الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المصالحة الوطنية:تساؤلات في التجربة العراقية وتأملات في تجارب الشعوب الاخرى

مصدق الحبيب

2007 / 5 / 6
الحوار المتمدن - الكتاب الشهري 2 : المصالحة والتعايش في مجتمعات الصراع العراق نموذجا


" ايها السيدات والسادة : التقرير الذي بين ايديكم يكشف النقاب عن جرائم القتل والتغييب والتعذيب الشائنة التي ارتكبت بحق مئات الالوف من الابرياء وذويهم، كما يكشف الحقائق الاكثر قبحا وقرفا في تراخي وكسل وعدم اكتراث اولئك الذين كانوا على علم واولئك الذين تفرجوا وآثروا الصمت ولم يحركوا ساكنا لايقاف تلك المذابح التي تقشعر لها الابدان"
سالمن ليرنر
رئيس هيئة كشف الحقائق والتسوية العادلة في بيرو
--------------------------------------

ترددت كلمة "المصالحة" على الالسن، وشاعت في القنوات الصحفية، وانتشرت عبر الاروقة السياسية خلال السنوات الاربع الماضية وبشكل مفرط جعلها تبدو وكأنها الامل الوحيد المرتجى الذي سينتشل العراق من الدوامة الجهنمية التي تجر به حثيثا الى القاع. يثير هذا الامر تساؤلات عديدة وعويصة، خاصة اذا اخذنا بنظر الاعتبار انه ليس ثمة احد يعلم مالذي تعنيه هذه الكلمة في ظل الظروف الشاذة التي يعيشها العراقيون! فالمصالحة، بالبداهة، هي الصلح بين طرفين متنازعين، وغالبا ماتعني وقف التناحر والمنازعة بينهما اكثر مماتعني تذليل الاختلافات وتقريب وجهات النظر المتنافرة مع بعضها. فلنتأمل الظروف العراقية، ولنرى فيما اذا كانت تتطلب اي مصالحة ومن اي نوع!
ماحدث في العراق في نيسان 2003 هو سقوط ماحق مخزي لنظام فاشستي استبدادي متوحش جثم كابوسه المقيت على خناق المواطنين اربعين سنة، خسرت خلالها البلاد مليوني ضحية وتشرد منها خمسة ملايين آخرين الى شتى بقاع الارض، وضاعت ثروات وطنية طائلة ، وعم خراب شامل، وانتكس تأريخ منير، وتقهقرت حضارة مجيدة. وكانت قد رافقت ذلك السقوط المذهل كوارث سياسية وستراتيجية بليغة سأكتفي بذكر ثلاث من كبائرها:

1) تم ذلك السقوط على ايدي قوات احتلال اجنبية آثر النظام "الحديدي الجبار" على ان لايقاومها مطلقا بل فرّت اركان وقيادات النظام الاساسية من ساحة المعركة كما تفر الفئران المذعورة امام قط جائع ، بما في ذلك القائد العام للقوات المسلحة الذي هرع الى حفرته الشهيرة تاركا الوطن يتمزق بالنهب ويحترق في سعير الفوضى. وكان مما عمق ابعاد هذه الكارثة هو ان قوات الاحتلال بقيادتها الامريكية غزت البلاد في ظل ظروف مثيرة للجدل قطريا وعالميا متحديةً في ذلك الراي العام العالمي ومتماديةً بغطرسة الشقاوات في فبركة اسباب الغزو وتضليل الشعبين الامريكي والعراقي بأكذوبة التحرير والديمقراطية. ولم يكن لدى قوات الاحتلال اي خطة جادة للعمل في مابعد سقوط النظام، بل كان لديها مااذهل العالم من موقف حين تسمرت كالمتفرج حيال نهب وتخريب واحتراق البلاد، وسمحت بكل ممنونية لفلول النظام بالهروب مع المال والسلاح ، وسرّحت من الخدمة جيشين عرمرمين كاملين من الجند والشرطة وارسلت افرادهما الى بيوتهم دون رواتب، كما فضلت ان تترك الحدود مفتوحة على مصراعيها لاستقبال شراذم الارهاب الاسلامي التي وفدت كالجراد من كل انحاء العالم وخاصة من افغانستان وباكستان واليمن والسعودية وبلدان الخليج الاخرى. وقد اضيف الى ذلك لاحقا الكثير من "شرف وشهامة" سوريا وايران وبقية بلدان الجوار "الوفي الامين" التي ارعبها لحد الجنون شبح الديمقراطية والتحرير.

