الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التربية والتعليم، وتفجير طاقات الشباب (تذكيرات لا بد منها)

محمد المدلاوي المنبهي

2007 / 8 / 22
التربية والتعليم والبحث العلمي


تقديــــــــــــــــــم

احتلت إشكالية التربية والتعليم والتكوين حيزا محترما من اهتمامات المسؤولين في المغرب مند سنوات؛ فكان الميثاق الوطني للتربية والتكوين هو الوثيقة المعبرة عن متوسط الأفكار الأساسية التي أسفر عنها التراضي. غير أن ما يميز تلك الأفكار أنها اهتمت كثيرا وركزت على قضايا إعادة هيكلة نظام التقويم تخويل الشهادات والديبلومات، وعلى ربط منظومة التربية والتكوين بسوق الشغل وبقضايا، وعلى تنويع مصادر التمويل، والعلاقة التقنية ما بين القطاعات العامة والخاصة، الخ إلا أن دور التعليم والتكوين في بناء الشخصية المواطنة المعول عليها في البناء المستقبلي، ناهيك عن رسم واضح بما فيه الكفاية لملامح وبروفيل تلك الشخصية قد تم القفز عليهما في روح ذلك الميثاق. وسأبين من خلال أربع تذكيرات أسوقها انطلاقا من مساهمات سابقة لي في هذا الملف، ملف التربية والتعليم، بأن هناك أوجها أخرى يتعين أن يراجع على مستوها ذلك الميثاق.

التذكيــــــــــــــــر أول

هذا تذكير أولٌ مقتطفٌ من مقال بعنوان "بذل المجهود لرسم ما بين العلم والرأي من حدود" كان قد نشر في يومية "الأحداث المغربية" (27 ماي 2001) على إثر ضجة كانت قد قامت في المغرب حول تفاهتين: تفاهة رسوم "البوكيمون" المتحركة التي كانت بعض الأوساط قد اعتبرتها مؤامرة صهيونية ضد النشء، ثم قولٌ للشاعرة المغربية "حكيمة الشاوي" : "ملعون من قال من ضلع أعوج خُـلـِقت" كانت نفس الأوساط - في إطار مناهضة "خطة إدماج المرأة في التنمية"- قد اعتبرته موجها إلى الرسول محمد (صلعم). يقول التذكير:

((وباختصار، نقول، بعد هذا الاستطراد الذي كان لابد منه، بأن عنصر "العلم بالواقع" (علوم واقع المجتمع والانسان خصوصا)، الذي يتعين أن يضاف إلى برامج التكوين في الدراسات الإسلامية، حسب ما دعا إليه محمد يتيم، البرلماني القيادي في حزب العدالة والتنمية المغربي، هو بالضيط العنصر الذي كان يـُـنتظر من ندوة "المادة الإسلامية في التعليم المغربي وقضية التنمية" التي انعقدت بمدرج الشريف الإدريسي بكلية الآداب بالرباط (14- 15 بريل 2001) أن تـُصدر بشأن العناية به توصية خاصة، بدل التمادي في ترديد شعارات جوفاء من قبيل قول إحدى توصيات تلك الندوة ما يلي :
"ثالثا: مراعاة خصوصيات التلميذ المغربي عند بناء برامج العلوم الطبيعية، واعتماد منهجية تربوية في التأليف تتوخى تعزيز العقيدة الإسلامية وتقويتها" (التجديد، 21 أبريل 2001، ص5).
فما عسى أن يكون المضمون الملموس لتلك المراعاة المطالب بها في التأليف التربوي لمقررات برامج العلوم الطبيعية؟ إذا كان الأمر يتعلق بمجرد تدبيج النصوص يالبسملة، وتذييل فقراتها بإضافة "والله أعلم" إلى كل جملة من جمل التعميمات والأحكام والنظريات العلمية، التي هي أمور نسبية أساسا بمقتضى تعريف طبيعة العلم الطبيعي نفسه، فيقال مثلا بأن "البترول حصيلة جيولوجية لمواد عضوية مستحاثة متحللة تنتمي إلى كذا وكذا من ملايين السنين، والله أعلم"، بشكل يجعل عبارة "والله أعلم" تتكرر في ملل إلى أن يتم اختزالها استثقالا إلى مجرد "ولعم"، فإن ذلك منتهى ابتذال القناعات الأساسية وتحويلها إلى مجرد رُقىً وتعاويذ لفظية كهنوتية.
وإذا كان المقصود بـ"خصوصيات التلميذ المغربي عند بناء برامج العلوم الطبيعية" و بــ"اعتماد منهجية تربوية في التأليف تتوخى تعزيز العقيدة الإسلامية وتقويتها" هو أن يهجُر النصُُّ موضوعَه العلمي المعين، ويهجر الأستاذُ الموضوعَ العلمي للحصة نحو التغني بأمجاد السابقين، حقيقية كانت تلك الأمجاد أم أسطورية شعبية، ونحوَ خطابٍ بكائـي أمام مكر عدوّ غيبي مؤلــّهٍ بشكل وثني وتُـحمَل على دسائسه كل أوجه العجزُ الذاتي عن استعادة الدخول إلى التاريخ، فذلك منتهى مظاهر إضاعة مال الأجيال من حيث إهدار الوقت، وتزجيته، والعبث بعمر الناشئة، ومن حيث تبذير التجهيزات، وأكل لأموال الناس بالباطل من خُطب وأحاجي تذكر ببكائيات المجدوب الشعبي في الأسواق الأسبوعية مما كنا قد أوردنا منه عينة.
أم أن المقصود بتلك المراعاة في إعداد المادة العلمية بطريقة "تتوخى تعزيز العقيدة الإسلامية وتقويتها" هو إخضاع معاني القرآن، البعيدة الغور والكلية المرامي بحكم تصوُّر كل تنزيل، وليُّ أعناق تلك المعاني الكلية لتتهافت وراء تقلبات التطور الطبيعي للنظريات العلمية، كما يفعل بعض تجار التفسير من المهووسين الذين يستهويهم سحر وكيمياء الرقمولوجيا (numérologie) والقبالة (kabbale קבלה) الشعبية من المنبهرون ببهلوانيات أمثال موريس بوكاي، الذين يبحثون في القرآن الكريم عن بعض الوصفات "العلمية" بنفس المنهج الذي تؤوّل به العرّافة الفرنسية مادام صولاي (Madame Soleil) الرباعيات الجفرية للمجدوب الإفرنجي، نوستراداموس (Michel Nostradamus، القرن 16م)، أولئك المهووسين من أمثال من قال عنهم الاستاذ عبد الله النجار، عضو مجمع البحوث الإسلامية في رده "أخطاء زغلول النجار في تفسير القرآن" بأنهم هجروا رباطات وثغور البحث العلمي الذي ينفع الناس، بحيث "يستبيح طبيب أو مهندس أو عالم أو باحث لنفسه أن يترك ميدان بحثه حين يستشعر أنه لن يحقق ما يطمح إليه في مجاله من ذيوع وشهرة، إلى ساحة الدعوة الإسلامية، وهو موقن أنه سوف يحقق الشهرة، بـيـسر فيها". "الأحداث المغربية"، 15 أبريل 2001).))

