الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسئلة حول اللسانيات والبحث العلمي بالمغرب (حوار)

محمد المدلاوي المنبهي

2007 / 8 / 1
التربية والتعليم والبحث العلمي


س1 : الأستاذ المدلاوي، لقد أشار العالم الأنثربولوجي، كلود ليفي ستراوس، إلى أن اللسانيات بفضل توجهها العلمي، ستصبح جسرا تعبره كل العلوم الإنسانية الأخرى إن هي أرادت أن تحقق نصيبا من العلم، هل تعتقدون أن نبوءة ليفي ستراوس قد تحققت اليوم، وما هي أوجه الاتصال والانفصال بين التفكير اللغوي القديم ونظيره الحديث؟

ج1 : لا أعتقد أن من يتحلى بقدر من الموضوعية يستطيع أن يشكك اليوم في مثل هذه التوقعات التعميمات، ولا أقول النبوءات، بالنظر إلى المكانة التي تحتلها منهجية اللسانيات اليوم في ساحة علوم الإنسان، وإلى الإنجازات المعرفية الكبيرة التي حققها هذا العلم في باب موضوعه، الذي هو اللغة، إحدى أهم الملكات المميزة للذهن الانساني، وفي باب منهج البحث على الخصوص من حيث العلاقة الجدلية ما بين الفرضيات النظرية والمعطيات التجريبية. إنها إنجازات لم تأت من فراغ، بل كانت نتيجة تراكمات ساهمت فيها أقوام وحضارات من جنسيات مختلفة، من خلال مختلف تجليات علم اللغة باعتبار جوهر هذا العلم، وبقطع النظر عن لفظ التسميات حسب العصور والمدارس (علم النحو، علم لغة، لسانيات). من هنا يمكننا القول إن اللسانيات هي علم قديم وحديث في نفس الوقت. إن المشكل يكون أحيانا مجرد مشكل تسميات توهِمُنا أحيانا أن هذا العلم قديم، أو أن ذاك العلم حديث. أشير هنا مثلا إلى أن "العربية" كانت تسمى "اللسان العربي"، ثم " اللغة العربية"، ولا يعني ذلك وجود اختلاف في الماهية المرجعية للتسمية. وإذ بقيت تسمية علم الطب مستمرة الاستعمال مند القرون الوسطى فليس معنى ذلك أن هذا العلم كما هو قائم اليوم هو نفس علم الطب كما كان قائما قبل قرون. فكذلك ما أصبح يسمى اليوم لسانيات ، هو علم قديم ولكن مناهجه الحديثة شكلت ثورة بالقياس إلى مناهج الماضي. وإلا فكثير من الرؤى العلمية المتبناة اليوم في إطار نظريات اللسانيات الحديثة معبرا عنها بمفاهيم ومقولات متطورة حديثة، كان قد تم التوصل إلى جوهرها في إطار تقاليد دراسات لغوية موزعة ما بين ما كان يسمى نحوا أو صرفا أو بلاغة، لكنها كانت تصاغ صياغات أقل دقة وصورية. كما أن الاهتمام باللغة لم يكن مقصورا على اللغويين دون غيرهم. فقد طرق الفلاسفة والمناطقة القدماء أبواب اللغة؛ كما أن قضايا اللغة حاضرة كذلك في أعمال فلاسفة معاصرين، وتعبر عن ذلك بكل وضوح الكثير من كتابات محمد عابد الجابري.

أعود إذن، مرة أخرى لأقول إن الوجه الحديث لعلم اللغة أو "اللسانيات" إنما يكمن في إعادة صياغة الأسئلة التي كانت مطروحة من قبل صياغة أكثر صورية وأقل تأثرا بالعوامل الثقافية الأثنية والقناعات الأيديولوجية (مسألة الإلهام والاصطلاح مثلا في التراث اللغوي العربي)، وذلك ما يحصل في كل مجالات تطور العلوم (علوم الأحياء والفلك مثلا ودور القناعات الأيديولوجية في مدى تطورها). من هذا المنطلق، يكون الجديد بالنسبة إلى اللسانيات المعاصرة مقصورا على التجديدات التي تمت على مستوى هذه الصياغة الجديدة للأسئلة. فإذا تناولنها جوهر الجدة والثورة في اللسانيات التوليدية مثلا نجد أن تــشومسكي انطلق من سؤالين رئيسيين:

1- كيف يمكن لطفل، مهما كان انحداره الإثني، أن يحصّل في سنواته الخمس الأولى، نظاماً معرفيا معقدا هو نحوُ لغة محيطه، وصرفُها، وكافةُ أوجه بنائها واشتغالها، كيفما كان ذلك المحيط (إنجليزيا، أم صينيا، أم أمازيغيا، أم عربيا، أم تركيا، أم سواحليا، الخ)، وذلك اعتمادا على مجرد احتكاك سمعي منه بجمل من تلك اللغة غالبا ما تكون متقطعة يغلب عليها الحذف التركيبي اعتمادا على المقام ويطبع النطقَ الفعليَ بها الإدغامُ الصوتي في الحديث اليومي، كل ذلك بشكل غير منهجي وبغير أي بيداغوجيا؛

2- بماذا يمكن أن تساهم دراسة الملكة اللغوية في فهم طبيعة المعرفة البشرية؟

إن هذا يعني باختصار، حسب الفرضية النظرية الأساسية للمدرسة التوليدية أن الذهن البشري مزود باستعدادات فطرية عامة لما يمكن أن يكون عليه نظام لغة بشرية طبيعية ممكنة، مبرمجة فيه برمجة عصبية مادية قابلة للتطور والتشكل على شكل لغة بشرية طبيعية بعينها كلما توفرت مثيرات خارجية تجعله يحدد الاستعدادات العامة حسب النموذج العيني الذي يحتك به. فكما يولد الإنسان باستعداد لممارسة المشي مثلا، وباستعداد لبلوغ البلوغ الجنسي، بحيث يكون كل من ذينك الاستعدادين مضمنا في البرنامج الجيني للكائن ويتفتق ويتحقق عندما توفر بعض الشروط الخارجية المعينة (تغذية، الخ) بحيث إن هذا الكائن لا "يخطئ" مثلا فيطير بدل أن يمشي، أو "ينسى" فلا يبلغ الحلم الجنسي، فكذلك يولد الفرد مجهزا في برنامجه الجيني العصبي بــ"ملكة لغوية عامة" لا تنتظر إلا بعض الشروط الخارجية لتتفتق وتتحقق على شكل لغة خاصة (عربية، أمازيغية، فارسية، يابانية، إنجليزية، أردية، الخ). وفرضية اللسانيات التوليدية المعاصرة هي أن تلك الملكة اللغوية العامة المشتركة جينيا ووراثيا ما بين بني البشر، يمكن تمثيلها وصياغة نظامها صياغة صورية تجريدية - بقطع النظر عن وجه برمجتها الفيزيولوجية الدماغية التي تتناولها علوم أخرى – وذلك على شكل صياغة جوامع وكليات لغوية، كالقول مثلا بامتناع عودة الضمير على ما بعده لفظا ورتبة، أو القول بأن الاسم المعين لا يمكن أن يكون فاعلا ومفعولا نحويا في نفس الوقت. وجماع تلك الجوامع هو ما يسمى بــ"النحو الكلي" (Universal Grammar)، وهو ما تسعى اللسانيات الحديثة إلى الكشف عن ملامحه وإلى أوجه صياغته الصورية الممكنة.

س2 : يبدو أن الثقافة العربية لم تستثمر منجزات الدرس اللساني بالشكل المطلوب، والأكثر من هذا أنها غير قادرة على مواكبة المستجدات اللسانية.

