عديد المثقفين النيّرين أمثال الصحفي الهادي العبيدي والشاعر أبي القاسم الشابي وغيرهما.

وشهدت الحركة النسائية في تلك الفترة، سواء بتأثير مباشر أو غير مباشر لأفكار الحداد، تطورا هاما، فظهرت جمعيات نسائية متعددة المشارب الفكرية أسهمت في النضال الوطني ضد المستعمر الفرنسي وأعدت الأرضية الملائمة للاعتراف لاحقا، لنصف المجتمع، بإنسانيته وكرامته.

مجلة الأحوال الشخصيّة

وبما أن أفكار الحداد كانت في اتجاه التاريخ، فإنها لم تمت بموت صاحبها، بل كان لها صدى في مجلّة الأحوال الشخصية الصادرة بتاريخ 13 أوت 1956 أي أشهرا قليلة بعد "إعلان الاستقلال" في 20 مارس 1956.

إن الإصلاحات الواردة في هذه المجلّة مثل منع تعدد الزوجات وإقرار حق المرأة في اختيار شريك حياتها وفي طلب الطلاق، لم تواجه معارضة سياسية أو اجتماعية ذات بال بل سرعان ما استوعبها المجتمع ودخلت ضمن تقاليده الجديدة وهو ما يعني أنها لم تكن مسقطة عليه وعلى وعي معظم أفراده بل مندرجة في سياق تطوره العام.

من البديهي أن توجد أقليات تعارض مثل تلك الإصلاحات ففي كل المجتمعات توجد قوى شد إلى الوراء وهي تستعمل كل المسوغات الإيديولوجية والثقافية والاجتماعية لمنع المجتمع من التقدم. فقد حاول بعض رجال الدين التقليديين في تونس وصفاقس التصدي لتلك الإصلاحات ولكن دون جدوى إذ سرعان ما تم الالتفاف على دعواتهم.

ولكن الإصلاحات التي جاءت بها مجلّة الأحوال الشخصية فقدت تدريجيا "ريادتها" التي كسبتها بالمقارنة مع ما هو موجود ومكرّس في البلدان العربية والإسلامية الأخرى (عدا تركيا الكمالية). فبمرور الزمن بانت حدودها، بل عجزها عن تحقيق طموح النساء التونسيات وخاصّة الواعيات منهن إلى مساواة تامة وفعلية بينهن وبين الرجال. وقد اقترن ذلك بتواتر أزمات النظام البورقيبي الذي افتضـح طابعه الاستبدادي والاستغلالي والتابع وبالتالي عدم قدرته على تحقيق المواطنة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتحرير البلاد من كل هيمنة أجنبية. وهو ما أدى إلى قيام حركات اجتماعية احتجاجية عدّة وظهور معارضات سياسية، يسارية بالخصوص، كان للنساء المثقفات دور بارز فيها.

حركة نسائية تقدّميّة

في هذا الإطار ظهرت في النصف الثاني من السبعينات حركة ديمقراطية تقدمية في صلب النساء المثقفات اليساريات عبرت عن عدم رضاها عمّا هو موجود. وشكل نادي الطاهر الحداد للمرأة نواتها الأساسية وقد وضعت هذه الحركة التي كانت على اطلاع على مجريات الحركات النسائية في العالم،التي عرفت في هذه الفترة مدا هاما، وضعت الإصبع، وهنا تكمن مزيّتها التاريخية، على ثغرتين أساسيتين في أوضاع النساء التونسيات، الأولى تشريعية وتتمثل في غياب المساواة بين الجنسين في التشريع التونسي رغم المكاسب المحققة (الطابع الأبوي لمجلّة الأحوال الشخصيّة الخ..) والثانية واقعيّة وتتمثل في الهوّة التي لا تزال قائمة بين الخطاب والواقع، بين النص والممارسة. وعلى هذا الأساس حددت تلك الحركة أرضيتها المطلبية في محورين اثنين: الأول: إلغاء كافة مظاهر التمييز بين الجنسين في التشريع التونسي والثاني: ردم الهوّة بين الخطاب/القانون والواقع لتحقيق مساواة فعلية بين الجنسين، وربطت هذه الحركة تحقيق هذا الهدف بتغييرات جذرية اجتماعية وسياسية وثقافية في المجتمع واعتبرت نفسها جزءًا لا يتجزّأ من الحركة الديمقراطية والتقدمية.

أعطى ظهور هذه الحركة دفعا للنضال النسوي في البلاد، فانتشرت النوادي النسائية في مختلف الجهات. كما أُحدِثت لجان نسائية في العديد من القطاعات (الاتحاد العام التونسي للشغل ـ المحامون ـ الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ـ الحركة الطلابية ...) لتحمل راية الدفاع عن حقوق المرأة الاجتماعية والسياسية والثقافية وتناضل ضد الميز القائم في النص والممارسة.

ارتداد

ولكن حصل ارتداد في الثمانينات. وينبغي الإقرار أن هذا الارتداد ارتبط بتنامي تأثير الحركة الإسلامية في تونس. فقد تحول النقاش من مطالبة بتطوير مكتسبات المرأة في اتجاه مساواة تامة وفعلية إلى نقاش حول مشروعية هذه المكتسبات: هل هي مطابقة أم منافية للشريعة الإسلامية؟ وتعالت أصوات من داخل الحركة الإسلامية منددة بإلغاء تعدد الزوجات ومنح المرأة حق الطلاق وخروجها إلى المدرسة والشغل والاختلاط مع الذكور والسفور ومحملة النساء مسؤولية تدهور الأخلاق في المجتمع وبطالة الرجال. وطالب البعض من رموز الحركة بتنظيم استفتاء حول مجلّة الأحوال الشخصية.

عمّقت هذه المواقف الهوّة بين أطراف الحركة الديمقراطية اليسارية والنسوية منها خاصة من جهة والحركة الإسلامية من جهة ثانية. وأصبح الموقف من حقوق المرأة وتحررها يختزل في بعض الأحيان الخلافات القائمة بين الطرفين. فإذا كانت الحركة الإسلامية تعتبر أن حرية المرأة هي البوابة التي دخلت منها "العَلْمَانية الغربية" لضرب "القيم الإسلامية" وهو ما يفترض في نظرها التصدي لتلك الحرية التي تختزلها في بعض مظاهر الانحلال في المجتمعات الرأسمالية البرجوازية (اللباس الخليع، الخ.) وتسكت عن جوهرها الحقيقي المتمثل في المساواة في الحقوق المكرسة للمساواة في الإنسانية، فان القوى الديمقراطية اعتبرت أن موقف الحركة الإسلامية من حرية المرأة وحقوقها هو المقياس الذي يتحدد به مدى تقدم هذه الحركة في تبني مبادئ الحرية والمساواة والديمقراطية بشكل عام.

هذا الوضع خلق متنفسا لنظام الحكم خصوصا بعد 7 نوفمبر 1987. فبعد أن كان هذا الأخير متهما بعرقلة مسيرة النساء نحو تحقيق مساواة تامة وفعلية ومطالب بالاستجابة إلى جملة من المطالب ذات البعد القانوني والعملي، أصبح يتقدم على أنه "حامي حمى حقوق المرأة" ويوظف هذه المسألة في الداخل والخارج للظهور بمظهر "النظام العصري التحديثي" وتغطية طبيعته الاستبدادية وانتهاكه المنهجي للحريات وحقوق الإنسان وضربه للمبادئ والقيم الديمقراطية.

