الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التكعيبيّة واستحقاق الريادة في الفن التشكيلي المعاصر

مصدق الحبيب

2007 / 6 / 10
الادب والفن



تقول الرواية: ان رجلا غاضبا كان قد استوقف بيكاسو وقال له: ليس هناك اي معنى او اهمية لاي شئ ترسمه لان فنك لايمت لواقعية الحياة بأي صلة! فردّ بيكاسو على الرجل قائلا: حسناً، هل لك ان تريني عملا واقعيا؟ جفل الرجل واخذ يتلفت بحيرته يمينا وشمالا. وبعد لحظات مدّ يده بعصبية وارتباك الى محفظته واخرج منها صورة فوتوغرافية صغيرة لزوجته وصرخ بوجه الفنان: انظر..هذا هو العمل الواقعي! فقال بيكاسو: رويدك يارجل..اذا كان هذاهو واقع زوجتك فهي اذاً وكما ارى امرأة بطول اربعة سنتيمترات ولها راس وجسم مسطحان ونحيفان بنحافة الورق، وليس لها ذراعان اوساقان، ولونها بلون الرماد!!! فلم يجد الرجل مايرد به على الفنان، لكنه ابتسم وغادر مستغرقا في التفكير في الفرق بين الواقعي وغير الواقعي.
_______________________________________________________________________

البدايـــات:

تعتبر التكعيبية من اولى واهم الحركات الفنية الطليعية في القرن العشرين التي ساهمت في اطلاق شرارة التحديث في الفن التشكيلي، حيث تقدمت مسيرة التغيير في اساليب التعبير الفني التي تصاعدت عموديا من الرسم الى بقية الفنون واجتاحت المدى افقيا من اوربا الى شتى بقاع الارض. ورغم القصر النسبي للمدة الزمنية التي تبلور وتطور وانتشر فيها المفهوم الجوهري للتكعيبية، والتي لاتتعدى عن ثلاثة عشرة سنة، من 1907 الى 1920، الا انها كانت حاسمة التأثير في الاوساط الثقافية، بخاصة في اعتلاء موجة الفن الحديث وتصعيد زخمها وتوصيلها الى الافاق التي بلغتها في عصرنا الحالي. على ان المفهوم الاشمل للحركة التكعيبية في الفن التشكيلي وبقية الفنون الاخرى لم يتوقف عند نهاية العقد الثاني من القرن العشرين بل استمر في التطور خلال هذا الامتداد الزمني الطويل منذ العشرينيات ولحد اليوم. وبالرغم من ان هذه الحركة كانت، كبقية الحركات الثقافية، حصيلة لتجارب ومؤثرات وظروف عديدة ، الا ان اغلب مؤرخي ونقاد الفن ينسبون ابتداع الاصل الجوهري للحركة الى مجموعة صغيرة من فناني باريس والتي يقف في طليعتها الفنانان القديران، الاسباني بابلو بيكاسو والفرنسي جورج براك، اللذان عاصرا بعضهما ابان اقامتهما في حي مونمارتر الباريسي، وارتبطا باواصر صداقة وعمل مشترك أدى الى ان تكون افكارهما وتطلعاتهما واعمالهما الفنية قريبة لبعضها خاصة خلال فترة تجاربهما الجريئة التي بدأت في مطلع القرن العشرين. يقول جورج براك عن صداقته لبيكاسو "اننا مثل متسلقي الجبال المربوطين بحبل تسلق واحد"! وكان في صدد التعبير عن المصير المشترك الذي قد يكون بلوغ القمة معا او الهبوط الى الهاوية سوية ً .