التذكيـــــر الثاني

وهو تذكير مقتطف من مقال بعنوان "من برج بابل إلى برج مانهاتان، ومن المغول إلى الطالبان" كان قد نشر في يومية "الأحداث المغربية" (ع: 987؛ 03 و 05 أكتوبر 2001)، ثم في يومية "القدس العربي" (ع: 3866؛ 16 و 17 أكتوبر 2001) بمناسبة النقاش الذي دار حول تحديد أوجه المسؤوليات المباشرة وغير المباشرة بخصوص عمليات11 سبتمبر 2001 بنيويورك؛ ويقول:
((فليس إذن من الضروري، من الناحية السياسية، التي على أساسها يبرم السلم أو تعلن الحرب، أن يثبت منطقيا وبوليسيا، وعدليا ، وقضائيا، تورط أسامة بن لادن شخصيا بشكل مباشر ودون التباس في مرهبة 11 سبتمبر 2001؛ إذ أن ذلك اليقين لا يمكن أن يحصل حتى لدى المشتبه فيه نفسه، لا بالإيجاب ولا بالنفي، من حيث أن هذا الأخير لا يمكن أن يلم علما بآليات جميع "الاخترقات" المتعددة الأطراف التي قد تكون استهدفت، في هذه الفترة أو تلك، شبكةَ المصالح على مستوى الأطراف التي يتعامل معها، وعلى مستوى الأطراف التي (تحاول أن) تستعمله، وعلى مستوى الأطراف التي (يحاول أن) يستعملها. فيكفي من الناحية السياسية، التي على أساسها يقام السلم أو تـُشن الحرب، أن ينتمي ابن لادن بنفوذه المالي والعسكري إلى معسكر خطابي شُغله، الشاغلُ له عن شؤون أهله، هو أن يؤبلس الغرب بُكرة وأصيلا، وأن يتوعد أمريكا ويسارع إلى التباهي بتبني جميع عمليات التخريب الموجهة ضدها، واعدا منفذي تلك العمليات بالشهادة وصكوك الغفران وتأشيرات المرور إلى عالم يوفر كافة الإشباعات المادية الاستهلاكية التي يَعتـبـِر المصابون بمرض الكبت والحرمان وبـفقر في المقومات الوجودية والمعنوية أن المجتمعات الغربية تستفزهم بالاستئثار بها دونهم في العاجلة قبل الآجلة. إن ذاك الانتماء الخطابي لكاف لكي تحصل الإدانةُ فكريا وسياسيا ثم دبلوماسيا على مستوى كثير من الأطراف الدولية، فتنجر بذلك تبعات تلك الإدانة وتنسحب على مجموع المعسكر الذي يشارك ابنَ لادن في نوعية الخطاب ولو بدرجات متفاوتة، والذي تتماهى في الواقع بعضُ نـخبه مع بطولات هذا الأخير القائم على قمة القاعدة. إن تلك الإدانة العامة قد حصلت سلفا على ذلك المستوى بما أن صائغي الخطاب السياسي، وصانعي الرأي العام في هذا المعسكر الخطابي، أفرادا فاعلين ومؤسسات، لم يتبرأوا قط في يوم من الأيام من أفعال وأقول ابن لادن، ومن أفعال وأقوال أمثاله، وذلك بالجدية والصرامة والوضوح اللازم وفي الوقت المناسب، على الأقل بمثل ما جاء مثلا على لسان الشيخ "عبد البارى الزمزمي" لكن بعد فوات الأوان، حيث قال هذا الشيخ الخطيب والنجم الإعلامي، بعد أن وقع ما وقع من تخريب البرجين فتعيـّن في تقديره الفرّ بعد الكرّ على مستوى الخطاب، ما يلي : "وأما أسامة بن لادن المتهم بدون حق في الكارثة الأمريكية (...)، فإنه أساء إلى الإسلام وأهله بما قام به من أعمال التخريب والتقتيل في شتى البلاد مما اعترف به بنفسه. فهو يعلم، كما يعلم كل ذي عقل وبصيرة، أن أعماله التخريبية لن تضر أمريكا ولا اليهود ولا أحدا من البلاد التي أصيبت بها(...)؛ وكذلك أعماله التخريبية فإنها تضر بالمسلمين، وتمس سمعة الإسلام و تنفر شعوب العالم منه (...). إذا كان ابن لادن يريد نشر الإسلام في الناس - كما يزعم، إذ يزعم أسامة أنه يجاهد في سبيل الله، لو أنه جاهدا الجهاد الكبير، وهو الجهاد بالقرآن، لكان أسلمَ لنفسه، وأتقى لدينه، وأنفع للإسلام وأهله. والجهاد لكبير في هذا العصر يتحقق بالدعوة الراشدة إلى الإسلام عبر أجهزة الإعلام المختلفة من صحف وإذاعة و تلفاز. والجهاد بهذه الطرق يتم القيام به في كل دولة من دول العالم، أمريكا فما دونها، ويجري تحت حماية قوانينيهم ورعاية سلطتهم" ("التجديد" 19 سبتمر 2001، ص 14). هذا كلام جميل أن يصدر عن فقيه خطيب ونجم إعلامي من نجوم الدعوة، وإن كان قد تأخر بالنسبة للواقعة الكبرى وما قد ينجر عنها كتأخر الغيث عن فصله. ولا يسع كل مخلص إلا أن يصفق لهذا الكلام وأن يرجو من أعماق قلبه أن يكون ناسخا في صدر صاحبه لما كان قد صدر عنه، هو بنفسه، غداة نفس الكارثة وعلى أعمدة نفس الجريدة ( "التجديد"، 12/ سبتمبر/ 2001)، وهو ما أعاد تأكيده في أسبوعية "الصحيفة الأسبوعية" ( 21 سبتمبر 2001، ص 13) ثم أعادت نشره "الأحداث المغربية" (23 سبتمبر 2001، ص 9) مما يعتبر سابقة من عيار تلك الشرارات التي يقول عنها المثل الصيني "رُب شرارة أحرقت سهلا"، وذلك ما لم يأبه إلى خطر تلك السابقة ودلالة نوعيتها ذوو العقول المتنورة اليقظة، فيخمدوا قبسها الجهنمي بالجدية اللازمة وفي الوقت المناسب دون مواربة أو حسابات انتهازية، وذلك قبل أن تتمكن من هشيم السهل لتحرق الأخضر واليابس. ذلك أن الشيخ الزمزمي كان، في كلامه المشار إليه، قد شرّع، باسم الإسلام، الاغتيال السياسي في حق من يسميهم بــ"اليسار"، مبررا بذلك ما كان قد حصل في الماضي في هذا الباب، وشارعا الباب على مصراعيه مستعديا كل من "يهمه" أمر "ضبط الرعية" على الطريقة الستينية، بل وكل من يشعر في عقر مخه برسالة "الجهاد" أو رسالة "الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر" في المستقبل؛ وذلك، كما قال الشيخ، "لأن اليسار كانوا أعداء الإسلام، وأنا أُكــفّـر منهجَ اليسار الذي يقوم على نبذ الدين كما حدث بالنسبة للخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية.(*1) فهؤلاء المندسون أضرُّ على المسلمين من اليهود والنصارى (...). وكذلك من يلعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعلت الشاعرة الكافرة وأيدها اليسار على قولها، إذ قالت " ملعون من قال من ضلع أعوج خلقت"« .(*2) .»فكيف يكون شهيدا من كان قتله مشروعا بصرف النظر عمن قتله- وذلك لكونه خارجا على الأمة، وثائرا على السلطان، وفارا من القضاء، ومارقا من الدين؛ وواحدة من هذه الجرائم توجب قتله؟".(*3)