وكان لهذا الصراع انعكاساته على مسيرة الحركة النسائية التي أصبح اهتمام جزء منها منصبا على " الحفاظ على المكاسب"، مرجئا بذلك النضال من أجل تطويرها ولسان حاله يقول "شِدْ مشُومِكْ لا يجيكْ ما أَشْوَمْ منُو". وقد بدا وكأنه يوجد نوع من "التوافق" بين السلطة وبين الحركة النسائية أو على الأقل أطراف منها، إلى أن ارتفعت في عام 1994 أصوات نسائية تنادي بـ"عدم توظيف قضية المرأة لتبرير القمع السياسي" (عريضة الـ118) فنزعت بذلك من يد السلطة ورقة كانت تستخدمها لتبرير قمع الإسلاميين والمعارضة عامة وكسب مساندة الحكومات الغربية المتخوّفة من مد الإسلامي السياسي.

توجّه جديد؟

ونتيجة للحراك السياسي والفكري والاجتماعي في داخل البلاد والتطورات الدولية، حصل تغيير في خطاب بعض الفصائل الإسلامية التي أصبحت تدفع عن نفسها "تهمة" السعي إلى مراجعة مكتسبات النساء التونسيات وتعبّر عن تمسكها بها وترى فيها "جزءا من مكاسب الحداثة التونسية" التي لا تتناقض مع مقومات "الهوية العربية الإسلامية".

وعلى صعيدا آخر انطلقت أعمال مشتركة، في إطار"هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات" بين معظم تيارات المعارضة بما فيها التيار الإسلامي (حركة النهضة) على أساس أرضية دنيا تهم الحريات الأساسية لمواجهة استبداد نظام الحكم. وقد تم الاتفاق داخل هذه الهيئة على إطلاق حوار عام ومفتوح حول جملة من القضايا الخلافية قصد التوصل إلى وضع عهد ديمقراطي يلتزم الجميع باحترامه. ومن بين هذه القضايا، المسألة التي نتناولها اليوم وهي مسألة حقوق النساء والمساواة بين الجنسين التي تمثل كما قلنا ركنا من أركان النظام الديمقراطي وشرطا من شروطه.

II- أوضاع النساء في تونس
ما هي أوضاع النساء اليوم في تونس؟

خلافا لما تروجه الدعاية الرسمية، فإن أوضاع النساء التونسيات وخاصة منهن المنتميات إلى الطبقات والفئات الشعبية وهن الأغلبية، سيئة على كافة المستويات بحكم الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية الرأسمالية المتوحشة لنظام الحكم وبحكم الاستبداد السياسي وانتشار القيم الفردانية وثقافة الاستهلاك التي شيّأت المرأة وحولتها إلى بضاعة جنسية، وهي كلها أسباب تهدد ما تحقق للمرأة من مكاسب نتيجة النضالات التي خاضها مثقفون تقدميون من أمثال الطاهر الحداد وحركات ديمقراطية نسائية وغيرها على مدى أكثر من نصف قرن.

مساواة قانونية منقوصة

إن النساء التونسيات مازلن ضحية للميز على المستويين التشريعي والواقعي. فعلى المستوى الأول لم ترتق المساواة بين الجنسين إلى مستوى المبدأ الدستوري. كما أن مجلة الأحوال الشخصية، ما تزال، بعد نصف قرن من صدورها، مطبوعة بطابع أبوي، ذكوري، تمييزي في عدد من المجالات الهامة مثل إدارة شؤون العائلة إذ ما تزال رئاسة العائلة تسند إلى الزوج دون سواه (الفصل 23) والإرث، إذ ما تزال القاعدة المعمول بها للأنثى نصف ما للذكر، والحضانة والولاية إذ أن ولاية المرأة على الأطفال ما تزال مشروطة، كما أن اللقب العائلي ما يزال مقصورا على لقب الزوج دون لقب الزوجة واختيار مقر السكنى من مشمولات الزوج والمهر الذي عرَّفه الفقهاء بأنه المقابل الذي يدفعه الرجل للاستمتاع بجسد زوجته، ركنا من أركان الزواج وإن شئنا شرطا من شروط صحته رغم الطابع الشكلي للمهر في القانون الحالي. ولا يمكن للزوجة حسب مجلة الجنسية، إسناد جنسيتها لأبنائها بصورة آلية مثلها مثل زوجها، وذلك لاعتبارات دينية.

وفي مجال الشغل ما تزال الدولة التونسية تمانع في التصديق على اتفاقية منظمة العمل الدولية عدد 183/2000 المتعلقة بحماية الأمومة (تمديد عطلة الأمومة إلى 14 أسبوع بالإضافة إلى منح الحامل عطلة ما قبل الوضع والأب عطلة أبوية للعناية بالمولود). ولا يقر قانون الشغل وقانون الوظيفة العمومية عطلة ما قبل الوضع. كما أن عطلة ما بعد الوضع في القطاع الخاص هي نصف العطلة في القطاع العام (شهر مقابل شهرين). ولا يجرّم قانون الشغل الاعتداء على كرامة العاملات وعلى حرمتهن الجسدية والمعنوية في أماكن العمل.

ولئن جرّم القانون الجزائي العنف الزوجي فإنه لم يرتق بشكل عام إلى اعتبار العنف المسلط على النساء داخل الأسرة وفي الفضاء العام ممارسة تمييزية وامتهانا لكرامتها الإنسانية. ويتسم القانون المتعلق بالتحرش الجنسي بعدم الدقة في تحديد هذه الجريمة وعدم الصرامة في معاقبتها.

وما يزال القانون التونسي يشرع البغاء الذي يمثل أكبر مهانة لجنس النساء وإذلالا للرجال.

وإلى ذلك فإن القانون التونسي لا يحتوي تجريما للأفعال القائمة على التمييز ضد المرأة.

قوة عاملة هشّة ومستغَلـَّة

هذا من ناحية التشريع، أما من الناحية الواقعية فمظاهر اضطهاد النساء عديدة ومتعددة. فوضعهن في الشغل متردٍ. فرغم الإقرار بحق المرأة في العمل فإن نسبة النساء النشيطات من بين الإناث اللواتي هن في سن الشغل لا تتجاوز 24.2% مقابل 67.8% للذكور سنة 2004 وكانت تلك النسبة في حدود 22.9 % قبل عشر سنوات أي أنها لم تطور كثيرا. ويمثل النشيطات 26.6% من عموم النشيطين من الجنسين أي أنه على 4 نشطين نجد امرأة واحدة مقابل 3 رجال، وهي نسبة ضعيفة لا مقارنة بالدول الأوروبية والآسيوية فحسب بل مقارنة حتى ببعض البلدان العربية والإفريقية. ولا يوجد ما يدلّ على انم الحكومة عازمة على تطوير حظوظ المرأة في الشغل إذ أن التوقعات الرسمية لسنة 2019 تؤكد أن معدّل نشاط النساء لن يتجاوز 26 %. وما من شكّ في أن سياسة النظام الرأسمالية التابعة المُوَلّدَة باستمرار للبطالة والفقر، إضافة إلى الذهنية العامة التي تعيد إنتاجها هذه السياسة والتي ترى في العمل ضرورة إنسانية للمرأة كي تتحرر وتكسب استقلاليتها المادية والمعنويّة وتسهم في النهوض بالمجتمع عامّة بل مجرّد مهمّة ثانويّة لمساعدة العائلة على الإنفاق، هما من العوامل التي تقلّص تلك الحظوظ.

وما يزال النساء العاملات يشتغلن في القطاعات "النسائية" تقليديا وكذلك في القطاعات الأكثر هشاشة (نسيج، فلاحة، معينات منزليات ...)، وأيّ كان شغلهن فإنهن يحتللن على العموم الوظائف الدنيا ولا يشغلن الخطط الوظيفية الهامة المتعلقة بالتسيير إلا بنسب محدودة حتى وإن توفرت فيهن الكفاءة. ولا تتخذ الدولة أية إجراءات لفائدة النساء (تطبيق مبدأ التمييز الإيجابي) حتى يرتقين إلى مراكز القرار ويتم تخطِّي العقلية الذكورية التي تحقِّر قدراتهن.