ج2 : مشكل مواكبة مستجدات البحث اللساني وما يطرحه من صعوبات في العالم العربي، لا يختلف عن المشاكل المطروحة في هذا الفضاء فيما يتعلق بمواكبة مستجدات البحث العلمي عامة في سائر الميادين الأخرى. فالمسألة هي مسألة وجود "سوق للبحث تندرج" تروج فيها العلوم وتنخرط في آلية الرواج والتبادل في ميدان إنتاج المعرفة، وطلبها، واستهلاك منافعها الإنتاجية والتدبيرية. إن هذه السوق غير موجودة في هذا الفضاء بقدر من الاستقلالية يسمح بشروط الحياة والنمو. وهذا على عكس ما نجده في البلاد المتقدمة؛ فما من علم من العلوم إلا ونجد له هناك مؤسسات إنتاج أو تدبير سوسيو-اقتصادية تساعد على ترويجه مادته ليس على مستوى الإنتاج فقط، بل على مستوى الاستهلاك والطلب أيضا. فهل تعلم مثلا بأن مؤسسة الجيش الأمريكي يستهلك المعرفة اللسانية الأكثر تقدما ويخول منحا للبحث اللساني كما وقع لتشومسكي نفسه الذي حصل من مؤسسة القوات الجوية الأمريكية (The US Air Forces) على دعم مالي لإنجاز مقاله الشهير حول صياغة المصدر (On Nominalization) وعمله عمل فعله؛ وقد ثبت تشومسكي، وهو من هو على مستوى المواقف السياسية، هذه الملاحظة في الهامش الأول لذلك المقال اعترافا بدعم تلك المؤسسة للبحث العلمي؛ هذا مجرد مثال.
كما أن دوائر المعرفة في فضاء الثفافة العربية الحالية تنعدم فيها شروط تكامل الاختصاصات وتداخلها، مما هو ضروري لاكتمال الدورة العلمية، ولاستقلالية الأسئلة العلمية وأصالتها حسب الميادين. واللسانيات معرضة أكثر من غيرها لاهتزاز الوضعية بسبب انتفاء مثل تلك الشروط بالنسبة إليها. إن أي علم من العلوم، سواء أكان رياضيا، أم فيزيائيا، أم لغويا، هو في حاجة إلى مؤسسات للإنتاج، وأخرى للاستهلاك والطلب؛ كما أن مجالات البحث نفسها تفرض هذا التكامل والتداخل. وفي هذا الصدد نشير إلى أن اللسانيات في المغرب قد عرفت، في فترة من الفترات، إقبالا كبيرا، إلا أنه كان إقبالا محدود الأفق من حيث نوعية محركاته؛ إذ كانت محركات سوسيولوجية من نوع أرضي-أرضي لها علاقة بالإطار العام لسوسيولوجيا التكوين والتشغيل بالنسبة لطلبة الآداب في السبعينيات والثمانينيات. فإذ أصبحت مادة اللسانيات نوعا من الموضة في شعب الآداب ابتداء من السبعينات من القرن العشرين في المعرب، فقد أصبحت إمكانية الحصول على منحة للدراسة في الخارج مرتبطة باختيار بعض التخصصات، وأهمها اللسانيات، التي تم بفعل ذلك التهافت السوسيولوجي "توسيع جُـبّـتها" حتى أصبحت تتسع لكل شيء (مثلا "قاموس كذا أو كذا عند الشاعر الفلاني" مع التزيين ببعض الجداول والأسهم والتشجيرات). إنه منطلق انتهازي كان يحمل في ثناياه برنماج محدودية أفقه.

أقول، باختصار، بإن مواكبة مستجدات البحث اللساني يطرح صعوبات لا تختلف في شيء عن تلك المطروحة في كل مجالات الفكر العلمي في ثقافتنا المغربية. ويزيد الأمر تعقيدا بالنسبة إلى اللسانيات بسبب كون هذا العلم يعتبر في نظر العديد من الناس من العلوم الكمالية، وهو اعتقاد لا نسلّم بصحته إلا فيما يتعلق بالتوازنات التي يتعين إقامتها بالنسبة إلى تكوين الأطر بحسب قطاعات البحث؛ إذ ليس المغرب في حاجة إلى آلاف المجازين في اللسانيات بينما يسجل فيه مثلا عجز كبير في عدد المهندسين؛ إلا أن تكامل الدورة العلمية فيه من جهة أخرى، ما بين هندسة الإعلاميات، والترجمة الآلية، وصناعة الإشهار وفن التواصل، وكثير من علوم الإنسان النظرية والتطبيقية، لا يمكن أن يتحقق في غياب نواة متجددة من الأطر الكفأة في ميدان اللسانيات.

س3 : اعتبار اللسانيات من العلوم الكمالية يلخص الوضع الحالي للدرس اللساني في ثقافتنا، وهو وضع نعتبره نتيجة طبيعية لملابسات التلقي؛ التي اعتبرت اللسانيات بموجبها علما غربيا لا يمكن أن يفيد الثقافة العربية في شيء.

ج3 : أولا، إن العلم كعلم، أي كمعرفة بالطبيعة، أو بالبرهانيات والرياضيات، أو بالإنسان أو بالمجتمع، لا حدود جغرافية له، ولا قومية، ولا إثنية. فلا يمكن أن نتحدث عن علم عربي، وعلم غربي، وعلم ياباني، وعلم صيني، وعلم إفريقي بجنوب الصحراء. إن التمييز والتميّز يحصل ويقوم على مستويات وفضاءات أخرى، هي فضاءات الذهنيات والثقافة الضابطة للقيم الجمالية والروحية والسلوكية والتدبيرية. في هذه المجالات تحديدا يمكن أن نتحدث عن الأصالة، وعن الآخر، وما إلى ذلك. أما إقحام هذه الأبعاد في مجال العلم أو سجن العلم في قفص تلك الأبعاد فإنه مناف للعلم وقاتل له بحكم التعريف. ما معنى مثلا أن نتحدث عن رياضيات عربية إسلامية، أو عن رياضيات مغربية، أو عن فيزياء أمريكية، أو طب عربي، إذا لم نقصد بذلك "التأريخ" لتلك العلوم كما ساهمت مختلف الشعوب في تطويرها؟ وهذا يصدق أيضا على اللسانيات.
إن طرح مسائل الخصوصية حينما يتعلق الأمر بتطور العلوم إنما يعكس تصلبا أيديولوجيا يصيب الأمم والجماعات في فترات معينة من تاريخها. وعندما تغلب الإيديولوجيا على العلم، فإن ذلك يحد من تطوره، ما دامت الإيديولوجيا تعني، في معناها البسيط، "الذاتية"، سواء أكانت هذه الذاتية فردية أم جماعية، كما أن الأيديولوجيا درجات. وهكذا فقد بدأت اللسانيات مثلا أول ما بدأت في معسكر أوربا الشرقية، وتحديدا في براغ؛ ولكن تغليب إيديولوجيا معينة حكم عليها هناك بالتراجع. ثم انتقلت بعد ذلك إلى الغرب، وخصوصا أمريكا وهناك وجدت تربة خصبة؛ فرومان جاكوبسون (Roman Jakobson) وموريس هالي (Morris Halle)، مؤسس علم أصوات اللغة الحديث، اضطرا في منتصف القرن الماضي إلى مغادرة أوروبا الشرقية، فوجدا في أمريكا ظروف البحث العلمي المتخلص من ربقة الأيديولوجيا. الشيء نفسه يقال عن واقع علوم الاجتماع والسيكولوجيا ما بين المعسكرين. إن العلوم لا يمكن أن تتطور وهي في قبضة الإيديولوجيا.