فلكأن الشيخ الزمزمي يستعدي، بهذا الكلام، من موقع منبره، وباسم الإسلام، كل من يهمه الأمر- وبصرف النظر عن صفته وعن موقعه في الدولة وفي المجتمع أو على الرصيف - إلى تصفية بعض الفارين من العدالة المغربية في قضايا اغتيالات سبعينية معروفة لم يجف مداد ملفها بعدُ، ممن تجمع الشيخ بهم - مع ذلك - بعض القناعات والشعارات باسم الدفاع عن الإسلام ضد اليسار واليساريين، ولو أن المنفى بالجماهيرية العظمى باعد بين الطرفين. على كل حال، ليس بمثل هذا الخطاب يمكن أن يتم "الجهاد الكبير بالدعوة الراشدة إلى الإسلام عبر أجهزة الإعلام... في كل دولة من دول العالم، أمريكا فما دونها، و أن يجري تحت حماية قوانينهم ورعاية سلطتهم" كما قال الشيخ الزمزمي في حق ابن لادن في لحظة الفرّ، ذلك لأن تلك القوانين التي أشار إليها الشيخ تتضمن تهمة موصوفة في القانون الجنائي تسمى لدى أولئك بتهمة "الاستعداء والتحريض على القتل" (incitation au meurtre) يعاقب عليها القانون لديهم عينيا، بقطع النظر عن هوية كلٍّ من المستعدي والمستعدى عليه، وعن عقيدة ومذهب كل منهما أو انتمائه الأثنو- ثقافي.
أما على مستوى التربية والسياسة، فإن مثل هذا الخطاب الذي كان الشيخُ الزمزمي يقطّـر عصارتََه قبل أن يتولى للفر بعد الكر، هو الذي يفرخ أمثال من يجندهم ابن لادن في الأصقاع ويفتح لهم بماله وأشرطته الطريق نحو أخصر السبل إلى الفوز العظيم عن طريق تحقيق الشهادة على حساب أرواح الأبرياء، عملا بقاعدة "بصرف النظر عمن قـتـل"، كما كان قد فرّخ أمثال ذينك الفتيين البئيسين اللذين توجها ذات يوم من أيام دسمبر 1975 - ولعله كان يوم خميس - نحو مواطن وزعيم نقابي وسياسي كان قد تخطى على التو عتبة منزله بالدار البيضاء مودعا أمه وزوجته وابنته سهام، وقد كانت في عمر الزهور، ليمتطي سيارته البيضاء من نوع "رونو 16" متجها نحو مقر عمله باعتباره محاميا، فوجها إليه طعنات غادرة خرّ على إثرها على الأرض المبلطة مضرجا بدمائه، فتحقق الجهاد في نظرهما وانتصر الإسلام على الشيوعية الملحدة(4) والبقية يعرفها كل من لا يعصف احتدامُ قضايا الساعة بذاكرته، بما في ذلك مصير الشيوعية التي كانت تقض حينئذ مضجع أمريكا التي كانت تسخر لمحاربة رموزها كل الوسائل و كل الاطراف المباشرة وغير المباشرة، الملتحية وغير الملتحية، بمن فهيم جيل سلف الطالبان من "المجاهدين الأفغان".
[لقد آن الأوان إذن – من جراء ما جرت به المقادر – لإعادة فتح ملف التربية وطرح ورقة مراجعة مضامين الأدوات التربوية في المدرسة والإعلام، على الطاولة، خصوصا على إثر الهزة التي هزت العالم يوم الثلاثاء 11 سبتمبر 2001 التي ستكون لها انعكاسات على مستوى العالم ليس فقط في باب المعاملات الدولية، ولكن كذلك، وبالخصوص على مستوى الفكر والآداب والفن، وسيؤرخ بما قبل وما بعد تخريب الطائرات للبرجين، على غرار التأريخ بعام الفيل والطير الأبابيل]. وليس المقصود هنا بطرح الورقة على الطاولة الضياع في "مفاوضات" و"تراضيات" بين أطراف هذه المنظمة الجهوية أو تلك من المنظمات التي تضمّ من بين أعضائها مجتمعات تنتمي إلى عوالم متفاوتة على مستويات التاريخ والجغرافيا والتطور وسرعته واتجاهه. إن المقصود هو المدرسة الوطنية المغربية، في إطار المقومات المختلفة والمتعددة التي يشكل اجتماعُها أساسَ الخصوصية المغربية الحديثة في علاقتها الجدلية مع أفاق مطامح الانخراط في الثقافة الكونية، وبالسرعة التي تقتضيها مطامحُها وتتحملها دواليب المجتمع المغربي في اتجاه مطامحه. ولعل هذا من بين الأوراش الكبرى التي يتعين أن تتضافر فيها الاجتهادات على هدي المطامح، وعلى ضوء التجارب والعلم بالواقع، بكل من وزارات التربية الوطنية، والتعليم العالي، والشؤون الإسلامية، والاتصال، في القريب العاجل، في إطار هذه العشرية التي أعلنتها المادة 20 من "الميثاق الوطني للتربية والتكوين" كعشرية للتربية، باعتبار قطاع التربية، بمقتضى المادة 21 من نفس الميثاق، هو القطاع الذي يلي مسألة الوحدة الترابية في الأسبقيات الوطنية. بمعنى أن استكمال البناء الديموقراطي –ومن شروطه تربيةٌ مواطِنةٌ مؤسَّسةٌ على الوعي بالحقوق وبالواجبات وبالقيم الدستورية والديموقراطية وبرسالة الإنسان في هذا الكوكب الصغير- يأتي مباشرة بعد استكمال الاستقلال الوطني، وهذا عين العقل، ويتعين تفعيل آلياته.
فإذا ما توفرت الإرادة السياسية والعزمُ لدى العقلاء، فإن المغرب لا تنقصه كفاءاتُ الاجتهاد في جميع القطاعات البيداغوجية، واللغوية، والاجتماعية، والمعرفية، والدينية، والفلسفية. وإذا ما تيسر أن يحصُـل نصيبٌ من التوفيق في هذا الاتجاه يُخلّص جواهرَ الأشياء والمقاصد العليا مما علِق بها حتى أخفاها من ترسّبات الثقافات الضيقة، فلن يكون ذلك أبدا هديةَ مغازلةٍ ولا جزيةً ثقافيةً لصالح أمريكا، ولا الصهيونية، ولا البنك الدولي، ولا مؤتمر بيكين، ولا أي صنم من الأصنام، كما يعتقدُ ذلك من يُؤلّــهُ قوةَ هذه الهيئات والمؤسسات بشكل وثني. لن يكون ذلك، بالعكس، إلا نصراً، ليس على أمريكا، ولا على الصهيونية ولا البنك الدولي التي هي كلها أوجه من الواقع التاريخي التي يتعين التأهل للتنافس معها في تدبير المصير المشترك للبشرية، ولكن على الذات المضللة، والنفس الغضبية الأمارة بالسوء التي تـُلبس الحق بالباطل والباطلَ بالحق مجاراةً للهوى، وانقياداً لردود الفعل التي تحكمها في الحقيقة شحنات ثقافية ضيقة وبدوية بمفهوم "مَنْ بدا جفا"، ذلك المفهوم الذي يُحيلُ على مدى التمكن من مكارم الأخلاق وليس على نوعية إيكولوجيا المعمار والعمران ما بين البادية والحضر؛ تلك الشحنات التي تتمظهر اليوم أمام أعيننا على شكل الرفع من قيم أوجه العنف، والانعزالية، والتعصب، ورفض المعرفة، وكراهية الحياة، واحتقار العقل والعلم، اللذين هما مصدر القوة، تلك النقائص التي تتشخص جميعا في رفض الآخر مع العلم بأن "الآخَريَةَ" مراتبُ لا نهائية بالنسبة لثقافة الرفض؛ فـكلّما أزيل العنصرُ المواجِهُ بشكل مباشر باعتباره ذلك "الآخر" المهدد للذات، ظهرَ على أنقاضه عنصرٌ آخر يقوم بوظيفة العنصر "الآخر" المهدِّد للذات الرافضة.))