مابين عامي 1905 و1906 بدأ بيكاسو بالتفكير جديا بتطبيق بعض التغييرات الجذرية على الاسلوب الفني التقليدي الذي تبناه منذ احترافه الرسم وحتى ذلك الحين. كانت فكرة التغيير قد اختمرت في رأسه بعد فترة تأمل وافتتان طويلة بالفن الفطري الافريقي الذي كان بيكاسو يقدر فيه الشجاعة على تغيير مقاسات الاشياء وتشويه معالمها من دون فقدان جماليتها. بل يحصل احيانا ان يضيف التشويه المدروس في تلك المقاسات جرعة اضافية من الجمالية التشكيلية. لقد كان بيكاسو في اول الامر مهووسا بتطبيق ذلك التشويه المدروس من دون الانتهاء الى تسفيه مستوى اللوحة الفني او عبورها الى مجال الكاريكاتير ولم تكن تلك المهمة سهلة على الاطلاق . يقول بول جونسن في كتابه "تأريخ جديد للفن" ان بيكاسو شرع عام 1906 في رسم بورتريت لزميلته كرترود استين وانتهى، قبل ان يتوفق بتعديلها، الى تشويه شنيع في معالمها، وذلك بعد ان انهك زميلته بالمثول امامه في 80 جلسة! على ان خير مايمثل نجاح بيكاسو الاول في هذه المحاولات هو لوحته "نساء افنيون" التي رسمها عام 1907 والتي يجمع اغلب مؤرخي الفن على انها كانت تمثل نقطة البداية في انطلاق التكعيبية. ولم يكن ذلك سهلا ايضا على بيكاسو الذي وصف عمله في هذه اللوحة ساخرا حين قال "كانت تلك هي تجربتي الاولى في استحضار الارواح". وكانت لوحة بيكاسو هذه قد اظهرت تغييرات فيزياوية بليغة في التشريح والنسب وادخلت تشويهات عنيفة على وجوه النساء الجميلة اضافة الى استخدامها الوان قاسية غير متوقعة. شملت هذه التغييرات الجديدة اختلالات في المنظور وعمق الميدان الفيزياوي. كما ان اللوحة اظهرت تضاربا واضحا بين قوانين المنظور وبين منطقية تشكيل الفضاء الفني. يميل بعض النقاد الى اضافة تفسيرا فلسفيا آخرا لهوس بيكاسو بتشويه الوجوه، خاصة وجوه النساء، رابطين مثل هذا العمل الواعي بحاجته النفسية اللاواعية الى التعبير عن موقفه من النساء بشكل عام. ذلك الموقف الاخلاقي الذي امتدت جذوره في لاوعي الفنان خلال سنين شبابه التي لم تشهد اي تجارب اخرى مع النساء سوى الارتياد المدمن لمواخير برشلونة ومدريد وباريس ومعاشرة المومسات وبنات الهوى.

أما جورج براك الذي انتمى الى الحركة الفوفية (الوحشية) عام 1905 فقد اظهر تحولا جليا في معرضه الذي اقامه عام 1907 والذي اظهر فيه اعتزازه وتأثره بسيزان الذي توفى قبل سنة من اقامة المعرض. ومن هذين العنصرين، تأثرْ بيكاسو بالفن الافريقي وتأثرْ براك بسيزان نشأ المصدر التكنيكي للتكعيبية. يرى بعض من مؤرخي ونقاد الفن بأن التكعيبية تجسدت حرفيا في لوحة براك "بيوت ايستاك" المرسومة عام 1908 ولوحة بيكاسو "بيوت على التل" المرسومة عام 1909، اللتين ظهرت فيهما الطبيعة وكأنها جملة من المكعبات المتراصفة المتداخلة. وهذا ماحدا بناقد الفن الفرنسي لوي فوكسل ان يطلق تعبير "التكعيبية" على هذا الاتجاه الجديد الذي لم يألفه جمهور الفن من قبل.