س4 : الأستاذ المدلاوي، هل من تقويم ولو بسيط للسانيات في المحيط العربي؟

ج4 : تقويم اللسانيات في المحيط العربي يمكن أن يتم على مستويين: مستوى التاريخ ومستوى الحاضر.
فأما على مستوى التاريخ فأقول بأنه لا نجد أحدا من العارفين يمكن أن ينكر ما حققته اللغويات العربية، وما لعبته من دور في تطور الفكر اللغوي الإنساني. فالبحوث العربية في هذا المجال هي من بين التقاليد الكبرى في مجال الفكر اللغوي العالمي إلى جانب التقاليد الهندية، والتقاليد الإغريقية.
وعلى المستوى التاريخي دائما، أود بهذه المناسبة أن أنبه إلى وجود حلقات مفقودة في التأريخ وللغويات الإنسانية بصفة عامة، واللغويات التي كانت اللغة العربية حاملا لها على الخصوص، واللغويات المغاربية بصفة أخص. وأشير هنا تحديدا إلى حلقات انعقدت وخطوات نوعين تمت في شمال إفريقيا فلفها النسيان. فمن المعروف أن المتتبعين لتطور الفكر اللغوي على المستوى العالمي يشيرون إلى بعض المحطات الأساسية التي شكلت منعطفات هامة في تاريخ الفكر اللغوي الإنساني: اكتشاف اللغة السنسكريتية، المدارس الألمانية (النحاة الجدد، المدرسة المقارنة)، الخ. وفي هذا الباب درج الجميع على ربط ظهور الدراسات اللغوية التاريخية المقارنة، التي مهدت للسانيات الحديثة، بأصول ألمانية، من خلال أعمال مدرسة النحاة الجدد (Franz Bopp; Jakob Grimm). ومن خلال هذا التأريخ بالضبط يتم القفز على ما تم إنجازه في شمال إفريقيا، وبالضبط ما بين مدينتي تهارت و فاس من جهة، وبلاد الأندلس من جهة ثانية، وهو إنجاز ساهمت في تحقيقه ظروف سوسيو-معرفية وسوسيو-لغوية وإثنو-ثقافية تتمثل خصوصا في التعدد والغنى اللغويين بالمنطقة حيث كانت تتداخل العربية، والأمازيغية، والعبرية، والآرامية، واللاتينية، والقشتالية، والبرتغالية، الخ. وقد تداخلت هذه اللغات تداخلا وظيفيا؛ حيث كانت كل لغة من هذه اللغات تقوم بوظيفة معينة في قطاع أو قطاعات معينة (تجارة دولية، إدارة محلية، دين، أدب، فلسفة، علوم طبيعية، فنون، إلخ). وقد سمح كل هذا بظهور أولى المؤلفات في علم اللغة المقارن. ويمكن أن نشير، في هذا الصدد، إلى أعمال يهودا بن قريش التاهرتي المغربي، وخاصة رسالته المعروفة في العبرية بــ "אגרת" إلى جماعة يهود فاس، حيث قام ابن قريش هذا بإنجاز أول مقارنة ثلاثية بين العربية والعبرانية والآرامية التي كان يسميها بالكلدانية، فأقام قوانين التقابلات الصوتية بين هذه اللغات تماما كما فعل Jacob Grim بعد ذلك بثمانية قرون فاعتبره مؤرخو الفكر اللساني، عن جهل بالتاريخ الكوني، أبا غير منازع اللسانيات المقارنة. وهي كتاب مؤلف باللغة العربية ومدون بالحرف العبراني، وقد نشر هذ الكتاب سنة 1875 بباريس على يد العالم بركَـاش (Jean-Joseph Barges)، ثم أعيد نشره بتل أبيب سنة 1984 بتحقيق دان بيكر (דן בקר) تحت إشراف العالم اللغوي أهارون دوتان (אהרון דתן) الفائز سنة بجائزة إسرائيل لسنة 2005، وكان أحد طلبتي في مادة اللغة العبرانية قد قام في بداية التسعينات بقلب الفصل الأول للكتاب من الحرف العبراني إلى الحرف العربي. ثم إن هناك اللغوي، ابن بارون، في كتابه "الموازنة بين العربية والعبرانية"، وأبراهام الفاسي، وآخرون غيرهم ممن ألف في اللغويات بلغة عربية مدونة بحرف عبراني، وتلك خزانة غنية انقطع عنها السند لهذه الأجيال. وقد بلغت تلك المعارف المقارنة من البداهة، حينئذ، ما جعلها تنتشر بين عموم المثقفين ممن ليسوا لغويين، من أمثال ابن حزم الظاهري، كما يتضح ذلك من مقدمة كتابه "الإحكام في أصول الأحكام"، وذلك باعتبار تلك المعارف حينئذ من باب الثقاقة العامة. من كل ذلك نستنتج أن شمال إفريقيا عرف حوالي القرن الحادي عشر الميلادي وجود مدرسة لسانية مقارنة انقطع عنها السند بعد ذلك سواء بالنسبة إلى الأجيال اللاحقة من أبناء شمال إفريقيا أنفسهم، أم بالنسبة إلى الأجانب ممن اهتموا بالتأريخ للفكر اللغوي الإنساني. ولعل من بين أسباب هذا التهميش الذي طال هذه الكتابات هو أنها كتبت باللغة العربية ولكن بحرف عبراني.

أما على مستوى الحاضر، فأقول بإن ما ينبغي أن نشير إليه هو أن المغرب متميز داخل محيطه الجهوي في مجال اللسانيات. فبعدما كانت الريادة لمصر (عبد الواحد وافي، محمود فهمي حجازي، محمود السعران، تمام حسان، ...) لم تحافظ الأجيال اللاحقة هناك على استمرارية تطور تلك التقاليد الريادية التي انفتحت على اللسانيات في وجهها التاريخي المقارن ثم البنيوي، فتصلبت اللسانيات في ذلك المستوى ولم تستطع مواكبة التطور، ربما بفعل تصلب علاقات الأستاذية في محيط ثقافي لا يثق فيه جيل سابق بما هو جديد، لمجرد أنه جديد تستعصي عليه مواكبته، فيتخذ من الحساسية الشعارية ضد كل ما هو جديد وسيلة للاحتفاظ بأستاذية سلطويةً يعوض بها الأستاذية العلمية. أما في المغرب فمنذ بداية السبعينيات ظهر جيل أول، كما أسلفت، من الباحثين الذين تمكنوا من أسس المعرفة اللسانية انطلاقا من الجامعات الغربية، مما ساعد على تكوين ما يمكن أن نسميه "وسط لساني"، فتكونت أفواج من الطلبة، بفضل مجهودات شخصية في أغلب الأحيان أكثر مما يتعلق الأمر بتأطيرات مؤسساتية؛ ولعل في ذلك النصيب من الحرية البيداغوجية ومن عدم إحكام تعميم الأستاذية السلطوية المتصلبة على الجميع، ما كان في صالح تطور اللسانيات. وقد كان ترسخ اللسانيات في شعب اللغة العربية أقل منه مقارنةً مع شعب اللغات الأجنبية في الداخل والخارج، التي ساهمت في تكوين نخبة من اللسانيين المغاربة أصبح لهم حضورهم القوي، ليس في المغرب فحسب، بل على المستوى العالمي. يظهر ذلك في مساهمتهم الفعالة في تطوير البحث اللساني في مجالات التركيب والصوتيات والصرف. ويلاحظ اليوم، في نوع من الإشفاق على مستقبل اللسانيات بالمغرب، أن الكثير من هؤلاء الأطر قد انقطعوا عن الممارسة الفعلية للبحث والتأطير في الجامعة المغربية، حيث استأثرت بهم مهام مكتبية أخرى لها من الإشعاع والرمزية، في إطار المحيط السوسيو-ثقافي السائد، إضافة إلى مردوديتها المادية، أكثر مما للتفرغ للبحث العلمي والتأطير، وذلك وجه من أوجه الإهدار وإضاعة المال وإخطاء سبل المردودية على مستوى المجتمع.

إن الإشكال الذي تعاني منه اللسانيات في ثقافتنا الأكاديمية اليوم إذن هو مشكل الاستمرارية: فإلى أي حد تستطيع اللسانيات في المغرب، في ظل الشروط السوسيو-ثقافية المشار إليها، أن تواكب، جيلا بعد جيل، سلسلةَ التطورات المستمرة للأطر النظرية، وللأوجه التطبيقة لهذا العلم على المستوى العالمي، والتي تزداد وتيرتها سرعة يوما بعد يوم بفعل تسريع آجال التأليف والنشر بفضل الوسائط الاتصالية الالكترونية خاصة؟ ويزيد إلحاح السؤال عندما نعرف أن السوق الداخلية لا تساعد من حيث الطلب والاستهلاك، ولا حتى من التقدير الرمزي لمهنة البحث عامة. فالمواكبة تفرض حاليا ارتباطا مستمرا بمؤسسات أجنبية، ونوعا من الغربة عن الوسط السوسيولوجي المباشر. ويساهم في هذا الوضع طبيعة اللسانيات نفسها، التي تتميز بطابع علمي صوري يفتقد كلَّ أشكال "المتعة الأدبية" والفطرية بالشكل الذي تربينا على تصوره وتذوقه حسب مفهومنا الثقافي للمعرفة باعتبار التعبيرية والخطابية قطب رحاها، وبذلك تفرض اللسانيات، بالمقابل، تحملا سيكو-اجتماعيا كبيرا في المتابعة والمواكبة إضافة إلى المجهود الذهني، وذلك في وسط عامّ لا يتابع، ولا يناقش، ولا يبحث أصلا.