كما يشمل التمييز مجال الأجور فالنساء في القطاع الخاص المتزايد حجمه باستمرار يتلقين أدنى الأجور. وحسب أرقام البنك الدولي فإن معدّل الأجر العام للنساء يقل عن معدّل الأجر العام للرجال بنسبة 14% وتصل هذه النسبة إلى %18 في القطاع الخاص. وتؤكد بعض الدراسات أن التمييز بين الجنسين في الأجر لا يتّجه نحو التقلّص بل هو يتفاقم. فالفارق التمييزي في الأجر لفائدة الرجال ارتفع من 11.2 % سنة 1980 إلى 15.3 % سنة 1999 (النساء والتشغيل ـ الكريديف 2002).

ولا تتخذ الدولة أية إجراءات لتحسين الأجور وظروف العمل في المهن التي تشغل غالبها النساء كالفلاحة والنسيج والصحة والتعليم والتنظيف والنزل والإدارات وغيرها، بل إن الدولة والأعراف على حد السواء يستغلون الوضع الدوني للنساء لتكثيف استغلالهن خصوصا في هذا الظرف الذي تتعرض فيه حقوق العمال إلى الانتهاك بعنوان "مرونة التشغيل".

ويمثل النساء العاملات الضحية الأساسية للبطالة والطرد التعسفي خصوصا في أوقات الأزمات. وفي هذا الإطار تفيد الإحصائيات حول فترة الثمانينات مثلا التي شهدت أزمة اقتصادية خانقة، أن نسبة البطالة في صفوف النساء تضاعفت بينما ظلّت على حالها تقريبا بالنسبة إلى الرجال: (من 11 % سنة 1984 إلى 21 % سنة 1989 بالنسبة إلى النساء ومن 13.7 % إلى 13.9% بالنسبة إلى الرجال). أما اليوم، فإن كانت النسبة العامة للبطالة حسب الإحصائيات الرسمية لسنة 2004 تبلغ 13.9% فإن نصيب النساء منها 16.7% مقابل 12.9% للرجال.

وتحاول السلطة في هذه الأيام الاعتداء من جديد على حق النساء في الشغل بوضع القانون الخاص بعمل النساء نصف الوقت موضع التنفيذ. ومن البديهي أن في هذا القانون تشجيعا على عودة النساء إلى المنزل كما أن فيه ضربا لحظوظ "المنتفعات" به في الترقية وفي احتلال خطط وظيفية.

وما يزال الحَمْلُ، خاصة في القطاع الخاص، سببا من أسباب الطرد والزواج والإنجاب سببا من أسباب عدم القبول في الشغل. ويعاني النساء العاملات إرهاقا متواصلا. فإلى جانب الشغل خارج المنزل فإنهن يتحمّلن أعباء العمل المنزلي وتربية الأطفال ومتابعة دارستهم والعناية بالمسنين من الوالدين مما يجعل يوم عملها يمتد في معظم الحالات من ساعة مبكرة من النهار إلى ساعة متأخرة من الليل (ما بين 16 و18 ساعة عمل يوميا). ولا تنتهج الدولة سياسة أسرية تشجع على تحمّل الزوجين أعباء شؤون العائلة وتخفيف العبء عن المرأة. وهو ما يفسّر ضعف نسبة النساء المتزوجات العاملات (18 %).

ولا تحظى المرأة الحامل بالعناية اللازمة من قبل الدولة. فالإنجاب لا ينظر إليه كوظيفة اجتماعية تحتم على المجتمع والدولة تحمل تابعاتها (نفقات الحمل والوضع وما بعد الوضع، إلخ.) بل ينظر إليه على أنه مسؤولية المرأة في المقام الأول وعائلتها في المقام الثاني. وليس خافيا ما وصلت إليه مصاريف الحمل والولادة في تونس من ارتفاع مهول يرهق كاهل المرأة والأسرة خصوصا وقد تخلت الدولة تدريجيا عن دورها الاجتماعي وفتحت باب الاستثمار والربح في قطاع الصحة لأصحاب رأس المال. وينجرّ عن عدم تمتع المرأة الحامل بعطلة ما قبل الوضع مضاعفة متاعبها. كما أن قصر مدة عطلة ما بعد الوضع في القطاع الخاص (شهر واحد) يسبب لها إرهاقا كبيرا وكثيرا ما تضطر المرأة إلى الانقطاع عن الشغل للعناية بمولودها. ولا تحترم المؤسسات الخاصة قانون الشغل في ما يخص توفير المحاضن ورياض الأطفال. يضاف إلى ذلك انتشار المحاضن ورياض الأطفال الخاصة على حساب المحاضن ورياض الأطفال البلدية. وهو ما يرهق كاهل الأسرة بمصاريف ليست قادرة عليها، وهو سبب آخر من أسباب انقطاع النساء العاملات عن العمل.

توظيف سياسي لتلميع صورة النظام

أمّا في المجال السياسي فإن حضور المرأة ضعيف بل إنه شكلي كلما تعلق الأمر بالمؤسسات والهيئات التمثلية التنفيذية. فنسبة النساء في البرلمان لا تتجاوز 22.8% وفي المجالس البلدية 23%. وتوجد في الحكومة وزيرتان وكاتبة دولة واحدة. كما توجد امرأة واحدة في خطّة وال. ولا تتجاوز نسبة القاضيات 22.5% من مجموع القضاة (مقابل 50% في المغرب). أما الحزب الحاكم فرغم كثرة كلامه عن المرأة وعلى تحريرها فإن نسبة النساء لا تتجاوز 20.7% من عدد منخرطيه، كما أن نسبة رؤساء الشعب من النساء لا تتعدى 2.6%. ولا توجد أي امرأة على رأس لجنة تنسيق. وفي الديوان السياسي وهو أعلى هيئة لهذا الحزب توجد امرأة واحدة على 8 أعضاء. وليس حظ النساء في المنظمات الوطنية القريبة من السلطة أفضل من حظهن في الحزب الحاكم. ففي منظمة الأعراف توجد امرأة واحدة في قيادتها وفي منظمة الفلاحين لا توجد أية امرأة في مكتبها التنفيذي وهو الحال أيضا في الاتحاد العام التونسي للشغل.

إن حضور النساء هذا في الحياة العامة، على محدوديته، يستغله نظام الحكم لتأكيد حرصه المزعوم على النهوض بأوضاع المرأة التونسية والرفع من مستوى تشريكها في إدارة شؤون البلاد. ولابد من ملاحظة أن تطور نسبة حضور النساء في المؤسسات التمثيلية ليس له معنى في واقع الأمور. فبالإضافة إلى أن النائبات في هذه المؤسسات لسن منتخبات انتخابا حرا وديمقراطيا بل هن معيّنات من قبل بن علي رئيس الحزب الحاكم في إطار انتخابات صورية، لا يقمن بأي دور في بلورة وصياغة السياسة العامة للبلاد بما فيها الجوانب المتعلقة بالمرأة. فهنّ يصفقن لما يقرره بن علي ويدافعن عنه حتى ولو كان ضد مصالح النساء. هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن ذلك التطور لا يعكس تطويرا لمشاركة عموم النساء في الحياة العامة، فالنساء مازلن يقاسمن أشقاءهن الرجال الحرمان من الحقوق الأساسية ومنها حرية التعبير والتنظم والاجتماع والانتخاب والترشح وبالتالي فهن مقصيات من الحياة العامة كالرجال وأكثر منهم.