خلال فترة قصيرة من ذلك الوقت اصبحت الحركة التكعيبية تبدو مثيرة وجذابة لعديد من الفنانين والادباء المحترفين ، ما ادى الى انتشارها في الوسط الفني الفرنسي والاوربي بسرعة مذهلة بدأ على اثرها نقاد الفن ومؤرخوه يحاضرون ويكتبون عنها كمدرسة فكرية جديدة في غضون اربع او خمس سنوات فقط من انبثاقها. وهكذا فقد عبرت شعبيتها البحار الى الولايات المتحدة الامريكية من خلال معرض جاك فلن الذي اقامه في نيويورك عام 1913 اي بعد حوالي ست سنوات من انطلاق شرارتها الاولى. ونتيجة لهذا القبول الواسع تشكلت محاور رئيسية اخرى من كبار الفنانين والادباء النشطين في باريس الذين تبنوا التكعيبية واخذوا يمارسونها بطرقهم الابداعية المتفردة. فبالاضافة الى المحور الرئيسي الذي ضم بيكاسو وبراك وهوان كَرس، يمكننا تشخيص ثلاثة محاور اخرى:

- محور باتولافوا في مونمارتر الذي ضم ماكس جيكب، ابولينييه، مودلياني، ديلوني، آرجبنكو، وليو وكرترود استين.
- محور صالون ديور الذي ضم فلن، ليجيه، كبكة، ماركوسس، وكليزيه.
- محور الاورفيّون الذي ضم دوشامب، بيكابيه، ومجموعة من تجريبيي الكولاج.

ومن خلال هذه المحاور الاساسية انطلقت التكعيبية عاليا في الفضاء الفني بل تسربت من فضاءات الرسم والنحت والتصميم الى العمارة والادب والموسيقى، وضمت اتجاهات مذهبية واقطاب فكرية مختلفة من العبثية الى اقصى اليسار مرورا باليمين القومي.

ماقبـل التكعيـبية:

كانت عملية الوثوب من الانطباعية الى "مابعد الانطباعية" قد حصلت تدريجيا خلال الاعوام العشرين الاخيرة من القرن التاسع عشر على ايدي عدد قليل من الفنانين النابغين الذين بدأوا بخرق المألوف وشرعوا باتخاذ خطوات صغيرة لكنها ثابتة في تقديم البدائل المناسبة التي شكلت القاعدة الاساسية لانطلاق ثورة الفن الحديث في مطلع القرن العشرين. من الفنانين الذين تجدر الاشارة اليهم في هذا المجال، الفرنسي بول غوغان الذي تجرأ بعرض لوحات احتوت على مساحات كبيرة مسطحة احادية اللون ذات حدود تأطيرية بالوان مختلفة. وكان مثل هذا التغيير تعبيرا عن الطابع التصميمي الذي اختلف كثيرا عما كان متبعا في المنهج الانطباعي الذي اكد على البراعة في التعامل مع الضوء والكفاءة العالية في مزج الالوان المختلفة واظهار ضربات الفرشاة المتعددة التي تجعل السطح يكتسب قواما معينا يتناسب مع الغرض المطلوب. وفي هذا التحول بالذات وجد هنري ماتيس ضالته في تطوير اسلوبه التصميمي ذي الطابع الكولاجي الديكوري وماتبعه من تحميل اللون معاني تعبيرية رمزية تختلف عن معناه التقليدي المقتصر على استنساخ الطيف الضوئي الفيزيائي في الطبيعة. وكان لنزوح غوغان الى جزر تاهيتي واستقراره هناك عام 1891 الاثر الكبير في تعميق ميوله الاسلوبية الجديدة في تبسيط التكنيك وبسط الموضوع، فكان هذا التغيير متظافرا مع قرار الفنان في نبذ حياة المدن الصناعية وتبني حياة الريف المنعزل البسيط التي وفرت اسبابا تعزيزية كان في مقدمتها ميوله المتأخر الى التأويلات والطقوس الدينية وتزاوجه الفكري مع ثقافة وفنون شعوب الجزر البعيدة الذي نجم عن تطوير اسلوبه الفني باتجاه محلي فطري متأمل مخالف تماما للاتجاه الانطباعي الذي نشأ عليه وترعرع في كنفه.