س5 : نعتقد أن اللسانيين العرب ساهموا بشكل أو بآخر في الوضع الحالي للسانيات: غياب كتابة لسانية تيسيرية تقرب اللسانيات من القارئ العربي

ج5 : أتفق معكم تمام الاتفاق حول هذا الأمر. إن الخطاب اللساني الموجه إلى قراء العربية يطرح صعوبات عدة؛ من بينها انقطاع السند على مستوى المصطلحات والمفاهيم. أعني بهذا أن البحث في هذا المجال لم تتم إعادة بنائه على أسس ربط انتقالي بيداغوجي للحديث بالقديم، على مستوى الجهاز المصطلحي والمفاهيمي أثناء عرض المقولات والبنيات والآليات التصورية الجدبدة في حد ذاتها، وذلك بخلاف اللسانيات في البلاد المتقدمة التي تطورت فيها الآلة الاصطلاحية في تدرج لم يخلق قطيعة معرفية تـُـصوّر للمتلقي بأن الخطاب اللساني يتناول شيئا جديدا في جوهره، مخالفا في الطبيعة لما كان تعالجه علوم النحو، والصرف، والأصوات والمعجم. ويترتب على انقطاع السند المشار إليه وجهٌ آخر للمشكل لا يقل أهمية، ويتمثل في غياب كتابات تعنى بالتيسير، أي ما يسمى vulgarisation، والذي تحتاج إليه كل العلوم لكي تترسخ في وسط معين، ولكي يمر منها باستمرار نصيب معين إلى دائرة الثقافة العامة المشترك فيها. وفن تيسير العلوم فن يتطلب مهارة بيداغوجية خاصة، بالنظر إلى طبيعة القارئ المستهدف، لا تتوفر دائما وبالضرورة في الباحث المنتج للمضامين العلمية. فتشومسكي مثلا عبقري من حيث إنتاج المضامين العلمية، ولكنه لا يكترث بالجانب البيداغوجي في التقديم. إن أناسا من أمثال رايمزديك (Henk Riemsdijk)، و ميخائيل كينستوفيـتش (Michael Kenstowicz) هم البارعون في تيسير مضامين نص لساني لتسري في أوساط متوسط أهل الفن، وتصبح بعد ذلك من المكتسبات العامة في المجال.
الإشكال الآخر الذي تولد عن انقطاع السند وعن القطيعة الاصطلاحية والمفاهيمية هو استفادة المدعين، وهم كثر، من كل أنواع الخلط المتولدة عن ذلك الانقطاع، وذلك لترويج خطابات تُحسَبُ على اللسانيات بحكم عناوينها، على الرغم من كونها محض هذيان ولغو لا مضون لهما. إن اللسانيات باعتبارها علما من العلوم الإنسانية غير ذات مناعة ضد ما يمكن أن نسميه بـالشرلطانية و"الشعوذة الأكديمية". وهذا يجعل الكثير من الكتابات التي تُحسَب على اللسانيات تُـنفر الناس، من ذوي الجد، عنها؛ أما المستخفون منهم والإمعات فيفتعلون الفهمَ حيث لا يوجد في واقع الأمر ما يمكن أن يُفهَم، بل ويعقبون بنصوص أخرى أكثرَ لغوا يدعون من خلالها بأنهم "غير متفقين"، وبذلك تروج سوق اللغو والشعوذة اللسانية؛ وقد سبق لي أن كتبت في هذا الأمر مقالا منذ حوالي عشرين سنة ("اللسانيات العربية المعاصرة ما بين البحث العلمي وتهافت التهافت". دراسات أدبية ولسانية؛ فاس، المغرب؛ ع3 (1986)؛ ص57-110).

س6 : لقد خطت اللسانيات خطوات مهمة في العالم المتقدم؛ فمن جهة هناك كثرة النماذج والنظريات ومن جهة ثانية هناك تعقد وتشابك الخريطة التصورية لأحياز البحث في التركيب والصرف والدلالة والمعجم يصعب أحيانا تمثل أسسها وإمكاناتها وآفاقها؛ كما أن التداخلات المعرفية التي فتحتها الثورة المعرفية مع نمو العلوم المعرفية غيرت خريطة العلاقات بين اللسانيات من جهة، وبقية العلوم المتداخلة مع هذا العلم في الموضوع كعلم النفس، وعلوم الذكاء الاصطناعي، والمنطق من جهة ثانية. كل هذا يطرح إشكالا بالنسبة إلى المؤسسات العلمية العربية التى تحتاج إلى تجديد تصوراتها لخارطة العلوم من حيث الأولويات، ومن حيث بيداغوجيا التكوين ورسم المسالك والمجزوءات والمقررات الأكاديمية. ألا تعتقدون أن مسالك تشخيص الأزمة متعددة، منها ما هو إبستيمولوجي يتعلق بأدوات التصور من مقولات وأطر نظرية ونوعية خطاب كما أشرتم إلى ذلك على التو، ومنها ما يتعلق بتخطيط البحث العلمي وبسوسيولوجيا طلب المادة العلمية، وإنتاجها، وتبادلها، واستهلاكها، ورعاية مؤسساتها؟

ج6 : إن البعد الابستمولوجي قائم فعلا وضروري لفهم حقيقة ووظائف مختلف مجالات البحث بما فيها البحث اللساني. ألا نرى أن الإطار المعرفي الذي كان يؤطر بحث القدماء قد جعلهم يميزون مثلا بين علوم الآلة وعلوم الغاية، وأن ما يعتبر منها علوم غاية في مستوى معين من مستويات التصور يصبح عبارة عن آلة ووسيلة في مستويات أخرى؟ ومع ذلك فهناك من العلوم ما هو آلة بامتياز وغاية بامتياز؛ إنها العلوم المعرفية الصورية، كالرياضات، واللغويات، والمنطقيات. فبالرغم من أن هذه العلوم الصورية تطلب لذاتها كغاية في الأطر المعرفية الحديثة، فإن سائر علوم الطبيعة، والانسان، والمدينة، في حاجة إلى ما توفره هذه العلوم المعرفية الصورية من أدوات مقولية ومفهومية وعملياتية لكي تصوغ بها تلك العلوم قضاياها وأسئلتها وفرضياتها ونظرياتها.
ولكن لم تعد مثل هذه الثقافة العلمية قائمة. فالمنطق مثلا، وهو أب العلوم الصورية المساعدة الأساسية، قد غاب عن الجامعة المغربية في تواز مع تغييب الفلسفة، التي غابت معها الكثير من الأسئلة الابستمولوجية، فتكونت بذلك أجيال لا تطرح مسائل المعرفة أبدا، ولا تطرح المشاكل التي طرحت مع بداية النهضة الأوروبية مثلا طرحا عميقا. فنحن نعيش في عالم انطلقت قاطرته العلمية والتكنولوجية الأولى مع بداية النهضة الأوربية. هذا هو العالم الذي نعيش في ظرفيته على جميع المستويات (خصوصا مستوى الاستهلاك المادي) ولكننا خارج روحه وجوهره. إن الأمم التي تريد أن تنخرط في الحضارة المعاصرة يجب أن تهضم أسئلة فترة الأنوار التي لا يمكن منطقيا القفز عليها باسم خصوصية معينة، وذلك لأن أبعادها ومنطلقاتها كونية. غير أن ثقافتنا مازالت بعيدة عن الانخراط في هذا التقليد لأسباب إيديولوجية محضة قائمة على الخلط بين مجال العلم، بما فيه نظرية الأخلاق (Ethique) من جهة، وهو مجال كوني، ومجال الثقافة والإبداع من جهة ثانية، الذي هو مجال إبراز الخصوصيات. وبما أنه ليس هناك قط وقت لفوات الأوان بالنسبة إلى الخطى الجدية الصغيرة اللازمة لقطع المسافات الكبيرة، فلا مناص من العودة للتشبع بروح النظريات العقلانية والأسئلة الكبرى التي كانت تؤطر السؤال العلمي في ميادين الطبيعة، والسؤال الأخلاقي في ميادين الإنسان والمدينة في فترة الأنوار.