إن شكلية النسب التي يقدمها النظام تبرز بشكل خاص من خلال المعاملة الوحشية التي يخص بها النساء اللواتي يعبرن عن استقلاليتهن ويرفضن الانصياع لإرادته أو يعارضنه. وقد رأينا خلال السنوات الأخيرة أصنافا من اضطهاد النساء التونسيات، حقوقيات ومدافعات عن حقوق النساء ومناضلات سياسيات ونقابيات ومبدعات وغيرهن. فقد تعددت الاعتداءات الجسدية وتفاقمت حملات التشهير في وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية والحرمان من الشغل والسفر. وتعاني الجمعيات النسائية المستقلة من الإقصاء والحصار الإعلامي والضغوط المادية والمراقبة الأمنية المستمرة والمنع من تنظيم الأنشطة العمومية.

كل هذا يؤكد أن نظام الحكم يسعى بكل الوسائل إلى احتكار قضية المرأة وتوظيفها لتلميع صورته والظهور بمظهر النظام"ّالتحديثي الديمقراطي". وبالإضافة إلى ما في هذا التوظيف من تعطيل لنهوض النساء، فإنه يمثل خطرا على قضيّة تحررهن في الذهنية العامة للناس إذ يبدوهذا التحرر وكأنه "منة" من منن الاستبداد وهو ما قد يخلق ردّ فعل سلبيا داخل المجتمع خصوصا إذا وقع الخلط بين مظاهر الانحلال الأخلاقي البرجوازي الرأسمالي الناتج عن تشيئة المرأة وتبضيعها وبين التحرر الحقيقي الذي هو ثمرة من ثمرات الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي والثقافي وهو أيضا حقوق وكرامة إنسانية ووعي نابع عن نقاش وتربية داخل العائلة والمجتمع.

أمية متفشّية

وما يزال النساء الضحية الأولى للأمية في تونس، إذ تبلغ، حسب آخر إحصاء(2004) نسبة الأمية 31% في صفوف الإناث مقابل 14.8% في صفوف الذكور ونسبة وطنية بـ22.9% وترتفع نسبة الأمية في الوسط النسائي غير البلدي إلى 46.4 % مقابل 22.6 في الوسط النسائي البلدي وتبلغ نسبة الأمية النسائية في المناطق "المتروكة" 45.1% في الوسط الغربي و42.3% في الشمال الغربي. وإن كنا لا ننكر تجاوز نسبة الطالبات نسبة الطلبة في التعليم العالي، وهو أمر تحقق أيضا في عدد من الأقطار العربية الأخرى وليس إنجازا تونسيا، فإن البطالة في صفوف النساء اللواتي يتمتعن بمستوى جامعي ارتفعت بشكل ملحوظ لتبلغ15.1% سنة 2004.

ومن الملاحظ أن مظاهر العنف اللفظي والجسدي الذي يستهدف الفتيات والنساء قد استشرى في بلادنا سواء كان ذلك في العائلة أو في أماكن الدراسة والعمل أو في الطريق العام. وتجدر الإشارة بشكل خاص إلى وضعية الطالبات اللائي أصبح معظمهن محروما من الحق في السكن الجامعي ومضطرات إلى البحث عن سكن في أماكن غير آمنة وهو ما عرّضهن ويعرّضهن لمخاطر عديدة.

كما تفاقمت بشكل مفزع ظاهرة البغاء والاتجار بالنساء في مناخ تفشت فيه البطالة والفقر وانتشرت القيم الاستهلاكية وتلاشت المرجعيات القيميّة الإنسانية.

وما تزال وسائل الإعلام والكتب المدرسية والمنتوجات الثقافية تعيد إنتاج صورة المرأة الدونية. ولا تتخذ الدولة أية إجراءات جدية لتغيير هذه الصورة.

قضيّة المرأة

هذه أوضاع المرأة في تونس اليوم. وهي بعيدة كل البعد عن أن تعكس أوضاعا تتوفر فيها شروط المساواة التامّة بين الجنسين. هذه الأوضاع لا تنفصل عن النظام الاجتماعي القائم الذي يعيد بانتظام إنتاج شروط اضطهاد النساء وخاصّة الملايين منهن من بنات الطبقات والفئات الشعبية والفقيرة. وهذه الأوضاع أيضا هي التي تفسر وجود "قضية للمرأة" في مجتمعنا، وهي التي تبرّر قيام حركة أو حركات نسائية كما تبرر حضور المسألة النسائية بهذا الشكل أو ذاك في برامج الأحزاب والحركات السياسية.

ومن البديهي بالنسبة إلينا أن الحديث عن تردّي أوضاع جماهير النساء في بلادنا لا يمكن أن يكون مدعاة للرجوع إلى الوراء. فماضي النساء التونسيات ليس أفضل من حاضرهن حتى تقع الدعوة إلى الرجوع إليه. إن مشاكل النساء ليست متأتية من حصولهن على بعض حقوقهن أو كما يقول البعض من "الحرية" التي حصلن عليها ولكن من عدم استكمالهن تلك الحقوق وتلك الحرية وغياب مناخ اقتصادي واجتماعي وثقافي وسياسي مناسب لتحررهن تحررا حقيقيا. ومن هذا المنطلق تطرح قضية المساواة بين الجنسين وقضية تحرير المرأة بشكل عام كجزء لا يتجزأ من مسألة التغيير السياسي والاجتماعي في بلادنا وبصورة أدق كجزء لا يتجزأ من المسألة الديمقراطية.

III - تحرير النساء جزء من التغيير الديمقراطي
لماذا المساواة

إن المطالبة بالمساواة التامة بين الجنسين تستمدّ في رأينا مشروعيتها من اعتبارات أربعة.

الأوّل إنساني عام، فحقوق المرأة من حقوق الإنسان وأي انتهاك لها أو استنقاص منها يمثل اعتداء على كرامتها الإنسانية ولا يمكن التذرّع بأي خصوصية دينية أو ثقافية أو عرقية لتبرير اللامساواة بين الجنسين أو بالأحرى اضطهاد النساء، فاللاّمساواة هي اللاّمساواة والاضطهاد هو الاضطهاد مهما كانت الأغلفة التي يتغلّف بها.

والثاني اجتماعي، وهو أنه لا نهضة ولا تقدم لأي مجتمع من المجتمعات البشرية ونصفه مشلولا ومعطّلا، لا يشارك في إنتاج الثروة الاجتماعية وفي التنمية الثقافية والعلمية على قدم المساواة مع النصف الآخر وهو ما يجعل نهضة المجتمعات وتقدمها مشروطا بهذه المساواة نصا وممارسة.

والثالث سياسي، وهو أنه لا ديمقراطية دون مساواة تامّة في الحقوق بين أفراد المجتمع بشكل عام وبين النساء والرجال بشكل خاص. إن ديمقراطية لا يمثل النساء طرفا فاعلا فيها إمّا أنها وهمية وغير موجودة أو أنها محدودة وغير متماسكة.

والرابع ثقافي وحضاري، فالعلاقة بين الجنسين تمثّل مقياسا للحكم على مدى تقدّم الكائن البشري وعلى مدى انتصار الطبيعة الإنسانية في نفسه على الطبيعة الحيوانية أي على مدى تحوّل " الماهية الإنسانية" لديه إلى " ماهية طبيعية". إن من لا يقدر على الاقتناع بالمساواة بينه وبين الكائن الإنساني الذي هو المرأة، لا يقدر على الاقتناع بالمساواة في أي مجال من المجالات. كما لا يمكنه أن يجعل من الحرية والديمقراطية جزءًا من "طبيعته الإنسانية"، وعليه فإن عدم الإقرار بالمساواة هو إذلال للرجل قبل أن يكون إذلالا للمرأة.