ومن فناني مرحلة الوثوب الى مابعد الانطباعية الفنان الهولندي فان غو (كوخ) الذي حور التكنيك الانطباعي للفرشاة باستخدام الضربات القصيرة المتعددة وتبنى الاستعارة اللونية والمجاز الانشائي في خلق اسلوب تعبيري متميز بالرمزية كما يتضح في حالة اتخاذه الغراب الاسود رمزا للموت والخراب والغيوم الحلزونية نذيرا للعاصفة والانفجار (رغم تناقض حدوثها خلال ليلة صافية مقمرة مرصعة بالنجوم) كما ورد في لوحته الشهيرة "ليلة ذات نجوم" المرسومة عام 1889. أما الفنان النرويجي ادوارد مونك فقد ركز على رمزية اكبر لموضوعات تجاوزت الضرورة ان تجعلها لوحات تصويرية. يتجلى ذلك في لوحته الشهيرة "الصرخة" التي انجزها عام 1893 ومثيلاتها "اليأس" و"القلق" وفيها مايمثل خروجه الجرئ عن المألوف. فلم يكن ممكنا على الاطلاق ان تكتسب لوحة الصرخة مااكتسبته من شهرة ذائعة لولا ان اسلوبها البدائي غير المشذب وتكنيكها المتدني والوانها الممزوجة بطريقة طفولية ساذجة كانت كلها من قبيل "الكفر والالحاد" في فن القرن التاسع عشر الذي كان صنوا للاناقة والتهذيب والامكانيات التصويرية الاكاديمية المتقدمة. أما بول سيزان فله الحصة الاكبر في اخلال التوازن الانطباعي عبر انتهاكاته الجريئة للمنظور ومساقط الضوء وابتكاره مبدأ "الاختراق" والتي شكلت بمجملها عنصرا مهما من عناصر القاعدة التكنيكية التي انطلقت منها التكعيبية.

مصـادر الالهــام:

يمكن لنا ان نقسم المصادر التي الهمت التكعيبية الى مصدرين رئيسيين يمثلان التكنيك الفني والخلفية الاجتماعية.

المصدر التكنيكي:
يتمثل هذا المصدر بعنصرين اساسيين هما:

-الاسلوب العفوي المتميز في النحت الفطري الافريقي وخاصة المنحوتات الناتئة (الريليف) والاقنعة والتي كانت تأثيراتها واضحة في الهام بيكاسو وتشجيعه على تبني الاسلوب الجديد في رسم الوجوه كما ظهر جليا لاول مرة في لوحته "نساء افنيون" كما سبق ذكره.

-الاسلوب الذي ابتدعه سيزان في سنواته الاخيرة، وما انطوى عليه من ادخال الابعاد الهندسية والميول الى اختزال الفضاء الانشائي، الامر الذي استهوى جورج براك على وجه التحديد وساهم في الهامه نحو تجاربه الاسلوبية الجديدة كما سبق ذكره.

وكان لتزاوج هذين الاسلوبين الفنيين وتكامل شخصيتي بيكاسو وبراك فيما بينهما الاثر الكبير في تصاعد ألق التكعيبية واتساع جاذبيتها . يعزو اغلب المؤرخين المساهمات التنظيرية في التكعيبية الى براك فيما يربطون جانب النجاح الكبير في الدعاية والاعلان والشعبية الى بيكاسو.