التذكيـــــــر الثالث

وهو تذكير مقتطف من مقال بعنوان "رفع الالتباس وفصل المقال فيما بين الشرعية والإرهاب من الانفصال" كان قد نشر على حلقتين في يومية "الأحداث المغربية" (عدد 1599؛ 09 يونيو 2003) و(عدد 1600؛ 10 يونيو 2003) على إثر الأحداث الإرهابية الأولى بمدينة الدار البيضاء يوم 16 ماي 2003 ؛ ويقول:
((أولا: بما أن الأعمال بالنيات، وأن لكل امرئ ما نوى؛ وبما أن الكازينوهات، وفنادق السياحة، ورموز اليهود واليهودية، شكّلت في السنين الأخيرة أهدافاً شكّــلتْ التعبئةُ من أجل إدانتها سياسيا باسم الدين، ومن أجل محاربتها، صُلبَ خطاب وإعلام فصائل الإسلام السياسي المغربي، بل ومحور الأسئلة الشفوية للعمل البرلماني بالنسبة للممثلين من تلك الفصائل في البرلمان (انظر تذكيرا ببعض الوقائع من هذا الباب في "الأحداث المغربية" 21 ماي 2003، ص 8-9؛ وكذلك عدد 27 فبراير 2003، ص 16)؛(*5) وبما أن شيخا محترما مثل السيخ الزمزمي كان قد صاغ في فتوى القتل القاعدة القائلة "بصرف النظر عمن يقوم بالقتل" لتطبيقها كلما استحق هدفٌ من الأهداف البشرية هذا "الإجراء الشرعي"، الذي دشّنه يوم عيد الأضحى ما قبل الأخير بعضُ من يهمهم شأن "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" لما قامت جماعةُ الداعية "يوسف فكري" بإقامة حد الرجم في حق المخمور التامّ أجَـلــُه، المسمى "فؤاد القردودي"، وتهمته إدمانُ الخمر؛ وبما أن نفس الشيخ الزمزمي كان قد توسع في السنتين الأخيرتين في تحديد "صفات الشهيد" وفي تعريفه وتحديد "بروفيله" الشرعي، ونَزَعَ، بناءً على ذلك التحديد، لقبَ الشهادة عن كلّ من أعطي ذلك اللقبَ بغير استحقاق شرعي في نظره، مثل المهدي بن بركة؛ فهل تـُعتبر هذه الكائنات الانفجارية التي أمّت يوم 16 ماي 2003 نفس القبيل من الأهداف الكلاسيكية التي كان قد كثر التنديد بها والتحريض على محاربتها (نادٍ أسباني، مقبرة يهودية، فندق من الفنادق) وقلوبها القنبلية تتلظى "إيماناً" في جوف صدورها الموغَرة ضدَّ "رموز الجاهلية" و"ديار الحرب" إلى درجة استرخاصها النفس والنفيس؛ هل يُعتبر أولئك الشباب شهداء؟ وإن كانوا شهداء، فما حكم ذلك الشقي الذي تولّى وارتد منهم على عقبيه في آخر لحظة، فأفشى بعض أسرار خطة الجهاد؟ أفهو مرتد يُقتل "بصرف النظر عمن يقتله"؟ وإذا لم يكن هؤلاء لا شهداء، ولا مجاهدين، بل مجرد ضحايا بؤساء عانوا الفقر المادي والفراغ المعنوي فشُحن فراغُهم الروحي بشحنات خطاب مدمِّر جعل الموتَ يستوطن جوانحهم ويتسلل من خلال آدميتهم المظهرية إلى كل ما حواليهم من رموز الحياة معلنا القيامةَ قبل الأوان، فمن هو ذلك المجرمُ المعنوي الذي حوّل فقرهم المعنوي على الخصوص إلى طاقات متفجرة مدمـِّـرة، وحول فراغ معنوياتهم الوجودية إلى منجم للديناميت في أحضان مجتمعهم؟
ثانيا: في غمرة التناول الإعلامي والسياسي لكارثة 16 ماي 2003 الإرهابية بالدار البيضاء، تقاطب الكلامُ والأسئلةُ حول مدى إمكانية وجود علاقة عضوية للمجرمين بشبكة ابن لادن، لكن كذلك حول "إمكانية اختراقهم" من طرف المخابرات الأمريكية والصهيونية، بل ربما إمكانية تسخير شحناتهم العاطفية المرَضية من طرف أوساط وأجهزة داخل الدولة المغربية نفسها ذات حسابات داخلية جهنمية (انظر إشارات إلى هذا القبيل من التخرصّات في ص1 من "الاتحاد الاشتراكي"؛ 25 ماي 2003 بتوقيع حسن السوسي). هذه كلها أسئلة ممكنة من حيث المبدإ، والاجابة عنها تنتمي إلى عالم آخر، عالم التحقيقات البوليسية الذي ليس لدي ما أدلي به فيه، كما كان ذلك نفس موقفي في معالجة احداث 11 سبتمبر 2001.
والجامع بين كل عناصر ذلك القبيل من الأسئلة هو قفزُها على الجوهر، الذي يعني السياسي، والمثقف، وكافة صناع الرأي العام ومحركيه، ومروجي مضامينه، وضياعُها في أعراض تجليات الحدث ولبوساته الهامشية والعرضية والسطحية، بالرغم من كل فظاعتها العينية. ويذكّرني هذا الموقف في التعامل مع هذا القبيل من الأحداث في تجاهل لجواهرها – مع وجود فارق في نوعية القضية لا في نمط التفكير – بما سبق أن سجلته في مقال لي قمتُ بتوزيعه إيليكترونيا وعلى الورق بعد أن لم يجد سبيله إلى النشر لا في الداخل ولا في الخارج تحت عنوان:"De Jérico à Jénine sur le chemin de Massada. mars 2002". لقد سجلت فيه أنه كلما قام فدائي أو فدائية بتفجير نفسه في إحدى العمليات الفدائية تقوم الصحافة الإسرائيلية بإعطاء التفاصيل، وأولها عددُ القتلى مخصوماً منه واحدٌ على الدوام! وهو في حقيقة الأمر أوّلُ القتلى من حيث حسابُ الزمن بوحدات اللانهائي الصغر، أي الفدائي نفسه الذي اتخذ من ترائبه وعظامِ فكيه شظايا قاتلةً لما حوله. إن عدم اقتدار تلك الصحافة وذلك الرأي العام، بنخبته و عوامّه، على تبيُّن وجودٍ دالٍّ لأوّل القتلى، الذي أصبح مع الدوام في حسابهم مجرد قنبلة ذكية، يترجمُ العجزَ عن استيعاب دلالة الانتفاضة ومختلفِ العناصر والعقاقير المؤججة لها، والميلَ السهلَ إلى النظر إليها كمجرد مسألة أمنية تقنية. وذلك العجز نابع من عدم اكتساب السؤال الآتي لحدِّ الآن مشروعيةً ووزنا ذا بال في صفوف المجتمع الإسرائيلي ونخبه. إنه سؤال: ما الذي يجعل الآدمي يدمر نفسه بهذه الكيفية قبل أن يدمر غيره؟ إنه سؤال يتعين أن يطرحه السياسيُّ وأن يجيب عنه علماءُ الاجتماع وعلماءُ النفس والتربية والانثروبولوجيا والملل والنحل، وغيرها، وهي كلها قطاعات أصبحت السياسةُ اليوم تطلبُ بشأنها دراساتٍ وخبرات سعيا وراء عقلنة معالجتها للملفات.
فالمعطى الجوهري الجديد الذي يتعين أن تعاينه بصائر السياسي، والمربّي، والمرشد، والمثقف المفكر، من وراء أحداث الدار البيضاء – بصرف النظر عن جدّة أوجهها الأمنية والجنائية والشكلية – وأن يتصدى المتخصصون في علوم المجتمع والتربية إلى وصف آلياته، هو أن تربة المجتمع المغربي أصبحت تُنبت "القنابل الذكية" بعدما كانت لا تنبت إلا حَبّاً، ونباتا، وفاكهة، وأبّاً، وكلَّ ما ينفع الناس. فما الذي جعل هذا الإنبات الجديد ممكنا؟ وما هي الأسمدة الغريبة التي استجدّت على هذه التربة الطيبة، والحالُ أن أهلها لم يُخرَجوا من ديارهم ولا هُمْ تحت نير الاحتلال؟