س7 : فهل ترون إذن بأن المحاولات الجارية لإعادة الاعتبار للفلسفة تترجم بروز وعي بخطورة المشاكل التي تراكمت إبان مرحلة التغييب السابقة؟

ج7 : أخشى أن تكون إعادة الاعتبار للفلسفة مندرجة في إطار أضيق، لخدمة أهداف إيديولوجية نفعية بالأساس من الناحية السياسة تحت ضغط ظرفية سياسية تتميز بانقلاب السحر على الساحر من خلال استقواء الفكر الديني الذي تجاوز مرحلة مواجهة المثقفين إلى مواجهة الأجهزة الحاكمة التي أصبح ينازعها السلطة بالسلاح. فقد حوربت الفلسفة في وقت من الأوقات محاربة مؤسسية لأهداف سياسية، في إطار محاربة الفكر الماركسي، كما لو أن الفلسفة، كنمط للتفكير، ترتد إلى نظريةٍ بعينها من النظريات الفلسفية، ثم جاءت الآن محاولات لإدماجها من جديد. ولكن إعادة إدماج الفلسفة هذه لم تكن، حسبما يبدو لي، ثمرة وعي بقيمة التفكير الفلسفي في حد ذاته كشرط من شروط أي نهضة يدافع عنها منتجو الفكر الفلسفي أنفسهم كما دافع سقراط وكوندورساي، بل لعلها مجرد تجريب وتوظيف أيديولوجي مرحلي غاياته سياسية في إطار محاربة بعض التيارات السياسية الحالية. إذا كان الأمر نابعا من قناعات نفعية توظيفية كهذه، فإن ما يسمى بإعادة إدماج الفلسفة محكوم عليه بالفشل سلفا. والحال أنه لا علم، بل لا دولة حقيقية، بدون فضاء للفلسفة في المدينة. فمن السهل بناء أيديولوجيا شعاراتية تعبوية تحرك العامة والجمهور الخام تحريكا حركيا؛ ولكن ليس من السهل بناء جهاز فلسفي متماسك وقوي ومقنِـع للعقل بذاته، يخول للعقل حريةَ التفكير، وحريةَ صياغة الأسئلة، إلى أن تبقى المسألة مجرد مجردَ مسألةِ حرية تعبير عن تلك الأسئلة، فيكون حلها شأنا سياسيا. فالمعضلة هي انتفاء حرية التفكير على مستوى المكون الثقافي لذهنية أفراد المجتمع، وليس انعدام حرية التعبير على المستوى السياسي. لكل الاعتبارات السابقة يمكنني القول إن تغييب الفلسفة وتغييب ما يرتبط بها ويتأسس في مناخها من علوم اجتماعية لم ينعكس سلبا على تلقين وتلقي اللسانيات فحسب، بل على العلوم كلها في مشهدنا الثقافي العام، وهذا ما يفسر سهولة انتشار الفكر الخرافي في العقود الأخيرة في أوساط المواد العلمية بالجامعة وفي الصحافة ومنشورات العامة (الشعودة بمحاولة إثبات أن كل علوم الفيزيا والطب والفلك، الخ. مشفرة تشفيرا في التنزيل)، ذلك أن تلك المواد تلقَّـن كمجرد ركام من الوصفات الجاهزة خارج أي تأطير فلسفي.

س8 : تتعلق المسألة إذن، بالمجال المادي لإنتاج الأفكار الذي يخضع لتنظيم وهيكلة من طرف السلطة التي توزع الأدوار وتقنن وظائف المنتوج المعرفي استنادا إلى اعتبارات ظرفية.

ج8 : إن الإشكال المطروح لا يمكن أن نعتبره مع ذلك مجرد إشكال تنظيم، وتدبير، وهيكلة، على سبيل الحصر. إنه أكثر من ذلك بكثير. إن جوهر المشكل هو ما إذا كانت للنظام الثقافي السائد ثقة في العلم كعلم، أي ما إذا كانت فيه للعلم قيمة محترمة في حد ذاته بالقياس إلى غيره (كالسياسة، والإدارة، والتجارة، والرياضة) في سوق الرمزيات والنفعيات. على هذا المستوى بالضبط، نجد أن مجتمعنا قد عرف نوعا من النكوص فيما يتعلق بقيمة العلم باعتباره إنجازا بشريا يجعل الإنسان قادرا على أن يفعل في الطبيعة وأن يعبر عن معطياتها بشكل صوري. إن المسألة إذن، ليست تنظيمية فقط؛ إن المشكل مشكل تربوي كذلك يتعلق بتكوين وتكييف الذهنيات والعقليات، وهذا يعني أن معالجته تكمن في تكامل جدلي بين الإجراءات التدبيرية المؤسسية الرسمية للشأن التربوي والثقافي العام من جهة، وبين الفعل التنويري للنخبة الحرة من جهة ثانية. وحينما تحقق تطورات وثورات على مستوى العقليات والذهنيات، يأتي التنظيم والتدبير الملائم من تلقاء نفسه.

س9 : إن أي وضع لغوي تعددي يقتضي تدبيرا عقلانيا محكما للتعدد على هدي المشروع المجتمعي المنشود؛ وذلك من خلال توزيع متوازن عقلاني تكاملي لوظائف اللغات المتعايشة. ما قولكم في الوضع اللغوي المغربي القائم وفي الكيفية التي يتم فيها التعامل معه؟