المصدر الاجتماعي:

لاشك ان اسلوب التجزئة والتقطيع وربما التشويه التي تعرض لها الشكل الفني تحت الكعيبية لم تنشأ من الفراغ انما نشأت حسب ما يعتقد اغلب النقاد والمؤرخين كأنعكاس للواقع المجزء المختل الذي لم يعد منسجما ومتوافقا كما كان في اي وقت مضى. فالظروف الجديدة في ظل الثورة الصناعية والانفجار التكنولوجي كانت قد هيأت المناخ الملائم لانبثاق مدى اوسع من المستويات الاقتصادية-الاجتماعية للسكان، الامر الذي أدى في ظل نظم السوق الحرة الى توسيع الهوة بين الطبقات الاجتماعية وتصعيد وتائر تمايزها الطبقي مما برر ظهور حركات التحرروالدعوة للمساواة ودخول المرأة الى سوق العمل واطلاق مطالباتها بالتحرر والتساوي في التعامل واحراز المزيد من الحقوق المدنية. كما تميزت تلك الفترة التاريخية بشيوع افكار التحليل النفسي الفرويدية التي وفرت الامكانات الفكرية لتفسير الذات الانسانية الفردية والجمعية بكونها تتمحور حول جملة من الصراعات والمتناقضات السايكولوجية والعاطفية المتعايشة مع بعضها البعض، الامر الذي وفر بدوره الفرصة الاكبر لتحول التصور الفني من التوصيف المظهري للاشياء الى استقراء بواطنها. فيما عززت من هذا الاتجاه تطورات علمية مادية عميقة مثل نشر نظرية اينشتاين النسبية واكتشاف اشعة أكس وتطورات تكنولوجية مختبرية اخرى اثبتت بأن رؤيتنا للعالم الدايناميكي من حولنا لم تعد فقط رؤيا بصرية مجردة لادراك المحيط الفيزياوي، بل اضحت رؤيا مركبة ذات مواشير ضوئية متعددة ومتباينة بتباين ثقافات الشعوب والافراد واختلاف تجاربها ونظرتها للاشياء. وتجاوبت الثقافة لهذا النوع من المناخ الجديد فكانت نشاطات اوساطها المختلفة انعكاسا صادقا لمعطيات البيئة الجديدة. يظهر ذلك جليا، على سبيل المثال، في نزوع هنري ماتيس الى تسطيح انشاءاته الفنية واستعارة زخارف ديكورية من وحي طباعة الاقمشة والمفروشات وتضمينها على شكل موتيفات مسطحة احادية اللون، الامر الذي يمكن تبريره بميول ماتيس الجديدة الى التخلص من البعد الثالث واستعارة اساليب التصميم التجريدي التي ميزت فنون الثقافات الاسيوية والتراث الاسلامي. اما على صعيد الادب فقد ظهرت اعمال جيمس جويس وتي أس اليوت وفرجينيا وولف التي تميزت بتجريبيتها في مجالات البناء السردي جنبا الى جنب مع انشائها اللغوي السليم والتزامها بالقواعد النحوية الصارمة. وعلى صعيد التأليف الموسيقي فقد كانت اعمال شوننبرك وسترافنسكي التجريبية التي لم تعتمد فقط على الخصوصيات الهيكلية للسلم النغمي التقليدي بل عمدت الى استعارة الوان واطياف من ماوراء السلم التقليدي. وفي هذا المجال كان عدد كبير من المؤلفين الموسيقيين ، ومن الرسامين والادباء ايضا، قد تأثر وتبنى فلسفات شوبنهاور ونيتشه التي اكدت على تفوق الموسيقى على بقية الفنون بسبب تسامي وتكامل قواها التعبيرية الوجدانية المباشرة التي تؤمن اتصالاتها السريعة بالمتلقي دون الحاجة الى استنساخ واستعارة التجربة الانسانية التشخيصية مثلما تفعل بقية الفنون. وبهذا المنطق فان الموسيقى كانت قد تفردت بريادتها في التجربة التجريدية بسبب تأصل التجريد في طبيعتها.