تحدث كثير من الناس عن الفساد والتسلط والقهر وخصوصا الفقر، كأسباب ومحركات لما حدث؛ إلا أن تاريخ المغرب الحديث يعطينا نماذج من أقصى ما يمكن أن تسفر عنه مغامرة المغامرين في ظل أوضاع اجتماعية صعبة، وظروف سياسية رصاصية موصدة، وفي محيط عالمي يتسم بالثورية من جهة على المستوى الجماهيري، وبالتقاطب الحاد على المستوى الدولي كما كان عليه حال الستينات والسبعينات من القرن العشرين : فلا أحد، ولا جماعة من ذلك الجيل كان يخطر بباله يوما أن يصلح الأوضاع انطلاقا وبدأ بإزهاق أرواح أناس مدنيين وغير مسيّسين في الأندية والمقاهي والمراكز التجارية ووسائل النقل وغيرها من أماكن الكثافة المدنية. ولقد تحدث كثير من الناس بإسهاب عن الفقر. وهذا واقع نسبي لا يرتفع؛ وأقول واقع نسبي، بالقياس إلى حجم الغنى والترف في الوجه المقابل؛ إلا أنه لم يعد من المغاربة من يمشون لاحفاة ولا نصف عراة؛ ولم يعد المتسولون، وقد أصبحوا أنيقين، يقبلون قطعة خبز أو سكر ولا حتى بعض القطع النقدية النحاسية مما تحت الدرهم؛ وهذا واقع كان بعض المزايدين والعدميين قد أعلنوا الحربَ على أحد المسؤولين الحكوميين رحمة الله عليه حين سجّل ذلك التطور في نوع من قلة اللباقة في مجتمع ما يزال مجتمع نخوة يفضّل النفاق على المعلومات وتفزعه الألفاظ أكثر من الوقائع. ولقد اخترق المغربُ السنوات العجاف سياسيا واقتصاديا في العقود السابقة ولم يأكل قط بعضُه بعضا. وليست الظرفية الاقتصادية لهذه هي السنة بالضبط، سنة 2003 وهي سنة جيدة، هي المؤهلة لكي يُـلقى فيها على "آفة الفقر"، النسبية كما رأينا، بكلِّ النقائص والويلات والتبعات المتعلقة بانتحاريات الدار البيضاء. ثم إن الذين كانوا قد وضعوا قبل سنتين اللبنات الأولى لأسس هذه المدرسة الجديدة من مدارس العمل "السياسي" ومن مدارس فلسفة الوجود حينما فجروا أنفسهم جوّا داخل صهاريج من الفيول والكيروزين نطحوا بها ناطحات السحاب بنيويورك يوم 11 سبتمبر 2001 لم ينطلقوا من أحياء "كاريان طوما" أو "دوار السكويلة" أو "سيدي مومن" البئيسة بالدار البيضاء. لقد كانوا أطرا ذوي وضعيات اجتماعية ومستويات تكوينية عليا، وينحدرون من بلدان متربعة على مئآت آبار النفط وتعيش في بحبوحة ريعه معبـَّرا عنه بالدولار الأمريكي. إنما كان الفرق بين تلك الأطر وبين بقية البشر المتمدّن ينحصر فيما شحنت به مقررات التربية والتعليم أدمغتهم كــ"برنامج" لعمل الإنسان، ولقيمته ورسالته ككائن متميز مستخلف في الكون مؤتمن عليه.
فإذا كان يمكن لبعض المعطيات الاقتصادية-الاجتماعية ذات البعد المادي أن تشكل عوامل مساعدة لنموّ وتطور عقلية العنف وسيكولوجية الإرهاب، بالمفهوم الكيميائي لمصطلح "العامل المساعد" (catalyseur)، أي العامل المُسرّع لبعض التفاعلات من دون أن يدخل في نتيجة تركيبتها، فإن هناك عناصر أساسية في كيمياء نموّ وتطوّر تلك العقلية وتلك السيكولوجية لا يمكن تحديدُها بحساب موشرات معدّلِ الدخل وهرمِ توزيع الأجور؛ وهي مع ذلك عناصر أساسية في صناعة الشخصية وتحديد مواصفاتها النفسية، والاجتماعية، والمدنية، والسياسية، التي بمقتضاها تتموقع تلك الشخصية إزاء عناصر العالم الخارجي المحيط بها وتتعامل معها. ومن تلك العناصر، وفي مقدمتها، وعلى رأسها مضامين النصوص المؤسسة لبرامج التعليم والتربية، الأساسية النطامية منها وكذا المحيطية الإعلامية، التي على أساسها تتحدّد أسسُ وعي الشخص وعناصر رسمِه للوحة محيطه الاجتماعي والتاريخي؛ هذه اللوحة التي يتخذ الفردُ من إحداثياتها السينية والصادبة أبعاداً ومعالمَ يتموقع بفضلها في وسطه الاجتماعي، ويرسمُ عُمقَــهُ التاريخي وآفاقـَهُ المستقبلية، ويعطى بذلك معنى لحياته ودوراً لنفسه، يسعى إلى تحقيقه. هذا الدور الذي قد يصبح، في ظل بعض، المضامين التربوية جهاداً أو استشهاداً على الطريقة التي أرتناها الأيامُ يوم 16 ماي 2003 بالبيضاء، وأتانا بأخبارها من لم نزوّد.
إنه الأمرُ الذي يعود بنا، من جديد ، في النهاية، إلى مسألة برامج التعليم والتربية، ومضامين نصوصها، وأسلوب خطابها، مما كنا قد فصّلنا فيه القول بمناسبة واقعة 11 سبتمبر 2001. فإذا كان لواقعة الدار البيضاء بُعدُها الأمني التحقيقي، وبُعدُها القانوني القضائي، وحتى بعدها السياسي المباشر، من حيث ما تطرحه من مسؤوليات معنوية على كل من يعنيهم الأمر في كل من تلك القطاعات على مستوى الحكومة والأحزاب المؤطرة للمواطنين، وهي قطاعات يمسها التدبيرُ اليومي، والقريب، والمتوسط المدى، فإن التحدي الأكبر الذي تطرحه كارثة الدار البيضاء كسابقة اجتماعية بالنسبة للمجتمع المغربي على مستوى أبعاده الحضارية هو السؤال التربوي التاريخي الآتي الذي أصبح يمثل مشروعا استعجاليا بالرغم من أن نتائجه متعلقة بالأمد البعيد. إنه سؤال يهم كافة الوزارات المعنية، من تربية، وإعلام، وتعليم عال، وشؤون إسلامية، وشباب، ولكنه يهمّ بالدرجة الأولى كل شرائح النخبة النيرة المتعقلة والعقلانية التي تتعالى على الحسابات الآنية التي تحكم الفعل السياسي المحترف جدا، بالمفهوم المقاولاتي للسياسة. وأتفق في هذا الصدد مع الأستاذ مصطفى بنحمزة رئيس المجلس العلمي بوجدة حين قال في تعليق له على جرائم من حسبوا أنفسهم شهداء ما يلي: "بالنسبة للأحداث التي عاشتها مدينة الدار البيضاء، وأسفرت عن ضحايا بشرية وخسائر مادية، هي أحداث غريبة عن سلوكيات المجتمع المغربي، الذي لم يكن من دأبه الاحتكام إلى القوة والعنف من أجل حسم الخلافات. ولابد من تقديم تقويمات وتعليقات على الأحداث تتجاوز حدود الإدانة إلى عرْض اقتراحات ومشاريع لمواجهة هذه الظاهرة. فإننا نأمل أن يأخذ المجتمع المغربي لنفسه فسحة من الزمن يتمكن فيها من إيجاد دراسات معمقة لهذا التحول. ويتعين أن يشارك في هذا الحوار المجتمعي العلماء والمثقفون ورجال الفكر ليقدموا تصوراتهم لكيفية المعالجة بناء على دراسات مستفيضة ومعمقة" ("التجديد" 21 ماي 2003، ص6). وفي هذا الاتجاه تصبُّ كلمة السيد أحمد التوفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في افتتاح ندوة "العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي بالمغرب" التي نظمت بكلية الآداب بوجدة يوم 23 ماي 2003، حينما صرح بأن "اليوم لا يُشبه الأمس" فيما يتعلق بأسس الأدوار التربوية ومضامين التربية (انظر "الاتحاد الاشتراكي" 30 ماي 2003، ص2).
فأمرُ هذه المراجعة من مسؤولية جميع الأطراف حتى تتم مطارحة الخلاف ويتم البحث عن نقط التلاقي الموضوعي، بعيدا عن لغة الخشب، وبلاغة الكرطون. وأرجو أن يكون مثل هذا ما يقصده البرلماني عبد الإله بنكيران مسؤول حزب "العدالة والتنمية" المغربي في استجواب له حين أجاب عن سؤال "ومن المؤهل إذن لتأطير هؤلاء الشباب؟" بقوله: "يتعين أن نجتمع حول طاولة و احدة لنتداول في هدوء ونتساءل كيف يحصلُ أن يختار شاب في العشرين من عمره الموتَ باسم تصورات فتاكة للإسلام (une certaine conception meurtrière de l’Islam)؟ صحيح أننا ]أي: حزب العدالة والتنمية] معنيون بهذا الأمر، ولكن لسنا الوحيدين؛ فنحن لسنا حراساً سدنةً للمعبد حسب ما أعلم" (Maroc Hebdo، 30 ماي 2003).))