ج9 : الواقع اللغوي المغربي واقع تعددي. وهذا التعدد هو القاعدة في تاريخ المغرب. ففي إطار هذا التعدد اللغوي حققت الأجيال ما حققت، وخلفت لنا ما خلفت. فالذي يتغير، بحسب معطيات التاريخ الجهوي والعالمي الذي يتفاعل معه المغرب، هو عينية اللغات التي تشكِّـل فيه عناصرَ ذلك التعدد تواكبا وتناوبا (ليبية، فينيقية، بونيقية، آرامية، عبرية، لاتينية، عربية، قشتالية، رومانثية، برتغالية، اسبانية، فرنسية، انجليزية)، وليس مبدأ التعدد في حد ذاته وجودا وعدما. فمن ذا الذي بإمكانه أن يثبت وجود فترة من الفترات عبر تاريخ المغرب – فترة ازدهار مدني حضاري كانت أم فترة اضمحلال وانحلال – تتسم بالأحادية اللغوية؟. على هذا الأساس نقول إن قضية التعدد اللغوي ليست جديدة سواء كواقع أم كطرح وصفي سوسيو-لساني. ليس هناك جديد بخصوص مبدئية وجود هذه المسألة. التغيير إنما يحصل على مستوى التعامل مع تدبير ذلك التعدد اللغوي. هذا التدبير يتخذ أوجها مختلفة ويسفر عن تراتبيات، ووظائفيات، ورمزيات سوسيولغوية مختلفة، بحسب منظومة القيم الأيديولوجية القائمة والمؤسسة له في فترة من الفترات.
لقد استتبت عقب استقلال المغرب مثلا مجموعة من القيم الأيديولوجية أساسها الجنوح نحو الرفع من قيمة وحدانية الأبعاد الانتمائية، بقطع النظر عن منطلقات الإطار العقدي (وحدة اللغة، وحدة القومية، وحدة الدين، وحدة الحزب، وحدة العمال، وحدة النقابة، وحدة ومركزية الحكم الخ.)؛ وقد انعكس ذلك على كيفية واتجاه وغائيات تدبير الملف اللغوي، وذلك من خلال التدخل على مستويات قطاعات التعليم، والإنعاش الثقافي، ومصالح العدالة، ومرافق الشأن المحلي، ووسائل الاتصال، وذلك في اتجاه تراتبية ووظائفية ورمزية سوسيولغوية معينة. وفي وقتنا الراهن دخلت على الخط قناعات أخرى أخذ ينخرط فيها الفكر، وذلك في اتجاه الرفع من قيم الديموقراطية، وحقوق الإنسان، والحق في الاختلاف؛ فكانت للملف اللغوي علاقة جدلية مع هذا الواقع الجديد تأثيرا تأثرا. فمن ذا الذي يمكن أن ينكر بأن الخطاب المطلبي اللغوي الأمازيغي كان، في المغرب الحديث، من بين مؤسسي قيم الاقتناع بالحق في الاختلاف وبواجب تدبيره، مما سمح بالتدرج نحو الفكر التعددي الذي لا يري مثلا في تعدد الأحزاب بالضرورة تهديدا للوحدة الوطنية ولا تعدد النقابات بالضرورة تشتيتا للطبقة العاملة؟ ومن ذا الذي يمكن، من جانب آخر، أن ينكر بأن ما عرفه تدبير الملف اللغوي من تقدم على الصعيد الرسمي انعكاسٌ، بالمقابل، للاتجاه السياسي العام الذي انخرط فيه المغرب عموما منذ سنوات، والذي انعكس كذلك على ملفات اجتماعية أخرى كملف المرأة، ومفهوم السلطة، والحريات الفردية والجماعية.
إن التعدد أمر طبيعي، وفي ظل هذا التعدد متى ما أحسن تدبير أمره أنتجت الحضارة العربية والمغربية آثارا خالدة. يبقى فقط أن نعرف الكيفية التي ندبر بها هذا التعدد، والتي تمكننا من الاستفادة من المزايا التي يوفرها. إن التدبير اللغوي يفرض وضع لغة معينة في المكان العقلاني المناسب لها بمقتضى ميزان التوازنات اللازمة إقامتها بين الوظائف الرمزية والهوياتة لتلك اللغة من جهة، وبين معطيات الوقت من جهة ثانية.
وإلى جانب التدبير السوسيو-لغوي العام للتعدد، أو ما يمكن أن نسميه "الماكرو-تدبير" على صعيد الفضاء الاجتماعي، لابد من تدبير بيداغوجي لذلك التعدد، أو ما يمكن أن نسميه "الميكرو-تدبير" على صعيد قطاع التعليم.
وكما أن الدول الواعية المنخرطة في العصر تجتهد باستمرار لتكييف تدبير واقعها اللغـــوي بحسب مقتضيات العصر ليس فقط على الصعيد الداخلي، ولكن كذلك على الأصعدة الجهويــة والــــــعالمية، بحسب قدراتها وطموحاتها ومسؤولياتها، فإن على المغرب أن يكون له اجتهاد على تلك الأصعدة كذلك بما يتوافق مع قدراته ومطامحه. وأذكر بهذا الصدد بأنه كان قد سألني مؤخرا أحد المشاركين في "الدورة الثالثة لملتقى بايروت-فرانكفورت بألمانيا حول الدراسات الأمازيغية" (3.Bayreuth-Frankfürter Kolloquium zur Berberologie’ من 1 إلى 3 يوليوز 2004)، وهـــــو باحـــــث إيطــــالي من "قســـم الدراسات والأبحاث حول إفريـقيا والعالم العربي" (Dipartimento di Studi e Richerche su Africa e Paesi Arabi) بجامعة نابولى الإيطالية، و هو مؤلف لعدة مجلدات حول "الدخيل العربي في اللغات الإفريقية"، أقول سألني عما إذا كان للأوساط الأكاديمية بالمغرب، جامعةً ومعاهدَ، اهتمامٌ بهذا المنحى من مناحي البحث الذي تخصص فيه هو، فكان جوابي له بأنه، فيما عدا منشورات معهد الدراسات الإفريقية، التي يغلب عليها التاريخ والمناقبيات، ليست هناك خطة اهتمام أكاديمي منهجي بإفريقيا في ميدان اللغويات والسوسيو-لغويات. قلت له ذلك ثم تساءلت بالمناسبة مع نفسي: كيف يحصل أن يكون الأمر كذلك؟ مع أن هناك اليوم واقعا متحركا في ذلك الفضاء الإفريقي على الصعيد السوسيو-لغوي من خلال سعي كثير من اللغات الأفريقية النامية (أمازيغيات الطوارق في مالي والنيجر وبوركينافاصو، لغة الولوف و اللغة الفولانية في غرب إفريقيا، لغة الصونغو في وسط إفريقيا، اللغة السواحلية في شرق وقرن إفريقيا، الخ.) إلى احتلال مواقع جديدة في رقعة الأسواق اللغوية المحلية والوطنية والجهوية؟ قلت له ذلك وأنا أوازن في ذهني، في نوع من المفارقة، ما بين الرغبة في إعادة الحضور المغربي إلى فضاء عمقه الإفريقي، التي ترجمتها مثلا الرحلة الملكية الأخيرة إلى بلدان هذه القارة، وكذا بعض المبادرات الموفقة للمال والمقاولة المغربيين في هذا الفضاء من جهة، وبين الغياب الأكاديمي شبه التام للجامعة وللمعاهد المغربية عن ذلك الفضاء في وجهه الحي، القائم اليومَ، وليس فقط على مستوى النصوص المناقبية، متسائلا عما إذا كان فعلا بالإمكان إحرازُ حضور اقتصادي وديبلوماسي متمكن في فضاء معين في حالة غيابٍ تام لأي فعل ثقافي وعلمي عن ذلك الفضاء، وفي ظل الجهل التام بلغات الشعوب المعنية وبثقافاتها؟ إن تجربة المغرب في ميدان اللسانيات بصفة عامة، وخاصة تجربته الفتية الرائدة في ميادين إعداد وتهيئة الفضاءات السوسيولغوية، وتطويع الأبجديات، والعمل على ضمان معيرة مواصفاتها على الصعيد العالمي (Unicode)، وكذا تطوير الإملائيات قصد إدراج اللغات ذات التقاليد الشفوية في المنظومات الكتابية والتعليمية الرسمية، لَـممّـا يؤهل هذا البلد للعب دور متميز في عمقه الجهوي الإفريقي المذكور، الذي مثّـل، عبر التاريخ، أساسَ احتفاظ هذا البلد بموقعه المتميز المستقل على مستوى إحداثيات بقية أبعاده الممتدة في الفضاء العربي والإسلامي، وفي علاقاته التبادلية القوية غير المتكافئة مع محيطه في شمال المتوسط. إن توجها أكاديميا مثل هذا لمن بين التوجهات القطاعية الكفيلة بإعطاء فهم حقيقي، يستهدي التاريخَ والجغرافيا، لذلك الجواب الواقعي، البعيد عن لغة الخشب أو المزايدة، والذي أجاب به العاهل المغربي مساعدَ كاتب الدولة الأمريكي في شهر مارس 2004 بمدينة الحسيمة حينما عرض عليه هذا الأخير خطة "الشرق الأوسط الكبير" فقال: "أولا، نحن لسنا جزءا من الشرق الأوسط الكبير؛ ثم إنه يتعين ألا يضع المرء العالم العربي برمته في نفس الكفة؛ فالمغرب قطر مغاربي وشمال-إفريقي. لدينا كثير من النقط المشتركة مع أصدقائنا في الخليج وفي الشرق الأدنى؛ غير أننا لا نواجه نفس الوقائع".

