الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عصفور آب

هاشم تايه

2007 / 6 / 8
الادب والفن


جلبتْه قطراتُ الماء المتساقطة قطرة بعد قطرة إلى هذا المكان الذي لم يقدّر خطورته جيداً على الرغم من تمتّعه باحتراس فطري لا مثيل له، وبتحفّز يقظ يجعلانه قادراً على الإفلات والنجاة حتى من أعقد الفخاخ...
أحسّستُ بالإغراء الذي وقع تحت تأثيره، إغراء القطرات اللاعبة بعطشه الحارق، يحسّ بها تتكوّن في رحم الحنفية التي تشبه طيراً من نحاس، ويرى براعمها الفضيّة تبزغ من الفم النحاسيّ فتلتمع، وتنتفخ ثم يقطعها مقصّ الهواء لتسقط على خرسانة الحوض المربع وتتحطّم مع تحطّمها شهوتُهُ قبل أن تبتلعها حفرة الحوض وتضيع في مياه البالوعات..
لبث ذائباً في قيظ الظهيرة على حافّة مظلّة الصفيح التي تحمي دكان أبي من الشمس يحترق بحرمانه من القطرات التي تولد تحته وسرعان ما تغيب... كانت رقبتهُ تلتوي إلى الأعلى، ورجلاه تهتزان، ويضطرب وراءه ذيلُهُ كلّما اخترق قلبَهُ هواءُ العصافير وهي تسرع خاطفة إلى الظلّ فراراً من لهيب الظهيرة، وكأنّها، في تلك اللحظة، أبصرت آب يصعد إلى الشمس وينفخها بريح قلبه المشتعل، ويطلق غبار نارها...
خفّت الحركة في السوق، بانصراف المتسوّقين إلى دورهم وانتهز أصحابُ الدكاكين وباعة الخضار والفاكهة، الفرصة، فأقبلوا على الطعام محتمين من الشمس بقبعات من الزنابيل، تحت الظلال الخفيفة التي صنعتها لهم أقفاص الخضار، وكارتونات صناديق التعليب... وأثقل طعامُ الظهيرة رؤوس معظم الباعة فارتختْ دماؤهم في قيلولة يقِظَة تحومُ حولها دوّاماتُ الذّباب، وفترَ كلُّ شيء إلاّ روحُ آب المشتعل بين الأرض والسماء...
أوشك أن يلتحق بسرب عصافير خطف فوقه، وضاعف عذابه، لكنّ القطرة التي طلعت من عين الحنفيّة مثل دمعة ناتئة أمسكت بجناحيْه وأمالت جسده إليها بعدما ترنّحت بدفقة هواء حارّة... التصقْتُ بدعامة الدكان التي تسند الحنفيّة وكمنتُ بحيث لا يراني، وحين ارتمى على قطرته منقضّاً كانت قد تخلّتْ عنه ونزلت في الحوض، ولم يجد أمامه، وقد خُذِل تماماً، إلاّ أن يوغل منقاره في ظلام الفتحة المدوّرة، باعثة القطرات العزيزة، ليصطاد قطرته في رحمها، وبحركة سريعة لا يستطيع أن يحسب حسابها، عادةً، الواقعُ تحت سطوة الإغراء أطلقتُ يدي عليه بخفّة، وانتزعتُهُ من الحنفيّة بمنقار مبلول، وريش مرتعش، ليرى الوجه الذي يخافه، وجه الصيّاد...
شعرتُ بدفء ريشه يكسو يدي التي اصطادتْه بمهارة، وخفتُ أن يتفتّت قلبه وهو يضرب بقوة راحتي، فخفّفتُ من ضغطتي عنه قليلاً رافعاً منقاره بسبّابتي لأتفادى عضّاته...
بقيتُ فترة طويلة أقصُّ على أترابي حكاية بطولتي، وأعتبر تغلّبي على عصفورٍ فائقِ الحذر بمجرد يد فارغة، أوّل أعمالي العظيمة التي أفتخر بها...
سقطتْ من فم الحنفيّة المربوطة قطراتٌ أخريات فالتقطهنَّ منقارُ البالوعة الجارف، من دون أن يرَى عصفوري التماعاتهنّ...
كان مثل قطعة حيّة من زمن ساخن قبضتْ عليها يدي...
ملْتُ بجذعي إلى الوراء، ومددْتُ ذراعي إلى أقصى ما أستطيع، ومثلما يفعل رامي رمح، قذفتُ بصيدي إلى السماء الفائرة، وتابعتْ عيني المعروقة بغبار الشمس ، العصفور الذي اخترق اللّهب السّماويّ، وغاص فيه بجناحيْن مطوييْن، حتّى إذا استهلك دفعتي تماماً، أطلق جناحيه، وراح يطير........








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/