تذكير رابع وأخيـــر

وهو تذكير مقتطف من مقال بعنوان "على هامش أعمال الإرهاب في الدار البيضاء؛ الدلالات الثقافية لطقوس الرعب الدموي"، كتب في 20 أبريل 2007 على إثر الأحداث الإرهابية االثانية بمدينة الدار البيضاء، وهو منشور على صفحات "الحوار المتمدن" (http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=94728). يقول التذكير:

((قبل ثلاث سنوات إلا شهرا، وعلى إثر إرهابيات 16 ماي 2003 المشئومة بالدار البيضاء، التي باغثت المغاربة وهم في لجاجة صحفية حول الغاية من اختلاق قصة "الخلايا النائمة" لمنظمة القاعدة، وذلك على إثر اعتقال عناصر سعودية بالدار البيضاء نفسها، وعلى هامش معالجتي لما كنت قد رأيت بأنه دلالات سياسية لتلك الإرهابيات، من خلال مقال مطول نشر بجريدة" الأحداث المغربية" كنت قد بدلت جهدا كبيرا للتدليل أولا على أن تلك الأعمال تندرج في إطار فكري وثقافي يؤطره خطاب خاص كان قد تمكن من الأذهان عبر المدرسة وعبر الإعلام السياسي، وأنها تندرج فعلا في المنظومة الفكرية والسياسية العالمية التي تشترك في تبني نوعية ذلك الخطاب، بدل الادعاء، من جهة، بأن المغرب لم تنخرط بعض قواه في تلك المنظومة، وأن قصة "الخلايا النائمة" محض اختلاق، والادعاء من جهة ثانية بأن ما قام به الشبان الانفجاريون أنما هو أمر معزول عن الخطاب المذكور وعن تلك المنطومة وأنه مجرد تجل لردود فعل اجتماعية ضد الفقر والتهميش.
أما اليوم، وبعد ثلاث سنوات تخللتها أحداث متفاوتة الخطورة من الناحية الأمنية في المغرب، من سلسلة سرقات الأسلحة بــ"عين حرودة" وبــ"تازة"، إلى تفكيك خلية "أنصار المهدي" بما اتضح من ارتباطات لها ببعض العناصر من أوساط الجيش والطيران، بعيدا عن كليشيهات أوساط الفقر والتهميش بأحياء "كاريان طوما" و"سيدي مومن" بالدار البيضاء، وانتهاء بوقعة الحادي عشر من مارس 2007 بمقهى الانترنيط بالبيضاء دائما، فالحرب القذرة ليوم العاشر من أبريل 2007 بحي الفرح، ثم بعد ذلك بشارع مولاي يوسف بنفس المدينة، فقد بدا بعد كل هذا أن جميع المشككة قد سلـّموا بأن الإرهاب واقع، وأن الواقع لا يرتفع، وأنه لم يعد بالإمكان تقديم الأمور كمجرد اختلاقات ووساوس تُـروّج لها "جهات خفية" قصد الحصول على مفعول سياسي معين؛ فاضطر المُشكـّكة بسبب ذلك التسليم إلى نقل مذهب الشك من حيز دائرة الوجود، وجود أو عدم وجود الإرهاب، إلى حيز مسببات أو دلالات وجود ذلك الإرهاب.

الأسباب والدلالات السياسية لدى المشكّـكة
ولقد ترواح تفسير الأسباب ما بين (أ) ردّ الفعل الداخلي والخارجي ضد "الانخراط الرسمي في الخطة الأمريكية العامة" من خلال التنسيق الأمني، من معتقل مدينة "تمارة" بالمغرب إلى معتقل "كَوانتانامو" بــ"كوبا"، ضدا على واجب التضامن مع قضايا فلسطين، والعراق، وافغانستان، والشيشان، والسودان، والصومال، وكل من تضامن مع المغرب ومن لم يتضامن معه في محنه وابتلاءاته، من قضية الصحراء، إلى واقعة جزيرة تورا ، إلى الضربة الإرهابية للسادس عشر من ماي 2003، وبين (ب) مظاهر الفقر والحرمان في الأحياء الهامشية، و(ج) أساليب التعذيب والقسوة في السجون التي ولدت لدى من مروا بها من مشاعر النقمة ورغبة في الانتقام نظرا لعدم توفر شروط حقوق الانسان في فضاءاتها، ولعدم الاستجابة السياسية لفتح حوار مع قادة المعتقلين، الخ.
أما الدلالات السياسية لدى المشكـِّـكة من الناس بعد إرهابيات ربيع 2007 بالدار البيضاء، فإن أفصحها أدبيا وأجمعها تلخيصا هو قول إحدى الافتتاحيات ما يلي: "ومن حسن الحظ ... أن الانتحاريين لم يكونوا منفذين لأوامر، وإنما هم شبان من فصيلة أولئك الذين يرمون بأنفسهم في البحر تقليدا للذين سبقوهم إلى الموت طبعا، ومن فصيلة الشبان العشرة الذين حاولوا الانتحار يوم الاثنين السابق لانتحارات الدار البيضاء، فشربوا سم البرغوث بباب وزارة المالية لينتحروا... "، بدليل أن أحد الانتحاريين قال لأحدهم "سير ولاّ نتـّـفركَـع على دين مُّــك". وبذلك، "يظهر جليا - تضيف الافتتاحية - بأن ارتباطات هذه النماذج البشرية بالتنظيمات الأجنبية مثل القاعدة أو غيرها منعدمة، وليست على مستوى تنظيمات الجزائر حيث التفجيرات لها معنى سياسي، مقارنة مع أربعة شبان في حي الفداء فجروا أنفسهم خوفا من مواجهة الشرطة" (افتتاحية "الأسبوع الصحفي" عدد 13 أبريل 2007). "فيمكن تفسير تشكل هذه المجموعات بالإحالة على مجموعة من العناصر، أولها يرتبط بالأوضاع التي عاشها عدد من المعتقلين في إطار تفجيرات 16 ماي 2003 والتي أنتجت أفرادا تتملكهم نفسية الانتقام وإعادة الاعتبار لذواتهم (...) وهذا شبيه بما حصل في الستينات للجماعة التي عرفت باسم التكفير والهجرة في مصر (...). وكان ينبغي إجراء حوار مع القيادات داخل السجون (...) بين شخصيات وعلماء وازنين مع هذه القيادات (...) لأن هناك توجهات متطرفة جدا تكفر المدتمع لكن هناك أخرى أعلنت رفضها قتل المسلمين" (مصطفي الخلفي، جريدة "التجديد"؛ عدد 12 أبريل 2007؛ ص:3).
هكذا إذن يتم التشكيك في حقيقة الإعداد للإرهاب بعد اعتقال السعوديين. ولمّا ضرب الإرهاب وأثبت وجوده بالقتل (the proof of the pudding is the eating) يتم التشكيك في دلالاته الحقيقية بإسناد جوهره إلى "الفقر"؛ ولما عاود الضرب، وتورطت فيه بشكل مباشر أطر وأشخاص ليس بينهم وبين السيد "الفقر" إلا الخير والإحسان يتم إسناد معاودة الإرهاب هذه المرة إلى سوء معاملة المتورطين الأولين أثناء التحقيق وفي السجن، وهذا عين ما يسميه الكلاميون بعيب "الدور" في منطق السببية، وهو عندهم محال استحالة عيب "التسلسل" في نفس المنطق.
وهكذا إذن، فلا حملات سنوات من الشحن عن طريق التشنيع، والتفسيق، والتكفير، والتعميل (تهمة العمالة للأمريكان والصهيونية) للأفراد، وللمؤسسات، وللمجتمع، من أعلى المنابر، وعلى صفحات الجرائد، وفي فصول الدراسة، وفي الحافلات، وحتى تحت قبة البرلمان، وفي الأعراس والمآتم، وكذا إيغار صدور الناس ضد السياحة، وضد السينيما، وضد الاحتفالات العمومية، والمهرجانات الفنية التي تصور جميعا في ذلك الخطاب كمجرد فضاءات بغاء وعربدة، كلها أمور لا دخل لها في إعطاء معنى سياسي، ولا جيو-سيساسي، ولا أيديولوجي وفكري وتربوي لما حصل من كوارث مخزية خلال السنوات الثلاث الأخيرة بدأت بالمسيرات الرافعة للشعارات الإقصائية والعنصرية، قبل أن تدشن موسم إراقة الدماء. كما أن شبكات تدريب ما يمكن اليوم تسميته باللفيف المغربي وتجنيده للجهاد المقدس في البوسنا وفي أفغانستان وفي الشيشان، وفي العراق، وفي غيرها، وكذا احتلال المغاربة لصدارة بوديوم الإرهاب العالمي في أمريكا، وألمانيا، وهولندا، وأنجلترا، وأسبانيا، وكدا الإعلان عن تأسيس "القاعدة في بلاد الغرب الإسلامي"، إما أنها أمور من اختلاق أجهزة الموساد أو السي-أي-إي، من أجل الإساءة للإسلام، وإما أن أبطالها إنما هم بدورهم من فصيلة متجرعي مسحوق البرغوث أمام وزارة المالية، أو من فصيلة أمثالهم ممن قضوا أشهرا بمساعدة أطر عليا في الكيمياء، وبدعم من تجّار ذهبٍ لا يأتيهم الفقر لا من بين أيديهم ولا من خلفهم، لاقتناء المواد الكيميائية وضبط مقادير مزجها قصد صناعة أحزمة ناسفة كان يكلف الحزام منها ما يناهز ثمن "مضمة" مغربية، ربما كانوا يعدونها كمفرقعات لمجرد تسلية الأطفال في حفلات عيد المولد على الطريقة المغربية لو لم تفاجئ الشرطة صنائعهم البريئة فينفجروا كانتحاريين، وينتحروا كانفجاريين بفعل الفزع من بطش أساليبها اللا-إنسانية، «حتى لا يقعوا في يد رجال الأمن لأن هذا أسوأ من الانفجار نظرا لشدة التعذيب في أقبية السجون؛ وأكثر من هذا فإن تصريحات المسجونين والروايات التي تروج بين أعضاء السلفية الجهادية تقول بأن أدوات التحقيق في معتقلات الأمن لا تستثني أية وسيلة، وفي مقدمة هذه الوسائل الاغتصاب» (افتتاحية جريدة المســاء عدد 178 ليوم 16 أبريل 2007 بقلم رئيس تحريرها، توفيق بوعشرين) كما تبين ذلك شهادة الانفجاري المنتحر، «عبد الفتاح الرايدي الذي خلف لنا رسالة يروي فيها بتفصيل ممل ما تعرض له داخل السجن من تعذيب وانتهاك لكرامته، واغتصاب لرجولته، وإهانة لإنسانيته، لكن لا أحد استوعب الرسالة التي حملت بين طياتها وعدا بالانتقام لم يُـخـْلِفه عبد الفتاح» (عمود "الرأي الآخر" علي أنوزلا بنفس العدد من جريدة المساء). وإذا ما تجاوز البعض التشكيك في الدلالات السياسية بدورها فلكي ينتقل من التشكيك إلى ما يشبه التبرير السياسي فيقول مثلا "هناك عوائق تقف أمام انخراط الاسلاميين في الحياة السياسية في المغرب؛ فالأحزاب السياسية ترفض خروجهم وانضمامهم للحياة الحزبية؛ كما أن السلطة هي الأخرى تضطهدهم خوفا من علاقاتها مع الغرب أو من الإضرار بالمصالح الاقتصادية للمملكة" (تصريح لفضائية العربية، أوردته أسبوعية أكراو أمازيغ؛ عدد 15 أبريل 2007؛ ص:3 مسندا إلى من أسمته "عبد العزيز قوقز" الذي وصفته بالخبير في شؤون الجماعات الإسلامية).))