س10 : االأستاذ المدلاوي، لقد حظيت مسألة الحرف في كتابة الأمازيغية بنقاش عمومي توزع بين مساهمات تفتح الموضوع على أبعاد علمية وحضارية وثقافية، وبين مساهمات سجالية. إذ في الوقت الذي نجد فيه بعض النقاشات تخص سمات الحرف العربي وكفايته التمثيلية والوظيفية وقدرته على تسهيل تعلم الأمازيغية من خلال أبجدية واحدة ذات عمق حضاري و رمزي تقبل التطويع، نجد نقاشات تدافع عن طرق أخرى للكتابة . ما هي وجهة نظركم في الموضوع؟

ج10 : إن مسألة الحرف مسألة بالغة الأهمية ومتعددة مستويات الطرح الممكن؛ ويمكن تناولها من جانبين: جانب معرفي موضوعي يتعلق بتشخيص المعطيات والإمكانات، وجانب أيديولوجي يتعلق بالإراديات والذاتيات. لكننا وجدنا عمليا بأن هذه المسألة قد طرحت على مستوى الفضاء الديماغوجي من حيث أنها تركت ليحتكرها صوت الرأي في الشارع في إطار غلبة التناول الثاني، فتوارى فيها صوتُ المعرفة بحكم غلبة الحجم والعدد. وهذا يترجم مرة أخرى سيادة ثقافة وعقلية عدم الثقة في العلم كأحد أعراض ومظاهر التخلف. ولقد سبق لي أن حاضرت في موضوع الحرف في كل من "أكاديمية المملكة المغربية" و"معهد الدراسات والأبحاث للتعريب"، ونشرت حوله عدة أعمال أكاديمية وصحفية، أهمها كتاب بالفرنسية حول الإملائية الأمازيغية، وهو من منشورات كلية الآداب بوجدة 1999 (Principes d’orthographe berbère en graphie arabe ou latine)، بالإضافة إلى بحث أكاديمي مطول بالعربية، وهو من منشورات أكاديمية المملكة المغربية ("نحو تدوين الآداب الشفهية المغربية في إطار الحرف العربي الموسع") إضافة إلى مقال صحفي مطول في حلقتين في جريدة الأحداث المغربية سنة 2003، ولا يتسع المقام هنا لإعادة طرح تفاصيل ما جاء في هذه الأعمال، وهي منشورة على كل حال.

س11 : إن أي تخطيط وبناء للتعدد له كلفة تقاس اقتصاديا بالقدرة على توفير الوسائل والإمكانيات التقنية لتنفيذه وصياغة برامج إصلاح واضحة مع تعميمها. كما أن له كلفة تقاس اجتماعيا بالقدرة على ضمان استقرار هوياتي داخل نسيج سوسيو-لساني مركب في بلد متعدد الأبعاد مثل المغرب. ألا ترون أن الإرادة العامة في البلاد تتجه نحو المأسسة اللغوية الفاعلة بتشكيل أكادمية محمد السادس للغة العربية، والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، ومع ميثاق التربية والتكوين، بحيث يمكن أخيرا القول بأن الدولة أصبحت تضع حسابات متوازنة للكلفة والفائدة لصالح التوازنات اللغوية؟

ج11 : تدبير التعدد يبدأ بمدى تقدم الفكر الجمعي وإدراكه أن التعدد واقع طبيعي، وأن لهذا الواقع الطبيعي علوما تتناوله: سوسيو-لسانية وتربوية. إن بإمكان هذه العلوم أن تشخص الواقع، فـتُبنى على أساس ذلك التشخيص برامجُ في ميادين متعددة في مجالات التربية، والإعلام والاتصال، والتنمية البشرية والاقتصادية. وكما لاحظنا ذلك بالنسبة إلى واقع العلوم النفسية والاجتماعية عامة في خارطة البحث العلمي المغربي، وأصدرنا في شأنه توصية خاصة ضمن أعمال الورشة الثالثة لعلوم اللغة والتواصل ضمن وقائع أعمال الملتقى الوطني حول البحث العلمي والتنمية الذي نظمته كتابة الدولة المكلفة بالبحث العلمي (مركز الاستقبال – الرباط 13-14 أبريل 2001)، فإنه على الرغم من التقدم الذي أحرزته اللسانيات عندنا في المغرب، فإننا ما زلنا نلاحظ شبه غياب للسوسيو-لسانيات والسيكو-لسانيات. وترجع أسباب هذا الوضع إلى غياب العلوم الاجتماعية عامة نتيجة لتغييب الفلسفة كما أشرنا إلى ذلك من قبل. إن ما نتوفر عليه من معالجات سوسي-لسانية وسيكو-لسانية قليل جدا. كما أن الدراسات القليلة المتوفرة في هذا المجال مكتوبة بلغات أجنبية. أضف إلى ذلك أن هذا النوع من الدراسات ما زال بعيدا كل البعد عن ثقافة "طلب العروض لإنجاز دراسات". نعني بذلك أن تطلب مثلا وزارةٌ، أو إدارة أو حزبٌ، أو نقابة، أو هيئةٌ ما، من خبير في الميدان، الإجابةَ عن أسئلة معينة يتوقف على الإجابة عنها تدبير أمر مسألة تابعة للقطاع المعني. إن مثل هذه الثقافة غير موجودة في تقاليدنا التدبيرية. ولذلك يبقى التدبير اللغوي في المغرب سواء على مستوى المؤسسات الحكومية أو الحزبية، رهين مبادرات الحدس وما يسمى بـ"الدمغي" سواء على مستوى صياغة الأسئلة، أم فيما يتعلق بوضع البرامج والخطط. زد على ذلك إن المؤهل لصياغة الأسئلة العلمية الكبرى المثوّرة للمعرفة بخصوص إشكال من الإشكالات التي يحس بها المجتمع دون أن يقوى على بلورتها، هم الباحثون الفرادى الأحرار، وذلك بمجرد فضول علمي، وليس استجابة لبرنامج أسئلة توجيهية تسطره مؤسسة معينة لتدبير البحث العلمي ولا لطلب مصلحة أوقطاع حكومي أو حزبي. أما المجتمع المدني والخطاب السياسي فيعبر عن الأسئلة بطرقه الحدسية المعتمدة على الرأي والمستعملة للخطاب شبه العامي، ومن ثمة فهما لا يصوغان الإشكالية صياغة علمية يمكن أن تنبني على أساسها مخططات للتدخل والتدبير، بل غالبا ما يتخذ فعلهما طابع التدافع والسجال السياسي الذي هو، في أحسن الأحوال، مؤشر على وجود إشكال معين دون تشخيصه، وغالبا ما يهتم السياسي باالوجه التدافعي ويفوته أن للأمر وجها معرفيا.
ومع ذلك فمن الأكيد أن هناك مجهودات تأسيسية تبذل حاليا للدفع في اتجاه أكثر عقلانية، وذلك من خلال نصوص مؤسسة من قبيل "الميثاق الوطني للتربية والتكوين"، و"الظهير المؤسس للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية"، ثم من خلال البدء في تفعيل هياكل هذا المعهد، وكذلك من خلال مشروع أكاديمية محمد السادس للغة العربية والمجلس الأعلى للتعليم. ولكن هذا كله يحتاج بالضرورة إلى خطة عقالنية وآلية شفافة ومسطرة صورية لترشيد تزويد هذه المؤسسات بمواردها من العنصر البشري المناسب لكل منها من حيث الكفاءة التكوينية والتجربة المهنية، هذا العنصر الذي تتحكم نوعيته في الدفع الفعلي بروح تلك النصوص في هذا اتجاه الفلاح أو الفشل، مهما كانت عبقرية إحكام صياغة المشرع لتلك النصوص في اتجاه دون آخر. لكننا لا نجد لحدّ الساعة خطة ومساطر تضمن تلك الشفافية وذلك الترشيد، يستعان فيها، إن اقتضى الحال ذلك، كما تفعل ذلك مؤسسات عريقة على الصعيد العلمي وتدبير شأن الأطر، بخبرات خارجية (External Examiners) لمعالجة ملفات المشاريع. إن ميكانيزمات اختيار العنصر البشري تبقى عنصرا حاسما في هذا المجال؛ وهي ميكانيزمات كانت تخضع في مغرب الأمس لاعتبارات الولاء المخزني فأصبحت اليوم تحكمها كيمياء التوازنات والتمثيلات القضاعية والفئوية: تمثيل الألوان الإثنو-جهوية والبيوتاتية، تمثيل الألوان السياسية-النقابية، تمثيل الألوان الأيديولوجية، تمثيل النساء تمثيل الإدارات المعنية، الخ. حتى إن الأمر يؤدي في النهاية إلى تمثيل كل الأطياف ما عدا المعنيين الأساسيين (خبراء التربية العامة، وخبراء المواد الدراسية، وخبراء التوقع والتخطيط بالنسبة للمجلس الأعلى للتعليم مثلا، الخبراء المناسبون حسب التكوين والإنتاج بالنسبة لأكاديمية اللغة العربية، ومثل ذلك بالنسبة للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وغير ذلك من المؤسسات السامية التي يعهد إليها بإنجاز الدراسات والخبرات).

س12 : في ختام هذا الحوار نريد منكم، الأستاذ المدلاوي، تحديد أهم القضايا التي يجب أن ترتكز عليها البحوث اللسانية العربية إن هي أرادت مسايرة الركب والمحافظة على استمراريتها.
ج12 : كنت قد أجبت عن مثل هذا السؤال من خلال مشروع اقتراحيّ رسمي استجبت من خلاله لطلب التقدم بمشاريع لتسيير مؤسسة للبحث، وألتزم هنا بنشره وتعميميه في تفاصيله حينما يحل الوقت المناسب. وخلاصة ذلك المشروع فيما يتعلق بسؤالكم أنه يتعين على البحوث اللسانية العربية، إن هي أرادت مسايرة الركب، أن تتجاوز العقلية النرجسية المتمثلة في التسليم المجاني بأن البحث اللساني باللغة العربية لا يمكن أن ينصب، وإلى الأبد، إلا على اللغة العربية ذاتها. إن تطوير الآلة الواصفة لهذه اللغة، والرفع من قدراتها التصورية، والمفاهيمية الاصطلاحية، والصياغية، أمور لا يمكن أن تحصل، كما هو شأن بقية اللغات، إلا بانفتاح هذه اللغة وبجرأتها على تناول لغات أخرى، قريبة أو بعيدة، بالدرس والوصف. فيما يتعلق بتجربتي الشخصية في ميدان التكوين اللساني للأطر - وبقطع النظر عن أبحاثي العلمية والمنشورة في هذا الباب وفي هذا الاتجاه الذي أرى أنه الأصوب لتطوير اللسانيات العربية، لم أشرف على عشرات وعشرات الأطاريح الأكاديمية بشكل يخل بشروط الإشراف لمجرد توسيع نفوذ الأستاذية بشكل إداري كما أشرت إلى تلك الممارسة سابقا؛ ولكنّ ما أشرفت عليه وتمت مناقشته إلى اليوم من أطاريح في قسم اللغة العربية تحديدا، يسير في هذا الاتجاه، اتجاه جعل العربية حاملا من حوامل المعرفة بها وبغيرها (أطروحة حول الاستفهام في العربية الفصحى، أطروحة حول إدغامات وإبدالات اللعربية الفصحى؛ ثلاثة أطاريح لسانية منصبة حول الأمازيغية ما بين تركيب وصرف وأصوات؛ أطروحتان حول العبرانية). وأضيف أنه في اليوم الذي يسمع فيه المرء مثلا عن سلسلة من الأطاريح الجامعية تنجز باللسان العربي، وتناقش باللغة العربية، في شعب العربية، وتدور حول تنازع العمل (Theta Role Conflict) في العبرانية، أو حول قواعد الغنة (Nazalization) وأسسها في الفرنسية، أو حول انقطاع الجارّ عن المجرور (Stranded Preposition) في الإنجليزية، أو عن الجار المنقطع والمتحرك إلى موقع الصدارة (Pied-piped Prepostion) في الإنجليزية والأمازيغية، أو عن أسس التركيب الحصري (Cleft Construction) في الأمازيغية أو في العربية المغربية الدارجة، أو عن أسس تحرُّك العناصر المرتبطة (Clitic Movement) في الأمازيغية، أو عن قواعد النبر (Stress Assignment) في العربية الحسانية أو في العربية القاهرية، إلى غير ذلك من الميادين البكر، إذ ذاك سيقوم البرهان العملي ليس على وجود لسانياتٍ عربية – إذ اللسانيات لسانيات وكفى – ولكن على أن اللغة العربية قد اقتحمت بالفعل ميدان اللسانيات كلغة منتجة للمعرفة وحاملة لها. وما لم يتم هذا فإن العربية ستبقى مجرد "لغة كتاب"، في حدود السقف الابيسيتمولوجي المعرفي الذي رسمه التراث المؤسِّس كسقف لعلوم العربية من نحو، وصرف، ومعجم، وبلاغة، في حدود وظيفة هذه العلوم كمجرد علوم آلة إنما تُـطلب في حدود ما يخدم علوم الشرع (قراءات، تفسير القرآن وإبراز إعجازه، تحقيق متن الحديث، استنباط الأحكام من النصوص) التي تمثل الغاية المعرفية. وتجدر الإشارة إلى أن القوة الأيديولوجية لهذا الحصر المعرفي التأسيسي لعلوم العربية كان قد حال حتى دون استنفاذ كافة الإمكانيات التي يسمح بها سقف الوضع الاعتباري لعلوم الآلة نفسه؛ ذلك أن قوة الربط الأيديولوجي للدرس اللغوي العربي بغائية معالجة النصوص الشرعية، وما ترتب على ذلك من ربط للغة نفسها بالقداسة، في تداخل كل ذلك مع القيم القومية، قد حال حتى دون الانفتاح المقارن لهذه اللغة على قراباتها اللغوية من عبرانية وسوريانية، وعلى القرابات الملية من علوم الصحف الأولى. فكم هو عدد المفسرين الذين يعرفون مثلا بأن المعنى الحقيقي الأصلي لكلمة "مِـلّـة" ذات الأصل العبراني (مِـلة أو مُـلة מולה) هو "الختان"؟ أي أن "ملة إبراهيم" (מולת אברהם) تعني في أصل لغة الصحف الأولى "ختان إبراهيم"، الذي هو ختمٌ رمزي وختامٌ لِــما أخذ اللهُ "ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله، وبالوالدين إحسانا، وذوي القربى، واليتامى والمساكين" (البقرة 83)؛ فقد ورد في الاصحاج 17 من سفر التكوين مايلي: (17: 9 ثم قال الله لإبراهيم "أما أنت فتحفظ عهدي، أنت وذريتك من بعدك جيلا بعد جيل. 17: 10 هذا ميثاقي الذي تحفظونه بيني وبينكم، أنت وذريتك من بعدك : يُختـَن كلُّ ذكر منكم. 17: 11 فتـختِـنون لحمةَ غُـرلتكم؛ ذلك ميثاق بيني وبينكم")؛ ومن ذلك المعنى الحقيقي للملة (أي ختان الميثاق) فاض معنى "الدِين" عن طريق النقل بالمجاز ("قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم، دينا قيما، ملةَ إبراهيم حنيفا؛ وما كان من المشركين" الأنعام 161). هذا مجرد مثال من أمثلة كثيرة. وشكرا لكما، أيها الباحثان الكريمان، حافيظ إسماعيلي وامحمد الملاخ، على فتحكما هذه النافذة ودعوتكما لي لإجراء هذا الحوار، وكذا على صياغتكما الدقيقة للأسئلة.
-------------------------------------------------------------------
هذه مرجعة ثانية منقحة لحوار أجراه الأستاذان، حافيظ إسماعيلي، و امحمد الملاخ، مع الأستاذ محمد المدلاوي. أُجري الحوار أولا في بداية 2004؛ ثم روجع مراجعة أولى في يناير 2005 نشر نصها في المجلتين المغربيتين: "فكـــر ونقــــد"، ع: 72 (أكتوبر 2005)، و " منتـــدى الحـــوار" ع: 22 (غشت 2005)










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انطلاق معرض بكين الدولي للسيارات وسط حرب أسعار في قطاع السيا


.. الجيش الإسرائيلي يعلن شن غارات على بنى تحتية لحزب الله جنوبي




.. حماس تنفي طلبها الانتقال إلى سوريا أو إلى أي بلد آخر


.. بايدن يقول إن المساعدات العسكرية حماية للأمن القومي الأمريكي




.. حماس: مستعدون لإلقاء السلاح والتحول إلى حزب سياسي إذا تم إقا