الوجه الفلسفـي للتكعيبية:

بدأت التكعيبية كثورة فكرية على اشكال التعبير الفنية السائدة في ماقبل القرن العشرين الا ان زخمها الاولي كان شديدا ومتطرفا بما تضمنه من تغييرات ، اُعتبرت في التقدير العام، حادة على نمط التفكير والتصور بالنسبة للفنان والمتلقي على حد سواء. يقوم مبدأ التكعيبية على فكرة النظر الى الاشياء والموجودات من زوايا نظر متعددة على العكس من الاساليب التقليدية التي تعتمد زاوية نظر ثابتة واحدة. وبموجب هذا التعدد في المنظور الفيزياوي عمد التكعيبيون على تفكيك الشكل الى مكونات جزئية يتم تحليلها واعادة تركيبها بنمط اكثر تجريدية واختزال بحيث تكون الحصيلة النهائية للشكل المعني مختلفة نوعيا عما كانت عليه قبل التفكيك والتجزئة.

على الصعيد التكنيكي ، استلزمت هذه التغييرات الاستغناء عن ادوات وعناصر اساسية مهمة، ليس فقط في الصياغة الفنية انما في انماط استيعابها مثل:

- التأثيرات في الحس اللوني وفي الاستجابة لطيف الالوان وقوامها الفيزياوي.

- التاثيرات الضوئية ومداخلاتها في الانشاء الفني.

- الحاجة الى تصوير موجودات الطبيعة والمناخ الذي تتحرك فيه احياء الطبيعة.

- الحاجة الى التمويه الشكلي في العمل الفني.

- الصلات العاطفية بموضوع العمل الفني وتداعياتها النفسية.

فمن اجل استبدال جميع هذه العناصر التي التصقت طويلا بصياغة الاعمال الفنية واسس استيعابها وتقديرها من قبل الجمهور فيما مضى، لجأ التكعيبيون الاوائل الى ابتداع نظاما تحليليا جديدا يصار بموجبه الى تفكيك الاشكال ذات الابعاد الثلاثة واعادة تركيبها تسطيحيا باستخدام مستويات شكلية متداخلة ومتحررة من المنظور والعمق الفيزياوي. على ان التشكيل التكعيبي لم يأت على تغيير مفهوم الفضاء الفني بتبسيطه كما يبدو لعين الناظر في الوهلة الاولى بل ان التكعيبية عملت على اضفاء الكثير من الغموض والارباك في الانشاء الفني رغم ماجرى من تفكيك الفضاء الفني وتجزئته الى عناصره الاولية، الامر الذي كان يعد بالبداهة من قبيل المناهج التبسيطية . ولهذا السبب استوجب الغموض الاضافي اعادة النظر في اوليات فهم واستيعاب دور الفضاء الفني وكيانه التركيبي في اللوحة الفنية بما يتناسب مع فلسفة التكعيبية في الانشاء الفني الجديد الذي ينطوي على:

- تسطيح الاشكال واعادة اعتبار ابعادها بنمط هندسي ولكن بترتيب عشوائي.

- تجزئة الفضاء الانشائي الى مستويات جيومترية متقاطعة ومتداخلة.

- الغاء المنظور الفيزياوي التقليدي او تحوير مساقطه الطبيعية.

- تداخل الاشكال المتجاورة والمتباعدة على حد سواء مع الاحتفاظ بشفافية ابعادها بما يجعلها تبدو وكأنها تخترق بعضها البعض.

- الغاء اوتقليل الحاجة الى مصدر الضوء في الانشاء الفني وتغييرمنطق توحيد مساقط الضوء في اللوحة الواحدة كنتيجة طبيعية لانتهاج التسطيح واختزال البعد الثالث.

- الخلط وعدم التمييز المقصود في فيزيائية التحديب والتقعير.