2) أصّرت الادارة الامريكية على تسليم مقدرات الامور الى حلفائها من الاحزاب والجماعات الدينية الطائفية المرتبطة بالمليشيات الطائشة وفرق الموت المتهورة- هذه الاحزاب التي تفتقد الخبرة والتجربة والتي لم تبلغ تنظيماتها بعد النضوج السياسي الذي يمكّنها من صياغة اي فلسفة في ادارة الدولة او اي برنامج عمل في حكم البلاد ناهيك عن التعارض الجذري الاصيل بين منطلقاتها الدينية وارتباطاتها البطرياركية وبين مبادئ الحرية والديمقراطية. وبذلك تم ابعاد وتهميش كل القوى العلمانية المتنورة المستقلة والكفوءة القادرة على بناء البلاد ووضعها على الطريق الديمقراطي الصحيح. ففي اكبر عملية ضحك على الذقون في التأريخ السياسي، حاولت الادارة الامريكية من جهة ان تقنع العالم المتنور بان زهرة الديمقراطية في العراق ستتفتح ويفوح عطرها من بين عمامة الدين وبسطال الاحتلال!! كما حاولت الاحزاب الدينية في العراق من جهة اخرى ان تقنع مواطنيها بانها ستستغفل الامريكان "الاغبياء" بقبول افكار الانتخابات والبرلمان والدستور، لكنها ستمضي، تحت العباءة، في تشييد صرح ولاية الفقيه الثانية!!

3) قررت فلول النظام الشاردة بالمال والسلاح عقد الحلف المقدس مع التنظيمات الاسلامية الارهابية حيث قطع الجانبان عهدا تأريخيا على نفسيهما بتدمير ماتبقى من الوطن ومن فيه بدلا من العمل على مقاومة وازالة الاحتلال. وذلك تحقيقا للوعد الصدّامي الشهير الذي راهن على قدرة البعث على جعل العراق ارضا بلا بشر! وفي هذا المنهج التدميري الاجرامي اعتمد ذلك الحلف التأريخي بصورة اساسية على استقدام ذباحي القاعدة وبهائمها الانتحارية واشعال فتيل الاقتتال الطائفي عن طريق احداث الشقوق الزلزالية السحيقة بين مكونات الشعب المتآخية من اجل محو كل اثر لتآخي الدم وروابط الارض والمصير والتاريخ المشترك. ولعل خير شاهد على ماأقول هو الاحصاءات المتوفرة التي تشير الى ان الخسائر بالارواح والممتلكات التي مني بها الشعب العراقي نتيجة لما يسمى بعمليات المقاومة بلغت على الاقل 150 مرة اكبر من الخسائر التي منيت بها قوات الاحتلال خلال الاربع سنوات الماضية. فاذا ترجمنا هذا حرفيا فانه سيعني أن المقاومة البعثواسلامية "الباسلة" تقتل 150 عراقي برئ لكل جندي واحد يموت من قوات الاحتلال قتلا او في حادث. انها من دون ادنى شك مصّرة على ابادة الشعب العراقي ومقاومة نهضته، وليس لمثل هذا المنهج الاجرامي الدنئ اي صلة بمقاومة الاحتلال، انما يسهم مساهمة فعالة في ادامة الاحتلال.

فمن هذه الكوارث وكثير غيرها تتضح لدينا ملامح اللاعبين في هذه اللعبة الكبيرة ويصبح بمقدورنا الاشارة اليهم بالبنان ، وهم جميعا شركاء في تأليف جانب الجلاد فيما يقف الشعب والوطن في جانب الضحية! فياللعجب!! مالذي تعنيه المصالحة في ظل هذه الظروف؟ من هي الاطراف المتنازعة وماهي مسألة النزاع؟ فالبلاد لاتزال تغطس في الجحيم، والشعب يموت على قدم وساق، والخراب يتضاعف كلما تشرق الشمس وتغيب، وهذه الاطراف المسؤولة (الاحتلال والحكومة والمقاومة وبلدان الجوار) لاتزال تتحدث عن المصالحة بل تنفق الملايين من الدولارات على اجتماعاتها ومؤتمراتها ورحلاتها المكوكية الباذخة..وهاهي الادارة الامريكية تدفع بكل مااوتيت به من قوة نحو تحقيق المصالحة من اجل الخروج من الورطة التي صنعتها لنفسها، خاصة وهي تعاني الان صراعا تأريخيا سيسهم في رسم ملامح شرعيتها السياسية. أليس من حق المواطن العراقي المستلب المحاصر المظلوم ان يتساءل عبر تلك الفجوة الكائنة بين الحقيقة والحلم والتي تتقلص لديه كل يوم: مالذي يجري بالفعل ؟ ماذا يعني القائلون بالمصالحة؟ ومن يتصالح مع من؟ وعلى اية قضية؟؟؟ هل تتصالح الكواسر في قضية اقتسام الفريسة؟ أم هل تتصالح الضحية مع الجلاد؟ وهل يكون من واجب الذبيحة ان تفتح قلبها وذراعيها لتحتضن الجزار وتكلله بالغار؟ انها ألغاز مكتوبة على ورق اسود في غرفة مظلمة لايرى فيها العراقي مايهديه الي فك شفراتها!
دعونا نتساءل: هل يعرف العراقيون هوية الطرف الاخر الذي تتفاوض معه حكومتهم و تحاول جاهدة ان تتصالح معه؟ هل يعرف الشعب مطاليب وشروط الطرف الاخر او خطته او برنامجه او نواياه؟ هل يعرف الشعب حقيقة مواقف حكومته الوطنية من هذا الطرف او ذاك؟ وهل هناك في الاصل اي موقف موحد لهذه الحكومة؟ وهل للشعب اي كلمة او رأي في ذلك؟ هل يفهم الشعب الموقف الحقيقي للجانب الامريكي وهل يعرف اين تضع الادارة الامريكية ثقلها وماهي خططها و مالذي تتبناه او تراهن عليه؟ هل يعلم اي احد، على سبيل المثال، لماذا تعجز اضخم قوة عسكرية و اقتصادية وتكنولوجية في التأريخ عن اعادة التيار الكهربائي الى البيوت العراقية التي بقيت تئن طوال الاربع سنوات الماضية في حر النهار وظلام الليل، علما ان هناك ميزانيات جبارة هائلة تُجبى من الشعب الامريكي لغرض نبيل هو اعادة بناء وتعمير العراق؟ هل يعلم اي احد لماذا تعجز القوات متعددة الجنسية بنفوذها الدولي العملاق واستخباراتها الاخطبوطية عن القاء القبض على افراد واجهة الفاشست الامامية مثل عزة الدوري وغيره من المطلوبين للعدالة منذ نيسان عام 2003 ؟ هل يعلم اي احد ماذا كان وراء صفقات تهريب قادة رئيسيين مثل سعدون حمادي ومحمد سعيد الصحاف ولطيف نصيف جاسم وناجي صبري الحديثي؟ او صفقات اطلاق سراح معتقلين كبار مثل هدى عماش ورحاب طه وآخرين؟ هل يعرف اي احد السر الذي تحول بموجبه مراهق جاهل مثل مقتدى الصدر الى "الزعيم الشيعي الشاب الملهم" الذي تصلّي وراءه مئات الالوف وتخضع لامرته مليشيا قوية تتفاخر بانها تتحدى قوات الاحتلال وتراهن على منازلتها بأرواح الاميين المعدمين المساكين وعذابات عوائلهم؟؟ هذا الزعيم المفدّى الذي بدأ سيرته السياسية بجريمة قتل الشهيد عبد المجيد الخوئي الوحشية التي تقشعر لذكرها الابدان والتي حصلت في حرم ضريح الامام المقدس في اول اسبوع من تحرير العراق؟؟ ولنتساءل بنفس المنطق: هل يعرف اي عراقي كيف ارتقت شراذم امية متوحشة مثل الضاري والدليمي والمطلك والعليان لتمثيل الطائفة السنية وزج مصيرها التاريخي في جرائم ومعضلات ترفضها وتقرف منها الغالبية العظمى من ابناء الطائفة الوطنيين؟ لماذا تشذ قضية العراق عن قضايا بقية بلدان العالم المتقدم والنامي والمتخلف التي جابهت ظروفا مشابهة؟ اليس من المفروض والطبيعي ان يصار منذ البداية الى تشكيل هيئة عليا تكشف للشعب ماجرى من ويلات ومصائب وتحدد مرتكبيها وتقاضيهم بموجب القانون وتفرز من تورط سهوا او ظلما، وترفع الحيف عن الضحايا، وتمضي قدما في اقرار العقاب لمن يستحق ومنح العفووالصفح والتسامح الى من يستحق على ان يجري ذلك في مساءلة شعبية علنية مفتوحة تعُهد ادارتها الى شخصيات وطنية مستقلة وكفوءة وعادلة لايربطها اي رابط بالجانب المنتصر ولابالجانب المندحر وليس لها ولاءات لاي جهة اجنبية ؟ اليس ذلك هو المنهج الحكيم الوحيد الذي يرجع الحق الى نصابه ويدمل الجراح ويرسي دعائم العدالة التي يستلزمها فتح صفحات جديدة من التاريخ معززة بالتآخي والتعاون ومقرونة بالبناء والتعميروالتقدم؟ لماذا نحتاج للمصالحة المبهمة التي تُطبخ تحت اغطية الكتمان بعد اربع سنوات من النكبة؟ اليس ذلك دليلا قاطعا على انها ليست مصالحة بقدر ماهي اولا، محاولات خسيسة لاقتسام واعادة اقتسام الغنائم ، والانكى من ذلك ثانيا ، فهي محاولات بائسة لغض النظر عن الظلم والتزلف للظالم”Appeasement”والتي تقضي باسترضاء كل من عادى الشعب وساهم في تدميره بعدوان غاشم – استرضاء مهين على حساب المبادئ الاخلاقية وخوفا من اولئك الاعداء وتجنبا لشرورهم ووحشيتهم؟ ان استرضاءا مثل هذا سيؤدي لامحالة الى حالة من الاستقطاب الازلية التي يخسر فيها جانب ويضل محاولا تحويل خسارته الى كسب، ويربح جانب آخر فيضل محاولا الاحتفاظ بكسبه، وبذا سيستمر الصراع الدموي الى اجل غير مسمى.
الذي يحتاجه الشعب العراقي هو البناء والسباق مع الزمن لمحو آثار الخراب الشامل..البناء الذي لايتحقق الا بالاستقرار..والاستقرار الذي يستلزم الحرية والرضا اللذان يتأسسان على الانصاف والعدالة باعتبارهما الدواء الاساسي لتشافي الجروح الذي لابد ان يبدأ بانزال العقاب بالظالم واسترجاع حقوق المظلوم. ولايمكن لذلك ان يتحقق الا بالتسوية الشاملة للامور وتصفية الحسابات عن طريق كشف مالتلك الاطراف وماعليها، والاعتراف بالخطأ وتحمل المسؤولية وقبول العواقب والكفاح للعبور الى الضفة الاخرى- ضفة القناعة والسلام. ان ذلك يعني تبني منهج التسوية والانصاف Reconciliation الذي يقضي بالتوفيق المنصف بين الاطراف بما يرضي النفس بجزء ويحملها على الاذعان والقبول بما لايرضيها بجزء آخر. وذلك يتطلب تخلي كل الاطراف عن الاحلام الزائفة في تحقيق النصر المطلق لجانب والاندحار الكامل لجانب آخر. تسوية من هذا النوع ستلزم كل الاطراف ان تجري منفردة مع نفسها حسابا عسيرا للكسب والخسارة والانتهاء بتوقع وقبول الاثنين معا والمضي الى امام ، وبدون هذا المنطق الواقعي العقلاني لايمكن لاي نزاع على وجه الارض ان يُحل .
فيما يلي مراجعة سريعة عن تجارب بعض شعوب العالم الثالث في هذا المجال:

تجربـة جنـوب افريقيــا:

بالرغم من الانتقادات القليلة نسبيا، وحالات الاحتجاج المسجلة من قبل البعض من ذوي الضحايا، يجمع المراقبون السياسيون والمختصون في قضايا حقوق الانسان على اعتبار تجربة جنوب افريقيا من التجارب الناجحة في التعامل الديمقراطي الحضاري مع مخلفات وعواقب الانظمة الاستبدادية الظالمة ومحنة الحفاظ على توازن المجتمع والمضي في بناءه بعد السقوط الفوضوي المدوي لتلك الانظمة.
تأسست "الهيئة العليا لكشف الحقائق والتسوية" في اعقاب اندحار نظام جنوب افريقيا العنصري وبدعوة من الرئيس نيلسن مانديلا وتفعيل لقانون رقم 34 لسنة 1995 الخاص برعاية الوحدة الوطنية واحلال التسوية العادلة والذي اقر تفويض الهيئة للعمل على ان تكون شاهدا حيا منصفا على الجرائم والانتهاكات والمخالفات المتعلقة بالحقوق الانسانية والمدنية وتوثيقها وتعويض الضحايا وتأهيلهم الاقتصادي والاجتماعي والنفسي، جنبا الى جنب مع التمتع بصلاحيات منح العفو عن بعض الفاعلين والمتورطين بتلك الانتهاكات فيما اذا رأت الهيئة مايستوجب ذلك، وحيثما كان ضروريا من اجل كشف النقاب عن الجرائم التي عملت اجهزة النظام العنصري على طمس معالمها. كانت الهيئة مستقلة وغير مرتبطة بالدوائر الرسمية الحكومية، وقد ضمت في عضويتها نخبة من الشخصيات الكفوءة والمعروفة بوطنيتها وانصافها فكان على رأس الهيئة رجل الدين المعروف، رئيس الاساقفة دزمند توتو. نظمت الهيئة اعمالها في ثلاث لجان عمل فرعية كانت على النحو التالي:

- لجنة استقصاء الجرائم والانتهاكات والمخالفات المتعلقة بحقوق الانسان والحاصلة خلال الاربع وثلاثين سنة الممتدة بين 1960 و 1994.

- لجنة تقدير وتقرير تعويضات الضحايا ورفع الحيف عنهم وتأهيلهم من اجل استرداد انسانيتهم المستلبة والحفاظ على ما تبقى من كراماتهم التي هدرها نظام القهر والاضطهاد.

-لجنة النظر في طلبات العفو من قبل المتورطين والعاملين في امرة النظام الاستبدادي.

وكانت الهيئة قد اعلنت ان من حق كل مواطن شعر بالظلم باي شكل من الاشكال ان يتقدم بشكواه ويدلي بتصريحاته امام الهيئة وبضمن ذلك الذين كانوا مسؤولين في اجهزة النظام الذين يدّعون برائتهم ويطلبون الصفح والرأفة. وقد جرت اعمال اللجنة علنيا وبثت وقائع جلساتها على الهواء من اماكن انعقادها التي شملت جلسات كيب تاون التي كانت برعاية جامعة وسترن كيب، وجلسات جوهانسبرغ برعاية البعثة المركزية الدينية، وجلسات راندبرغ برعاية كنيسة الانجيل. ومما اثار اعجاب الكثير من المراقبين هو اصرار اللجنة على تطبيق شعارها النزيه "لانريد عدالة المنتصر" التي سمحت باستجواب كل الاطراف بضمنها مسؤولين كبار في الحكومتين المندحرة والمنتصرة ومسؤولين في جبهة التحرير، واشترطت في ذلك ان تقترن طلبات العفو والرأفة بالمصارحة وكشف الحقائق امام الملأ وتقديم الاعتذار العلني للضحايا والشعب عموما. وبموجب هذا المبدأ تمت مساءلة الرئيس السابق دي كلرك الذي امتثل امام الهيئة مقدما اعتذاره للشعب لما عاناه من ويلات تحت نير النظام الذي كان هو احد اركانه الاساسية، اضافة الى مساءلة كبار المسؤولين واعضاء في حزب المؤتمر الوطني الافريقي حيث تم توثيق الكثير من الانتهاكات من جانبهم ايضا. انهت الهيئة اعمالها بعد ثلاث سنوات من العمل المتواصل، وقدمت تقريرها النهائي عام 1998 الذي القى باللوم على المخالفين من الجانبين، وتمت الموافقة على منح 849 عفو من اصل 7112 طلب، اي على اقل من 12% من الطلبات المقدمة.

تجربـة تشــيلي:

بعد الاندحار المهين للجنرال بينوشيت في الاستفتاء العام الذي جرى عام 1990 تشكلت اللجنة الوطنية لكشف جرائم القتل والتغييب التي ارتكبت ابان الحكم العسكري الذي قاده الجنرال اوكستو بينوشيت بين عامي 1973 و1990. وكان الرئيس باتريسيو ايلون الذي اعقب بينوشيت قد امر بتشكيل اللجنة وعهد رئاستها الى راؤول ريتك السفير السابق في حكومة الرئيس المنتخب المغدور سلفادور الليندي. وقد صدر التقرير النهائي للجنة عام 1991 حاملا اسم رئيسها، "تقرير ريتك" ، الذي وثق اختفاء 2279 مواطن لم يتم العثور على اي منهم فاعتبروا ممن اغتالهم النظام لاسباب سياسية.

اللجنة الثانية التي تشكلت في هذا الخصوص هي " اللجنة الوطنية للنظر في الاعتقالات السياسية والتعذيب" بطلب من الرئيس ريكاردو لاكوس الذي كلف الاسقف سيرجيو فالش بتشكيلها والاشراف عليها. وقد نشرت وقائع جلسات اللجنة في "تقرير فالش" الذي تضمن جزئين، صدر الاول منهما عام 2004، فيما صدر الثاني عام 2005 . وقد ضمت اللجنة مجموعة مرموقة من المحامين والاطباء النفسانيين وعدد من الناشطين في حقوق الانسان اضافة الى نائبة الرئيس . وكانت اعمال اللجنة علنية ونشرت تباعا على الانترنت. استمعت اللجنة خلال مدة تفويضها الى 35,868 شهادة، واستقصت 400,000 حالة تغييب وتعذيب، وكشفت بان من بين المعتقلين كان هناك 1080 من الاطفال والاحداث الذين لاتزيد اعمارهم عن 16 سنة فيما تضمن هذا العدد 88 طفل كانت اعمارهم اصغر من 12 سنة. كما كشفت عن 3399 حالة اعتداء جنسي على المعتقلات من النساء موثقة في ذلك 229 حالة للنساء اللائي حملن جراء حالات الاغتصاب التي تعرضن لها وهن رهن الاعتقال ، فيما سجلت 35 حالة اجهاض تحت التعذيب. كما وثقت اللجنة الظروف القاسية والمعاملة الوحشية التي كان يلقاها المعتقلون اثناء الاعتقال وظروف السجون الصحية والاجتماعية المزررية المخالفة للاعراف الدولية. وكان عدد كبير جدا من المعتقلين قد شهد بانهم اعتقلوا في بيوتهم منتصف الليل حيث تم اقتيادهم بالضرب والسباب على مرأى وهلع زوجاتهم واطفالهم. هذا، وقد تضمن تقرير اللجنة النهائي قرارها بمنح التعويضات المالية والخدمات الصحية والنفسية والتعليمية للضحايا.

تجربــة غواتيمــالا:

تشكلت "هيئة كشف الحقائق للتأريخ" بموجب اتفاقية اوسلو عام 1994 التي انهت الحرب الاهلية الغواتيمالية التي دامت ثلاثين سنة والتي راح ضحيتها 200,000 مواطن. وكان الغرض الاساسي لعمل الهيئة هو التحقيق في انتهاكات حقوق الانسان التي ارتكبت من قبل الاطراف المتنازعة، وتوضيح ماجرى من اهوال بين عامي 1962 و1996، حيث نصت الاتفاقية المعقودة في اوسلو على الاهداف التالية:
-الكشف بكل صراحة وموضوعية عن كل الجرائم والانتهاكات والخروقات التي تعرض لها الشعب الغواتيمالي بصرف النظر عن الجهة التي ارتكبتها.
-توثيق كل الاسباب والدواعي والظروف المتعلقة بتلك الجرائم والانتهاكات ونشرها في تقرير موضوعي محايد.
-تقديم التوصيات المعقولة الكفيلة بتعزيز وحدة البلاد وتقوية اواصر الاخوة وتشجيع اساليب السلم والتصافي جنبا الى جنب مع تخليد ذكرى الضحايا واحترام القضايا الوطنية التي ضحوا من اجلها.
وكانت الهيئة قد استجوبت آلاف المواطنين ومئات المسؤولين من اجل جمع الحقائق التي نشرت عام 1999 في تقرير الهيئة الموسوم "غواتيمالا: ذكريات الصمت" الذي ازاح الستار عن حقيقة حصول 42,275 حالة قتل، كان 23,671 منها من حالات القتل العشوائي و 6,159 حالة تغييب، على ان اشد الحقائق وقعا في النفوس كان في فضح نوايا التطهير العرقي حيث كان اكثر من 83% من الضحايا من عرق المايا، وهم سكان البلاد الاصليين.

تجربــة بيـــرو

تأسست "هيئة كشف الحقائق والتسوية العادلة" في حزيران 2001 من اجل توثيق الحقائق عن
جرائم العنف السياسي التي عمت البلاد خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. دأبت الهيئة على اعمالها لاكثر من سنتين حيث سلمت تقريرها النهائي الى الرئيس اليهاندرو توليدو في آب 2003. وكانت الهيئة قد ضمت مجموعة متنوعة من كفاءات البلاد الوطنية شارك في عضويتها عدد من الناشطين في حقوق الانسان والباحثين والمحامين وعلماء الاجتماع والصحفيين والفنانين ورجال الدين. أصرت الهيئة على ان يكون عملها محايدا ولغرض كشف ماجرى وتتبع مسؤولية الجرائم والانتهاكات حيثما تقع على اي طرف سواء الحكومة او حركات المقاومة بفصيليها حركة توباك الثورية وحركة شايننك باث. استمعت الهيئة الى آلاف الشهادات والاعترافات وتعقبت مئات المواقع واجرت العديد من الفحوصات وتحليلات الطب العدلي وانتهت الى توثيق 69,280 حالة قتل تسببت في ترك 43,042 يتيم ليس لهم من يعينهم. هذا وكانت الهيئة قد وضعت مسؤولية تلك الجرائم حسب اولوية مرتكبيها فكانت حركة شايننك باث في المرتبة الاولى تلاها الحكم العسكري ومن ثم حركة توباك الثورية. كما القت اللوم الشديد على سلطة الكنيسة في البلاد لصمتها المريب وعدم اكتراثها بما حل في البلاد من كوارث. وكان من ضمن توصيات الهيئة اجراء اصلاحات جذرية في البنى السياسية والاقتصادية ومنح التعويضات لذوي الضحايا كما امرت بانشاء آرشيف فوتوغرافي كامل يوثق للتاريخ الجرائم والتجاوزات ويخلد ذكريات الضحايا.

تجربــة ألارجنتــين

تأسست "الهيئة الوطنية الارجنتينية للمغيبين" بأمر من الرئيس راؤول الفونسن عام 1983 للتحقيق في انتهاكات حقوق الانسان، وخاصة الاختفاء المريب لالاف المواطنين الذي حصل ابان النظام الديكتاتوري بين 1976 و1983. انهت الهيئة اعمالها وقدمت تقريرها النهائي الموسوم "سوف لن نسمح بذلك ان يتكرر مرة اخرى!" عام 1984. وكان نشر هذا التقرير بمثابة الفاتحة الرسمية للبدء بمحاكمات جنرالات ومسؤولي النظام الديكتاتوري التي احيل اليها مامجموعه 30,000 حالة اختفاء واغتيال على ايدي فرق الموت الهمجية المسماة "الحلف الارجنتيني لمكافحة الشيوعية"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بمشاركة بلينكن..محادثات عربية -غربية حول غزة في الرياض


.. لبنان - إسرائيل: تصعيد بلا حدود؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. أوروبا: لماذا ينزل ماكرون إلى الحلبة من جديد؟ • فرانس 24 / F


.. شاهد ما حدث على الهواء لحظة تفريق مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين ف




.. البحر الأحمر يشتعل مجدداً.. فهل يضرب الحوثيون قاعدة أميركا ف