المساواة وتحرير المرأة

ونحن إذ ندافع عن المساواة التامّة والفعلية بين الجنسين فإننا نعتقد أن تحقيقها يندرج ضمن معالجة عامة لأوضاع مجتمعنا. فهي تمثل وجها أساسيا من أوجه التغيير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي الذي ننشده. ولا يعني هذا نفيا لخصوصية المسألة النسائية. فالنساء لهن مطالبهن الخصوصية النابعة من الاضطهاد الذي يعانين منه بسبب جنسهن وهو اضطهاد يشق في بعض أبعاده على الأقل، كافة الطبقات والفئات الاجتماعية وإن كان يتكثّف بشكل خاص في الطبقات والفئات الشعبية والفقيرة وهو ما يجعل النساء المنتميات إليها معنيات بشكل رئيسي بالنضال من أجل تحررهن وتحرير المجتمع بصورة عامّة حتى يقضى على العوامل التي تعيد إنتاج اضطهاد النساء.

ولا يمكن أن تتعهّد بمطالب النساء في المقام الأول سوى حركة نسائية جماهيرية منظمة ومسلحة بفكر وبرنامج تحرّريين. ولكن تحقيق مطالب الحركة النسائية لا يمكن أن يتم بمعزل عن الحركة السياسية والاجتماعية والثقافية العامّة لسبب بسيط وهو أن لا حريّة للنساء في مجتمع لا تتوفر فيه الحريّة للجميع، ولا مساواة فعلية وحقيقية بين الجنسين في مجتمع قائم أصلا على عدم المساواة بين أفراده لأسباب اجتماعية أو سياسية أو جهويّة. فتحرر نساء تونس هو جزء لا يتجزّأ من التغيير الديمقراطي و الشعبي والوطني الذي ننشده في نضالنا ضدّ نظام الاستبداد الذي ينيخ بكلكله على مجتمعنا.

كما أننا حين نشرط تحقيق المساواة التامّة والفعلية بين الجنسين بتغييرات جذرية وعميقة في كافة مجالات الحياة فإن ذلك لا يعني تأجيل الخوض في هذا التحرر إلى ما بعد حصول تلك التغييرات، بل على العكس من ذلك فنحن نعتبر أن المعركة من أجل هذه المساواة ينبغي أن تجري من الآن، وهي جارية فعليا، فكما نناضل من أجل الحقوق السياسية والاجتماعية لا بدّ من النضال من أجل حقوق النساء، لا بدّ من تعبئة جماهير النساء حول حقوقهن. إن هذا النضال اليومي و الدؤوب هو الذي يدرب النساء على الدفاع عن حقوقهن ويشعرهن بما لهنّ من مصلحة في التغيير الديمقراطي الجذري والعميق ويدفعهن إلى الانخراط في النضال العام من أجل ذلك. لذا نحن لا نتفق مع كل منطق يؤجل طرح مطالب النساء المتعلّقة بالمساواة بدعوى أن هذا المطلب أو ذاك ليس من الأولويات اليوم، فالمشروع الديمقراطي في كامل أبعاده الوطنية والاجتماعية والثقافية كل مترابط بعضه ببعض ومطلب المساواة التامة والفعلية من الضروري أن يندرج في برنامج أي حزب ديمقراطي بحق.

إن التجربة التاريخية التي علينا أن نستلهم منها بيّنت أن إثارة مسألة حقوق النساء في مسيرة الحركة الوطنية كان لها تأثير إيجابي في أوضاعهن في الفترة اللاحقة لخروج المستعمر، أما عدم إثارتها بحجّة أن الأولوية للمسألة الوطنية، وكأن أولوية هذه المسألة تنفي طرح بقية القضايا، بل كأن تعبئة النساء حول حقوقهن ليست من العوامل التي تعبئهن للانخراط في النضال الوطني، كانت له نتائج سلبية إذ وجد النساء أنفسهن مقصيات من جديد من الفضاء الاجتماعي والسياسي.

المساواة في الإرث

من هذا المنطلق نحن نؤيد الحركة النسائية الديمقراطية في طرح مطلب المساواة في الإرث، ولا نرى من داع إلى تأجيل طرحه بحجة أن الأولويات اليوم لمطالب أخرى مثل مطلب الحريات السياسية. إننا نتفهّم أن هذا المطلب لا يمكن أن يكون عنوانا رئيسيا في المرحلة الحالية للتكتيك السياسي العام للحركة السياسية، كما نتفهّم أنه حتى بالنسبة إلى عموم النساء لا تمثل المساواة في الإرث همهن الرئيسي اليوم مقارنة بما يعانين منه يوميا من طرد جماعي واستغلال فاحش، ولكن ذلك لا يعني أن لا تؤيد الحركة الديمقراطية حملة نسائية من أجل ذلك المطلب أو أن لا تدرجه ضمن نقاطها البرنامجية المتعلقة بالمساواة بين الجنسين. إن هذا المطلب قد لا يتحقق في الظرف الحالي سواء لأن نظام الحكم يرفض تحقيقه أو لأن الذهنية العامّة، وهذا أمر يستحق الإثبات لانعدام الحرية في بلادنا وغياب تقاليد سبر الآراء، غير مهيأة لتقبل ذلك المطلب ولكنّ أي مطلب يمرّ دائما بمرحلتين، الأولى دعائية تهدف إلى إقناع الرأي العام به، والثانية عملية تهدف إلى تعبئة الرأي العام عبر أشكال نضالية ملموسة لتحقيقه. ولكن للقيام بذلك ينبغي أن تكون الحركة السياسية المعنية مقتنعة بالمطلب المحدّد وبمشروعيته وتدرجه ضمن لائحة مطالبها.

ومهما يكن من أمر فأن مطلب المساواة في الإرث يكتسي بالنسبة إلينا، بالإضافة إلى طابعه الاجتماعي المباشر المتمثل في الحيف الذي يلحق النساء من جرّاء عدم المساواة أو من التحيّل الذي هن ضحية له حتى في حدود النصيب الذي يسنده إليهن القانون، طابعا رمزيا في سياق النضال من أجل تحقيق المساواة في الحقوق بين الجنسين، لأن إقرار المساواة في الإرث من المسائل الهامة التي ستيسّر نقاش مسألة حقوق النساء التونسيات كقضية حقوق مدنية واجتماعية وسياسية وثقافية وتنزع عنها كل حجاب لاهوتي.

إن مسألة الإرث مسألة اجتماعية في الأساس أُلْبِسَتْ لبوسا دينيا وحُنِّطَتْ في المجتمعات العربية-الإسلامية عن طريق الفقهاء الذين تحرّكهم نظرة ذكورية معادية للمرأة. والإرث مسألة اجتماعية لأنه يهم توزيع الثروة داخل العائلة ومن البديهي أن يرتبط هذا التوزيع بالظروف الاجتماعية لكل عصر وبالتالي بموقع الذكور والإناث في العلاقات الاجتماعية، ومن المعلوم أن موقع النساء في هذه العلاقات قد تغيّر عبر العصور ولم يبق على ما كان عليه في الماضي.