- تبني مبدأ "الاختراق" الذي يفضل مؤرخو الفن ارجاع اصوله الى سيزان وتفسيره بالحاجة الى التركيز على الابعاد ماوراء الفيزيائية للعمل الفني، وذلك من خلال:

- اظهار الاشياء المختلفة الصلدة وكأنها تخترق بعضها البعض في سلوك مخالف للحقائق الفيزيائية.
- السماح بتمرير خط النظر من الظاهر الى الباطن في الشكل الواحد.
وتعتبر لوحة سيزان "جبال سانت فيكتور" التي رسمها عام 1902 البداية التي ظهر فيها اسلوب الاختراق بتداخل محيطين ماديين مختلفي القوام والكتلة وهما السماء والجبال .

التكعيبـية التحليليـة والتكعيـبية التركيـبية:

يزخر تاريخ الفن المعاصر وسجل النقد الفني في التكعيبية بتوصيفات عديدة لمراحل واقسام تميزت بميزات خاصة مثل التكعيبية الحقيقية والجوهرية، التكعيبية الطليعية والمتأخرة، التكعيبية البصرية والفطرية، التكعيبية الايجابية والسلبية، وغيرها من التوصيفات التي تعكس منهج ذلك النقد او التصنيف وتوجهاتهما العامة. الاّ ان تقسيم التكعيبية بموجب هوية التكنيك الفني الذي تميزت به في مرحلة معينة هو التقسيم الاعظم شيوعا والاكثر اقناعا، وهو الذي يقسم التكعيبية الى تحليلية وتركيبية.

تتناقض التكعيبية التحليلية مع التكعيبية التركيبية بتناقض مبدأي التفكيك والتركيب. فحين تقوم التحليلية على التجزئة الهندسية المتداخلة التي قد تشذ ميزات مكوناتها عن ميزات الشكل الام، تقوم التركيبية علىاعادة تشكيل الاجزاء المتفرقة وترتيبها بما يقدم شكلا متكاملا جديدا قد لاتكون له بالضرورة صلات تشابه مع الاجزاء المنفردة. امتدت المرحلة التحليلية خمس سنوات بين 1907 و1912. يعتقد بعض نقاد الفن ان اعمال براك تميل اكثر الى تمثيل هذه المرحلة مما تميل اليه اعمال بيكاسو، فيما يعتقد نفر آخر من النقاد بالعكس من ذلك. فقد جاء في الموسوعة الفنية التي نشرتها جامعة كولومبيا ان خير مايجسد مرحلة التكعيبية التحليلية هو لوحة "بورتريت امبروس فولارد" التي رسمها بيكاسو عام 1910 والتي عمد فيها الى تقطيع الشكل ذي الابعاد الثلاثة الى مجموعة كبيرة من المستويات المسطحة ذات البعدين ، الامر الذي حدا ببعض نقاد الفن لاطلاق تصريح مفاده "ليس ثمة مكعب واحد في التكعيبية" واعتبروا تلك اللوحة بداية لتحطيم البعد الثالث والغائه وفسح المجال الى تكنيكات التسطيح والاختراق. كما انهم اعتبروا تلك اللوحة الفاتحة لمزج وتكامل القطاعات الفضائية المنفصلة تقليديا مثل واجهة اللوحة وخلفيتها، الموضوع وبيئته، الحدث وحيثياته، الكتلة والفراغ، الظل والنور، واللون واللالون. خلال هذه المرحلة امتنع التكعيبيون عن استخدام الالوان البراقة مقتصرين في ذلك على الالوان المعتمة والكابية كالاسود والرمادي والبني الغامق والابيض المخلوط الشائب. اما الشكل فقد كان هندسيا صرفا. وبهذا تصور اعمدة هذه المرحلة بان هدفهم هو تصوير مايجري في الحياة والطبيعة ليس بموجب ماتراه العين انما بموجب ما يهضمه العقل ويعكسه، اضافة الى ان الرؤية لاتنطلق من مركز بصري واحد انما من عدة مراكز بصرية عديدة، الامر الذي اقتضى ان يكون المتلقي مطلعا ومهيئا لاستيعاب مثل هذا التغيير، مما يضيق دائرة الجمهور من العامة الى مجموعة مختارة تستطيع ان تتعامل مع العمل الفني الجديد المقدم بصورة مقتضبة تنطوي على اختزالات كثيرة. وبهذا اصبح ضمور اللون وتراجع استخدامه الى عدد محدود من الالوان الكابية المعتمة كالرمادي والبني صفة اساسية من صفات المرحلة التحليلية. اما التسطيح فقد جلب معه فكرة استخدام الحروف التي هي بطبيعتها اشكال مسطحة ليس لديها بعد ثالث الا اذا كان مفتعلا. ولعل خير مايمثل هاتين الصفتين هو لوحة بيكاسو "فاتنتي" ( Ma Jolie ) التي تظهر فيها هذه الكلمة مكتوبة في اسفل اللوحة وهي تشير ايضا الى عنوان اغنية فرنسية شعبية، الامر الذي حدا ببعض النقاد لاعتبار ذلك صفة اخرى لهذه المرحلة من التكعيبية وهي استخدام الموروث الشعبي.