مناسبة إيراد التذكيرات الأربعة السابقة

مناسبة إيراد التذكيرات السابقة، هي آخر فصول مسلسل الإرهاب بالمغرب الذي أصبح اليوم رياضة وطنية جديدة استأنس بها المغاربة كجزء من معطيات الديكور السوسيو-سياسي بعد بضع سنين من سحب التشكيك في دلالات الأحداث وإطارها. هذا الفصل الأخير الذي تم على شكل أبلغ صورة لــ"تفجير الطاقات البشرية" لشاب أنيق ووسيم في مقتبل العمر (30 سنة) وزهرة حياة مهنية شريفة ومريحة ماديا إصافة إلى حياة اجتماعية مكتملة (زواج، منزل، سيارة) بعد مسيرة تكوينية متألقة، تندرج لا محالة في إطار الخطة الحكومية المغربية المسماة "إميرجانس" (Emergence) والتي تتمثل في إلى الانتقال من تخريج 4000 إلى تخريج 10000 مهندس في السنة في أفق 2010 استجابة لمتطلبات سوق الإقلاع الاقتصادي المتوقع. لقد تم ذلك في واضحة النهار في ساحة "الهديم" المكتظة بالساكنة وبسواح الصيف من مغاربة وأجانب بقلب بمدينة مكناس يوم الاثنين 13 غشت 2007، الذي هو يوم عيد ميلاد المهندس الشاب، "هشام الدكالي"، حيث تقدم هذا الأخير محاولا اقتحام حافلة للسواح، ولما فشل في ذلك قام بتفجير قنينة غاز كان قد أعدها بحوزته فخر على التو وحده على الأرض المبلطة مضرجا بدمائه أمام هلع الجميع، وبذلك تنتهي مسيرة تكوين متألق لمهندس دولة، مندرجة في إطار خطة "إميرجانس"، بــ"تفجير للأجساد البشرية" بدل "تفجير الطاقات الانسانية"، كما صاغ وجهَ الحالة "شاكر النابلسي" نقلا عن "خالد الفيصل". ولقد اختلفت المصادر الصحفية في تحديد إحداثيات الانتماء أو الانتماءات الحركية للشاب مهندس والباش مهندس، هشام الدكالي، تعاقبا أو موازاة؛ "فمن قائل بأنه من أتباع العدل والإحسان، ومن قائل بانتمائه للعدالة والتنمية، ومن قائل ثالث بأنه من مريدي السلفية الجهادية، فيما ذكرت وسائل إعلام رسمية بأنه لامُـنـتمٍ " (تعليق جريدة "المنعطف"عدد 20 غشت 2007). إلا أن كل هذه التساؤلات التصنيفية هامشية ما دام هشام قد وطن النفس والعزم بعد ضرب ألف حساب فاتجه نحو هدف من نفس الأهداف الكلاسيكية (السياحة، الانسان الغربي عامة، اليهود، مراكز الاستهلاك، مهرجانات وساحات الأفراح) التي رسخها الخطاب المشترك بين كل عناصر الطيف الحركي المذكور كرموز لكل الويلات التي شُـبـّه للناس بأنهم ابتلوا بها. وإذ أصبح بعض السوسيولوجيين والسيكو-اجتماعيين ممن دفعهم بروفيل هشام الدكالي، الخارج عن تنميط الخطاب الذي تشبث بالربط السببي بين الجنوح الإرهابي ووضعية الفقر، قد أخذوا ينبهون على إثر هذه الحادثة إلى ضرورة "الوقوف على المعطيات النفسية لكل فرد. إذ بالإضافة لانتماء اجتماعي معين، هناك عامل شخصي دفين وعميق يهيئ أفرادا معينين لتفجير ذواتهم" (عبد الصمد الديالمي؛ جريدة "المساء" 15 غشت 2007؛ ص 3)، فإن بُعد "الحمق" و"الاختلالات النفسية" المختلفة، الذي لا يمكن التشكيك في وجوده كمعطى من المعطيات الاجتماعية تتفاوت حدة حسب الظرفيات، مثله في ذلك مثل بعد "الفقر"، يجب ألا ينسينا فرقا جوهريا في تصنيف الأحداث. صحيح أنه كثيرا ما سمعنا في السنين الإخيرة عن "الاختلالات النفسية" كلما انقض إرهابي متعصب بسلاحه على سائح أو سائحة في أزقة مدينة سياحية، وقد سبقتنا إلى مثل هذه البالاغات على إثر أحداث مماثلة، وكذلك إسرائيل كلما قام متعصب بحماقات ذات عواقب سياسية. إلا أن خسائر الحمق والاختلالات النفسية، التي لا يخلو منها مجتمع، تبقى حبيسة إطارها الاجتماعي ما دام ليست مؤطرة بإطار إيديولوجي يحدد لها أهدافها من خلال ترويج خطابات توجيهي يقوم بتصريف العدوانية المرضية في اتجاهات سياسية. فأن يقع فرد معين بمحض الصدفة ضحية لعدوانية أحد المختلين عقليا ليس له أي انعكاس سياسي أو اقتصادي مباشر، أما حينما يكون هناك نظام تأطيري يمكن من تجنيد المجانين والمختلين والمعقدين وضعاف العزم
لتصريف عدوانهم ضد أهداف سوسيو-اقتصادية ودسيساسية ويبلوماسية منتقاة كلائحة الأهداف المشار إليها سابقا، فأن كل عملية عدوان يكون لها انعكاس سياسي وديبلوماسي واقتصادي مباشر يتجاوز المعتدي والمعتدى عليه.
بهذه المناسبة غير السعيدة، يرجى إذن أن ينتهي لغط المشككة حول طبيعة الأعمال التخريبية التي طبعت المغرب في السنوات الأخيرة عن طريق نفيهم لوجود إي إطار أيديولوجي لتلك الأعمال قوامه خطاب معين يخترق المدرسة والجامع الجامعة والإعلام، ويندرج في إطار منطومة فكرية-سياسية تتجاوز حدود القطر، وعن طريق ربط ممل وسخيف لكل مظاهر الإرهاب التي استهدفت المغرب في السنوات الأخيرة بوصفات "الفقر" و"التهميش" و"البطالة". لقد اختار هشام يوم عيد ميلاده ليكون يوم شهادة، فشهد شهادته الأخيرة أمام الملإ بأن الفكر الإرهابي يستغل حالة الفقر - كما يستغل كل مظاهر الهشاشة المادية أو المعنوية - ولكن الفقر ليس أيديولوجية حتى يستطيع تأطير عمل يتم ضمن شبكات. ومن المعلوم أن أوجه الهشاشة المعنوية متعددة تتراوح ما بين ما هو إرث وزاد سيكو-اجتماعي للفرد (مختلف الاضطرابات اليسكو-اجتماعية) إلى ما هو مؤسسي يتعلق بالزاد الفكري الذي يكون قد وفره المسار التربوي المؤسسي للناشئة فيما يتعلق بأسئلة الوجود، والمصير، والطبيعة الانسانية، ومفاهيم الحق، والحرية، والمسؤولية، والفرد، والمجتمع، والدولة، والفن، والإبداع، والعلم، والمعرفة، الخ، كعدة من التكوين الفكري والفلسفي العام المصاحب لأي تكوين أساسي أو وظيفي مهني أو أكاديمي عالي في أي قطاع من القطاعات، والتي من شأنها أن تعدّ الفرد إما للاقتدار وأما لعدم الاقتدار على مواجهة أسئلة الانخراط الموفـَّق، والنقدي والإيجابي، في المجتمع وفي الكون. فهل تنطلق خطة "إميرجانس" لتخريج 10000 في السنة من هذا التصور في وضعها لبروفيلات التربية والتكوين؟
أن طرح مثل هذا التساؤل، بالإضافة إلى ارتباطه من حيث الظرفية المباشرة بتفجير المهندس الشاب، هشام الدكالي لجسده وتهديمه إياه في ساحة "الهديم" بمكناسة الزيتون بدل أن يفجر طاقاته الانسانية من خلال الانخراط الإيجابي في المجتمع وفي الكون عبر مهنته ونشاطات سياسية أو نقابية أو جمعوية أو فنية أو مجرد أسرية، طرح يصادف كذلك في المغرب أمرين مهمين من حيث المبدإ إذا ما كانت عزائم أهل العزم في مستوى المكارم. أول هذين الأمرين هو هيكلة وتنصيب "المجلس الأعلى للتعليم"، الذي "يستشار في مشاريع الإصلاح المتعلقة بالتربية والتكوين ويدلي برأيه في مختلف القضايا ذات الطابع الوطني المتصلة بقطاعات التربية والتكوين كما يقوم بتقويمات شاملة للمنظومة الوطنية للتربية والتكوين، على المستوى المؤسساتي والبيداغوجي والمتعلق بتدبير الموارد، ويسهر على ملاءمة هذه المنظومة مع محيطها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي." (المادة 2 من الظهير المؤسس)، والذي تم تأسيسه "اعتبارا لكون الحق في التربية يكفله الدستور، وبالنظر إلى المكانة المتميزة التي بتبوؤها التعليم والتكوين في المشروع المجتمعي الذي نقوده من أجل المغرب، كناقل حاسم لقيم المواطنة والتسامح والتقدم" (النقطة 1 من بيان الأسباب الموجبة للظهير المؤسس). أما الأمر الثاني فهو احتضان المغرب في نفس اليوم لأعمال اليوم "العالمي للفلسفة" ما بين 15 و 18 نونبر 2006 بالقصر الدولي للمؤتمرات محمد السادس بالصخيرات، وذلك بتنظيم من وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، ووزارة الثقافة، بتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة " اليونسكو".
----------------------------------------------------

(1) مشروع "الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية" مشروع كان قد تقدم به كاتب الدولة في الحماية الاجتماعية والأسرة والطفولة في حكومة "التناوب" الأولى برئاسة عبد الرحمان اليوسفي وكانت تهدف إلى مراجعة "مدونة الأحوال الشخصية" فحصل بشأنها تقاطب بين المحافظين وفي مقدمتهم حركات الإسلام السياسي التي أعطت لذلك التقاطب السوسيو-سياسي طابعا دينيا حيث جاء مثلا في افتتاحية جريدة "التجديد" عدد 51 بتاريخ 12 يناير 2000 ما يلي : (( وستكتشف بعد القراءة المتأنية أن مناط الخلاف مع واضعي الخطة والمتعصبين لها ليس هو التنمية ولا إدماج المرأة في التنمية ، وأن القضية أكبر من هؤلاء ، إذ تتعلق بمواجهة مؤامرة على الأسرة المسلمة تقف وراءها قوى دولية هي التي زرعت الكيان الصهيوني في فلسطين .. وستكتشف أن الأمر لا يعدو أن يكون بالنسبة لفئة من بني جلدتنا خضوعا لدورة جديدة من دورات الاستعمار .. وستكتشف أن المستهدف هو هدم أحكام الشريعة الإسلامية وتقويض الأركان التي تقوم عليها الأسرة المسلمة .. وسيأخذك العجب العجاب ويذهب بك إلى أقصى حد الاستغراب ، حينما ستكتشف أن الذي يقوم على تنفيذ هذه الخطة الاستعمارية المسندة أمريكيا وصهيونيا ليس هو اليمين الليبرالي ( الرجعي ) ، كما عودنا خطاب أيام الحرب الباردة ، وإنما هو اليسار الاشتراكي التقدمي ، وجمعياته وشبكاته وجبهاته )).
نقلا عن سعيد الكحل؛ "الحوار المتمدن" (http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=106226)

(2) يقصد الشاعرة "حكيمة الشاوي".
(3) يقصد الزعيم السياسي المهدي بن بركة الذي تطلق عليه أدبيات بعض أحزاب اليسار المغربي لقب "الشهيد المهدي بن بركة".
(4) المقصود اغتيال الزعيم السياسي عمر بن جلون على يد شخصين نسبتهم أخبار المتابعة الصحفية والتاريخية إلى جماعة "الشبيبة الإسلامية" المغربية التي كان يتزعمها عبد الكريم مطيع الذي فر منذئذ من العدالة المغربية، والمقيم إلى اليوم في الجماهيرية العربية العظمى.
(5) "نورد على سبيل الذكر فورة قيادي [حزب العدالة والتنمية، عبد الإله] بن كيران، داخل البرلمان في وجه [إحدى] صحافيات قناة 2M بسبب ارتدائها قميص "تيشورت" وهي تنجز تغطية لأشغال المجلس، والاحتجاج على حضور الفنان [الفرنسي] "لوران جبرا" بالدار البيضاء بعد اتهامه بالصهيونية، و الاحتجاج ضد فتح كازينو "مالاباطا" بطنجة، والاحتجاج الذي اتخذ طابع صراع ديني بمناسبة صدور مشروع "خطة إدماج المرأة في التنمية" الخ." سعيد الكحل، "الحوار المتمدن" (http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=106226








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أميركية على مستوطنين متطرفين في الضفة الغربية


.. إسرائيلي يستفز أنصار فلسطين لتسهيل اعتقالهم في أمريكا




.. الشرطة الأمريكية تواصل التحقيق بعد إضرام رجل النار بنفسه أما


.. الرد الإيراني يتصدر اهتمام وسائل الإعلام الإسرائيلية




.. الضربات بين إيران وإسرائيل أعادت الود المفقود بين بايدن ونتن