كانت القاعدة في قريش وفي الحجاز عامّة أن لا يرث النساء لأنهن "لا يَحُزن الغنيمة ولا يقاتلن على ظهور الخيل" وكان الحرمان من الإرث يطول حتى الصغار من الذكور لنفس الأسباب المتعلّقة بنمط الحياة الاجتماعية التي يقوم فيها الكبار من الذكور بدور أساسي في حماية القبيلة وتوفير الغذاء لها، وتذكر كتب التاريخ أن من ابتدع قاعدة "للذكر مثل حظ الأنثيين" هو القرشي "ذو المجاسد" عامر بن جشم بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر (المحبّر لابن حبيب)، وقد أخذ الإسلام هذه القاعدة لاحقا وعمّمها. وكون الإسلام أخذها وعمَّمها لا ينفي إطلاقا طابعها النسبي، لا ينفي كونها "منتوجا تاريخيا" نابعا من واقع اجتماعي محدد، ويخطئ من يصبغها بصبغة إطلاقية ويجعل منها قاعدة ميتا-تاريخية (فوق التاريخ وخارجه).

لقد نسّب الطاهر حداد، وهو الزيتوني كما قلنا، "حكم الإرث" ودعا إلى تجاوزه مستندا إلى تغيّر الواقع الاقتصادي الذي تغيّر معه موقع المرأة في العلاقات الاجتماعية. فقد خرجت إلى الشغل. وأصبحت تسهم في إنتاج الثروة الاجتماعية وفي الإنفاق على العائلة وهو ما يجعل الحفاظ على اللامساواة في الإرث أمرا لا مبرر له، بل فيه انتهاك لحقوقها المدنية. كما يجعل تبرير هذا الحفاظ بحجج دينية أمرا غير معقول،"لأن ما كان للمرأة في الماضي ليس ناشئا عن جوهر خلقتها وإنما كان ذلك فصلا من فصول حياتها الطويلة" (امرأتنا في الشريعة والمجتمع).

العمل والمساواة والتمييز الإيجابي

وما دام الحديث عن الإرث، أود أن أوضح نقطة هامة، تثار كلما تم التطرق إلى هذه المسألة. يقرّ بعض رموز التيار الإسلامي، التاريخيين على غرار الشيخ حسن البنا، بوجود اللامساواة في الإرث في الإسلام، ولكنه لا يرى في هذه اللامساواة مسا بحقوق المرأة، بل يعتبرها من باب "العدل" لأن الرجل تعود إليه مسؤولية الإنفاق على العائلة (أي القوامة) فاللامساواة بالنسبة إليه ليست دائما مظلمة كما أن المساواة ليست دائما مؤشرا للعدل. وهو ما نخالفه فيه الرأي، فاللامساواة، عندما يتعلّق الأمر بالحقوق الإنسانية، هي في كل الظروف منافية للعدل. ففي المجال الذي نتحدّث عنه وهو الإرث، فكون المرأة كانت عند مجيء الإسلام مهمّشة وتابعة والرجل "قوَّام عليها" وعلى العائلة هو أمر ليس للمرأة فيه مسؤولية وليس مرتبطا بـ"خواص عقلية وجسدية متأصلة فيها"، بل مرتبطا بالموقع الذي فُرض عليها في العلاقات الاجتماعية وحرمها من تحمل مسؤوليتها كاملة في العائلة والمجتمع، فالذنب إذن هو ذنب "التاريخ" إن شئنا وليس ذنبها. وليس أدل على ذلك من أنه لمّا خرج النساء إلى الحياة العامة وتعلّمن واشتغلن وتحمّلن المسؤوليات أظهرن أنهن يتمتعن بنفس المؤهلات الإنسانية التي يتمتع بها الرجال.

ثمّ وإذا اعتبرنا جدلا أن عدم منح المرأة نصيبا متساويا لنصيب الرجل كان إجراء "عادلا" باعتبار تحمل الرجل مسؤولية الإنفاق على العائلة، أفلا يصبح منافيا للعدل، مواصلة تطبيق نفس القاعدة في زمن أصبحت فيه المرأة تشارك الرجل في الإنفاق على العائلة وفي تنمية الثروة العامة للمجتمع، بل أليس من العدل اليوم التسوية في الإرث بينهما؟ ومهما يكن من أمر فإن هدفنا من كل هذا هو تأكيد أن العدل ينبغي أن يخدم المساواة لا أن يبرر اللامساواة التي هي في كل الحالات انتهاك لإنسانية المرأة.

يمكن أن تكون اللامساواة هي القاعدة في عصر من العصور ولها ما يفسّرها في العلاقات الاجتماعية ولكننا حين نقيّمها اليوم في عصرنا الذي أصبحت فيه المساواة قاعدة إنسانية معترفا بها، فلا مناص من الاعتراف بأن ذلك الميز كان تاريخيا على حساب حقوق المرأة واستنقاصا لذاتها وأنه علينا أن لا نواصل الدفاع عنه والبحث له عن تبريرات. وربما قال قائل و"التمييز الإيجابي" لفائدة النساء أليس شكلا من أشكال "اللامساواة العادلة"؟ هذا غير صحيح لأن التمييز الإيجابي وهو جملة الإجراءات الاستثنائية والمؤقتة التي تهدف إلى تيسير بلوغ النساء مواقع القرار والتسيير التي أقصين عنها وظلت حكرا على الرجال لردح طويل من الزمن، أو هو جملة الإجراءات التي تمنع استخدام القوّة العاملة النسائية في أعمال تضرّ بصحتها في علاقة بوظيفتها الإنجابية، هي إجراءات عادلة ولا يمكن المقارنة بينها وبين اللامساواة في الإرث. إن التمييز الإيجابي ليس منّة على النساء ولكنه واجب المجتمع تجاههنّ، فالتمييز الإيجابي في مجال الشغل هو واجب الدولة والمجتمع تجاه النساء اللّواتي يقمن بوظيفة "إعادة إنتاج الحياة" أو إن شئنا "ضمان استمرارية الجنس البشري"، لأن في الحفاظ على صحّة المرأة حماية لها هي كإنسان أولا وحامية لصحّة مولودها ثانيا وضمان لإنجاب أجيال متعافية ثالثا.

أما التمييز الإيجابي في مجال الترقية المهنية والتمثيلية في الهيئات العامة فهو من باب إنصاف نصف البشرية الذي عانى طويلا من الاضطهاد واللامساواة والذي ما يزال يعاني من ذلك الموروث المتغلغل في ذهنية الذكور وسلوكهم لتمكينه من تدارك ما فاته من وقت لتفكيك بنى اللامساواة تمهيدا لتجاوزها وتعويضها بأخرى قائمة على المساواة. وهكذا فإن العدل يهدف إلى بلوغ المساواة في وضع يتميز باللامساواة لفائدة الرجال.

العَلمانية

إن أحد المشاكل الفكرية التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية يتمثل في تحويل المسائل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وفي كلمة المسائل ذات الطابع العَلْمَاني، الدنيوي إلى مسائل لاهوتية / دينية. وأودّ هنا أن أعرّج على موضوع العَلْمَانية الذي أشار إليه قبلي أحد المتدخلين. فالعَلْمَانية تعرّضت وما تزال إلى التشويه. فقد قُدِّمت وما تزال على أنها رديف "الإلحاد" أو "قمع الدين والمتدينين" أو "الفساد". ويحاول مروجو هذه الادعاءات الاستناد إلى "علمانية" الأنظمة العربية (بورقيبة / البعث) وحتى كمال أتاتورك لتأكيد موقفهم. وهذا كله محض خطأ.

جاءت العَلمانية نتيجة تحولات اجتماعية وفكرية وثقافية وعلمية عميقة في المجتمعات الغربية، هدفها إعلاء شأن الإنسان وتحرير طاقاته الإبداعية في كل الميادين من استبداد رجال الدين الذين كانوا أهم سند للاستبداد السياسي. وعن العَلمانية تولـّدت حرية الفكر والضمير والرأي. كما تولدت الديمقراطية المؤسسة على مبدأ المواطنة التي تمنح جميع أبناء الوطن الواحد نفس الحقوق الأساسية دون تمييز بينهم بسبب معتقداتهم أو فلسفتهم في الحياة.

وإذا كانت العَلْمَانِية، شأنها شأن الديمقراطية المعاصرة، والثورة الصناعية، والعلمية، نشأت في أوروبا فذلك لا يعني أنها صالحة لها فحسب، بل هي مكسب إنساني إذ لا يوجد مجتمع بشري ليس في حاجة إلى / أو ليس أهلا لـ/ الحرية والديمقراطية. ومجتمعاتنا ذاتها في أشد الحاجة إلى العلمانية للخروج من الجمود والاستبداد والصراعات الطائفية التي تمزّق أبناء الوطن الواحد من أصحاب المذاهب أو الديانات المختلفة بتحريض خفي أو جليّ من القوى الاستعمارية والرجعية(العراق، لبنان)، حتى يتجمعوا ويتوحدوا تحت سقف ذلك الوطن ويعملوا سويا من أجل رقيّه في كنف الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ولأن العلمانية رديف للحرية والديمقراطية، فإن ما عرفه ويعرفه عدد من الأنظمة العربية وتركيا إنما هو علمانية مشوّهة، ولا علاقة لها بتلك العلمانية الحقيقية.

وما دام موضوعنا هو المرأة، وحتى نتبيّن ما للخلط بين ما هو عَـقَـدِي وما هو اجتماعي/عَلْمَاني من انعكاسات سلبية على حقوقها، نشير إلى أنه توجد كما تعلمون دول وتيارات ومؤسسات إسلامية لا تزال إلى حد الآن تشرّع تعدد الزوجات وختان البنات وضرب النساء وحرمانهن من أبسط حقوقهن بما فيها أحيانا الحق في التعليم والشغل والمشاركة في الحياة العامّة وتفرض عليهن الخمار أو الحجاب أو النقاب معتبرة إياه "فريضة دينية" وتمنعهن من حرية التنقل والسفر. وهي تبرر ذلك بآيات وأحاديث وتعتبر نفسها في صميم الإسلام بل الممثل الشرعي له، وتكفّر ما عداها حتى من التيارات الإسلامية التي تتبنى مواقف تجديدية وحداثية.

ولو حاولنا أن نستقصي هذا الموقف لوجدنا أن "المسلم الصالح" في نظر هذه الأطراف هو الرجل الذي يضطهد المرأة ويدوس على مشاعرها ويجهّلها ويعتبرها "ناقصة عقل"، أما "المسلمة الصالحة" فهي التي تقبل بوضعها الدوني فيتحول بذلك الإيمان إلى رديف للاضطهاد والميز، وهو ما تلتقطه القوى الامبريالية العنصرية في الغرب لتشوّه صورة العرب والمسلمين وتقدمهم على أنهم "متخلّفون" زاعمة أن التخلّف متأصل و أنّهم يُعاملون، نتيجة ذلك، النساء معاملة وحشية.

إن ما ذكرناه هو نتيجة منطقية من نتائج الخلط بين ما هو عقدي وبين ما هو اجتماعي/عَلْماني. وهذا الخلط هو ما ينبغي تجاوزه فلا يجوز إضفاء طابع قدسي وإطلاقي على أحكام صدرت في زمن كانت الثقافة السائدة فيه هي ثقافة التمييز الجنسي واضطهاد النساء "قاعدة من قواعد" الحياة الاجتماعية في كافة المجتمعات البشرية. إنه لا يوجد، في رأينا، ما يحول دون أن يكون التونسي أو التونسية مؤمنين وفي الوقت ذاته منتصرين للقيم الإنسانية والتقدمية ومنها المساواة التامة في الحقوق بين النساء والرجال، والسبيل إلى ذلك هو العلمانية بالمعنى الذي ذكرنا، وهو المعنى الحقيقي لها، أي الفصل بين العقيدة وبين الشأن الاجتماعي والسياسي الذي تطرأ عليه باستمرار تغيّرات وتطورات.

الهوية وحقوق النساء

ولا تعارض بين الهوية والانتصار لحقوق النساء وتحررهن إلا في عقول الذين يعتقدون أن الهوية ظاهرة ثابتة جامدة بل يعتقدون أن اضطهاد النساء وحرمانهن من حقوقهن والاعتراض على تحررهن هو جزء لا يتجزأ من "هوية المسلم" وهذا موقف خاطئ، يعبر عن هوية القوى التي تتمعّش من تخلف المجتمعات العربية والإسلامية وتخاف من تقدمها خوفا على مصالحها. وليس من الغريب أن تكون نفس القوى التي تدافع عن الاستبداد السياسي والاستغلال الاجتماعي والعنف الطبقي وتتواطؤ مع الامبريالية العالمية هي نفسها التي تناهض تحرر النساء.

إن هوية أي شعب من الشعوب أو أمة من الأمم تتغيّر وتتحول وتواكب تطور هذا الشعب أو الأمة وتتغذى بإبداعاتهما في كل مرحلة من المراحل التاريخية. وكل شعب أو أمة يتوقفان عن تطوير هويتهما ويغرقان في الانغلاق ويرفضان إخضاع تراثهما لمحك النقد الموضوعي والعلمي، يصابان بالوهن ويصبحان لقمة سائغة للقوى الاستعمارية والهَيمنيّة. لذلك فإن التمسك بالهوية لا ينبغي أن يتحول إلى ذريعة لنكران حريّة الإنسان وحقوقه أو للتشبّث بمواقف منافية للمساواة وحقوق المرأة أو رفض التفاعل مع مكاسب الانسانية التقدمية بدعوى أنها "غريبة عن هويّتنا". إنه لا يوجد ما يمنع التونسية والتونسي من أن يكونا متجذرين في هويتهما الوطنية -لأنّ من لا ماضي له لا مستقبل له-، وفي نفس الوقت "مواطني العالم" (Citoyens du Monde) منخرطين في القيم الإنسانية التقدمية مسهمين في إثرائها وتطويرها في صراع مع قوى الطغيان والبربرية الرأسمالية.

حزب العمال يتبنى مطالب الحركة النسائية

وعلى كل حال فنحن في حزب العمال نتبنى بشكل لا لبس فيه لائحة المطالب المباشرة التي رفعها عدد من المنظمات بمناسبة "خمسينية مجلة الأحوال الشخصية" (جمعية النساء الديمقراطيات، جمعية التونسيات للبحث حول التنمية، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، فرع منظمة العفو الدولية، اللجنة الوطنية للمرأة العاملة، الاتحاد العام التونسي للشغل، مجموعة 95 المغاربية من أجل المساواة) وهي مطالب تشمل تحسين أوضاع المرأة داخل الأسرة والمجتمع (الشغل، الصحة، التعليم، الحياة العامة، الثقافة).

إن ما نريد تأكيده، ونحن نتبنى تلك المطالب، المدرجة في الحقيقة في برنامج حزبنا [1]، هو أن مسألة المساواة بين الجنسين ليست مسألة قانونية فحسب. فالمساواة القانونية يمكن أن تتحقق، ولكن، مثلما أكدت ذلك التجربة في البلدان الأوروبية وغيرها، فإن هذه المساواة على أهميتها، تبقى محدودة وغير متماسكة إذا لم تتوفر لها كل الشروط المادية والاجتماعية والثقافية للنزول بها من مستوى التشريع إلى مستوى الواقع، والمقصود بهذه الشروط هو طبعا العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية.

إننا نعمل من أجل أن يصبح نساء تونس، متحررات بالكامل، يتمتعن بالمساواة التامة والفعلية في الحقوق مع الرجال داخل الأسرة و المجتمع، نساء متعلمات، مشاركات في إنتاج الثروة الاجتماعيّة وفي إدارة شؤون البلاد، متجذرات في هويتهن الوطنية، منفتحات على الإرث الإنساني التقدمي، مُسْهمات في تطويره وإثرائه وهو ما من شأنه أن يرسي دعائم أسرة جديدة، ديمقراطية، متماسكة ومتوازنة، ومجتمع جديد ديمقراطي، حديث، متقدم ومتضامن.

حد أدنى غير قابل للتصرف

هذه إجمالا نظرتنا إلى مسألة المساواة بين الجنسين. وبالطبع توجد بيننا خلافات حول هذه المسألة وهو أمر طبيعي لأننا لا ننطلق، كأحزاب وجمعيات وأفراد، من نفس المنظومة الفكرية ولا نحمل نفس الرؤية لمختلف القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية. ولكننا مدعوون مع ذلك، إلى إيجاد حد أدنى من التفاهم حول هذه المسألة يمكـّننا من مواجهة نظام الاستبداد مع بعضنا البعض وتَمَثُّل طموحات جماهير النساء في بلادنا وترجمتها في برامج ومطالب واضحة حتى تثق بما نطرحها عليها وتسهم في تحقيقه مساهمة نشطة وفعالة.

إننا في حزب العمال نعتبر أن مختلف فصائل المعارضة المدنية والسياسية يمكنها، بل هي مدعوة إلى الاتفاق على ما تحقق للنساء التونسيات من مكتسبات كحد أدنى غير قابل للتصرف، فلا رجوع فيه ولا نزول تحته، وما عدا ذلك من قضايا يبقى للنقاش. وهذه المكتسبات معلومة منّا جميعا ومنها مثلا حرية المرأة في اختيار شريك حياتها ومنع تعدد الزوجات وحق المرأة في طلب الطلاق وهو كذلك حق البنت في التعليم والاختلاط، والحق في الشغل مع التساوي قانونيا في الانتداب والأجور وعدم التمييز بسبب الحمل، وحماية المرأة الحامل وحق النساء في تقلد كافة الوظائف والخطط دون استثناء وأهليتهن التامة للأعمال المدنية والقضائية وحرية التنقل والسفر. وإن أمكن لنا الاتفاق على محاور أخرى فذلك أمر مهم للغاية من شأنه أن يدعم موقفنا. نحن ندرك أن لكل منا مرجعيته الفكرية، ولكن هذا لا يهم كثيرا في مجال عملنا إذ أن ما يهمنا في المقام الأول في نشاطنا السياسي المشترك هو الاتفاق على الموقف أو المهمّة العمليّة، أما تبريراتها الفكرية فهي شأن من شؤون كل حزب أو جمعية أو شخص والاختلاف حولها يناقش في مجال آخر، فكري وثقافي.

أما القضايا التي نختلف حولها مثل قضية المساواة في الإرث فنحن لا نرى فيها، إذا اتفقنا على المكتسبات كحد أدنى، سببا للقطيعة ونفيا للعمل المشترك. فهي تبقى للنقاش عسانا التوفّق فيها إلى موقف موحّد لصالح النهوض بوضع النساء في بلادنا على طريق المساواة التامة والفعلية. وستكون لنا حوارات أخرى حول ما تبقى من قضايا ستمكننا بكل تأكيد من مزيد بلورة بعض النقاط التي وقع التعرض إليها هنا بصورة سريعة مثل قضية علاقة الدين بالدولة وبالسياسة عامة، وقضية حرية المعتقد وغيرها من القضايا.

وفي الختام علينا أن ندرك ما لهذه الخطوة المطروح علينا قطعها من أهمية فائقة في مسار الحركة السياسية في بلادنا، فهي ستوحد الجهود ضد الدكتاتورية وتنزع منها ورقة ظلت توظفها إلى حد الآن لتتظاهر بالحداثة والديمقراطية وتخيف قطاعات واسعة من المجتمع وتوهمها بأنه لا خيار لها سوى الاصطفاف وراءها.

فلنتَحمِّل مسؤوليتنا التاريخية ولنفتح أفقا آخر لبلادنا.

[1]

مقتطف من وثيقتنا الرنامجية "من أجل بديل ديمقراطي وشعبي"

لا ديمقراطية دون مساواة بين الجنسين

لا ديمقراطية إذا لم يكن كل المواطنين يتمتعون بحقوقهم على قدم المساواة. ويمثل القضاء على التمييز بين الجنسين محورا أساسيا للمعركة من أجل المساواة في مجتمعنا:
- جعل المساواة بين الجنسين مبدأ دستوريا ينسحب على كافة القوانين.
- إقرار مبدأ الإدارة المشتركة للعائلة مع ما ينجر عن ذلك من مساواة في الولاية على الأطفال وفي الإرث وفي اختيار مقر سكنى العائلة ولقبها.
- المساواة في الشغل مع اتباع سياسة التمييز الإيجابي لتحقيق المساواة في تولي الخطط الوظيفية.
- إقرار المساواة في تولي كافة الوظائف العامة مع تكريس مبدأ التناصف في كافة الهيئات التمثيلية.
- تكفل الدولة بنفقات الأمومة خلال فترة الحمل وعند الوضع وبعده ومنح المرأة الحامل عطلة خالصة الأجر بشهرين قبل الولادة وبشهرين بعدها.
- اتباع سياسة أسرية تشجع على تحمل الزوجين أعباء شؤون العائلة.
- تكفل الدولة بتوفير المحاضن ورياض الأطفال.
- احترام حقوق الطفل في صلب العائلة والمجتمع: صيانة حرمته الجسدية والمعنوية وحقه في العيش بأمان مع والديه وفي ممارسة كافة الأنشطة التي تنمي مواهبه.

بصورة مباشرة:

- النضال من أجل إلغاء كافة مظاهر التمييز في التشريعات التونسية.
- حماية حق المرأة في الشغل وتجريم طرد المرأة بسبب الحمل أو الولادة.
- منع عمل النساء في الليل وفي الصناعات المضرة بصحتهن.
- تحسين الأجور وظروف العمل في المهن التي تشغل غالبيتها النساء (النسيج، الفلاحة، الصحة، التعليم...).
- الاعتراف بالأمومة كوظيفة اجتماعية وعلى هذا الأساس:

. العلاج المجاني للمرأة عند الحمل والوضع وبعده.

. منح المرأة الحامل عطلة خالصة الأجر بشهرين قبل الولادة وبشهرين بعدها.

. توفير المحاضن ورياض الأطفال بكافة المؤسسات.

- صيانة كرامة المرأة بـ:

. إلغاء كافة مظاهر التمييز ومنع الصور المهينة للمرأة في الكتب المدرسية ووسائل الإعلام والمنتوجات الثقافية والنضال بشكل عام ضد الأفكار والتقاليد التي تستعبد النساء.

. تجريم الاعتداء على العاملات والتحرش بهن.

. مقاومة شبكات البغاء.

- احترام حق النساء في التنظم (رفع التضييقات المضروبة على أنشطة كافة الجمعيات واللجان التي تعنى بالنهوض بواقع النساء التونسيات).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعترضتها شرطة الأخلاق.. امرأة تفقد وعيها وتنهار خارج محطة مت


.. مها أبو رسلان شقيقة شاب توفي تحت التعذيب




.. معرض --We Can صوت الأطفال النازحين من قطاع غزة


.. معلمات السويداء تشاركن في الصفوف الأولى للاحتجاجات




.. المحتجة إلهام ريدان