اما خلال المرحلة التركيبية التي امتدت بين 1913 و 1920 فقد تميزت الاعمال التكعيبية بوحدة موضوعاتها و بساطة انشاءاتها الفنية التي شملت الكثير من الكولاجات الديكورية، كما انها اعربت عن خروج واضح عن العزلة اللونية التي فرضتها المرحلة التحليلية حيث عاد استخدام الالوان البراقة والمساحات الناصعة علما ان هذا التغيير حصل على ايدي نفس الرواد الثلاثة الاوائل انفسهم، بيكاسو وبراك وكَرس. لقد كانت تجربة الصاق قطعة من القماش المطبوع في لوحة "حياة جامدة مع كرسي خيزران" التي رسمها بيكاسو عام 1912 نقطة البداية في ابتداع الكولاج التشكيلي وانطلاقة للمرحلة التركيبية التي فتحت الباب على مصراعيه في مسألة ادخال كافة المواد الغريبة الاخرى على سطح اللوحة، فبدأ العصر الذي استخدم فيه الفنانون كل مايبدر ولايبدر على الذهن من مواد، اضافة الى قماشة الرسم (الكانفس) والاصباغ او عوضا عنهما.

ومن خلال مرحلتي التحليلية والتركيبية معا، تطور الاسلوب التكعيبي العام من استخدامات بيكاسو الابتدائية في التخطيط والتلوين الى استخدامات تفصيلية ذات كفاءة تكنيكية ومضامين اجتماعية عكست بيئة الفنان ومستوى تطوره التكنيكي والفكري كما نرى ذلك جليا في مجموعة مختارة من اعمال ليجيه مثل لوحة "المدينة" المنجزة عام 1919 والتي حاول ان يجسد فيها التحام الانسان بعصر المكننة عبر زحام الكتل الاسطوانية والتفصيلات الميكانيكية التي انتمت للتكعيبية بالمبدا رغم غلبة التكورية-المخروطية على التكعيبية في تكنيكها.

والكلمة الاخيرة التي لابد من قولها في التكعيبية هي انها الحركة التي اعلنت بلا منازع ثورتها على الواقعية التصويرية، وارست بذلك الدعائم الاساسية الاولى لانطلاق ثورة الفن الحديث في القرن العشرين مما جعلها تستحق بكفاءة ان تكون الرائد الذي حمل راية الفن المعاصر وتقدم الجموع في المسيرة التأريخية التي ماتزال تحث الخطى الى آفاق ابعد. وبذلك فقد كان من رسالتها الجوهرية التاريخية انها وفرت لغة جديدة بمفردات مبتكرة وساهمت في تنمية اساليب تعبير اخرى وانماط فنية مختلفة عما كان سائدا في القرن التاسع عشر وماقبله. تلك اللغة وتلك المفردات لاتزال رائجة بل لاتزال تحتل الصدارة الى يومنا هذا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج